الشيخ جبّار جاسم مكّاوي
المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧
فالإنسان فقير محتاج بذاته من حيث أنّه قائم بغيره حدوثاً وبقاءً ، وفي الوقت نفسه يكون الله غنيّاً بذاته لأنّه قائم بنفسه ، وكلّ شيءٍ قائم به ، وإنّ الملاك في غناه تعالى. وفي فقر الإنسان أمران :
١. مسألة الخلق : فالخلق غنيّ والمخلوق فقير.
٢. مسألة التدبير : فالمدبِّرُ «بالكسر» غنيّ ، والمدبَّرُ «بالفتح» فقير ، ولمّا كان الله هو الخالق المدبِّر كان الغنى حقَّه وحده ، وحيث إنّ الإنسان هو المخلوق المدبَّر كان الفقر حقَّه وحده.
وقفة مع المال والغنى والفقر
لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ حبّ المال أمر غريزيّ ، وأنّ المال له تأثير على النفس الإنسانيّة من ناحية الإغراء والإثارة ، والتأثير على سيرة الإنسان وأخلاقه ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا شاب ابنُ آدم شبّت فيه خصلتان : الحرصُ وطول الأمل (١).
وقال صلى الله عليه وآله : لو كان لابن آدم واديانِ مِن مال ، لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلّا التراب (٢). وصدق الله وهو أحسن القائلين حيث يقول : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (٣).
وليس المال بحدّ ذاته موضع المدح أو الذّم ، ولكن نفوس ذوي الأموال هي محلّ ذلك. فلو جمع الإنسان المال من موارد مشروعة ، وصرفها في المجالات التي ندب إليها الشارع المقدّس لكان ذلك الجمع حسناً ، بل كان عبادة. فبمثل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ جامع السعادات ٢ : ٧٨.
٢ ـ صحيح البخاريّ ٧ : ١٧٥ ، المبسوط للسرخسيّ ٣٠ : ٢٥٧.
٣ ـ الفجر : ٢٠.
هذا المال يَصِل الإنسان رَحِمَه ، ويتصدّق على الفقير ، ويطعم الجائع ، ويكسو العاري ، ويعمّر المساجد ، ويؤدّي فريضة الحجّ ، ويصون عرضه.
قال النبيّ صلى الله عليه وآله : نِعمَ المال الصالح للرجل الصالح (١) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الغني إذا كان وصولاً لرحمه ، بارّاً بإخوانه ، أضعَفَ اللهُ له الأجر ضعفين ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (٢).
وقال رجل للإمام الصادق عليه السلام : إنّنا نحبّ الدنيا ونحبّ أن نُؤتاها ، فقال عليه السلام : وتصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على أهلي ، وأصل رحمي ، وأحجّ وأعتمر ، وأُنفق في سبيل الله ، فقال عليه السلام : إنّها الآخرة وليست الدنيا.
ولكن قلّما كان جمع المال لا يخلو من آفة ويقود إلى الخسران ، فقد ورد عن عيسى عليه السلام قوله : في المال ثلاث آفات : أن يأخذه من غير حِلِّه. فقيل : إن أخذه من حِلِّه؟ قال عليه السلام : يضعه في غير حقّه ، فقيل له : إن وضعه في حقِّه؟ قال عليه السلام : يشغله إصلاحُه عن الله (٣).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّك إن تَذَرْ ورثْتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون الناس (٤).
وقال صلى الله عليه وآله : لا خيرَ فيمن لا يحبّ المال يَصِل به رَحِمَه ، ويؤدّي به أمانته ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ تفسير مجمع البيان ٣ : ١٨.
٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٣ ، وسائل الشيعة ٩ : ٤٧٦ / ح ١٢٥٣٣ ، والآية في سورة سبأ : ٣٧.
٣ ـ جامع السعادات ٢ : ٥١.
٤ ـ صحيح البخاريّ ٢ : ٨٢.
ويستغني به عن خَلْق ربِّه (١).
والعامّة من العوامّ تنظر إلى أصحاب الأموال والثروات بالتعظيم ، وتكيل لهم المدح والثناء والإطراء ، وتقدّم لهم فروض الطاعة والتقدير لمجرّد كونهم أصحاب ثروة طائلة.
نقل عن العتابيّ أنّه قال : الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس ، وهو عندهم أعذب من الماء ، وأرفع من السماء ، وأحلى من الشهد ، وأزكى من الورد ، خَطَؤه صواب ، وسيّئاته حسنات ، وقوله مقبول ، ويُرفَع مجلسه ، ولا يُمَلّ حديثه. والمفلس عند الناس أكذب مِن لمعان السراب ، وأثقل من الرصاص ، لا يُسَلَّمُ عليه إن قَدِم ، ولا يُسألُ عنه إن غاب ، إن حضر رَدّوه ، وإن غاب شتموه ، وإن غضب صفعوه ، مصافحته تنقض الوضوء ، وقراءته تقطع الصلاة (٢).
إنّ النفس البشرية هي التي تتحكّم بالمال وتوجيهه وصرفه ، فالنفوس الإيمانية الكريمة تجعل منه الوسيلة لبلوغ أرقى المراتب الدينيّة والدنيويّة ، فتخلّف حُسن الذِّكر في الدنيا ، وتكسب رضوان الله في الآخرة ، ولكنّ هؤلاء قليل.
أمّا أغلب الأغنياء فإنّهم لا يقاومون إغراء المال ، فيستعملونه سلاحاً نافذاً في موارد الاستغلال والطغيان والظلم ، وركوب مطايا الآثام ، وسلوك سبل الشيطان.
قال النبيّ صلى الله عليه وآله : حبّ المال والشرف يُنبتان النفاق ، كما ينبت الماءُ البقل (٣).
والمراد من ذلك عبادة المال ، والإفراط في جمعه ، بعيداً عن الضوابط الخلقيّة والمثل العليا والقيم السامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ كنز العمّال (٣) : ٢٤٠ / خ ٦٣٤٥.
٢ ـ شرح نهج البلاغة (١)٩ : ٢٢٩.
٣ ـ مُنْية المريد : (١)٥٦.
إنّ الدرهم والدينار قد أغرى أصحاب النفوس الضعيفة فباعوا آخرتهم بدنياهم ، وانحازوا إلى جانب الطغاة طمعاً في مالهم ، ووضعوا لهم الأحاديث ، وأقاموا مجالس الوعظ والإرشاد لتخدير الشعوب ، وتركيع الأفراد على أقدام السلاطين الخارجين عن الإسلام ، السافكين للدماء ، السارقين لثروات شعوبهم.
قال الإمام الحسن عليه السلام لأبيه أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبه ، أما ترى حبّ الناس للدنيا؟ فقال عليه السلام : هم أولادها ، أفيُلام المرءُ على حبّ والدته؟! (١)
قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام في حديث : فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة (٢).
وورد في «الكافي» في كتاب الإيمان والكفر في باب حبّ الدنيا والحرص عليها : يُنقَل أنّ عيسى بن مريم عليه السلام مرّ على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابّها ، فقال عليه السلام : أما إنّهم لم يموتوا إلّا بسخطة ، ولو ماتوا متفرّقين لتدافنوا ، فقال الحواريّون : يا روح الله وكلمته ، أُدعُ الله أن يُحْيِيَهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنَجْتنبَها.
فدعا عليه السلام ربّه فنُودي من الجوّ أن نادِهِم ، فقام عيسى عليه السلام بالليل على شُرَف من الأرض فقال : يا أهل هذه القرية ، فأجابه منهم مجيب : لبّيك يا روح الله وكلمته.
فقال عليه السلام : ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال : عبادة الطاغوت ، وحبّ الدنيا ، مع خوف قليل وأمل بعيد ، وغفلة في لهو ولَعِب.
فقال عليه السلام : كيف كان حبّكم للدنيا؟ قال : كحبّ الصبيّ لأمِّه ، إذا أقبَلَت علينا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ عليه السلام ٢ : ١٥٥.
٢ ـ الكافي ٢ : ٣١٧ / ح ٨.
فَرِحنا وسُررنا ، وإذا أدبرت عنّا بكينا وحَزِنّا.
قال عليه السلام : كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي. قال عليه السلام : كيف كان عاقبة أمركم؟ قال : بتنا ليلة في عافية ، وأصبحنا في الهاوية!
فقال عليه السلام : وما الهاوية؟ قال : سِجِّين. قال عليه السلام : وما سجّين؟ قال : جبال من جمر تُوقَد علينا إلى يوم القيامة.
قال عليه السلام : فما قلتم ، وما قيل لكم؟ قال : قلنا ردّونا إلى الدنيا فنزهد فيها. قيل لنا : كذبتم.
قال عليه السلام : ويحك ، كيف لم يكلّمني غيرك من بينهم؟ قال : يا روح الله ، إنّهم مُلجَمون بلجام من نار بأيدي ملائكةٍ غِلاظِ شِداد ، وإنّي كنت فيهم ولم أكن منهم ، فلمّا نزل العذاب عَمَّني معهم ، فأنا معلّق بشعرة على شفير جهنّم ، لا أدري أُكبكَبُ فيها أم أنجو منها؟
فالتفت عيسى عليه السلام إلى الحواريّين فقال : يا أولياء الله ، أكلُ الخبز اليابس بالملح الجريش ، والنوم على المزابل ، خيرٌ كثيرٌ مع عافية الدنيا والآخرة (١).
لقد كان سبب نزول عذاب الاستئصال بهم أمور سلبية ، هي :
١ ـ عبادة الطاغوت. ٢ ـ حبّ الدنيا. ٣ ـ خوف قليل. ٤ ـ أمل بعيد. ٥ ـ غفلة في لهو ولعب.
ومن دوافع حبّ المال والإفراط في جمعه هو شبح الخوف من الفقر الذي يطارد أصحاب النفوس الانهزاميّة المنسلخة عن الإيمان ، العارية عن لباس اليقين وحسن الظنّ بالله ، أحدهم يكدح ليل نهار في ضمّ الدرهم إلى الدرهم ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ الكافي ٢ : ٣١٨ ـ ٣١٩ / ح ١١ ، والرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام.
ولكنّه يقصّر على نفسه وعياله ، فيعيش عيش الفقراء ، ويُحاسَب حساب الأغنياء.
قال الإمام عليّ عليه السلام : عَجِبتُ للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هَرَب ، ويفوته الغنى الذي إيّاه طَلَب ، فيعيش في الدنيا عيشَ الفقراء ، ويحاسب حساب الأغنياء (١).
إنّ الغنى في حدّ ذاته خير من الفقر ، لأنّ الغنى وجود والفقر عدم ، ولكن إذا كان الغنى ممّا يجرّ إلى الطغيان فهو سلاح فتّاك بيد ظالم ، والفقر إذا كان معه صبر وقناعة وعفّة وحياء ، فهو من سمات الأنبياء والأولياء والصالحين. أمّا إذا لم يكن معه ذلك ، فهو صفة مذمومة قد تؤدّي بصاحبها إلى الجزع والانحراف ، وامتهان النفس والتوتّر والقلق.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : الفقر الموت الأكبر (٢) ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله : كاد الفقر أن يكون كفراً (٣).
وقال عليه أفضل التحيّة والسلام : من ابتُليَ بالفقر فقد ابتُلي بأربع خصال : بالضعف في يقينه ، والنقصام في عقله ، والرقّة في دِينه ، وقلّة الحياء في وجهه (٤). وقد مدح القرآن الكريم الفقراء المتعفّفين الذين لم ينهاروا أمام عواصف الفقر والحاجة ، وثبتوا أمام المغريات الدنيويّة ، وقاوموا الميول الغريزيّة والشهويّة ، ولم يخرجوا عن رحاب ساحة الله تعالى وطاعته ورجائه ، فقد قال سبحانه : (يَحْسَبُهُمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٦.
٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٦٣.
٣ ـ الكافي ٢ : ٣٠٧ / ح ٤.
٤ ـ بحار الأنوار ٦٩ : ٤٧ / ح ٥٨ ـ عن : جامع الأخبار : ٣٠٠ / ح ٨١٨ ـ الفصل ٦٧.
الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (١).
وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : الفقر فَخْري وبه أفتخر (٢).
وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى (٣).
وقال صلى الله عليه وآله : يا معشَر الفقراء ، أُعطوا اللهَ الرضى من قلوبكم ، تَظفُروا بثواب فقركم ، وإلّا فلا (٤).
وعن الإمام عليّ عليه السلام : إبنَ آدم ، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك ، فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنت تريد ما لا يكفيك ، فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك (٥).
وقال الإمام الباقر عليه السلام : إيّاك أن تُطمح إلى مَن هو فوقك (٦) ، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن سأَلَنا أعطيناه ، ومن استغنى أغناه الله (٧).
وعنه صلى الله عليه وآله : من أراد أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد غيره (٨).
وقد حذّرنا أئمّة الهدى عليهم السلام من كثرة مجالسة الأغنياء ، لأنّ مجالسة هؤلاء تقسّي القلب ، إلّا القليل منهم.
عن أبي عبد الله الصادق ، عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ثلاثة مجالستهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ البقرة : ٢٧٣.
٢ ـ عدّة الداعي : ١١٣.
٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٤٠.
٤ ـ كنز العمّال ٦ : ٤٨٥ / خ ١٦٦٥٥.
٥ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ ـ ١٣٩ / ح ٦.
٦ ـ نفسه ٢ : ١٣٧ / ح ١.
٧ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٢.
٨ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ٨.
تميت القلب : الجلوس مع الأنذال ، والحديث مع النساء ، والجلوس مع الأغنياء (١).
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال لرجل : يا فلان ، لا تجالس الأغنياء ، فإنّ العبد يجالسهم وهو يرى أنّ لله عليه نعمة ، فما يقوم حتّى يرى أنْ ليس لله عليه نعمة! ٢
والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ الكافي ٢ : ٦٤١ / ح ٨.
٢ ـ الأمالي للصدوق : ٢١٠ / ح ٣ ـ المجلس ٤٤.
المبحث العشرون : في الحِلْم
قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي يَحْلُمُ عَنّي حَتّى كَاَنّي لا ذَنْبَ لي ، فَرَبّي اَحْمَدُ شَيءٍ عِنْدي ، وَاَحَقُّ بِحَمْدي.
الحِلْم : ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، وجمعُه أحلام ، قال تعالى : (لم تأمرهم أحلامهم بهذا) (١).
قيل : معناه عقولهم ، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل ، لكن فسّروه بذلك لكونه من مسبِّبات العقل (٢).
والحلم : مقابل الغضب ، والأوّل باعث التروّي والأناة والتعقّل ، أمّا الثاني فباعث على الطيش والانتقام.
والفارق بين الحلم وكظم الغيظ أنّ الحلم صفة راسخة مطبوعة في النفس الإنسانيّة من دون تكلّف ، ويعبَّر عنها بالمَلَكة ، وأمّا كظم الغيظ فهو التحكّم ، أي تكلّف الحلم ، وعندما يواظب الإنسان عليه فإنّه يقوده إلى الحلم. ويشهد لذلك ما نُقل عن النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله : إنّما العلم بالتعلّم ، والحلم بالتحلّم (٣). كما ورد عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ الطور : ٣٢.
٢ ـ مفردات غريب القرآن : ١٢٩.
٣ ـ العلل للدارقطنيّ ١٠ : ٣٢٦ / خ ٢٠٣٧.
الإمام الصادق عليه السلام قوله : إذا لم تكن حليماً فتحلّم (١).
وقد وصف الله سبحانه نفسه بالحلم في عشرة مواضع من كتابه العزيز حيث قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَاللَّـهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (٣).
ووصف سبحانه ثلاثة من الأصفياء من عباده بالحلم ، وهم : إبراهيم ، وهود ، وإسماعيل عليهم السلام.
قلنا : إنّ الحلم ملكة إنسانيّة ، وهي من صفات الكمال عند الفرد ، وهذه النفوس الإيمانيّة عادة تشعر بالطمأنينة والاستقرار النفسيّ ، والهدوء والرضى ، فلا يعصف بها الغضب فتفقد مكانها ومكانتها ، بل تعالج الأمور بالشكل الذي يأمر به العقل والشرع والأخلاق.
والحلم من الكمالات المعلومة عند كلّ أحد ، وهو من فضائل النفس ، ولكنّ الغضب قد يفسده كما يفسد الخَلُّ العسل ، أمّا العلم فإنّه إذا اقترن بالحلم زانه ، ويشهد لذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاؤه :
اَللّهمّ أغْنِني بالعِلم ، وزيِّنّي بالحِلم (٤) ، وقال صلى الله عليه وآله : والذي نفسي بيده ، ما جُمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم (٥).
وعدّت السنّة الشريفة الحلم من الرفعة وعظيم المنزلة عند الله سبحانه ، ففي الأثر المروي أنّه صلى الله عليه وآله قال : ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ الكافي ٢ : ١١٢ / ح ٦.
٢ ـ البقرة : ٢٣٥.
٣ ـ البقرة : ٢٦٣.
٤ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.
٥ ـ الخصال : ٥ / ح ١١.
تَصِل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتَحلُم عمّن جَهِل عليك (١).
والحليم الذي يمارس حلمه بعنوان القربة إلى الله سبحانه له ثواب عظيم إذا جعل ذلك من جهاد النفس ، وهو من أعظم الجهاد ففي الخبر أنّه قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ الرجل المسلم لَيُدرك بالحلم درجة الصائم القائم (٢).
والحلماء هم الذين يقال لهم يوم القيامة أهل الفضل ، لما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا جُمع الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ : أين أهل الفضل؟
فيقوم ناسٌ ـ وهم يسير ـ فينطلقون سراعاً إلى الجنّة ، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون : إنّا نراكم سراعاً إلى الجنّة؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون : ما كان فضلكم؟ فيقولون : كنّا إذا ظُلِمنا صبرنا ، وإذا أُسيء إلينا عَفَونا ، وإذا جُهِل علينا حَلُمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنّة فنِعمَ أجرُ العاملين (٣).
وقال صلى الله عليه وآله : ثلاثٌ ، مَن لم تكن فيه واحدة منهنّ فلا تَعْتَدّوا بشيءٍ من عمله : تقوى تحجزه عن معاصي الله عزّ وجلّ ، وحلم يكفّ به السفيه ، وخلق يعيش به في الناس (٤).
وقد عُدّ الحلم الخير الذي ينبغي أن يناله الإنسان في مسيرته إلى الله تعالى ، قال عليّ عليه السلام : ليس الخير أن يكثر مالُك ووَلَدك ، ولكنّ الخير أن يكثر علمُك ، وأن يَعظُم حلمُك (٥).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.
٢ ـ مجمع الزوائد ٨ : ٢٤.
٣ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.
٤ ـ نفسه ١ : ٢٩٦.
٥ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٩٤.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : إنّ الله يحبّ الحَيِيَّ الحليم (١).
وقد اتّصف آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين هم الامتداد الطبيعيّ لسيرة جدّهم الأعظم ، والذين هم تلاميذ القرآن وحملته ـ اتّصفوا بأعلى درجات الحلم.
فقد ورد في الصحيح : أنّ أبا عبد الله الصادق عليه السلام بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج عليه السلام في أثره لمّا أبطأ عليه فوجده نائماً ، فجلس عليه السلام عند رأسه يروّحُه حتّى انتبه ، فلمّا انتبه قال له أبو عبد الله عليه السلام : يا فلان ، والله ما ذاك لك ، تنام الليل والنهار ، لك الليل ، ولنا منك النهار (٢).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان ينادي على أحد مواليه فلا يجيبه ، فسأله عليه السلام عن سبب ذلك ، فقال أَمِنتُ عقابك ، فقال عليه السلام : إذهَبْ فأنت حرٌّ لوجه الله (٣).
وقال النبيّ صلى الله عليه وآله في وصيّته لعليّ عليه السلام : يا عليّ ، ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وآله : أحسنكم خُلقاً ، وأعظمكم حِلماً ، وأبرّكم بقرابته ، وأشدّكم من نفسه إنصافاً (٤).
وعن جابر بن عبد الله قال : سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم مولاه قنبراً ، وقد رام قنبر أن يردّ عليه ، فناداه أمير المؤمنين عليه السلام : مهلاً يا قنبر ، دَعْ شاتمك مُهاناً تُرضِ الرحمان وتُسخط الشيطان ، وتعاقب عدوّك ، فوالذي فلق الحبّة ، وبرأ النَّسَمة ، ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.
٢ ـ الكافي ٨ : ٨٧ / ح ٥٠.
٣ ـ مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للكوفيّ : ٨٦ ، شرح نهج البلاغة ١١ : ٢٢١.
٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٧٠ / ح ٥٧٦٥.
أرضى المؤمنُ ربَّه بِمِثل الحِلم ، ولا أسخط الشيطانَ بِمِثل الصمت ، ولا عُوقب الاحمق بمثل السكوت عنه (١).
وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : إن لم تكن حليماً فتحلّم ، فإنّه قَلَّ مَن تشبّه بقوم إلّا أَوشك أن يكون منهم (٢) ، وعن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : إن شَتَمَكَ رجل عن يمينك ، ثم تحوّل إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره (٣).
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : مرارة الحلم أعذبُ من حلاوة الانتقام (٤) ، وعن الرضا عليه السلام قوله : اتّقوا الله وعليكم بالصمت والصبر والحلم ، فإنّه لا يكون الرجل عابداً حتّى يكون حليماً. وقال عليه السلام : لا يكون [الرجل] عاقلاً حتّى يكون حليماً (٥).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا قَدَرتَ على عدوّك ، فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرة عليه (٦).
وقال عليه السلام : أَولى الناس بالعفو أقدَرُهم على العقوبة (٧) ، وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : من كظم غيظاً وهو يَقْدر على إمضائه ، أعقبه الله يوم القيامة أمناً وإيماناً يجد طعمه (٨).
وقال سبحانه معبّراً عن حلمه بالعباد : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّـهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ الأمالي للمفيد : ١١٨ / ح ٢.
٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٠٧.
٣ ـ الكافي ٨ : ١٥٣ / ح ١٤١.
٤ ـ إرشاد القلوب : ٧٤ ـ الباب ١٨ وصايا وحِكم بليغة ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٩٠ / ح ١٣٠٦٤.
٥ ـ مشكاة الأنوار ٢ : ٧٥ / ح ١٢٥٤ و١٢٥٥ ، قريب منه : الكافي ٢ : ١١١ / ح ١ ـ باب الحلم.
٦ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١١.
٧ ـ نفسه : الحكمة ٥٢.
٨ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٥٢ / ح ٥٧٦٥.
مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) (١) ، وقال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا) (٢).
لقد أمهل الله سبحانه العصاة من عباده ، وآلى على نفسه عدم المؤاخذة بالذنوب ، بل جعل لهم موعداً لن يخلفوه ، وهذا التأخير هو سبب استمرار وبقاء البشر ، ولولاه لهلك الجميع لأنّ الأغلبيّة الغالبة تتّصف بالظلم واقتراف المعاصي ، ولو قيل : هل يشمل هذا هلاك المعصومين المنزّهين عن الخطأ؟ نقول : إذا شمل آباءهم وأمهاتهم ، فمعنى ذلك عدم وفودهم على الدنيا ، فالله سبحانه قضى أن يعيش هؤلاء على الأرض ويعمروها ، ويستقرّوا على ظهرها لعلّهم يرجعون إلى طريق الله السويّ وصراطه المستقيم.
وقد ورد عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قوله في الصحيفة السجّادية : إنّما يعجل من يخاف الفوت ، ويحتاج إلى الظلم الضعيف (٣).
وروي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه كان عنده أضياف مُدّت لهم الموائد ، واستعجل غلام له بشواء كان في التنّور ، فأقبل الخادم مسرعاً ، فسقط السفّود من يده على رأس ولد صغير لعليّ بن الحسين عليه السلام تحت الدرجة ، فأصاب رأسه فقتله ، فقال الإمام عليه السلام للغلام ، وقد تحيّر ذلك الغلام واضطرب : أنت حرّ لوجه الله تعالى ، أمّا إنّك لم تتعمّده. ثمّ أخذ في جهاز ابنه ودفنه (٤).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ النحل : ٦١.
٢ ـ الكهف : ٥٨.
٣ ـ الصحيفة السجّاديّة : ٣٥٢.
٤ ـ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ٤٢١ ، مسكّن الفؤاد للشهيد الثاني : ٦١ ـ عنه : بحار الأنوار ٨٢ : ١٤٢ / ح ٢٥.
ومن حلمه أنّه آوى عدوّ الله مروان بن الحكم وزوجته في واقعة الحَرّة (١) ، رغم ما فعله هذا المجرم بآل محمّد عليهم السلام.
وقال أبو ذرّ الغفاري ـ صاحب النبيّ وتلميذ أمير المؤمنين ـ لغلامه : لمَ أرسلت الشاة على علف الفَرَس؟ قال الغلام : أردت أن أغيظك ، فقال رضي الله عنه : لَأجْمعَنّ مع الغيظ أجراً ... أنت حرّ لوجه الله (٢).
نال من الإمام زين العابدين عليه السلام ابن عمّه الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فلم يكلّمه الإمام ، بل أتى منزله وناداه ، فخرج الحسن متوثّباً ، فقال عليه السلام له : يا أخي ، إن كنتَ قلتَ ما فيّ فأستغفر اللهَ منه ، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ يغفر الله لك. فقبّل الحسن بين عينَي الإمام وقال : بل قلتُ ما ليس فيك وأنا أحقٌّ به (٣).
وقد ورد في قصص العرب أنّ جماعة تذاكروا فيما بينهم آثار معن بن زائدة ، وكان من أشهر أجواد العرب ، أدرك العصرين الأمويّ والعباسيّ ، وولّاه المنصور إمارة سجستان ، فأقام بها ، ثم قُتل فيها غيلة سنة ١٥١ هـ ، تذاكروا آثاره وأخبار كرمه وعظمة حلمه ، فقال أعرابي : أنا أُغضبه. وجرى الرهان بينه وبينهم على مائة ناقة.
فعمد الأعرابي إلى بعير فسلخ جلده وارتداه ، واحتذى ذلك الجلد ودخل على معن ، وأنشأ يقول :
أتذكر إذ لِحافُك جلدُ شاةٍ |
|
وإذ نعلاك مِن جلد البعيرِ؟ |
قال معن : أذكره ولا أنساه ، فقال الأعرابي :
فسبحانَ الذي أعطاك مُلكاً |
|
وَعَلَّمك الجلوسَ على السريرِ! |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ أيّام العرب في الإسلام : ٤٢٤ عن : جهاد الإمام السجّاد عليه السلام : ٦٩.
٢ ـ التذكرة الحمدونيّة : (١)٦٢ ، ورواه الزمخشريّ في ربيع الأبرار : ٩٠٩.
٣ ـ مناقب آل أبي طالب (٣) : ٢٩٦.
فقال معن : إن الله يُعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشا ، فقال الأعرابي :
فلستُ مُسلِماً إنْ عشتُ دهراً |
|
على معنٍ بتسليمٍ الأميرِ |
فقال معن : السلام خير ، وليس في تركه ضير ، فقال الأعرابي :
سأرحل عن بلادٍ أنت فيها |
|
ولو جارَ الزمانُ على الفقيرِ |
فقال معن : إن جاورتَنا فمرحباً بالإقامة ، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة ، فقال الأعرابي :
فَجُدْ لي يا ابن ناقصةٍ بمالٍ |
|
فإنّي قد عزمتُ على المسيرِ |
فقال معن : أُعطوه ألف دينار ، تُخفّفْ عنه مشاقَّ الأَسفار. فأخذها وقال :
قليلٌ ما أتيتَ به وإنّي |
|
لَأطمعُ منك بالمالِ الكثيرِ |
فَثَنِّ فقد أتاك المُلكُ عفواً |
|
بلا عقلٍ ولا رأيٍ منيرِ |
فقال معن : أعطوه ألفاً ثانية ، كي يكون عنّا راضياً. فتقدّم الأعرابي إليه وَقَبَّل الأرض بين يديه وقال :
سألتُ اللهَ أن يُبقيك ذُخْراً |
|
فما لك في البريّةِ مِن نظيرِ |
فَمِينك الجودُ والإفضالُ حقّاً |
|
وفيضُ يَدَيك كالبحرِ الغزيرِ |
فقال معن : أعطيناه ألفين على هجونا ، فأعطوه أربعة آلاف على مدحنا ، فقال الأعرابي :
بأبي أيّها الأمير ونفسي ، فأنت نسيجُ وَحْدِك في الحلم ، ونادرة دهرك في الجود. ولقد كنتُ في صفاتك بين مصدّق ومكذّب ، فلمّا بلوتك صَغَّرَ الخُبْرُ الخَبَر ، وأذهب ضعفَ الشكّ قوّةُ اليقين ، وما بعثني على ما فعلت إلّا مائة بعير جُعلت لي على إغضابك.
فقال له الأمير : لا تثريب عليك. ووصله بمائتي بعير ، نصفها للرهان ، والنصف
الآخر له ، فانصرف الأعرابي داعياً له شاكراً لهباته ، معجباً بأناته (١).
والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الهل على محمّد وعلى آله المعصومين الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ حكاه اليافعيّ في : مرآة الجنان : ٦٤٢ بتفاوتٍ في بعض الكلمات.
المبحث الحادي والعشرون : في الرحمة الإلهيّة
قال عليه السلام : أللّهُمَّ اِنّي اَجِدُ سُبُلَ الْمَطالِبِ اِلَيْكَ مُشْرَعَةً ، وَمَناهِلَ الرَّجاءِ اِلَيْكَ مُتْرَعَةً ، وَالاِسْتِعانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ اَمَّلَكَ مُباحَةً ، وَاَبْوابَ الدُّعاءِ اِلَيْكَ لِلصّارِخينَ مَفْتُوحَةً ، وَاَعْلَمُ اَنَّكَ لِلرّاجين بِمَوْضِعِ اِجابَة ، وَلِلْمَلْهُوفينَ بِمَرْصَدِ اِغاثَة ، وَاَنَّ فِي اللَّهْفِ اِلى جُودِكَ وَالرِّضى بِقَضائِكَ عِوَضاً مِنْ مَنْعِ الْباخِلينَ ، وَمَنْدُوحَةً عَمّا في اَيْدي الْمُستَأثِرينَ.
ما زال الداعي عليه السلام يهيّئ الأجواء الصحيحة لاستجابة الدعاء ، فهو يحمد الله سبحانه ويثني على آلائه ، وينسب إليه كلَّ خير وجميل ، وأنّه سبحانه قد فتح الأبواب إليه على مصاريعها لاستقبال الوافدين ، وها هي موائده مبذولة لكلّ محتاج ، وأنّ فيه الغنى عن غيره تعالى.
الرحمة إذا نسبت إلى الإنسان فالمراد منها رقّة القلب والإشفاق والتأثّر النفسيّ ، أمّا إذا نُسبت إلى الله سبحانه فالمراد منها العطاء والفيوضات الإلهيّة النازلة من عنده سبحانه لسدّ حاجة الخلائق ، كلٌّ حسب استعداده للتلقّي.
والرحمة الإلهيّة قسمان :
١. رحمة عامّة : شاملة لجميع الخلائق والموجودات لتكميل مسيرتها الارتقائيّة إلى الله وسدّ حاجاتها ، وهذه الرحمة تشمل المؤمن والكافر ، والبَرَّ والفاجر ، وذا
الشعور وغيره.
٢. رحمة خاصّة : تشمل الإنسان السائر في طريق الله ، المتوجّه إلى سعادة القرب منه سبحانه ، وهذه الرحمة مختصّة بالمؤمن دون غيره ، وتكون بالمقابلة لقاء إيمانه وعمله وسعيه ، فينال الإشراق الروحيّ ، والنور الباطنيّ ، ورضوان الله تعالى في الدنيا والآخرة.
أما العذاب الإلهيّ ، فليس فيه عذاب عامّ ، بل هو عذاب خاصّ بالخارجين عن خطّ التوحيد ، وسبيل السعادة ، فما يصيب الإنسان من شدّة وابتلاء وضنك في المعيشة ، فإن كان كافراً فهذا نتيجة حتميّة وأثر للإعراض عن ذكر الله :
قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ * وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ) (١).
أمّا ما يصيب المؤمنَ من فقر وحرمان وقتل وتعذيب وتشريد ، فهو من مصاديق الرحمة الإلهيّة له ، وكلّما ازداد إيماناً ازداد ابتلاؤه ، وعلا شأنه ، كلّ ذلك وفق المنظور الإلهيّ ، ووفق المصالح والحِكَم البعيدة التي لا يعلم كنهها إلّا الله تبارك وتعالى ، وهذا يحتاج إلى وعي عميق ، وبصيرة نافذة ، وحسن ظنٍّ بالله جلّ وعلا.
فالابتلاءات تتحوّل إلى سعادة داخليّة ، أو مغفرة ، أو إنّها تردّ بعض البلاء ، وربّما تكون الذخيرة الكبيرة ليوم المعاد.
والرحمة من الصفات الكماليّة الفعلية التي لا تحملها إلّا النفوس الكبيرة ، والقلوب الرقيقة ، التي دأبها التسامي عن عالم المادة والزخارف والأهواء ، المتحرّرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ طه : ١٢٤ ـ ١٢٧.
من الكِبْر والطغيان والتسلّط ، ولكنّ الإسلام أمر بالرحمة بتغليب جانب العقل على العاطفة في عالم التطبيق والتصرّفات العملية. ونشير إلى حقيقتين مهمّتين :
١. إنّ الرحمة لم يؤمر بها أو يندب إليها على وجه الإطلاق ، خصوصاً في عالم الاجتماع ، لأنّ هذا يؤدّي إلى انفلات النظام ، وفقدان الأمن الاجتماعي ، فلا ينال الظالم جزاءه ، ولا الباغي عقوبته.
٢. إذا نادى العقل والضمير بتحكيم مبدأ الرحمة ، فعلينا أن ننظر بوعي إلى المصالح الاجتماعيّة ، والأحكام الشرعيّة التي جاءت لتنظّم حياة الإنسان : الفرد والمجتمع ، ولا يكون ذلك إلّا بعد استتباب جانب العدل كمرحلة متقدّمة على الإحسان : (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).
إنّ المراد بالعدل هو الإنصاف ، ولزوم التوازن والاعتدال ، والاجتناب عن جانبي الإفراط والتفريط في الأمور. والعدل هو المساواة والموازنة ، ووضع كلّ شيء موضعه ، فيُثاب المحسن ويُعاقَب المسيء.
أمّا الإحسان ، فالمراد منه مقابلة الخير بالأكثر ، ومقابلة الشرّ بالأقلّ ، وربّما بالعفو ، وقد يكون له الأثر الإيجابيّ في نشر الرحمة وغرس المودّة ، واستجلاب الأمن والرفاه للفرد والمجتمع.
وقد يكون للإحسان مع غير أهله آثار سلبيّة ، تصادر الأمن الفرديّ والاجتماعيّ ، فقد رأينا سماسرة السياسة ، خِدمةً لمصالحهم وتحقيقاً لمآربهم القذرة ، يصدّرون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ النحل : ٩٠.