إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٢

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

أنبأنا محمد بن عربشاه المفيد وقرأت على أبي الحسين بن الفقيه وغيره قالوا : أنا ابن صباح ، أنا ابن رفاعة ، أنا الخلعي ، أنا عبد الرحمن بن عمر ، أنا أبو سعيد الأعرابي ، أنا سعدان ، نا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن محمد بن علي ، أن عليا جلد رجلا في الخمر أربعين جلدة بسوط له طرفان.

ومن أقضيته عليه‌السلام

ماأورده القوم

فمنهم الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه «أئمة الفقه التسعة» (ج ٢ ص ٥٣ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب) قال :

وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن امرأة بالمدينة أحبت شابا من الأنصار ، ولكنه لم يطعها فيما تريد ، فجاءت بيضة وألقت صفرتها ، وسكبت البياض على فخذيها وثوبها ، ثم جاءت إلى الخليفة عمر صارخة فقالت : إن ببدنها وثوبها آثار الرجل.

فهم بعقوبة الشاب ، فأخذ يستغيث ويقول : يا أمير المؤمنين تثبت في أمري ، فو الله ما أتيت فاحشة ولا هممت بها ، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت. فنظر عمر إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال : يا أبا الحسن ما ترى في أمرها. فنظر علي إلى ما على الثوب ، ودعا بماء حار شديد الغليان ، فصب على الثوب فجمد البياض ، وظهرت رائحة البيض ، فزجر الخليفة أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه المرأة فاعترفت ، وعاقبها.

ومن رأي الإمام أحمد أنه لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه حتى إذا اعترف المذنب. وقد روى أنه حدث في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، أن أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخ بالدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه فسأله

١٤١

أمير المؤمنين فقال : أنا قتلته. فقال : اذهبوا به فاقتلوه. فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا ، فقال : يا قوم لا تعجلوا ، ردوه إلى علي. فردوه. فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه ، أنا قتلته. فقال علي للأول : ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟ قال : يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع ، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه ، وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم وقد أخذت في خربة؟ فخفت ألا يقبل مني ، فاعترفت بما لم أصنع ، واحتسبت نفسي لله. فقال علي : بئسما صنعت! فكيف كان حديثك؟ فقال الرجل : إنه قصاب ذبح بقرة وسلخها ، وأخذه البول فأسرع إلى الخربة يقضي حاجته والسكين بيده ، فرأى القتيل فوقف ينظر إليه فإذا بالشرطة تمسك به. وأما القاتل فاعترف بأن الشيطان زين له أن يذبح القتيل ليسرقه ثم سمع خطو أقدام فاختفى في الظلام ، حتى دخل القصاب فأدركه العسس فأمسكوا به ، ولما رأى الخليفة أمر بقتل القصاب ، خشي أن يبوء بدمه فاعترف. وأخلى على سبيل القاتل لأنه إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. وأخرج الدية من بيت المال.

وقال أيضا في ص ١٥٧ :

فابن حزم قد اعتمد في بعض فقهه على أن عمر بن الخطاب كان يستفتي عليا بن أبي طالب فيما يغم عليه من الأحكام ويقول : علي أقضانا. فإذا عرضت لعمر قضية ولم يجد عليا قال : فضية ولا أبا الحسن لها.

ومن أقضيته عليه‌السلام

ما أورده الفاضل المذكور في «علي إمام المتقين» (ج ١ ص ٧٤ ط مكتبة غريب) قال :

فقد جاء رجل إلى الرسول وعلي يومئذ باليمن فقال الرجل : شهدت عليا أتى في

١٤٢

ثلاثة نفر ادعوا ولد امرأة ، فطلب علي من كل واحد منهم أن يدع الولد للآخر ، فأبوا جميعا قال : أنتم شركاء مشاكسون وسأقرع بينكم فأيكم أصابته القرعة فهو له وعليه ثلثا الدية. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال : ما أعلم فيها إلا ما قاله علي.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا مع علي وجماعة من الصحابة فجاء خصمان فقال أحدهما : يا رسول الله إن لي حمارا ، وإن لهذا بقرة ، وإن بقرته قتلت حماري. فقال رجل من الحاضرين : لا ضمان على البهائم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقض بينهما يا علي. فقال علي لهما : أكانا مرسلين أم مشدودين أم كان أحدهما مشدودا والثاني مرسلا؟ فقالا : كان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة وصاحبها معها. فقال علي : على صاحب البقرة ضمان الحمار. أي تعويضه. فأقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكمه وأمضى قضاءه.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينصح الصحابة باستشارة علي كرم الله وجهه ويقول لهم : علي أقضاكم. من أجل ذلك حرص خلفاء الرسول على استفتائه ..

وحين قاد خالد بن الوليد أحد جيوش الفتح المظفرة كتب إلى الخليفة أبي بكر : وجدت في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فما عقابه؟ ولم يجد أبو بكر نصا في القرآن ولا في السنة عن جزاء هذه الجريمة فجمع نفرا من الصحابة فسألهم ، وفيهم علي بن أبي طالب ، وكان أشدهم يومئذ قولا ، قال : إن هذا ذنب لم تعص به أمة من قبل إلا قوم لوط ، فعمل بها ما قد علمتم فأحرقهم الله تعالى وأحرق ديارهم ، أرى أن تحرقوه بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد : أحرقه بالنار.

وسئل عن فداء أسرى المسلمين الجرحى من أيدي المرتدين فقال : نفادي من كانت جراحاته بين يديه دون من كانت من ورائه ، فإنه فار.

وفي الحق أن اجتهاده كان دائما في الأمور المشكلة والقضايا الصعبة.

من ذلك أن رجلا فر من رجل يريد قتله ، فأمسكه له آخر حتى أدركه فقتله ،

١٤٣

وبقربه رجل ينظر إليهما ، وهو يقدر على إنقاذه ، ولكنه وقف ينظر. فأفتى علي كرم الله وجهه بأن يقتل القاتل ، ويحبس الممسك حتى يموت ، وتفقأ عين الناظر الذي وقف ينظر إلى الجريمة ، ولم يمنع وقوعها وهو قادر على ذلك بلا حرج.

ومن ذلك أن رجلين احتالا على الناس ، فأصابا منهم أموالا طائلة وذلك أن كل واحد منهما كان يبيع الآخر على أنه عبد ، ثم يهربا من بلد إلى بلد ، يكرران الفعل نفسه ، فحكم بقطع أيديهما ، لأنهما سارقان لأموال الناس.

ومن ذلك أن امرأة تزوجت ، فلما كانت ليلة زفافها أدخلت صديقها مخدعها سرا ، ودخل الزوج المخدع فوجد العشيق فاقتتلا ، فقتل الزوج غريمه فقتلت المرأة زوجها. فقضى بقتل المرأة في زوجها الذي قتلته ، وبدية العشيق على المرأة ، لأنها هي التي عرضته لأن يقتله زوجها فهي المتسببة في قتله ، أما الزوج فإنما قتل غريمه دفاعا عن العرض ، فهو قتل مشروع لا عقاب عليه ولا دية ولا تعويض.

ثم إنه أفتى بألا يحبس المدين في الدين وقال : حبس الرجل بعد أن يعلم ما عليه ظلم.

وقال أيضا في ص ٩٢ :

من أجل ذلك كان عمر يحيل إليه المعضلات التي تحتاج إلى الذكاء وسعة العلم.

وروى الإمام جعفر الصادق عن جده الإمام علي : أتى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار ، وكانت تهواه فلما لم يساعدها احتالت عليه ، فأخذت بيضة فألقت صفرتها ، وصبت البياض على ثوبها وبين فخذيها ثم جاءت بالشاب إلى عمر صارخة ، فقالت : هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله. فسأل عمر النساء فقلن له : إن ببدنها وثوبها أثر المني.

فهمّ عمر بعقوبة الشاب ، فجعل الشاب يستغيث ويقول : يا أمير المؤمنين تثبت في أمري ، فو الله ما أتيت بفاحشة ، ولا هممت بها ، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت. فقال عمر رضي‌الله‌عنه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه : يا أبا الحسن ما ترى في

١٤٤

أمرهما؟

فنظر علي كرم الله وجهه إلى المرأة يقرأ صفحة وجهها ، ونظر إلى ما على الثوب ، ثم دعا بماء حار شديد الغليان ، فصبه على الثوب فجمد ذلك البياض ، ثم أخذه واشتمه وذاقه ، فعرف رائحة البيض وطعم البيض ، وزجر المرأة فاعترفت فأطلق الشاب البريء ، وأقيم عليها حد القذف.

ورفعت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قد زنت ، فسألها عن ذلك ، فقالت في يسر : نعم يا أمير المؤمنين. وأعادت ذلك وأيدته ، كأنها لم تقترف ذنبا وعلي يسمع ويتأمل.

فقال علي كرم الله وجهه : إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام. فأعلمها بحرمة الزنا ، ودرأ عنها الحد.

وأفتى علي بأن كل من يستكره على ذنب يعفى من العقاب ويعاقب من أكرهه ، فإذا اضطر أجير على السرقة لأنه لم يجد ما يأكله ، لم تقطع يده ، وإنما قطعت يد الذي استأجره ولم يعطه أجره ، فهو الذي أكرهه على السرقة أو بالقليل وجب عليه التعويض مضعفا.

ويروى أن عليا كان في مجلسه يعلم الناس بالمسجد ، إذ سمع ضجة ، فلما سأل عنها قيل له : رجل سرق ومعه من يشهد عليه.

فشهد شاهدان عليه أنه سرق ، فجعل الرجل يبكي ويناشد عليا أن يتثبت في أمره. فخرج علي إلى الناس بالسوق ، فدعا بالشاهدين ، فناشدهما الله وخوفهما ، فأقاما على شهادتهما ، فلما رآهما لا يرجعان دعا بالسكين وقال : ليمسك أحدكما يده ويقطع الآخر. فتقدما ليقطعاه ، فهاج الناس ، واختلط بعضهم ببعض ، وقام علي من مكانه ، فترك الشاهدان الرجل ، وهربا.

وجاءت إلى علي رضي‌الله‌عنه امرأة فقالت : إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري. فقال للرجل : ما تقول؟ قال : ما وقعت عليها إلا بأمرها. فقال علي : إن كنت

١٤٥

صادقة رجمته ، وإن كنت كاذبة جلدتك حد القذف ثمانين جلدة ، وأقيمت الصلاة ، فقام علي كرم الله وجهه ليصلى ، وفكرت المرأة ، فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها ، ولا في أن تجلد فولت هاربة ، ولم يسأل علي عنها.

وكان يقول : ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ، لهذا كان في قضائه يحاور ويتأمل ، وهو أول من فرق بين الشهود ، واستمع لكل شاهد على حده ، فاستطاع أن يتبين الحقيقة وأمن تأثير الشهود بعضهم على بعض.

من ذلك أن امرأة أتوا بها إلى علي كرم الله وجهه ، وشهدوا عليها أنها بغت وكانت يتيمة رباها رجل كثير الغياب عن أهله وكان للرجل امرأة غيور.

فشبت اليتيمة وأصبحت حسناء فتانة ، فخافت المرأة أن يتزوجها زوجها ، فدعت نسوة من جاراتها أمسكن اليتيمة الحسناء فافتضت بكارتها بإصبعها ، فلما عاد الزوج من غيبته ، رمت الزوجة الغيور تلك اليتيمة بالفاحشة ، واستشهدت بالنسوة اللاتي ساعدنها على أخذ عذرتها.

فسأل علي المرأة : ألك شهود؟ قالت : نعم هؤلاء جاراتي يشهدن بما أقول.

فأحضرهن علي وأحضر السيف ، ودعا امرأة الرجل وحاورها طويلا فأصرت على قولها. فصرفها.

ودعا امرأة أخرى من الشهود فهددها إن لم تصدقه ليفعلن كذا وكذا. فقالت : والله ما فعلت اليتيمة فاحشة ، إلا أن زوجة الرجل رأت فيها جمالا وهيبة ، فخافت فساد زوجها ، فدعتنا ، فأمسكنا لها بالفتاة حتى افتضتها بإصبعها. فألزم المرأة حد القذف ، وألزم الرجل أن يطلقها ، وزوجه اليتيمة المفترى عليها.

وجاءوا برجل إلى عمر بن الخطاب سأله جماعة من الناس : كيف أصبحت؟ فقال : أصبحت أحب الفتنة ، وأكره الحق ، وأصدق اليهود والنصارى ، وأؤمن بما لم أره ، وأقر بما لم يخلق. فأرسل عمر إلى علي رضي‌الله‌عنهما ، فلما جاءه أخبره بمقالة الرجل.

١٤٦

فقال علي ضاحكا : صدق الرجل. قال الله تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فهو يحب المال والبنين. وهو يكره الحق يعني الموت ، قال تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ، ويصدق اليهود والنصارى (قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) ، وهو يؤمن بما لم يره أي يؤمن بالله عزوجل ، ويقر بما لم يخلق يعني الساعة ، فضحك عمر وأطلق سراح الرجل.

وقال أيضا في ص ١٠٤ :

وجاءوا عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور ، فأمر برجمها ، فقال له علي : هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ فأطلقها عمر حتى تضع حملها.

وجاءوا عمر بامرأة أجهدها العطش ، فمرت على راع فاستسقته فأبى إلا أن تمكنه من نفسها ، ففعلت فشاور الناس في رجمها فقال علي : هذه مضطرة ، فخل سبيلها. وأشار برجم الراعي وحده. وأخذ عمر بهذا الرأي.

وقد شكا يهودي عليا إلى عمر ، وكان عمر شديد الحرص على المساواة بين الخصوم في القضاء. فقال لعلي : ساو خصمك يا أبا الحسن. فوقف علي إلى جوار اليهودي أمام عمر ، وعند ما قضى عمر وانصرف اليهودي قال عمر : أكرهت يا علي أن تساوي خصمك؟ قال : بل كرهت أن تميزني عنه فتناديني بكنيتي أبو الحسن.

وقال أيضا ج ٢ ص ٣٧٢ :

جاءوه برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بالدم ، وبين يديه قتيل غارق في دمه ، فسأله أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه فقال الرجل : أنا قتلته. قال : اذهبوا به فاقتلوه ، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا فقال : يا قوم لا تعجلوا ردوه إلى أمير المؤمنين فردوه ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه ، أنا قتلته فقال علي

١٤٧

للرجل الأول : ما حملك على أن قلت ، أنا قاتله ولم تقتله؟ قال : يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه ، وأنا واقف ، وفي يدي سكين ، وفيها أثر الدم ، وقد أخذت في خربة ألا يقبل مني ، فاعترفت بما لم أصنع ، واحتسبت نفسي عند الله.

فقال علي : بئسما صنعت. فكيف كان حديثك؟ قال الرجل : إني رجل قصاب ، خرجت إلى حانوتي في الغلس ، فذبحت بقرة وسلختها ، فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي أخذني البول ، فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها ، فقضيت حاجتي ، وعدت أريد حانوتي ، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره ، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي ، فأخذوني. فقال الناس : هذا قتل هذا ما له قاتل سواه ، فأدركت أنك لا تترك قولهم لقولي ، فاعترفت لما لم أجنه.

فسأل علي الرجل الثاني الذي أقر بالقتل : فأنت كيف كانت قصتك؟ قال : أغواني إبليس ، فقتلت الرجل طمعا في ماله ، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة ، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف ، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس ، فأخذوه وأتوك به فلما أمرت يا أمير المؤمنين بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا ، فاعترفت بالحق. فقال علي لابنه الحسن : ما الحكم في هذا؟ وكان يعلم أولاده على نحو ما تعلم هو من أستاذه العظيم رسول الله : يطرح القضية ويسأل عن الحكم ثم يجيز أو يصحح. فقال الحسن : يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا. وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). فأقر الإمام الحكم ، وخلى عن الرجلين ، وأخرج دية القتيل من بيت المال.

وأورد الفاضل المعاصر أحمد حسن الباقوري المصري بعض أقضيته عليه‌السلام في كتابه «علي إمام المتقين» (ص ١٨٠ وما بعدها) ونحن نورد بعضها بلفظه :

١٤٨

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاؤه في بنات يزدجرد آخر ملوك فارس ، وذلك على ما يرويه العلامة الزمخشري في كتابه «ربيع الأبرار» ، فيقول رحمه‌الله : لما جيء إلى المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب كان في هذا السبي ثلاث بنات ليزدجرد ، فأمر عمر رضي‌الله‌عنه ببيع البنات الثلاث ، فقال الإمام علي كرم الله وجهه : إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة. فسأله أمير المؤمنين عمر : كيف الطريق إلى العمل معهن يا أبا الحسن؟ فقال كرم الله وجهه : يقومن يا أمير المؤمنين ، ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن. وقد أخذ عمر برأي الإمام فأخذهن علي رضي‌الله‌عنه ، ثم دفع بواحدة لعبد الله بن عمر ، ودفع بالثانية إلى محمد بن أبي بكر ، ودفع بالثالثة إلى الحسين ، على أن يكون البنات الثلاث زوجات لأكفائهن من العرب. وقد ولدت زوجة الحسين عليا زين العابدين الذي ينتسب إليه كل شريف حسيني على وجه الأرض ، فيكون له بذلك في العرب أشرف الأصلاب إلى جانب أن له في الفرس أكرم الأرحام.

وذلك القضاء بلا ريب قضاء لا يتأتى إلا لمثل الإمام في شرف نفسه وغزارة علمه وفقهه ، لما انطوى عليه الإمام من معرفة لأقدار الناس وإحسان لوزن الأمور على ما يقول عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه : لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا ، فإن تساووا هلكوا.

وقال في ص ١٨٧ :

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه العلامة التستري من أن أمير المؤمنين عمر جيء إليه بخمسة نفر أخذوا في قضية زناء ، فأمر رضي‌الله‌عنه أن يقام على كل واحد منهم الحد. فجاء الإمام كرم الله وجهه فقال : ليس هذا حكمهم يا أمير المؤمنين. فقال له عمر : أقم أنت الحد عليهم يا أبا الحسن. فقام فقدم واحدا منهم فضرب عنقه ، ثم قدم الثاني فرجمه ، ثم قدم الثالث فضربه الحد ، ثم قدم الرابع فضربه نصف

١٤٩

الحد ، ثم قدم الخامس فعزّره ، فتحير أمير المؤمنين عمر وتحير الناس معه ، فقال له : يا أبا الحسن ، خمسة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم خمسة حدود وليس منها شيء يشبه الآخر. فقال الإمام كرم الله وجهه : أما الأول فكان ذمّيا خرج عن ذمته فلم يكن له حكم إلا السيف. وأما الثاني فرجل محصن فكان حده الرجم. وأما الثالث فغير محصن فحده الجلد. وأما الرابع فعبد فضربناه نصف الحد. وأما الخامس فمجنون مغلوب على عقله فعزّرناه.

وقال في ص ١٨٨ :

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة من أن أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه جيء إليه بسارق فقطعه ، ثم جيء إليه به مرة ثانية فقطعه ، ثم جيء به إليه مرة ثالثة فهم بقطعه ، فقال له الإمام : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنك قطعت يده ورجله ، احبسه ، فحبسه.

وقال في ص ١٨٩ :

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما رواه الصدق ، من أنه جاء رجل إليه فأقر بالسرقة ، فقال له : أتقرأ شيئا من القرآن؟ قال الرجل : نعم أقرأ سورة البقرة. قال الإمام : لقد وهبت يدك لسورة البقرة. قال الأشعث الكندي : أتعطل حدا من حدود الله يا أمير المؤمنين؟ قال : وما يدريك ما هذا؟ إن البينة إذا قامت فليس للأمير أن يعفو ، ولكن الرجل إذا أقر على نفسه فذاك إلى الإمام : إن شاء عفا وإن شاء قطع.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يأثره الثقات عن الإمام جعفر الصادق رحمه‌الله ، قال : بينا أمير المؤمنين علي في ملأ من أصحابه ، إذ جاءه رجل فقال : إني أوقبت على غلام فجئت إليك أسألك أن تطهرني يا أمير المؤمنين. ولم تكد هذه الكلمات تواقع سمعه كرم الله وجهه حتى تغير لونه تغيرا يوحى إلى من يراه أنه نضو هم مقعد مقيم.

١٥٠

ذلك أن العرب لم تكن تعرف هذا اللون الفاحش من الشذوذ في إرواء الشهوات الحيوانية ، حتى أنهم لم يضعوا له كلمة تعبر عنه في لغتهم العربية الشريفة كما وضعوا للمفاحشة بين الرجل والمرأة كلمة الزنا ، وللمفاحشة بين المرأة والمرأة كلمة إسحاق ، فإذا ما أرادوا التعبير عن المفاحشة بين الذكور ، استخدموا كلمة اللواط يأخذونها عن قوم لوط عليه‌السلام ، وقد كانوا لعنهم الله أول الذين ابتكروا هذه الفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

فلما هدأت العاصفة في صدر الإمام كرم الله وجهه ، توجه بالحديث إلى ذلك الذي جاء إليه راجيا أن يطهره ، فقال له : يا هذا عد إلى منزلك فلعل سوء مزاجك هاج بك فأوقعك في هذا البلاء المبين. ولم يسع الرجل إلا أن يصدع بأمر أمير المؤمنين فرجع إلى منزله كما أمر ، ولكنه ما لبث أن عاد إلى ما قد اقترفه من قبل فجاء إلى أمير المؤمنين يطلب إليه أن يطهره ، فقال له كرم الله وجهه : يا هذا إن تطهيرك مما قارفته يقتضي أحد أمور ثلاثة : أن يضرب عنقك بالسيف ضربة بالغة ما بلغت ، أو أن تقذف من شاهق جبل مشدود اليدين والرجلين ، أو أن تحرق بالنار. فاختر أيهن شئت.

ولم يشأ الرجل أن يختار حتى أقبل علي أمير المؤمنين يسأله : أي الثلاثة أبلغ أذى وأشد إيلاما يا أمير المؤمنين؟ فأجابه كرم الله وجهه : الحرق بالنار هو الأبلغ الأشد. فقال الرجل : فإني قد أخذت هذا على ما سواه فطهرني به رضي الله عنك. فأجابه أمير المؤمنين : خذ لذلك أهبتك واستعد. ولم تكن أهبة الرجل إلا أن يفزع إلى الصلاة ، فقام فصلى ركعتين ثم جلس في تشهده يدعو الله تعالى ويقول : اللهم إني قد أتيت من الذنب ما قد علمت ، وقد جئت لابن عم نبيك أسأله أن يطهرني فخيرني بين ثلاث شدائد فاخترت أشدها الإحراق بالنار ، اللهم إني أسألك أن تجعل ذلك كفارة لذنبي وألا تحرقني بنار الآخرة. ثم قام يبكي حتى جلس في الحفرة التي حفروها له وهو يرى النار تتأجج ، ولم يتمالك أمير المؤمنين أن بكى وبكى معه أصحابه ، ثم قال الرجل : يا هذا إنك أبكيت ملائكة الله في سمائه وأرضه وإني أرى

١٥١

بذلك لك توبة ، فقم وإياك أن تعاود شيئا مما فعلت ، والله غفور رحيم.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاء ما قضى به أحد قبله ، وكان ذلك أول ما قضى به بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه لما قبض رسول الله وأفضى الأمر إلى أبي بكر ، جيء إليه برجل شرب الخمر ، فقال له أبو بكر : هل شربت الخمر؟ فقال الرجل : نعم شربتها. فعاد أبو بكر يسأله : ولم تشربها وهي محرمة؟ قال الرجل : لقد أسلمت يا خليفة رسول الله ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها ، ولو علمت أنها حرام لاجتنبتها. فالتفت أبو بكر رضي‌الله‌عنه إلى عمر قائلا له : ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر رضي‌الله‌عنه : معضلة ليس لها إلا أبو الحسن. فدعا أبو بكر بغلام ثم أمره أن يذهب إلى الإمام فيدعوه إليه ، غير أن عمر رضي‌الله‌عنه قال : يؤتى الحكم في منزله. ثم قام عمر ومعه أبو بكر وسلمان الفارسي فأخبروا الإمام بقصة الرجل ، فقال كرم الله وجهه لأبي بكر رضي‌الله‌عنه : ابعث مع الرجل من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، فمن كان قد تلا عليه آية تحريم الخمر فليشهد عليه ، فإن لم يكن من يشهد بذلك فعليهم أن يتلوا عليه آية التحريم ثم لا شيء عليه بعد. ففعل أبو بكر ما أشار به الإمام ولكن أحدا لم يشهد عليه ، فخلى سبيله.

ومن أقضيته كرم الله وجهه تحديده كلمة حين بستة أشهر ، فقد جيء إليه برجل نذر أن يصوم حينا من الدهر ولم يعين وقتا محددا ، فقضى الإمام أن يصوم الناذر ستة أشهر ثم تلا قول الله جل ثناؤه : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). فكلمة حين في هذه الآية حددها الإمام بستة أشهر.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ماروي عن جعفر الصادق من قوله : إن أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه قضى في امرأة زوجها وليها وهي برصاء ، فقال : إن لها المهر بما

١٥٢

استحل منها ، وأن المهر على الذي زوجها.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن امرأة حرة دلس عليها عبد فتزوجها وهي تظن أنه حر وإن كان عبدا في حقيقة أمره ، فقضى في هذه الواقعة الإمام بأن يفرق بينهما إن شاءت المرأة التفريق ، وإلا ظلت زوجة له.

ومن أقضيته أن رجلا كاتب مملوكه على قدر من المال يدفعه إليه منجما ، فإذا قضى نجومه نال حريته ، غير أن المملوك المكاتب جاء بالمال كله إلى سيده ضربة واحدة وسأله أن يأخذ المال ويجيز عتقه ، فأبى السيد إلا أن يأخذ ماله منجما مقسطا. فقضى الإمام كرم الله وجهه بأن الشرط أحق بالإمضاء ، فعلى المكاتب أن يحترم شرطه فيقضى كتابته أقساطا ، وللسيد أن يرفض أخذ المال دفعة واحدة.

وليس يخفى عليك حفظك الله وجه الحق في هذا القضاء الشريف ، إذ كان أداء المال الكتابة على سبيل التقسيط والتنجيم يمكن السيد من الانتفاع.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما روي عن الباقر من قوله : قضى أمير المؤمنين علي في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق فأمر بقطع يده ، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر زعما أنه هو الذي سرق وأنهما أخطا في نسبتهما السرقة إلى الذي قطعت يده. فغضب الإمام أشد الغضب ثم غرم الشاهدين نصف الدية ولم يجز شهادتهما على الآخر.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة مرفوعا إليه ، أن الإمام قضى في رجل وامرأة ماتا معا في الطاعون على فراش واحد ، ويد الزوج تضم الزوجة إلى صدره. فجعل الميراث للرجل قائلا إنها ماتت قبله ، ثم لحقها هو فمات بعدها.

وليس لقائل أن يقول : إن الإمام قضى في هذه الواقعة بعلمه دون بينة ودون يقين ذلك أن وجود يد الزوج على الزوجة في فراش الزوجية يعطي العلم.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاء ينتمي إلى قاعدة كلية تقول : لو أن رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج ، لكان له أن يجهز رجلا

١٥٣

من ماله ثم يبعثه مكانه.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضية خلاصتها : أن عبدا قتل حرا خطأ ، فلما علم سيد العبد بجناية عبده أعتقه ، ثم لما رفعت القضية إلى الإمام أجاز العتق وضمن سيد العبد دية القتيل.

ومن أقضيته قضاؤه بأن لا يقتل الوالد إذا قتل ولده ، ولكن يقتل الولد إذا قتل والده.

ومن أقضيته كرم الله وجهه في رجل قلد خاتم الخلافة على عهد أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه ، وقد أصاب الرجل بهذا الخاتم الزور مالا من خراج الكوفة فلما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين عمر صلّى بالناس صلاة الصبح ، ثم ذكر لهم القصة طالبا رأيهم في هذا المزور الغشاش المستولى على مال حرام. فقال بعض القوم تقطع يده ، وقال البعض الآخر يصلب. وكان الإمام حاضرا يستمع ولا يتكلم ، فسأله عمر : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال كرم الله وجهه : رجل كذب كذبا فيعاقب في جسده. فأمر به عمر فضرب ضربا شديدا ثم حبسه.

ومن أقضيته ما يرويه الثقة عن الأصمعي رحمه‌الله ، قال : أخذ الإمام علي رضي‌الله‌عنه قوما بسرقة فحبسهم ، ثم جاء رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني كنت معهم وقد تبت إلى الله. فأمر الإمام بحده حد السرقة ثم أنشد قول الشاعر :

وأدخل رأسه لم يدعه أحد

بين القرينين حتى لزه القرن

ووجه تمثله بهذا البيت كرم الله وجهه أن هذا الذي جاء يزعم أنه تاب من جريمة قد اقترفها مع قوم آخرين ، إنما مثله كمثل اثنين وضعا في حبل واحد ، فجاء ثالث متطوعا فأدخل رأسه في الحبل بين القرينين ، فكان كمثل صاحبيه ، وقد جمع الثلاثة حبل واحد.

ومن أقضيته ما يرويه الإمام جعفر قال : إن أمير المؤمنين عليا قال : إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك ، فإن بطنها يشق ليخرج منه الولد. وقال في المرأة

١٥٤

يموت في بطنها الولد فيخاف عليها من ذلك : لا بأس بأن يدخل يده فيقطع الجنين الميت ويخرجه ، إذا لم تترفق به النساء.

ومن أقضيته إجاباته عن أسئلة توجه إليه محتاجة إلى مزيد من الفهم والفطانة : فمن ذلك ما يروونه من أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلسوا يتذاكرون ، فتذاكروا حروف الهجاء وأجمعوا على أن الألف أكثر دخولا في الكلام من سائر الحروف. فقام الإمام كرم الله وجهه فخطب على البديهة خطبة قال فيهما : حمدت وعظمت من عظمت منته ، وسبغت نعمته ، وسبقت رحمته غضبه وتمت كلمته ، ونفذت مشيئته. حمدته حمد مقر بربويته ، متخضع لعبوديته ، متنصل من خطيئته ، معترف بتوحيده ، مؤمل من ربه مغفرة تنجيه ، يوم يشغل عن فصيلته وبنيه ، ونستعينه ونسترشده ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه ، وشهدت له تشهد مخلص موقن ، وفردته تفريد مؤمن متيقن ، ووحدته توحيد عبد مذعن ليس له شريك في ملكه ، ولم يكن له ولي في صنعه ، جل مشير ووزير ، وعون ومعين ونظير. علم فستر ، ونظر فخبر ، وملك فقهر ، وعصي فغفر ، وحكم فعدل. لم يزل ولن يزول ، ليس كمثله شيء وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء ، متفرد بعزته ، متمكن بقوته ، متقدس بعلوه ، متكبر بسموه ، ليس يدركه بصر ، وليس يحيط به نظر ، قوى منيع بصير ، سميع حليم حكيم ، رؤف رحيم ، عجز عن وصفه من يصفه ، وضل عن نعته من يعرفه. قرب فبعد ، وبعد فقرب ، يجيب دعوة من يدعوه ، ويرزقه ويحبوه ، ذو لطف خفي ، وبطش قوي ، ورحمة موسعة ، وعقوبة موجعة ، رحمته جنة عريضة مونقة ، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة.

وشهدت ببعثة محمد عبده ورسوله ، ونبيه وخليله ، صلى عليه ربه صلاة تزلفه وتعليه ، وتقربه وتدنيه. بعثه في خير عصر ، وحين فترة وكفرة ، رحمة لعبيده ومنة لمزيده ، ختم به نبوته ، ووضح به حجته ، فوعظ ونصح ، وبلغ وكدح ، عليه رحمة وتسليم ، وبركة وتكريم ، من غفور رحيم ، قريب مجيب.

١٥٥

وصيتكم جميع من حضر وصية ربكم ، وذكرتكم سنة نبيكم ، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم ، وخشية تذرى دموعكم ، وتقية تنجيكم ، قبل يوم يذهلكم ويبليكم. يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته ، وخف وزن سيئته ، ولتكن مسألتكم مسألة ذل وخضوع ، وشكر وخشوع ، وتوبة ونزوع ، وندم ورجوع. وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه ، وشيبته قبل هرمه وكبره ، وفرغته قبل شغله ، وغنيته قبل فقره ، وحضره قبل سفره.

ثم قرأ كرم الله وجهه : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص : ٨٣.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنه جيء إليه بالنجاشي الشاعر وقد شرب الخمر في شهر رمضان ، فضربه الإمام ثمانين جلدة ثم حبسه ليلا. ثم دعا به إلى الغد فضربه عشرين سوطا ، فقال له : ما هذا الذي صنعت بي يا أمير المؤمنين ، ضربتني ثمانين في شرب الخمر ، فما هذه العشرون؟ فقال : شربت الخمر فجلدناك ثمانين ، ثم دعونا بك فضربناك عشرين لجرأتك على الشرب في شهر رمضان.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن صبيانا في زمنه كانوا يلعبون ، فرمى أحدهم فدق رباعية صاحب من أصحابه ، فرفع ذلك إليه فدعا بالرامي فأقام البينة بأنه قال قبل أن يرمى : ضرار. فدرأ الإمام عنه القصاص قائلا : لقد أعذر من أنذر.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنه لم يجعل على المستحاضة حدا حتى ينقطع عنها دمها ، وكذلك لم يجعل على الحائض حتى تطهر ومثلها النفساء ، وكذلك لم يجعل على الحامل حدا حتى تضع حملها.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن سئل عن حمل غذى بلبن خنزيرة ، فقال : قيدوه ثم اعلفوه الكسب والنوى والخبز إن كان قد استغنى عن اللبن ، وإن لم يكن قد استغنى فأمكنوا من ضرع شاة سبعة أيام.

ومن أجوبته كرم الله وجهه عن أسئلة تجرى في طريق القضاء ، أن سائلا سأله

١٥٦

عمن لا أب له ولا عشيرة ولم يركض ، وعن القبر الذي سار بصاحبه. فأجاب كرم الله وجهه : أما من لا أب له فعيسى بن مريم ، وأما من لا عشيرة له فآدم أبو البشر ، وأما القبر الذي سار بصاحبه فذلك يونس بن متى : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الصافات : ١٤٠ ـ ١٤٢.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن رجلا كاتب مملوكا له مشترطا عليه أن ميراثه له ، فلما رفع ذلك إليه أبطل شرطه قائلا له : إن شرط الله قبل شرطك.

ومن أقضيته التي تنظر إلى بعيد قضاؤه بأن لا يقام على أحد حد بأرض العدو. وليس يخفى وجه الحكمة في هذا القضاء ، إذ كان من الميسور المحتمل أن يحقد المحدود على قومه ، وقد يحمله الحقد على أن يفر إلى العدو يكشف له عن العورات ويدلهم على ما يؤذى قومه ويسوؤهم.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنهم قدموا إليه رجلا يستحق القطع فأمر به أن تقطع يمينه ، فقدموا شماله فقطعوها وهم يحسبونها يمينه ، ثم قدموه لتقطع يمينه فقالوا إنما قطعنا شماله. فقال كرم الله وجهه : لا تقطعوا يمينه وقد قطعت شماله.

ومن قضائه أنه رفض قطع سارق البيضة من الغنيمة ، قائلا لمن قدموه للقطع : إني لا أقطع أحدا له فيما أخذ شرك.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاؤه في السارق إذا قبض عليه وقد أخذ المتاع دون أن يخرج به من البيت ، فقال كرم الله وجهه : ليس على هذا قطع حتى يخرج بالذي سرق من الدار.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة عن الإمام جعفر الصادق أنه قال : جيء إلى أمير المؤمنين علي بطرار طر دارهم من كم رجل ، فقال الإمام : إن كان النشال قد نشل الدراهم من قميص الرجل الداخلى قطعته ، وإن كان قد نشلها من قميصه الأعلى لم أقطعه. فلما حققوا الأمر وجدوه قد نشل الدراهم من قميصه الداخلي ، فأمر بقطعه فقطعت يده. وليس يخفى وجه الفرق بين طر الدراهم من القميص الداخلي وبين

١٥٧

طرها من القميص الخارجي إذ كانت القرائن في القميص الداخلي مصونة في حرز حريز ، بخلاف ما إذا كانت في القميص الخارجي فإنها على غير ذلك من الحفظ والصيانة.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنه لا قطع على أربعة : أحدها المختلس ، وثانيها الغال ، وثالثها السارق من الغنيمة ، ورابعهم الأجير.

ومن قوله في هذا الباب كرم الله وجهه : إذا سرقني عبدي لم أقطعه فإذا سرق غيري قطعته ، وكذلك عبد الأمان إذا سرق لم أقطعه لأنه فيء.

ومن قضائه كرم الله وجهه فيمن قتل وشرب الخمر وسرق وقام عليه الحد ، فأمر بجلده لشربه الخمر ، ثم قطع يده في سرقته ، ثم قتله بما قتل.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة من أنه جيء إليه برجل فقال : هذا قذفني ، ولم تكن له بينة فقال : يا أمير المؤمنين استحلفه. فقال الإمام : لا يمين في حد ، ولا قصاص في عظم.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقات من أنه جيء إليه برجل استوجب حدا ، فأمر الإمام خادمه قنبرا أن يضربه الحد ، فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط ، فأمر الإمام المضروب بأن يقتص من قنبر فيضربه ثلاثة أسواط.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن تستوفى الدية في القتل الخطأ في ثلاث سنوات ، وأن تستوفى دية العمد في سنة واحدة. وكان يقول ، قضاء ماضيا : من ضربناه حدا من حدود الله فمات ، فلا دية له علينا ، ومن ضربناه في حقوق الناس فمات ، فديته علينا.

ومن أقضيته فيما روى عن الصادق : أنه جلد رجلا افترى على جماعة ، فجلده حدا واحدا.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنه قد اختصم إليه رجلان اشترى أحدهما من الآخر بعيرا واستثنى البائع رأس البعير وجلده ، ثم بدا للمشتري أن ينحر البعير فقال الإمام

١٥٨

للمشتري : هو شريكك فيه على قدر الرأس والجلد.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له شعبتان أربعين جلدة ، فقد اعتبر كل شعبة سوطا ، فيكون قد جلده ثمانين جلدة هي حد شرب الخمر.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قوله في صغار قتل أبوهم : إن قاتل أبيهم لا يقتل حتى يكبر صغاره ، فإذا بلغوا فإن أحبوا أن يقتلوا قاتل أبيهم قتلوه ، وإن أحبوا أن يعفوا عنه أو يصالحوه كان لهم ذلك.

ومن أقضيته قضاؤه برد شهادة شاهدين من اليهود إذا شهدا على يهودي بأنه أسلم.

ووجه ذلك عنده كرم الله وجهه أنهما يجيزان تغير كلام الله وشهادة الزور. فلما سئل عن شاهدين من النصارى شهدا على نصراني أو مجوسي أو يهودي بأنه أسلم ، أجاز قبول شهادتهما قائلا : إن الله يقول في النصارى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ثم قال كرم الله وجهه : إن من لا يستكبر عن عبادة الله لا يشهد الزور.

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن جاريتين دخلتا إلى حمام فاقتضت إحداهما أخرى بإصبعها ، فلما رفع الأمر إليه قضى على التي فعلت ذلك بدية البكارة للمجنى عليها.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما ذكره الإمام جعفر من أنه جيء إلى الإمام علي برجلين قذف كل واحد منهما صاحبه باللواط ، فدرأ عنهما الحد وعزرهما.

ومن أقضيته كرم الله وجهه في رجل دعى آخر بابن المجنون ، فقال له الآخر أنت ابن المجنون. فأمر الإمام أول الرجلين أن يجلد صاحبه عشرين جلدة ، فلما جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين جلدة. وكان ذلك تنكيلا بهما كليهما.

ومن أقضيته فيما كان يرويه جعفر الصادق أن الإمام كرم الله وجهه نهى أن يشترى مشتر شبكة الصياد ، على أن يقول له اضرب شبكتك فما خرج منها فهو من مالي بكذا وكذا.

١٥٩

ولعل وجه نهيه كرم الله وجهه أن هاهنا بيع غرر لعدم تعين السلعة ومعرفة الثمن ، وذلك قد يفضى إلى التنازع الذي ضره أكثر من نفعه وشره أخطر من خيره.

وقال في ص ٢١٤ :

ومن أقضيته كرم الله وجهه أن رجلا شكا إليه آخر زعم أنه احتلم بأمه. فذكر الإمام كرم الله وجهه أن الحلم في المنام بالنسبة للحالم مثله كالظل للبناء والشجر ونحو ذلك ، ثم قال للشاكي : أوقف غريمك في الشمس ثم اضرب ظله. ومع ذلك فإننا نضربه حتى لا يعود يؤذي المسلمين ، فضربه ما دون حد القذف.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاؤه بأن لا يؤكل لحم الدجاج إلا إذا حبس على الغذاء النظيف ثلاثة أيام ، وكذلك البط لا يؤكل إلا إذا حبس على الغذاء النظيف خمسة أيام.

ومن أقضيته كرم الله وجهه قضاؤه بقطع يد النباش الذي ينبش القبور ، فيسرق الأكفان وأشياء الموتى ويهتك أستارهم ، وذلك أنه قال : إن النباش سارق.

وقال في ص ٢١٥ :

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة عن الإمام جعفر الصادق من قوله : كان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام إذا بلغه أن مولى تزوج حرة ، طلب إليه أن يطلقها ، فإن أبي جعل له الإمام حظيرة من قصب أو جريد فحبسه فيها ، ثم أعطاه قوته من طعام وشراب حتى يطلق زوجته.

ومن أقضيته كرم الله وجهه ما يرويه الثقة من أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : إنى طلقت امرأتي تطليقة في الشرك وتطليقتين في الإسلام ، فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فسكت عمر. فقال الرجل : ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : كما أنت حتى يجيء علي بن أبي طالب. فلما جاء علي قص

١٦٠