نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨١
الذين تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، وقال ابن هشام تبعا لابن إسحاق : سببه قضية بني قريظة واستشارتهم إياه ، وأسند يحيى عن عبد الرحمن بن يزيد قصته معهم ، وأنهم قالوا له : أننزل على حكم محمد؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، وهو الذبح. وفي رواية أخرى أنه لما جاءهم قام إليه الرجال ، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، فكان منه ما تقدم ، قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. قال يحيى في الرواية المتقدمة : فلم يرجع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومضى إلى المسجد ، وارتبط إلى جذع في موضع أسطوانة التوبة ، وأنزل الله عزوجل فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٢٧] وفي رواية : فربط نفسه في السارية ، وحلف لا يحل نفسه حتى يحله رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو تنزل توبته ، قال : فجاءت فاطمة رضياللهعنها تحله ، فقال : لا ، حتى يحلني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال صلىاللهعليهوسلم : إنما فاطمة بضعة مني ، وفي رواية لابن النجار أن أبا لبابة عاهد الله تعالى أن لا يطأ بني قريظة أبدا ، وقال : لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لما بلغه خبره ـ وكان قد استبطأه ـ «أما لو جاءني لاستغفرت الله له ، فاما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» فأنزلت توبته ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيت أم سلمة ، قالت : فسمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم من السحر يضحك ، فقلت : مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال : تيب على أبي لبابة ، قلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال : بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال : فثار الناس إليه ليطلقوه ، قال : لا والله حتى يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي يطلقني بيده ، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وروى البيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب قصة أبي لبابة في بني قريظة ، وأنه تخلف في غزوة تبوك ، فلما قفل رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاءه يسلم عليه ، فأعرض عنه ، ففزع أبو لبابة ، فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم سبعا بين يوم وليلة في حر شديد لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة.
وروى مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط إليها بسلسلة ربوض ، والربوض : الثقيلة (١) ، بضع عشرة ليلة ، حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع ، وكاد بصره يذهب ، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فيرده في الرباط كما كان.
__________________
(١) سلسلة ربوض : سلسلة ضخمة ثقيلة ، وفي الحديث : «أنه ارتبط بسلسلة ربوض إلى أن تاب الله عليه».
وأورد الزمخشري قصة أبي لبابة في تفسيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) [الأنفال : ٢٧] الآية ، وقال فيها : قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت أي : الآية المتقدمة ، فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه ، وذكر في القصة أن النبي صلىاللهعليهوسلم جاءه فحله فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أخلع من مالي ، فقال عليهالسلام : «يجزئك الثلث أن تتصدق به».
ونقل ابن النجار عن إبراهيم بن جعفر أن السارية التي ربط إليها ثمامة بن أثال الحنفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة ، ونقل ذلك أيضا عن ابن شبة.
وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) [التوبة : ١٠٢] الآية ، قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، فلما حضر رجوع النبي صلىاللهعليهوسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فلما رآهم النبي صلىاللهعليهوسلم قال : من هؤلاء؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك ، الحديث ، وفيه توبة الله عليهم وأنه صلىاللهعليهوسلم أرسل إليهم وأطلقهم.
وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر عن محمد بن كعب أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يصلي نوافله إلى أسطوانة التوبة.
وفي رواية له عن عمر بن عبد الله ، لم يذكر ابن كعب ، أنه قال في أسطوان التوبة : كان أكثر نافلة النبي صلىاللهعليهوسلم إليها ، وكان إذا صلّى الصبح انصرف إليها ، وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين وأهل الضر وضيفان النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلا في المسجد ، قال : وقد تحلقوا حولها حلقا بعضها دون بعض ، فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح ، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته ، ويحدثهم ويحدثونه ، حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطّول والشرف والغنى فلم يجدوا إليه مجلسا ، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم ، فأنزل الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] إلى منتهى الآيتين ، فلما نزل ذلك فيهم قالوا : يا رسول الله اطردهم عنا ، ونكون نحن جلساءك وإخوانك ولا نفارقك ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] إلى منتهى الآيتين.
وفي العتبية عن مالك وصف أسطوان التوبة بالمخلقة ، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما ذكره ابن زبالة من خلوقها وخلوق غيرها من الأساطين.
وروى ابن زبالة خبر مالك بن أنس المتقدم عن عبد الله بن أبي بكر بنحو ما تقدم ،
وقال فيه : وهي الأسطوان المخلق نحو من ثلثيها ، تدعى أسطوان التوبة ، منها حل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا لبابة حين نزلت توبته ، وبينها وبين القبر أسطوان.
وأسند أيضا عن ابن عمر أنه كان يقول في الأسطوان التي ارتبط إليها أبو لبابة : هي الثانية من القبر ، وهي الثالثة من الرحبة.
قلت : كانت الثلاثة من الرحبة قبل تجدد الأسطوانتين المشار إليهما في أسطوانة القرعة بسبب تجدد الرواقين الآتي ذكرهما ، وهذه الأسطوانة إلى جانب الأسطوانة المتقدم ذكرها من جهة المشرق ؛ فهي الرابعة من المنبر ، والثانية من القبر ، والثالثة من القبلة ، والخامسة في زماننا من رحبة المسجد ، وفيها اليوم هيئة محراب من الجص تتميز به عن سائر الأساطين ، لكنه أزيل في الحريق الثاني.
وفهم البدر بن فرحون من رواية ابن عمر المتقدمة أنها التي تلي هذه الأسطوانة في جهة المشرق ، وهي اللاصقة بالشباك اليوم كما سيأتي ، فقال : إن أسطوان التوبة هي اللاصقة بالشباك على ما قاله عبد الله بن عمر ، وتبعه مالك بن أنس ، وما قيل إنها غيرها فغلط أوجبه أشياء يطول ذكرها ، انتهى كلامه.
قلت : بل الصواب ما قدمناه في بيانها ، ومنشأ ما فهمه عدّه للأسطوانة اللاصقة بجدار القبر ، فحمل قول ابن عمر أنها الثانية من القبر ، وقول مالك بينها وبين القبر أسطوان على الأسطوانة اللاصقة بالشباك اليوم ، وقد علم من كلامهم في أسطوان القرعة أنهم لا يعدون اللاصقة بجدار القبر لما تقدم من قولهم فيها : إنها الثالثة من المنبر والثالثة من القبر ، ولو عدوا اللاصقة بجدار القبر لكانت الرابعة من القبر ، وأيضا فاللاصقة بجدار القبر أحدثها عمر بن عبد العزيز ، ولم يدرك ذلك ابن عمر ، وأوضح من ذلك أن ابن زبالة قال : إن بين أسطوان التوبة وبين جدار القبر الشريف عشرين ذراعا ، وقد اعتبرت ذلك من الأسطوانة التي ذكرناها فكان كذلك.
وقال أيضا فيما قدمناه عنه : «إن ذرع ما بين مصلى النبي صلىاللهعليهوسلم وبينها سبع عشرة ذراعا» وقد قدمنا في المصلى الشريف ما يقتضي صحة ذلك عند اختبارنا لما بينهما مع بيان أن المصلى الشريف في طرف الحفر الذي يلي المغرب ، وإن جعل المصلى الشريف على تلك الهيئة حادث ، وفي نسخة من ابن زبالة «تسع عشرة ذراعا» بتقديم التاء ، فإن صحت فقد علمت أنه لم يكن المصلى الشريف في عهد ابن زبالة على هذه الهيئات ، بل كانت الأرض مستوية ، فكأنه اعتبر الذراع من ابتداء طرف المصلى الشريف الغربي ، ومنه إلى الأسطوان
المذكور تسع عشرة ذراعا بتقديم التاء ، وأما ذرع ما بين المصلى الشريف والأسطوانة التي يعنيها البدر فخمس وعشرون ذراعا ، فلا يصح إرادتها بوجه.
وأسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلىاللهعليهوسلم عن ابن عمر أن النبي صلىاللهعليهوسلم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة».
وروى ابن ماجه عن نافع أن ابن عمر أراه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم روى عن نافع عن ابن عمر أنه صلىاللهعليهوسلم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة». قال البدر بن فرحون : ونقل الطبراني في معجمه عن ابن عمر رضياللهعنهما أن ذلك مما يلي القبلة «يستند إليها».
قلت : ورواه البيهقي بسند حسن ، ولفظه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى أسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها» ونقل عياض عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد ، قال : وهو مكان عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا اعتكف ، كذا قال الأويسي.
أسطوان السرير
ومنها : أسطوان السرير ، أسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلىاللهعليهوسلم عقب ذكر ما تقدم من وضع فراشه وسريره وراء أسطوان التوبة عن محمد بن أيوب أنه «كان للنبي صلىاللهعليهوسلم سرير من جريد فيه سعفه (١) يوضع بين الأسطوان التي تجاه القبر وبين القناديل ، كان يضطجع عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم».
قلت : وهذه الأسطوانة هي اللاصقة بالشباك اليوم في شرقي أسطوان التوبة وابن فرحون يجعلها إليها كما تقدم ، ويؤيده ما تقدم في أسطوان التوبة من أن سريره صلىاللهعليهوسلم كان يوضع إليها ، إلا أن يجاب بأنه كان يوضع مرة عند هذه ومرة عند تلك ، بدليل أنه تقدم في أسطوان التوبة أن وضع ذلك كان مما يلي القبلة يستند إليها ، وذكر في هذه أنه «كان يوضع بينها وبين القناديل» وذلك في جهة شرقيها.
وقال البدر بن فرحون : روينا بالسند الصحيح إلى ابن عمر رضياللهعنهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم «كان إذا اعتكف يطرح له وسادة ، ويوضع له سرير من جريد فيه سعفه ، يوضع له فيما بين الأسطوان التي وجاه القبر الشريف وبين القناديل ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يضطجع عليه»
__________________
(١) الجريدة : سعفة طويلة تقشّر من خوصها ، والسعفة : جريد النخل وورقه ، وورق النخل اليابس.
قال أبو وحرة ـ بحاء مهملة ـ السعدي وهو يذكر السرير ويمدح آل الزبير لقرب مجلسهم منه :
وإذا غدا آل الزبير غدا النّدى |
|
وإذا انتدى فإليهم ما ينتدي |
وإذا هم راحوا فإنهم هم |
|
أهل السرير وأهل صدر المسجد |
أسطوان المحرس
ومنها : أسطوان المحرس (١) ، ويسمى أسطوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالبرضياللهعنه.
قال يحيى : حدثنا موسى بن سلمة قال : سألت جعفر بن عبد الله بن الحسين عن أسطوان علي بن أبي طالب ، فقال : إن هذه المحرس ، كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلي القبر مما يلي باب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يحرس النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال الجمال المطري وتبعه من بعده : وهو مقابل الخوخة التي كان النبي صلىاللهعليهوسلم يخرج منها إذا كان في بيت عائشة إلى الروضة للصلاة ، وهي خلف أسطوان التوبة من جهة الشمال.
قلت : هي الأسطوان الذي يصلي عندها أمير المدينة يجعلها خلف ظهره ، ولذا قال الأقشهري : إن أسطوان مصلى علي كرم الله وجهه اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم ، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم ، وذكر أنه كان يقال لها مجلس القلادة لشرف من كان يجلس فيه ، وذلك إنما هو في أسطوان الوفود لما سيأتي.
أسطوان الوفود
ومنها : أسطوان الوفود ، قال المطري : هي خلف أسطوان المحرس من جهة الشمال ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته ، وكانت مما يلي رحبة المسجد قبل أن يزاد في السقف القبلي الرواقان ، وكانت تعرف أيضا بمجلس القلادة ، يجلس إليها سروات الصحابة وأفاضلهم رضوان الله عليهم.
وقال الأقشهري ، ومن خطه نقلت : وأما الأسطوان الذي كان يجلس إليها صلىاللهعليهوسلم لوفود العرب إذا جاءته ، فقال : إذا عددت الأسطوان التي فيها مقام جبريل عليهالسلام كانت هي الثالثة ، انتهى ، وكأنه سقط من خطه فاعدد فقال : وقد أخذه من تحفة ابن عساكر ، وقد رأيت في نسخة معتمدة منها موضع بياض بعد «فقال».
وهذا مطابق لما تقدم عن المطري ؛ لأن الأسطوان التي فيها مقام جبريل هي مربعة القبر كما سيأتي ، وبينها وبين أسطوان الوفود المذكور أسطوان.
__________________
(١) المحرس : مكان أقام به حرسا.
وقال ابن زبالة : حدثنا غير واحد من أهل العلم منهم عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان التي إلى الرحبة التي في صف أسطوان التوبة بينها وبين أسطوان التوبة مصلى علي بن أبي طالب ، وأنه المجلس الذي يقال له مجلس القلادة ، كان يجلس فيه سراة الناس قديما.
وأورده المجد ، وزاد في آخره : وإنما سمي القلادة لشرف من كان يجلس إليها من بني هاشم وغيرهم.
أسطوان مربعة القبر
ومنها أسطوان مربعة القبر ، وسيأتي أنه يقال له أيضا أسطوان مقام جبريل عليهالسلام ، وقد تقدم فيما نقله الأقشهري في أسطوان الوفود ما يشهد له.
وأسند ابن زبالة ويحيى عن سليمان بن سالم عن مسلم بن أبي مريم وغيره : كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المربعة التي في القبر ، قال سليمان : قال لي مسلم : لا تنس حظك من الصلاة إليها ؛ فإنها باب فاطمة رضياللهعنها الذي كان علي يدخل عليها منه.
قلت : وهي في حائز عمر بن عبد العزيز عند منحرف الصفة الغربية منه إلى جهة الشمال ، في صف أسطوان الوفود ، بينهما الأسطوانة اللاصقة بالشباك التي شرقي أسطوان الوفود ، وسيأتي لها مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
ومن فضلها ما أسنده يحيى عن أبي الحمراء قال : شهدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أربعين صباحا يجيء إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول : السلام عليكم أهل البيت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب:٣٣] وفي رواية له : رابطت بالمدينة سبعة أشهر كيوم واحد ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأتي باب علي كل يوم فيقول : الصلاة ، الصلاة ، ثلاث مرات (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقد حرم الناس الصلاة إلى هذه الأسطوان لإدارة الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وغلق أبوابه.
أسطوان التهجد
ومنها : أسطوان التهجد ، أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخرج حصيرا كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي ، ثم يصلي صلاة الليل ، فرآه رجل فصلى بصلاته ، ثم آخر فصلى بصلاته ، حتى كثروا ، فالتفت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا بهم ، تأمر بالحصير فطوي ثم دخل ، فلما أصبح جاءوه فقالوا : يا رسول الله ، كنت فصلى الليل فنصلي بصلاتك ، فقال : إني خشيت أن ينزل عليكم صلاة
الليل ثم لا تقوون عليها ، قال عيسى بن عبد الله : وذلك موضع الأسطوان التي على طريق باب النبي صلىاللهعليهوسلم مما يلي الزوراء.
قلت : صحّف بعضهم هذه اللفظة فقال : مما يلي الدور ، ورأيت بخط الأقشهري : لعله مما يلي دوره ، انتهى. والظاهر أن الرواية مما يلي الزور ـ بالزاي ـ يعني الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز خلف الحجرة كما سيأتي والله أعلم.
قال عيسى : وحدثني سعيد بن عبد الله بن فضيل قال : مر بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها ، فقال لي : أراك تلزم هذه الأسطوانة ، هل جاءك فيها أثر؟ قلت : لا ، قال : فالزمها فإنها كانت مصلّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الليل.
قلت : تقدم في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن الموضع المذكور كان خارج المسجد تجاه باب جبريل قبل تحويله إلى محله اليوم ، وهو موافق لما سيأتي عن المؤرخين في بيان موضع هذه الأسطوانة ، والمعروف من حاله صلىاللهعليهوسلم أن قيامه في غير رمضان إنما كان في بيته ، وهذا الموضع ليس منه ، وفيما سبق مع أحاديث قيام رمضان ما يوهم أن القصة المذكورة كانت فيه ، ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اتخذ حجرة ، قال : حسبت أنه قال : من حصير ، في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس ـ الحديث» ورواه مسلم عنه بلفظ أن النبي صلىاللهعليهوسلم «اتخذ حجرة في المسجد من حصير ، فصلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيها ليلا ، حتى اجتمع إليه ناس ، فذكره نحوه» وفي رواية لأبي عوانة عن زيد «اتخذ حجرة من حصير في المسجد في رمضان ـ الحديث». ولعلها القبة التي كان يعتكف صلىاللهعليهوسلم فيها في رمضان ، فقد روى الطبراني في الكبير عن أبي ليلى قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم اعتكف في قبة من خوص ، وفي الكبير والأوسط عن معيقيب قال : «اعتكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قبة من خوص بابها من حصير والناس في المسجد» وأسند يحيى عن أبي حازم مولى الأنصار قال : «اعتكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد في رمضان في قبة على بابها حصير» ، وعن ابن عمر قال : بنى النبي صلىاللهعليهوسلم بيتا من سعف في المسجد في آخر شهر رمضان يصلي فيه.
وقال المطري في بيان موضع هذه الأسطوانة : هي خلف بيت فاطمة رضياللهعنها ، والواقف إليها يكون باب جبريل المعروف قديما بباب عثمان على يساره ، وحولها الدرابزين : أي لاصقا بها يمينا ويسارا ، وهو الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وعلى بيت فاطمة رضياللهعنها ، وقد كتب فيها بالرخام : هذا متهجّد النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقال ابن النجار : هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال ، وفيها محراب إذا توجه المصلى إليه كانت يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل.
قلت : وقد جدد محرابها في هذه العمارة التي أدركناها أولا ، وزيد في رخامه فوق
المحراب الأول ، وكتبوا في ذلك بالرخام بروز الأمر بتجديد عمارة الحجرة الشريفة من السلطان الأشرف قايتباي ـ أعز الله أنصاره! ـ وأن ذلك على يد الخواجا الجناب الشمسي ابن الزمن ، وتاريخ العمارة المذكورة ، كل ذلك مكتوب بالرخام في أعلى محراب الأسطوانة المذكورة ، ثم لما جاء الحريق الحادث بعد تمام هذا التأليف أزال ذلك كله ، ثم اقتضى رأيهم عند بناء الدعائم التي اتخذوها للقبة المحاذية لأعلى الحجرة والعقود التي خلفها إبدال هذه الأسطوانة بدعامة اتخذوا فيها محرابا.
وهذه الأسطوانة آخر الأساطين التي ذكر لها أهل التاريخ فضلا خاصا ، وإلا فجميع سواري المسجد الشريف لها فضل ؛ ففي البخاري من حديث أنس قال : لقد أدركت كبار أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يبتدرون السواري عند المغرب ، قال ابن النجار : فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم يستحب الصلاة عندها ؛ لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلوا إليها ، والله أعلم.
الفصل الثامن
في الصّفة وأهلها ، وتعليق الأقناء لهم بالمسجد
وصف الصفة وموضعها
قال عياض : الصفة ـ بضم الصاد وتشديد الفاء ـ ظلة في مؤخر مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم ، يأوي إليها المساكين ، وإليها ينسب أهل الصّفة على أشهر الأقاويل.
وقال الحافظ الذهبي : إن القبلة قبل أن تحوّل كانت في شمالي المسجد ، فلما حوّلت القبلة بقي حائط القبلة الأعلى مكان أهل الصفة.
وقال الحافظ ابن حجر : الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل ، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر.
وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية فزادوا على المائة ، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية من مرسل الحسن قال : بنيت صفّة في المسجد لضعفاء المسلمين.
وقال المجد نقلا عن الدارقطني : الصفة هي ظلة كان المسجد في مؤخرها ، ثم قال المجد : وذكر ابن جبير في رحلته عند ذكر قباء قال : وفي آخر القرية تلّ مشرف يعرف بعرفات يدخل إليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة ، وكأن هذا وهم ، والله أعلم.
قلت : يظهر من قول عياض فيما قدمناه عنه «على أشهر الأقوال» أن في ذلك خلافا ؛ فيكون ما ذكره ابن جبير أحد الأقوال ، لكنه مرجوح أو مؤول بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار بعد ، فاشتهرت بذلك.
أهل الصفة
وقد روى ابن سعد في مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط : كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم ، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره.
وروى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال : لما كثرت المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المسجد ، وسماهم أصحاب الصفة ، فكان يجالسهم ويأنس بهم.
وأسند يحيى عن فضالة بن عبيد قال : كنا نصلي مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيخر قوم من قامتهم من الخصاصة (١) ، حتى يقول الأعرابي : مجانين ، وهم أهل الصفة ، فإذا صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتاهم فوقف عليهم ، فقال : لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة.
وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال مرة : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ـ الحديث.
وفيه من حديث أبي هريرة قال : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوه ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وفيه من حديث أبي هريرة أيضا أنه كان يقول : والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوما في طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا يستتبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي أبو القاسم صلىاللهعليهوسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : الحق ، فمضى فتبعته ، فدخل فاستأذن ، فأذن لي ، فدخلت فوجدنا لبنا في قدح ، فقال : من أين هذا اللبن؟ فقالوا : أهداه لك فلان أو فلانة ، قال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي ، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ، ولم يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها ، فساءني ذلك ، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوّى بها ، فلما جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم ، وما
__________________
(١) الخصاصة : سوء الحال والفقر والحاجة.
عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا ، فاستأذنوا فأذن لهم ، فأخذوا مجالسهم من البيت ، قال : يا أبا هريرة ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : خذ فأعطهم ، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فاخذه فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم انتهيت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقد روي القوم كلهم ، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم ، وقال : يا أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : بقيت أنا وأنت ، قلت : صدقت يا رسول الله ، قال : اقعد فاشرب ، فقعدت فشربت ، فقال : اشرب ، فشربت ، فما زال يقول اشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا ، قال : فأرني ، فأعطيته القدح ، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
وقد وقع لأبي هريرة رضياللهعنه قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة.
وأخرج ابن حبان من طريق مسلم بن حيان عن أبيه عنه قال : أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم ، فجئت أريد الصفة ، فجعلت أسقط ، فجعل الصبيان يقولون : خر أبو هريرة ، حتى انتهيت إلى الصفة ، فوافيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتى بقصعة من ثريد ، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها ، فجعلت أتطاول كي يدعوني ، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها ، فجمعه صلىاللهعليهوسلم فصارت لقمة ، فوضعها على أصابعه فقال لي : كل باسم الله ، فو الذي نفسي بيده ما زلت آكل منه حتى شبعت.
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث معاوية بن الحكم فقال : بينا أنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الصفة ، فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار ، والرجلين والثلاثة ، حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلىاللهعليهوسلم خامسنا ، فقال : انطلقوا بنا ، فقال : يا عائشة عشّينا ـ الحديث.
وروى أيضا من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة : كنت من أهل الصفة ، وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر ، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر ، فيؤتي النبي صلىاللهعليهوسلم بعشائه فيتعشى معهم ، فإذا فرغنا قال : ناموا في المسجد.
وروى ابن شبة عن طلحة البصري قال : كان من قدم المدينة فكان له بها عريف نزل على عريفه ، ومن لم يكن له بها عريف نزل الصفة ، فكنت فيمن نزل الصفة ، فوافقت رجلين كان يجرى علينا في كل يوم مدّين من تمر من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فانصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فناداه رجل من أهل الصفة : يا رسول الله أحرق التمر بطوننا وتحرفت علينا الحرف ، فمال النبي صلىاللهعليهوسلم إلى منبره فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما لقي من قومه حتى إن كان ليأتي علي وعلى صاحبي بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا البرير ، فقدمنا على إخواننا من الأنصار وجل
طعامهم التمر ، فواسونا ، ولو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم ، ولكن لعلكم ستدركون زمانا أو من أدركه منكم يلبسون فيه مثل أستار الكعبة ويغدى ويراح عليكم بالجفان.
مبدأ تعليق الأقناء
وقال ابن النجار : روى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد ، فقال : ألا نفرق هذه الأضياف في دور الأنصار ، ونجعل لك في كل حائط قنوا ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بلى ، فلما جدّ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين ، فجعل الناس يفعلون ذلك ، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه ، وكان يجعل حبلا بين الساريتين ثم تعلّق الأقناء على الحبل ، وتجمع العشرين وأكثر فيهش عليهم بعصا من الأقناء فيأكلون حتى يشبعون ، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم فيفعل بهم مثل ذلك ، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.
قلت : بوّب البخاري للقسمة وتعليق القنو في المسجد ، ولم يذكر في الباب تصريحا بتعليق القنو ، فأشار بذلك إلى ما رواه النسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبيده عصا ، وقد علق رجل قنو حشف ، فجعل يطعن في ذلك القنو ، ويقول : لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا ، إن رب هذه الصدقة يأكل حشفا يوم القيامة ، وليس على شرط البخاري ، وإن كان إسناده قويا ، فأشار إليه بالتبويب ولم يذكره كعادته.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن ناسا كانوا يقدمون على النبي صلىاللهعليهوسلم لا شيء لهم ، فقالت الأنصار : يا رسول الله ، لو عجلناك قنوا من كل حائط لهؤلاء ، قال : أجل فافعلوا ، ففعلوا ، فجرى ذلك إلى اليوم ، فهي الأقناء التي تعلق في المسجد عند جدار النخل فيعطاها المساكين ، وكان عليها على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم معاذ بن جبل.
وقال يحيى : حدثني هرون بن موسى عن غير واحد من أهل المدينة أن الناس أصابتهم في ثمارهم عاهة من العاهات في زمن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما على أحدكم لو بعث بقنو من نخله للمساكين ، فبعث ذلك الناس ، واستعمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الأقناء معاذ بن جبل ، فكان يمد حبلا بين جذعين ويعلق عليه الأقناء ، فرفع الله تلك العاهة ، فصارت سنة ، ولم تزل الأئمة عليها إلى اليوم.
وروى يحيى أيضا عن عاصم بن سويد قال : سمعت أبي يقول : عويم بن ساعدة أتى بقنو إلى مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتسى الناس به أهل العالية وأهل السافلة.
وأخرج ثابت في الدلائل أن النبي صلىاللهعليهوسلم «أمر من كل حائط بقنو يعلق في المسجد» يعني للمساكين.
وفي رواية له : وكان عليها معاذ بن جبل : أي على حفظها ، أو على قسمتها ، والله أعلم.
الفصل التاسع
في الحجرة الشريفة ، وبيان إحاطتها بالمسجد الشريف إلا من جهة المغرب
قد تقدم أنه صلىاللهعليهوسلم لما بنى مسجده الشريف بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضياللهعنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل.
قال ابن النجار : وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج (١) ، قال : ولما تزوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه بنى لهن حجرا ، وهي تسعة أبيات ، وهي ما بين بيت عائشة رضياللهعنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلىاللهعليهوسلم ، انتهى. ومراده بالباب الذي يلي باب النبي صلىاللهعليهوسلم الباب الذي في الجهة المقابلة له من المغرب ، وهو المعروف الآن بباب الرحمة ، وإنما حملنا كلامه على ذلك لأنه وقع في كلامه استعمال الباب الذي يليه بمعنى الباب الذي يقابله ، ولأنه قال عقبه : قال أهل السير : ضرب النبي صلىاللهعليهوسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام ، ولم يضربها في غربيه ، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب ، وكانت أبوابها شارعة في المسجد ، انتهى.
وكأن الخطيب ابن حملة فهم من هذا اختلافا في مواضع الحجر ، فقال : قيل كانت كلها في جهة المشرق ، وقيل : في جهات المسجد ما عدا المغرب.
قلت : ويرجح ما قررناه ما رواه ابن الجوزي في شرف المصطفى بسنده إلى محمد بن عمر قال : سألت مالك بن أبي الرجال : أين كانت منازل أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم؟ فأخبرني عن أبيه عن أمه أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجه المنبر هذا أبعدها ، ولما توفيت زينب أدخل ـ أي النبي صلىاللهعليهوسلم ـ أم سلمة بيتها ، انتهى ، ووجه المنبر ووجه الإمام يعني إذا قام على المنبر بجهة الشام في جهة الباب المعروف الآن بباب الرحمة قبل أن ينقل إلى محله اليوم ، وهو يقتضي أنه لم يكن من الحجر شيء في جهة القبلة ، إلا أن تكون الرواية إلى وجه الإمام وفي وجه المنبر فيوافق ما تقدم عن أهل السير.
وأسند ابن زبالة عن محمد بن هلال قال : أدركت بيوت أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر (٢) مستطيرة في القبلة وفي المشرق والشام ، ليس في غربي
__________________
(١) العرعر : جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات ، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين ، والساج : ضرب من الشجر يعظم جدا ، ويذهب طولا وعرضا ، وله ورق كبير.
(٢) المسوح أو الأمساح مفردها : المسح : كساء من الشعر ، والجادّة من الأرض.
المسجد شيء منها ، وكان باب عائشة مواجه الشام ، وكان بمصراع واحد من عرعر أو ساج. وأسند يحيى من طريق الواقدي عن عبد الله بن يزيد الهذلي قال : رأيت بيوت أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت من لبن (١) ، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى منزل أسماء بنت حسن اليوم.
قلت : وقوله «إلى الباب الذي يلي باب النبي صلىاللهعليهوسلم» قد تقدم ما يؤخذ منه أن المراد به باب الرحمة ، وقوله «إلى منزل أسماء إلى آخره» يقتضي أن البيوت المذكورة كان بعضها خارجا عن سمت (٢) المسجد ؛ لأن بيت أسماء المذكور كان في مقابلة الباب الذي كان يلي باب النساء من شاميه ، ويبعد أن يكون المسجد النبوي ممتدا إلى تلك الجهة في زمنه صلىاللهعليهوسلم ، لكن سيأتي في بيت فاطمة رضياللهعنها ما يصرح بأن بيتها كان ينتهي إلى الباب المذكور ؛ فيحتمل أن المسجد كان ممتدا إليه ، ويحتمل أن بعض البيت المذكور لم يكن في محاذاة المسجد ، على أن البخاري روى في صحيحه حديث «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد وعنده أزواجه فرجعن ، فقال لصفية بنت حيي : لا تعجلي حتى أنصرف معك ، وكان بيتها في دار أسامة ، فخرج النبي صلىاللهعليهوسلم معها ـ الحديث».
وفي رواية له عن صفية قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ثم قمت ، فانقلبت ، فقام معي ليقلبني ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار ـ الحديث.
وفي رواية له أنها جاءت رسول الله صلىاللهعليهوسلم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ، ثم قامت تنقلب ، فقام معها رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى إذا بلغ قريبا من باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم مر بهما رجلان من الأنصار ـ الحديث ، وهو يقتضي أن صفية لم يكن مسكنها في الحجر المحيطة بالمسجد.
ولم يتعرض ابن شبة لاتخاذ أسامة لدار ، وذكر أن أباه اتخذ دارين إحداهما دخلت في المسجد لما زيد فيه ، ولعلها المرادة والله أعلم.
ولنرجع إلى بقية ما أسنده يحيى عن عبد الله بن زيد ، قال : ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم وحجرتها من اللبن ، فسألت ابن ابنها ، فقال : لما غزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم دومة الجندل بنت حجرتها بلبن ، فلما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه ، فقال : ما هذا البناء؟ فقالت : أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس ، فقال : يا أم سلمة إن من شر ما
__________________
(١) اللّبن : ضرب من الطين يا بنى به دون أن يطبخ.
(٢) السمت : الطريق الواضح ، والمقصود هنا طريق المسجد.
ذهب فيه مال المسلم البنيان ، قال الواقدي : فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري ، فقال : سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر : أدركت حجرات أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمرنا بهدم حجر أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم. قال عطاء : فسمعت سعيد بن المسيب يقول : والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من المدينة ويقدم قادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حياته ، ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها ، قال معاذ : فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس : كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد ، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر ، ذرعت الساتر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع ، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني في المسجد وفيه نفر من أبناء أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع ، وقال يومئذ أبو أمامة : ليتها تركت حتى ينقص الناس من البنيان ويروا ما رضي الله لنبيه صلىاللهعليهوسلم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده.
وروى رزين عن عبد الله بن يزيد الهلالي قال : رأيت بيوت أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز يدخلها في المسجد مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة إلا حجرة أم سلمة ، وذكر نحو ما تقدم باختصار.
وقال ابن الجوزي في الوفاء : قال محمد بن عمر : كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله ، وكلما أحدث رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهلا (١) نزل له حارثة عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وأزواجه.
قلت : وظاهره يخالف ما تقدم من أنه صلىاللهعليهوسلم بنى أولا بيتين لزوجتيه ، وأنه لما تزوج نساءه بنى لهن حجرا ، وظاهره أنه كان كلما أحدث زوجة أحدث لها بناء حجرة ، فيحمل ما هنا على أن حارثة كان ينزل له عن مواضع المساكن ، وكان صلىاللهعليهوسلم يبنيها.
ونقل الزركشي عن الشمس الذهبي أنه قال : لم يبلغنا أنه صلىاللهعليهوسلم بنى له تسعة أبيات حين بنى المسجد ، ولا أحسبه فعل ذلك ، إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين ، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى لعائشة رضياللهعنها ، في شوال سنة اثنين ، فكأنه صلىاللهعليهوسلم بناها في أوقات مختلفة ، انتهى.
وهو مقتضى ما قدمناه ، غير أنه مخالف لما قدمناه في بيت عائشة رضياللهعنها ، لما
__________________
(١) أي كلما تزوج رسول الله (صلىاللهعليهوسلم).
تقدم أنه بناه مع بناء المسجد ، وهو الظاهر ؛ لأنها كانت حينئذ زوجته ، غير أنه لم يبن لها فتأهب لذلك بأن بنى لها حجرتها.
وذكر الأقشهري أن ابن عبد البر روى من طريق الزبير بن بكار عن عائشة رضياللهعنها خبرا طويلا في قدومها المدينة قالت فيه : ثم إنا قدمنا المدينة ، فنزلت مع آل أبي بكر ، ونزل آل النبي صلىاللهعليهوسلم عليه ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يا بني مسجده وأبياتا حول المسجد ، فأنزل فيها أهله ، فمكثنا أياما ، ثم قال أبو بكر : يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال : الصداق ، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا (١) فبعث بها إلينا ، وبنى لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه ، وهو الذي توفي فيه ودفن فيه.
المشربة
قلت : ولم أر في كلام المؤرخين من تعرض للمشربة التي اعتزل فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما آلى من نسائه شهرا ، ومقتضى ذلك أنه لم يكن بابها من بيت واحدة منهن ليتأتى عدم الدخول عليهن ، والذي في الصحيح قول حفصة : هو ذاقي المشربة ، وفي رواية تسميتها علّبة ، وفي رواية غرفة ، وقد بوب عليه البخاري باب هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم نساءه في غير بيوتهن ، وفي رواية «هو في خزانته في المشربة» وفي رواية «فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مشربة يرقى عليها بعجلة» وفي رواية «فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاعد على أسكفة المشربة (٢) مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وينحدر».
وقال السهيلي : قال الحسن البصري : كنت أدخل بيوت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا غلام مراهق وأنال السقف بيدي ، وكان لكل بيت حجرة ، وكانت حجرة من أكسية من خشب عرعر.
وورد أن بابه صلىاللهعليهوسلم كان يقرع بالأظافير : أي : لا حلق له.
وقال مالك : كان المسجد يضيق عن أهله ، وحجر أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ليست من المسجد ، ولكن أبوابها شارعة في المسجد.
وقال ابن سعد : أوصت سودة ببيتها لعائشة رضياللهعنها ، وباع أولياء صفية بنت حيي بيتها من معاوية بمائة ألف وثمانين ألف درهم ، واشترى معاوية من عائشة منزلها
__________________
(١) النش : نصف كل شيء. يقال : نشّ أوقية. ووزن مقداره عشرون درهما.
(٢) أسكفة المشربة : عتبة المشربة.
بمائة ألف وثمانين ألف درهم ، وقيل : بمائتي ألف ، وشرط لها سكناها حياتها ، وحمل إليها المال ، فما قامت من مجلسها حتى قسمته ، وقيل : بل اشتراه ابن الزبير من عائشة ، وبعث إليها خمسة أجمال تحمل المال ، وشرط لها سكناها حياتها ، ففرقت المال.
وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة قال : إن ابن الزبير ليعتد بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلهما : أن عائشة أوصته ببيتها وحجرتها ، وأنه اشترى حجرة سودة.
قلت : وهذا يقتضي أن الحجر الشريفة كانت على ملك نسائه صلىاللهعليهوسلم ، ويؤيده ما تقدم من تصرف أم سلمة وبنائها لحجرتها في غيبته صلىاللهعليهوسلم ، ويعارضه ما تقدم من أن زينب بنت خزيمة لما توفيت أدخل النبي صلىاللهعليهوسلم أم سلمة بيتها ، وقد أضيفت البيوت في القرآن العظيم مرة إليه صلىاللهعليهوسلم ومرة إليهن ، والظاهر أن الإضافة الأولى هي الحقيقية ؛ لما تقدم من أن النبي صلىاللهعليهوسلم بناها ، ولأنه كان يجب عليه إسكانهن ، غير أن لهن فيها بعده حق السكنى لحبسهن لحقه صلىاللهعليهوسلم.
وقال الزبير بن المنير : إن غرض البخاري حيث ترجم بقوله «باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم» وما نسب من البيوت إليهن وقول الله عزوجل (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣](لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب : ٥٣] أن يبين أن بهذه النسبة تحقيق دوام استحقاقهن البيوت ما بقين ؛ لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلىاللهعليهوسلم ، والسر فيه حبسهن عليه ، انتهى. ويحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم كان قد ملّك بعضهن بيتها ، أو ملكهن كلهن كما ذهب إليه بعضهم.
قال الطبري : قيل : كان النبي صلىاللهعليهوسلم ملّك كلا من أزواجه البيت التي هي فيه فسكّن بعده فيهن بذلك التمليك ، وقيل : إنما لم ينازعن في مساكنهن لأن ذلك من جملة مئونتهن التي كان النبي صلىاللهعليهوسلم استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته حيث قال : ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة ، قال الطبري : وهذا أرجح ، ويؤيده أن ورثتهن لم يرثوا عنهن منازلهن ، ولو كانت البيوت ملكا لهن لانتقلت إلى ورثتهن ، وفي ترك ورثتهن حقوقهم منها دلالة على ذلك ، ولهذا زيدت بعدهن في المسجد لعموم نفعه للمسلمين ، انتهى.
وقد يناقش فيما ذكره من عدم إرث ورثتهن لمنازلهن ؛ إذ لا يلزم من عدم نقله انتفاءه مع أن في قصة إدخال بيت حفصة في المسجد وما وقع من آل عمر في أمر طريق بيت حفصة ما يشهد لأن ورثتهن ورثوا ذلك ، ويحتمل أن إدخال الحجر في المسجد كان بعد شرائها من الورثة ، وقد تقدم عن ابن سعد ما يشهد لذلك ، وقد قال في طبقاته أيضا : أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال : مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يوص إلا بمسكن أزواجه وأرض ، انتهى. وهذا يحتمل الوصية للأزواج بذلك ، ويحتمل غيره ، والله أعلم.
وادعى المهلب أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان قد حبس عليهن بيوتهن ، ثم استدل به على أن من
حبس دارا جاز له أن يسكن منها في موضع ، وتعقّبه ابن المنير بمنع أصل الدعوى ، وقد ترجم ابن شبة لعلم دور أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وذكر عن جماعة منهن اتخاذ دور في أماكن متفرقة من المدينة ، فتلك غير الحجر المذكورة ، والظاهر أن اتخاذهن لذلك كان بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم ، والله أعلم.
الفصل العاشر
في حجرة فاطمة بنت النبي صلىاللهعليهوسلم ورضياللهعنها
أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه أن بيت فاطمة رضياللهعنها في الزور الذي في القبر ، بينه وبين بيت النبي صلىاللهعليهوسلم خوخة.
وأسند عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال : كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكانت فيه كوة إلى بيت عائشة رضياللهعنها ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوة إلى فاطمة فعلم خبرهم ، وأن فاطمة رضياللهعنها قالت لعلي : إن ابني أمسيا عليلين فلو نظرت لنا أدما (١) نستصبح به (٢) ، فخرج علي إلى السوق فاشترى لهم أدما ، وجاء به إلى فاطمة فاستصبحت ، فدخلت عائشة المخرج في جوف الليل فأبصرت المصباح عندهم ، وذكر كلاما وقع بينهما ، فلما أصبحوا سألت فاطمة النبي صلىاللهعليهوسلم أن يسد الكوة ، فسدها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم.
وأسند يحيى عقب ذلك حديث عائشة «قلت : يا رسول الله ندخل كنيفك فلا نرى شيئا من الأذى ، فقال : الأرض تبلع ما يخرج من الأنبياء من الأذى فلا يرى منه شيء» فأشعر صنيع يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف ، وأفهم ذلك أن المخرج المذكور كان خلف حجرة عائشة رضياللهعنها ، بينها وبين بيت فاطمة رضياللهعنها ، وذلك يقتضي أن يكون محله في الزور ، أعني الموضع المزور شبه المثلث في بناء عمر بن عبد العزيز في جهة الشام.
ويشهد لذلك ما أسنده يحيى عن مسلم عن ابن أبي مريم أن عرض بيت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الأسطوانة التي خلف الأسطوان المواجهة الزور ، قال : وكان بابه في المربعة التي في القبر.
وقد أسند أبو غسان كما قاله ابن شبة عن مسلم بن سالم بن مسلم بن أبي مريم قال : عرّس علي رضياللهعنه بفاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان
__________________
(١) الأدم : ما يستمرأ به الخبز. والمراد هنا الزيت.
(٢) نستصبح به : نوقد به المصباح.
المواجهة الزور ، وكانت داره في المربعة التي في القبر ، قال سليمان : وقال مسلم : لا تنس حظك من الصلاة إليها ؛ فإنه باب فاطمة التي كان علي يدخل إليها منه ، وقد رأيت حسن بن زيد يصلي إليها.
وقد ذكرنا في فضل أسطوان مربعة القبر ما ورد من أنه صلىاللهعليهوسلم «كان يأتي باب علي كل يوم» وفي رواية «عند صلاة الصبح» وفي رواية يحيى «إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول : السلام عليكم أهل البيت» وفي رواية فيقول «الصلاة الصلاة الصلاة ، ثلاث مرات ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» وذكرنا أيضا أن أسطوان التهجد خلف بيت فاطمة رضياللهعنها.
وروى الطبراني من حديث أبي ثعلبة : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يثني بفاطمة ، ثم يأتي أزواجه ، وفي لفظ : ثم بدأ ببيت فاطمة ، ثم يأتي بيوت نسائه.
وأسند يحيى عن محمد بن قيس قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قدم من سفر أتى فاطمة فدخل عليها وأطال عندها المكث ، فخرج مرة في سفر وصنعت فاطمة مسكتين (١) من ورق وقلادة وقرطين ، وسترت باب البيت لقدوم أبيها وزوجها ، فلما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودخل عليها ، ووقف أصحابه على الباب لا يدرون أيقيمون أم ينصرفون لطول مكثه عندها ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد عرف الغضب في وجهه ، حتى جلس على المنبر ، ففطنت فاطمة أنه فعل ذلك لما رأى من المسكتين والقلادة والستر ، فنزعت قرطيها وقلادتها ومسكتيها ونزعت الستر وبعثت به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالت للرسول : قل له تقرأ عليك ابنتك السلام ، وتقول لك : اجعل هذا في سبيل الله ، فلما أتاه قال : قد فعلت فداها أبوها ، ثلاث مرات ، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ، ثم قام فدخل عليها.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قوم عراة كانوا غزاة بالروم ، فدخل على فاطمة وقد سترت سترا قال : أيسرك أن يسترك الله يوم القيامة؟ فأعطنيه ، فأعطته ، فخرج به فشقه لكل إنسان ذراعين في ذراع.
وعن علي رضياللهعنه قال : زارنا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فبات عندنا والحسن والحسين نائمان ، واستسقى الحسن ، فقام النبي صلىاللهعليهوسلم إلى قربة لنا فجعل يعصرها في القدح ثم جعل يصبه ، فتناول الحسين فمنعه ، وبدأ بالحسن ، فقالت فاطمة : يا رسول الله كأنه أحب إليك ، قال :
__________________
(١) المسك : الأساور والخلاخيل من القرون أو العاج ونحوها.
إنما استسقى أول ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إني وإياك وهذا وهذا الرقد يعني عليا يوم القيامة في مكان واحد ، وعن أبي سعيد الخدري أيضا مثله.
وعن علي قال : زارنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فعملنا له خزيرة (١) ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وصحفة من تمر ، فأكل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأكلنا معه ، ثم وضّأت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فمسح رأسه وجبهته بيده ، ثم استقبل القبلة فدعا بما شاء ، ثم أكبّ إلى الأرض بدموع غزيرة ، يفعل ذلك ثلاث مرات ، فتهيبنا رسول الله أن نسأله ، فوثب الحسين على ظهر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبكى ، فقال له : بأبي وأمي ما يبكيك؟ قال : يا أبت رأيتك تصنع شيئا ما رأيتك تصنع مثله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا بني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله قط ، وإن حبيبي جبريل عليهالسلام أتاني وأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ، فأحزنني ذلك ، ودعوت الله تعالى لكم بالخيرة.
وقال ابن النجار : وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة وفيه محراب ، وهو خلف حجرة النبيصلىاللهعليهوسلم.
قلت : المقصورة اليوم دائرة عليه وعلى حجرة عائشة رضياللهعنها كما سيأتي بيانه ، والمحراب الذي ذكره خلف حجرة عائشة من جهة الزور بينه وبينه موضع تحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم ، يذكر أنه موضع قبر فاطمة رضياللهعنها كما هو أحد الأقوال الآتية فيه ، وقد اقتضى ما قدمناه أن بيت فاطمة رضياللهعنها كان فيما بين مربعة القبر وأسطوان التهجد ، وأنه عرّس بها إلى الأسطوان الذي إليه المحراب الموجود اليوم في بيتها ؛ لأن الأسطوان المواجه للزور هو الأسطوان الذي في صف المربعة اللاصق بالجدار الداخل من الحجرة الشريفة ، كان بعضه في حائطها الشامي ، وأدخل كله فيه في العمارة التي أدركناها ، وخلفه الأسطوانة التي التقى عندها زاويتا الزور ، وخلفها الأسطوانة التي إليها المحراب المذكور ؛ فيصدق عليها ما تقدم في كلام ابن شبة نقلا عن رواية أبي غسان من أن عليا رضياللهعنه عرّس بفاطمة إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان المواجه الزور ، لكن قال ابن شبة قبل ذلك ما لفظه : واتخذ علي بن أبي طالب بالمدينة دارين إحداهما دخلت في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهي منزل فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي كان يسكن ، وموضعها من المسجد بين دار عثمان بن عفان التي في شرقي المسجد وبين الباب المواجه دار أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس في شرقي المسجد ، والأخرى دار علي التي بالبقيع ، وهي بأيدي ولد علي على حوز الصدقة ، اه.
وقوله «بين دار عثمان» أي ما يحاذيها ، وقوله «وبين الباب المواجه دار أسماء» أي ما
__________________
(١) الخزير : لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح ، فإذا اكتمل نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به.
يحاذيه أيضا ، وسيأتي أن هذا الباب كان بعد باب النساء مقابلا لرباط النساء المعروف اليوم برباط السبيل ، وهو بعيد من وجوه :
أحدها : ما تقدم في أسطوان التهجد من أنه كان خلف بيت فاطمة.
الثاني : أنهم متفقون على أن باب جبريل المقابل لدار عثمان كان موجودا في زمنه صلىاللهعليهوسلم ، فكيف يصح كون دار علي في ذلك الموضع.
الثالث : أن عمر بن الخطاب أول من زاد في المسجد وأحدث باب النساء ، وهو فيما بين باب جبريل والباب الذي ذكره ابن شبة ، وبيت فاطمة إنما أدخله في المسجد الوليد ، وسنذكر ما اتفق عند إدخاله في زيادة الوليد.
وقد يقال : إن الشارع كان بين المسجد النبوي وبين بيت فاطمة من جهة مؤخره ، فيتأتى مع ذلك اتخاذ عمر لباب النساء من غير تعرض لبيت فاطمة ، وكذا يقال في باب جبريل : إنه كان في محاذاة موضعه اليوم ، لكن كان الشارع بينه وبين بيت فاطمة من تلك الجهة. ويؤيد ذلك أنهم لما حفروا للدعامة الغربية التي إليها باب الحجرة الشامي عند بناء القبة والعقود التي حولها بالحجرة الشريفة بعد الحريق الذي أدركناه وجدوا في محاذاة باب جبريل أمام باب الحجرة المذكور درجا تحت الأرض آخذة لجهة الشام ، وقد سبق في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن جداره في المشرق كان هناك ، فترجح عندي أن تلك الدرج كانت لباب جبريل عليهالسلام ، وأنه كان هناك قبل تحويله ، والله أعلم.
الفصل الحادي عشر
في الأمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد الشريف
وبيان ما استثنى من ذلك.
قال البخاري : باب قول النبي صلىاللهعليهوسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر ، قاله ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد وصله البخاري في الصلاة بلفظ سدوا عني كل خوخة ، فكأنه ذكره هنا بالمعنى ، ثم أسند البخاري في الباب حديث أبي سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس وقال : إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله ، قال : فبكى أبو بكر ، فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن عبد خيّر ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن أمنّ الناس علي في صحبته وما له أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر.