نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

سنخ واحد من الثواب على سنخ واحد من الموضوع.

وقد عرفت (١) أن مقتضاه إرجاع المطلق إلى المقيد لمكان تنافيهما في ترتيب ثواب مخصوص على المطلق تارة ، وعلى المقيد أخرى ؛ فانه كاشف عن وحدة المرتبة ، وإن كانت المحبوبية على أي حال شرعية.

ويمكن أن يقال : إن التقييد إذا كان بداعي الأمر المحتمل الذي ربما يكون له مطابق في الواقع فيكون إطاعة حقيقية ، وربما لا يكون له مطابق فيكون انقيادا ، فالأخبار إرشاد إلى ما هو الراجح والممدوح عليه عقلا ، وهو الاحتياط والانقياد للأمر المحتمل.

وأما إذا كان التقييد بداعي الثواب المحتمل ، فحيث إن الثواب واحد وإن كان الوعد عليه متعددا فهذا الواحد محقق لا تخلف له. والعمل المأتي به بالداعي المحقق فعلا يخرج عن عنوان الانقياد ، فيكون العمل بحسب الواقع كالاطاعة الحقيقية لانبعاثه عن داع له مطابق في الواقع ، إما بمقتضى الوعد الواقعي البالغ ، أو بمقتضى الوعد الثابت بهذه الأخبار.

ولا يقاس الثواب على إطاعة الأمر المحتمل ـ مع قطع النظر عن هذه الأخبار ـ بما نحن فيه ، بتوهم أن الثواب المحتمل محقق قطعا : إما على الاطاعة الحقيقية إن كان في الواقع أمر من الشارع ، وإما على الاطاعة الحكمية لحكم العقل برجحانه.

وذلك لأن الثواب على احد التقديرين من ناحية الانقياد فلا ينافي الانقياد ، بخلاف ما نحن فيه فان الثواب مجعول لازم لاستحباب شرعي ، إما واقعي وإما ظاهري بمقتضى مطلقات هذه الأخبار.

فمثل هذا التقييد غير مناف للمطلقات ، لعدم ترتب الثواب فيه على

__________________

(١) حيث قال : وهذا التقريب لا يرد عليه محذور عدا وحدة سياق الاخبار.

١٨١

الانقياد بل على داع محقق يخرجه عن عنوان الانقياد.

ومن الواضح : أن التقييد الثابت هنا هو التقييد بالتماس ذلك الثواب ، أو التقييد بطلب قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو الثواب الذي أخبر ( صلّى الله عليه وآله ) عنه ، لا أمره الاستحبابي ، فانه لا يطلب كما لا يخفى.

ويرد عليه أولا : أن دعوة الثواب ليست بالذات وبالأصالة ، لأن الثواب ليس من غايات ذات الفعل وخواصه ، بل من اللوازم المترتبة على الفعل المأتي به بداعي. الأمر المحقق أو المحتمل ، فلا بد من توسط دعوة الأمر بينه وبين العمل.

ومن الواضح : أن الثواب البالغ المحتمل بحسب نظر العامل من لوازم الاتيان بداعي الأمر المحتمل.

فالتقييد بالثواب البالغ بمنزلة التقييد بدعوة الأمر المحتمل ، وهو عين الانقياد.

وثانيا : أن العمل بداعي الثواب المحتمل خارجا بعد صدور هذه المطلقات ، وإن كان في الواقع خارجا عن عنوان الانقياد ؛ لأن الداعي له مطابق في الخارج على أي حال.

إلا أن الكلام في أن موضوع الثواب الموعود عليه بهذه الاخبار ما ذا؟

ويستحيل أن يكون الموضوع لهذا الثواب الموعود المحقق بهذه الأخبار الذي هو بمنزلة الحكم لذلك الموضوع متقيدا به في مرتبة موضوعيته ، حتى يئول الأمر إلى ترتيب الثواب على العمل المأتي به بداع محقق ، مع قطع النظر عن هذه الأخبار ومقتضاها. فتدبره فانه حقيق به.

والتحقيق : أن حمل هذه الأخبار على الارشاد إلى ثواب الانقياد بعيد عن السداد ، وذلك إن الثواب الذي يمكن الارشاد إليه لا بد من ثبوته ، لا من ناحية الارشاد ، بل بحكم العقل والعقلاء وليس هو إلا أصل الثواب بناء على أن

١٨٢

الحسن العقلي والقبح العقلي ليس إلا كون الفعل ممدوحا عليه عند العقلاء وكونه مذموما عليه عندهم ، ومدح الشارع ثوابه وذمه عقابه.

وأما الوعد بالثواب الخاص فليس من الشارع بما هو عاقل ، وإلا لحكم به سائر العقلاء ، بل بما هو شارع ترغيبا في فعل تعلق به غرض مولوي ، فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية شرعية.

غاية الأمر أن محبوبية ما وعد عليه بالثواب الخاص ، تارة : مفروض الثبوت ، كالوعد بالمثوبات الخاصة على الواجبات والمستحبات المعلومة. وأخرى :

غير مفروض الثبوت ، فيستكشف ثبوتها بجعل الثواب الخاص ، فيكون من باب جعل الملزوم بجعل لازمه والترغيب فيه.

وأما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدّس سره) في رسالة البراءة (١) من أن مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، فهو نظير قوله تعالى ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها )(٢) فهو ملزوم لأمر إرشادي يستقل به العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف.

ففيه : أن التفضل بالمثوبات الخاصة غير مناف لانبعاثها عن غرض مولوي يستدعي مطلوبية شرعية ؛ إذ كل إحسانه تفضل وكل نعمه ابتداء. واستقلال العقل بتحصيلها بعد وعد الشارع بها أمر ، ووعد الشارع بها بعنوان الارشاد إلى الثواب العقلي أمر آخر.

ومقتضى الأخبار هو الوعد على العمل بثواب خاص لا يحكم به العقل ، فكيف يكون إرشادا؟

وحيث إن الثواب الخاص ليس مقتضى حسنه عقلا فلا بد من أن يكون من حيث رجحانه شرعا ، إذ المفروض ترتيبه على العمل ، فهو باقتضائه لا محالة ،

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٥٦.

(٢) الانعام : ١٦٠.

١٨٣

ولو بعنوان ثانوي.

بل مقتضى التأمل في الأخبار أنها في مقام الترغيب في العمل لا في تحصيل الثواب فقط ، ولا معنى للترغيب في العمل إلا لكونه راجحا شرعا.

نعم الكلام في أن موضوع هذا الثواب الموعود وهذا الاستحباب المفروض هل هو فعل ما بلغ فيه الثواب؟ كما هو مقتضى المطلقات؟ أو فعل ما بلغ فيه الثواب بداعي الثواب البالغ؟ كما هو مقتضى المقيدات ، وإلاّ فأصل الاستحباب لا ينبغي الكلام فيه.

ومن الواضح : أن وحدة سياق الأخبار ـ من حيث كونها في مقام الوعد بسنخ ثواب واحد على موضوع واحد ـ تأبى عن إبقاء المطلقات والمقيدات على حالها.

والمشهور يقولون : بترتب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب وإن لم ينبعث من الثواب البالغ.

والذي يمكن أن يقال في تقريب الوجه الأول الذي عليه المشهور : أن مفاد ( أخبار من بلغ ) ليست خبرية محضة عن ما يفعله من بلغه الثواب بخبر ضعيف ، حيث إنه بطبعه يدعوه الثواب البالغ المحتمل بدعوة الأمر المحتمل ، لوضوح أن هذا الثواب الخاص لا يترتب على ما يفعله بعنوان الانقياد.

بل مفادها ترغيب في فعل ما بلغ فيه الثواب بجعل هذا الأمر المولوي المحقق داعيا بجعل الثواب الخاص.

وإنما أخذ عنوان التماس ذلك الثواب في الموضوع لا من أجل أن هذا الموضوع الخاص بما هو متعلق الامر المحقق ، لاستحالة كون محتمل المحبوبية وجها للعمل كما تقدم ، ولاستحالة استحباب العمل المفروض فيه الداعي بنحو القيدية الحقيقية ، سواء كان الاستحباب تعبديا أو توصليا ، لأنه على أي حال لجعل الداعي ، وتعلقه بنفس دعوة الثواب والأمر المحتمل خلف في المقام ، لفرض

١٨٤

استحباب العمل على أي حال.

بل جعل للثواب بعنوان تقرير الثواب البالغ ، وترغيب في إتيانه بداعي الثواب البالغ عنوانا ، تحقيقا لدعوة هذا الثواب المجعول ، كما في جعل الحكم المماثل ، بعنوان تصديق العادل فيما أخبره من الوجوب الواقعي ، فكما أنه في مقام جعل الوجوب الواقعي باعثا عنوانا ، وجعل الوجوب المماثل داعيا حقيقة ، فكذلك هنا والله اعلم.

ثم إنه يتفرع على ما مرّ من النزاع في أن الأخبار إرشاد إلى الانقياد ورجحانه عقلا أو جعل للثواب والاستحباب أمور :

منها : أن الآثار الوضعية المترتبة على المطلوبات الشرعية يترتب على فعل ما بلغ فيه الثواب على الثاني دون الأول ، وإلا لزم الخلف وهذه الكلية من القضايا التي قياساتها معها.

وإنما الكلام في تطبيقها على ما ذكره (١) شيخنا العلامة الأنصاري (قدّس سره) من عدم ارتفاع الحدث بالوضوء الذي فيه الثواب بخبر ضعيف ، بناء على الارشاد إلى رجحان الانقياد ، وارتفاعه به بناء على الاستحباب.

والاشكال في التطبيق من وجهين :

أحدهما : أنه لا دليل على أن كل وضوء مطلوب شرعا رافع للحدث ، حتى يمتاز عما وقع انقيادا ، فان وضوء الحائض في أوقات الصلاة ووضوء الجنب عند النوم مثلا مستحب شرعا ، ومع ذلك غير رافع للحدث.

ثانيهما : أن مناط عبادية الوضوء وقربيته ـ الدخيلة في تأثيره في الطهارة ـ ليس وجوبه لغاية واجبة ، أو استحبابه لغاية مستحبة ، حتى يدور الأمر بين كونه مستحبا شرعيّا ببلوغ الثواب أولا.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٥٦.

١٨٥

بل المناط كما حقق في محله رجحانه الذاتي واستحبابه النفسي شرعا ، فعدم ثبوت استحبابه العرضي ـ بالخبر الضعيف ـ لا ينافي استحبابه النفسي المحقق لعباديته ، وتأثيره في الطهارة.

فالوضوء البالغ فيه الثواب في وقت خاص وحالة مخصوصة ، وإن كان يقع من هذه الحيثية انقيادا لا مستحبا ، لكنه من حيث نفسه يقع مستحبّا مؤثرا في الطهارة.

ويندفع الاشكال الأول : بأن الحدث القابل للارتفاع بالوضوء هو الحدث الأصغر دون الأكبر ، فلا مانع بمقتضى المطلقات الدالة على استحبابه النفسي من ارتفاع ما يقبل الارتفاع به.

بل يمكن أن يقال : إن الوضوء حيث إنه في نفسه نور وطهور ، فله تأثير النورانية والطهارة حتى في الحائض والجنب.

إلا أن الظلمة حيث إنها شديدة ؛ لقوة مقتضيها ، فلذا لا ترتفع بالكلية بل يحصل به تخفيف ونور يناسب مقام العبودية بالأذكار في وقت الصلاة أو النوم في حالة مناسبة. وبقية الكلام في الفقه.

ومن جملة موارد تطبيق الكلية مسألة المسح ببلل المسترسل من اللحية بناء على ورود الخبر الضعيف بغسله ، فانه على الارشاد لا يجوز الأخذ من بلله لأنه ليس من نداوة الوضوء شرعا بل هو راجح عقلا.

بخلاف ما إذا استحب شرعا غسله ، فانّه من الماء المستعمل في الوضوء. بل عن شيخنا العلامة الانصاري (١) (قدّس سره) عدم الجواز ، وان قيل باستحبابه شرعا. فلا ثمرة في هذا المورد.

والوجه في عدم الجواز ما أفاده (قدّس سره) في كتاب الطهارة (٢) ، من

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٥٦.

(٢) كتاب الطهارة / ١٢١.

١٨٦

عدم الدليل على جواز المسح بكل بلل من الماء المستعمل في الوضوء وجوبا وندبا ، بل المتيقن بلل المغسول بالاصالة كاللحية الداخلة في حد الوجه.

وأما ما عن شيخنا العلامة (قدّس سره) في تعليقته المباركة (١) ـ على هذا الموضع من رسالة البراءة. من أن المسح لا بد من أن يكون ببلل الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه وإن كان مستحبا فيه ـ فلا يخلو عن شيء ؛ لأن استحباب غسل المسترسل من اللحية لا يحتمل عادة أن يكون مستحبا نفسيا في ضمن الوضوء ، بحيث يكون الوضوء ظرفا له.

بل لو كان مستحبا لكان جزء الفرد وكمالا للوضوء واسباغا للوضوء. فالوجه في الاشكال ما ذكره هو (رحمه الله) في كتاب الطهارة.

ثم اعلم : أن ترتيب الآثار الوضعية والتكليفية ـ المترتبة على المطلوبات الشرعية على المورد بناء على استحبابه ، وعدمه بناء على عدمه ـ إنما هو إذا لم تكن تلك الآثار آثار المستحب بعنوانه الذاتي ، دون المستحب بعنوان عرضي ، وإلاّ لم يكن مجال لترتيبها على المورد بمجرد استحبابه بعنوان أنه مما بلغ فيه الثواب.

ويمكن أن يقال : بأن عنوان بلوغ الثواب ـ كعنوان تصديق العادل ليس من قبيل الواسطة في العروض ، بل من قبيل الواسطة في الثبوت ، ولا ينافي ذلك عدم كون الأخبار دليل الحجية كما اخترناه ، كما لا ينافي ذلك ثبوت الحكم على أي تقدير.

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ١٣٧

١٨٧

تذنيب

يتعلق ببعض الفروع المهمة المتعلقة بمسألة التسامح في أدلة السنن ، وهي أمور :

الأول : في أن الفتوى كالرواية الضعيفة في باب التسامح أم لا. ربما يقال : بالثبوت ، نظرا إلى صدق بلوغ الثواب على العمل اللازم للاستحباب.

أما بالنظر الى قوله (عليه السلام) من بلغه عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ شيء من الثواب فعمله (١) ... الخبر ، فبملاحظة أن المراد من الثواب بقرينة قوله : ( فعمله ) هو نفس ما يثاب عليه باطلاق المسبب على سببه.

وأما بالنظر إلى قوله (عليه السلام) : ( من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به ... ) (٢) الخبر ، فبملاحظة أن الفقيه وإن كان فتواه متعلقا بالاستحباب لا بالثواب ، لكنه لمكان التلازم بين الاستحباب والثواب يكون بلوغ الاستحباب بالمطابقة بلوغ الثواب بالالتزام.

وعليه ، فمقام الاثبات غير قاصر عن الشمول للبلوغ بالفتوى.

إلا أن البلوغ في زمان صدور هذه الروايات حيث إنه كان بنقل الرواية عن المعصوم (عليه السلام) فاطلاقه منصرف إلى الخبر عن حس ، لا الخبر عن حدس خصوصا إذا قلنا بأن الأخبار تتكفل حجية الخبر الضعيف في السنن ، فانه يبعد كل البعد جعل فتوى مجتهد حجة على مجتهد آخر.

نعم إذا علمنا من مسلك الفقيه أنه لا يفتي إلا عن ورود الرواية في

__________________

(١) المحاسن ١ / ٢٥ ، جامع الاحاديث ١ : ٣٤١.

(٢) ثواب الاعمال / ١٢٧ لكن بتغيير يسير في الفاظ الحديث.

١٨٨

المسألة ، ففتواه بالالتزام يكشف عن ورود رواية بالاستحباب.

ولكنه مع ذلك يحتاج إلى التسامح في الدلالة ؛ إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إلى الرواية ، وأما استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره ، ولعلها إذا وصلت إلينا لم نستظهر منها الاستحباب.

الثاني : في أن الكراهة ملحقة بالاستحباب في التسامح في دليلها أم لا؟

قيل : المشهور على الالحاق ، وذلك بعد دعوى شمول العمل للفعل والترك يتوقف الالحاق على أحد أمور :

إمّا تنقيح المناط بدعوى أن الغرض أن الاحكام الغير الالزامية ليست كالالزامية المتوقفة على ورود رواية صحيحة. واثباته مشكل.

وإمّا دعوى : أن ترك المكروه مستحب ، فقد بلغ استحباب الترك بالالتزام ، وإن كان البالغ بالمطابقة كراهة الفعل. وهو خلاف التحقيق المحقق في محله من أن كل حكم تكليفي لا ينحل إلى حكمين فعلا وتركا.

وإمّا دعوى : أن ترك المكروه إطاعة للنهي التنزيهي مما يثاب عليه قطعا ، فقد بلغ الثواب على الترك على حد بلوغ الثواب على الفعل في المستحب الذي لا ريب في إناطة ترتب الثواب عليه باطاعة الأمر الاستحبابي ، وبلوغ الثواب على الترك لازم كراهة الفعل.

وتقرير هذا الثواب البالغ واثباته على أي تقدير جعل ملزومه ، وهي الكراهة. فيكون مقتضى أخبار من بلغ جعل الاستحباب تارة ، وجعل الكراهة أخرى. ومثله متعارف ، كما في أدلة حجية الخبر وحرمة ( نقض اليقين بالشك ) المتكفلة لجعل احكام مماثلة لمواردها ايجابا وتحريما. وهكذا.

وهذا الوجه وجيه ، لو لا ظهور الروايات في الأفعال والوجوديات ، لا التروك والعدميات.

نعم يمكن تنقيح المناط بوجه آخر ، وهو أن مورد الأخبار ، وإن اختص

١٨٩

بالفعل ، إلا أن ظاهر الأخبار أنها في مقام الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث إنه ثواب بالغ لا لخصوصية فيما يثاب عليه ، حتى يقتصر على ثواب الفعل ، فالحق حينئذ مع المشهور في الحاق الكراهة بالاستحباب.

الثالث : فيما إذا وردت رواية بالاستحباب وأخرى بالكراهة ، فعلى القول بعدم الإلحاق تكون الرواية الدالة على الكراهة كالعدم فلا منافي لاستحباب الفعل.

وأما على القول بالالحاق ، فعلى جميع الوجوه المتقدمة يقع التنافي بين الروايتين ، فلا يعمهما الدليل العام.

إلا أن الوجه في المنافاة يختلف باختلاف المباني المتقدمة : فعلى مبنى استحباب ترك المكروه لازم الروايتين استحباب والترك معا (١).

ولا يعقل جعل الداعي نحو الفعل والترك معا ، فانّه لا فرق هنا بين الالزامي وغيره ، فان ملاك صحة جعل الداعي مطلقا إمكان انقداح بسببه عند الانقياد للأمر ، ويستحيل الجمع بين النقيضين ، فيستحيل الانبعاث فيستحيل البعث.

وعلى مبنى اثبات الكراهة بنفسها ، إما لتنقيح المناط وإما بالاستظهار من جعل الثواب على الترك ، فلازم الروايتين اجتماع حكمين متضادين في الفعل.

إلا أن هذا بناء على ما هو التحقيق من كون التقابل بين الوجوب والحرمة وبين الاستحباب والكراهة تقابل الوجودين ، بأن يكون مفاد الأمر البعث نحو الفعل ومفاد النهي الزجر عن الفعل.

وأما بناء على ما هو المعروف من أن مفاد النهي طلب الترك ، فلازم اجتماع الامر والنهي في شيء تعلق الطلب بفعله وبتركه ، فيكون أجنبيا عن التقابل

__________________

(١) هكذا في الاصل لكن الصحيح : استحباب الفعل والترك معا.

١٩٠

بالتضاد ؛ لأن أحد الطلبين قائم بطرف الفعل والآخر بطرف الترك. ومحذوره ذلك المعنى المتقدم (١) في استحباب ترك المكروه ، فتفطن.

الرابع : إذا وردت رواية ضعيفة بالوجوب فالمشهور على حملها على الاستحباب ، نظرا إلى قصور الأخبار إلا عن اثبات حيثية الثواب على الفعل.

فلا يثبت بها العقاب على الترك ، بل هو منفي بأصالة البراءة عن الوجوب.

ويمكن أن يقال : إن حقيقة الوجوب : إن كانت مركبة من طلب الفعل والمنع من الترك أمكن أن يقال : إنه بلغه أمران : أحدهما قابل للثبوت دون الآخر.

وإن كانت من المعاني البسيطة فالبالغ معنى بسيط غير قابل للثبوت بحده ، والقابل للثبوت بحده أي الاستحباب لم يبلغه.

وحيث إن البالغ هو الوجوب بحده فالثواب اللازم له هو الثواب اللازم للمحدود بحد خاص ، لا مطلق الثواب.

والمعنى البسيط البالغ ، وان كان قابلا للتحليل إلى مطلق الطلب الجامع وحدّه ، إلا أن ذلك المعنى الجامع التحليلي لا يستقل بالجعل ، حتى يكون الجامع مجعولا.

إلا أن هذا الاشكال لا اختصاص له بالمقام.

وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ التعرض له ولجوابه في استصحاب الحكم الكلي فتدبره (٢).

الخامس : نسب الشهيد الثاني (٣) (قدّس سره) إلى الأكثر التسامح في أدلة السنن والآداب والفضائل والمواعظ وأشباهها.

__________________

(١) وهو عدم معقولية جعل الداعي نحو الفعل والترك معا فيلزم البعث الى الجميع بين النقيضين.

(٢) نهاية الدراية : التعليقة ٦٦.

(٣) في الدراية ٢٩.

١٩١

وذهب إليه الشيخ الأعظم (قدّس سره) في رسالة التسامح (١) ، نظرا إلى أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء ، والعمل بالخبر الوارد في الفضائل نشرها ، والوارد في المصائب ذكرها للابكاء مثلا قائلا :

إن العقل يحكم بحسن العمل مع الأمن من مضرة الكذب ، وأن عموم النقل كما في النبوي (٢) ورواية الاقبال (٣) يقتضي استحبابه.

ولا بد من تقديم مقدمة ، وهي أن الخبر عن الموضوع بما هو لا يراد منه إلا العمل المتعلق به إلا أن العمل :

تارة : يكون من غير مقولة القول ، كما فيما إذا قام الخبر على أن هذا الموضع الخاص مدفن نبي من الأنبياء (عليه السلام) أو مسجد ، فان الثابت به استحباب الحضور عنده وزيارته ، واستحباب الصلاة فيه ، وهذا في نفسه لا محذور فيه.

واخرى : من مقولة القول المتصف بالصدق والكذب.

ولا بد حينئذ من تنقيح أن الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا ما ذا؟

لا ينبغي الريب في أن الصدق الخبري والكذب الخبري لا حكم لهما عقلا ولا شرعا ، وإنما المناط في الحسن والقبح والجواز والحرمة بالصدق والكذب المخبريين.

ولا ريب في أن الصدق المخبري هو القول الموافق للواقع بحسب اعتقاد المخبر ، إلا أن الكلام في الكذب المخبري المقابل للصدق المخبري ، هل بينهما التقابل بالتضاد أو بنحو العدم والملكة؟ بمعنى أن الكذب المخبري هو القول الذي يعتقد أنه خلاف الواقع ، أو القول الذي لا يعتقد أنه موافق للواقع فما لا

__________________

(١) مجموعة رسائل فقهيّة واصولية / ٢٨.

(٢) عدة الداعي / ٤.

(٣) الاقبال / ٦٢٧.

١٩٢

ثبوت له في ظرف وجدان المخبر كذب ولا ينحصر الكذب فيما يعتقد أنه ليس كذلك في الواقع.

والتحقيق : أن التقابل بينهما بنحو العدم والملكة ، وهو المعبر عنه في لسان الشرع بالقول بغير العلم ، فما لا علم به ولا حجة عليه يندرج الحكاية عنه في الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا.

ولا يختص قبح الكذب بصورة الاضرار عقلا ، كما لا اختصاص له شرعا.

وعليه فنشر الفضيلة التي لا حجة عليها وذكر المصيبة التي لا حجة عليها قبيح عقلا ومحرم شرعا ، فكيف يعمهما أخبار من بلغ؟ سواء كان مفادها الارشاد إلى حسن الانقياد ، أو إثبات الاستحباب.

نعم إذا قلنا بأن الأخبار المزبورة تثبت حجية الخبر الضعيف ، فلازمه اندراج الفضيلة والمصيبة فيما قامت الحجة عليه شرعا ، فيخرج عن تحت الكذب المخبري القبيح عقلا والمحرم شرعا.

وحينئذ إن كان إجماع فهو كاشف عن هذا المعنى لا أنه تخصيص في حكم العقل والشرع. فتدبر جيدا.

السادس : إذا وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ، ورواية صحيحة بعدم الاستحباب فهل يتسامح ، ويثبت الاستحباب أم لا؟

وتنقيح المسألة بأن التنافي : تارة ـ يتصور بين مدلول الخبر الضعيف ومدلول الخبر الصحيح ـ بما هما خبران.

ولا شبهة في تنافيهما ذاتا ، لكن لا أثر لتنافيهما مع قطع النظر عن اعتبارهما.

وأخرى : يلاحظ التنافي بين مدلول الخبر الصحيح بما هو مدلول دليل معتبر ، ومدلول اخبار من بلغ.

١٩٣

ولا ريب ايضا في عدم التعارض لأن موضوع عدم الاستحباب فعلا نفس الفعل بعنوانه ، وموضوع اخبار من بلغ المفيدة للاستحباب هو الفعل بما هو مما قد بلغ فيه الثواب.

وثالثة : يلاحظ التنافي بين أدلة حجية الخبر الصحيح ونفس أخبار من بلغ.

وظاهر الشيخ الأعظم (قدّس سره) في رسالة التسامح (١) أنهما متعارضان ، والأصل فيه تساقطهما. وهذا بناء على أن مفاد ( أخبار من بلغ ) حجية الخبر الضعيف ، كأدلة حجية الخبر الصحيح ، وكل منهما يقتضي إلغاء احتمال خلاف مورده.

ويندفع بأن دليل حجية الخبر الصحيح على الطريقية يقتضي تنزيل مؤداه منزلة الواقع ، فإلغاء الاحتمال فيه راجع إلى إلغاء خلاف المحتمل ، وأنه غير مستحب ، وإلغاء الاستحباب لا إلغاء أثر الاحتمال بما هو ، فان ( أخبار من بلغ ) تثبت استحباب الفعل لا بما هو ، بل بما هو مما بلغ فيه الثواب ، وبلوغ الثواب لا تخلف له ، فهي على فرض إثبات الحجية تثبت الحجية على وجه الموضوعية ، لا على وجه الطريقية ، كدليل حجية الخبر الصحيح المفيد للحجيّة على وجه الطريقية.

فتنزيل أدلة حجية الخبر الصحيح ـ على فرض التنزيل منزلة القطع ـ يراد منه التنزيل منزلة القطع الطريقي دون الموضوعي.

والعجب من الشيخ (قدّس سره) مع التفاته إلى هذا المعنى كيف حكم بالتعارض والتساقط؟

ومما ذكرنا تبين أنه لا حاجة إلى استحباب الفعل بملاك بلوغ الثواب بأخبار من بلغ ، نظرا إلى أن أخبار من بلغ تثبت الثواب على أي تقدير ، فسقوطها

__________________

(١) مجموعة رسائل فقهية واصولية / ٣٣.

١٩٤

عن الحجية في موارد التعارض يوجب كونها كالخبر الضعيف البالغ به الثواب ، فعمومها وإن كان لا يمكن أن يعم نفسها ، إلا أن ملاكها التام الموجود في كل خبر ضعيف موجود فيه ، ومقتضى علية بلوغ الثواب للاستحباب هو الحكم باستحباب الفعل في مورد التعارض.

* * *

١٩٥

[ التنبيه الثالث ]

٥٥ ـ قوله (قدّس سره) : ان النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه (١) ... الخ.

تحقيق المقام وبيان ما يجري فيه البراءة من الأقسام يستدعي بسطا في الكلام ، فنقول : إن طلب فعل شيء أو تركه يتصور على وجوه :

منها : تعلق الطلب بصرف وجود الشيء ، وفي قباله تعلق الطلب بصرف العدم ، وقد يعبر عن الأول بالوجود اللابشرط ، ويناقض العدم الكلي ، وعن الثاني بالعدم المطلق والعدم الكلي ، ويقال : إن لازم الأول تحقق الطبيعة بأول وجود منها ، وإن لازم الثاني عدم انتفاء الطبيعة إلا بانتفاء جميع أفرادها.

والتحقيق ما بيناه في غير مقام أن وجود كل طبيعة ليس نقيضه إلا عدمه البديل له ، وليس كل وجود إلا طاردا وناقضا لعدم ما يضاف إليه الوجود بحده ، ولا يعقل أن يكون ناقضا للعدم الكلي والعدم المطلق.

فوجود كل طبيعة متخصصة بما أخذ فيها بديله عدم تلك الطبيعة الخاصة بحدها.

فما اشتهر من أن وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانتفاؤها بانتفاء جميع الأفراد لا أصل له ، بل بديل ذلك المحقق لتلك الطبيعة هو عدمه المطرود به ، لا عدم مطرود بغيره.

وأما انتقاض العدم باول وجود من الطبيعة ، وبقاؤه على العدم بعدمه ، فليس من حيث إن العدم المطلق بديله ونقيضه ، بل بديله في الحقيقة هو عدم أول

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٥٣.

١٩٦

وجود من الطبيعة ، لكن عدم الوجود الأول يلازم عدم سائر الوجودات.

كما أن التعبير بالوجود اللابشرط لا يخلو عن محذور : إذ لو أريد منه الوجود بنحو الاهمال فهو غير قابل لتعلق الحكم الجدي به ، للزوم تعين الموضوع بنحو من أنحاء التعين.

وإن أريد اللابشرط المقسمي ـ بناء على ما هو التحقيق من الفرق بين الماهية المهملة والماهية اللابشرط ، لقصر النظر في الأولى على ذاتها وذاتياتها ، وتوجه النظر في الثاني (١) إلى الخارج عن ذاتها ، فلذا تكون مقسما للاعتبارات الواردة عليها.

فالوجود اللابشرط حينئذ هو اللابشرط من حيث اعتبار البشرطشيء والبشرطلا ، واللابشرط القسمي ، لا من كل حيثية.

وعليه ، فالوجود اللابشرط بهذا المعنى لا يكون موضوعا لحكم فعلي من الأحكام إلا بأحد اعتباراته الثلاثة ، حيث لا تعين له إلا أحد التعينات الثلاثة.

فلا محالة الوجود اللابشرط الذي يعقل تعلق الحكم به هو اللابشرط القسمي المتعين بتعين اللابشرطيّة من حيث القيود الخارجة عن ذات الماهية الواردة عليها ، كلا بشرطيّة الانسان من حيث الضحك وعدمه ، ومن حيث الكتابة وعدمها وغير ذلك.

وهذا غير صرف الوجود ، وغير أول الوجود ، ولا هو في قبال العدم الكلي والعدم المطلق والعدم الأزلي واشباه هذه التعبيرات.

بل التحقيق بالتعبير عنه بصرف الوجود وصرف العدم ما إذا لوحظ الوجود الجامع بين وجودات طبيعة خاصة بنهج الوحدة في الكثرة ، فيلاحظ طبيعي الوجود بحده مضافا إلى طبيعة خاصة بحدها ، فيكون الوجود المضاف مسانخا في وحدته لوحدة الطبيعة المضاف إليها من حيث الماهية ، وحدة نوعية أو صنفية

__________________

(١) هكذا في الأصل لكن الصحيح : في الثانية.

١٩٧

مثلا.

فصرف الوجود بالاضافة إلى هذه الطبيعة الخاصة هو طبيعي الوجود الذي لا يشذ عنه وجود.

ونظير هذا الاعتبار يجري في طرف العدم المضاف إلى طبيعة خاصة ، فيلاحظ طبيعي العدم بحده الجامع بين أعدام طبيعة خاصة بحدها ، فيكون صرف العدم الذي لا يشذ عنه عدم من أعدام تلك الطبيعة الخاصة.

ثم إن هذا الوجود أو العدم الملحوظ كذلك : قد يكون كل فرد من طبيعية ذا مصلحة أو ذا مفسدة ، فيناسبه تعلق سنخ الطلب به ، ولازمه تعلق كل فرد من أفراد طبيعي الطلب بفرد من افراد طبيعي الوجود ، أو طبيعي العدم المضافين إلى الماهية.

فلا فرق في الاطاعة والمعصية بين ملاحظة وجود الطبيعة وعدمها هكذا ، وبين ملاحظتهما بنحو الكثرة وترتيب الحكم عليها مستقلا.

وقد يكون الوجود الملحوظ كذلك ذا مصلحة واحدة ، أو طبيعي العدم ذا مصلحة واحدة فيه ، أو ذا مفسدة واحدة في طبيعي فعله ، فلا محالة يكون الطلب المتعلق به شخصا من الطلب ليس له إلا إطاعة واحدة أو معصية واحدة.

ومنها تعلق الطلب بمجموع الوجودات من طبيعة خاصة بحيث ينبعث عن مصلحة خاصة قائمة بمجموعها لا بجميعها ، فالطلب واحد شخصا ، له إطاعة واحدة ومعصية واحدة.

وفي طرف طلب الترك يتصور وجهان :

أحدهما : قيام مفسدة واحدة بمجموع الافعال لا بجميعها ، فينبعث منها طلب ترك المجموع ، فلا ينافي إتيان بعض الافعال ، بل عصيانه باتيان الجميع.

ثانيهما : قيام مصلحة واحدة بمجموع التروك ، فينبعث منها طلب مجموع التروك لا ترك المجموع ، فاطاعته بمجموع التروك ، كما في مجموع الأفعال ، وعصيانه يتحقق ولو بفعل واحد.

١٩٨

وحينئذ لا فرق بين طلب طبيعي الترك بحدّه ، وطلب مجموع التروك ، إلا بالاعتبار مع كون الطلب فيهما شخصيا.

ومنها تعلق الطلب بكل فرد من أفراد طبيعي الفعل أو بكل فرد من أفراد طبيعي الترك ، لقيام المصلحة بوجود الطبيعة متى تحققت في طرف البعث ، أو لقيام المفسدة كذلك في طرف الزجر.

كما يمكن انبعاث طلب كل فرد من أفراد الترك عن مصلحة في نفس ترك الطبيعة الخاصة على خلاف ظاهر النهي.

فهناك أشخاص من طلب الفعل أو من طلب الترك ، فيتعدد إطاعته وعصيانه ، لا طلب سنخي نوعي ينحل عقلا إلى أشخاص منه ، كما في أحد القسمين من الاعتبار الأول.

نعم فرق بين الأمر والنهي ، حيث إن العموم في الأمر يمكن أن يكون شموليا وبدليا ، دون النهي فان فيه تفصيلا :

توضيحه : أن طلب الفعل منبعث عن مصلحة قائمة بالفعل : فربما لا يكون تمانع بين أشخاص تلك المصلحة القائمة بتلك الطبيعة ، والمفروض أنها مصلحة لزومية ، فلا محالة يطلب محصلات تلك المصالح الشخصية اللزومية بنحو العموم الشمولي.

وربما يكون بينها تمانع ، مع قيام المصلحة بطبيعة الفعل ، بحيث يفي كل شخص فرض من طبيعة الفعل بشخص من طبيعي المصلحة ، فلا محالة يطلب محصلاتها بنحو العموم البدلي.

مثلا إذا كان الغرض حصول الشبع بالأكل ، وكان أكل خبز واحد وافيا بتلك الفائدة بحيث لا يبقى مجال لاستيفاء هذا الغرض مما يفي به بذاته ، فيطلب منه أكل خبز واحد من آحاد الخبز بدليا لا شموليا.

بخلاف طلب الترك فانه ربما ينبعث عن مفسدة في الفعل ، وربما ينبعث

١٩٩

عن مصلحة في نفس الترك.

فان كان عن مفسدة في الفعل فنفس المفسدة وان كانت أيضا على قسمين :

فتارة : لا يكون تمانع بين وجوداتها ، وأخرى ـ يكون بينها التمانع ، كما إذا كان كل فعل من طبيعي واحد تأثيره العمى وشبه ذلك ـ إلا أن الغرض حيث إنه لم يتعلق بفعل المفسدة بل بتركها ، فلا محالة تكون المفسدة بجميع أشخاصها مطلوب الترك مطلقا شموليا ، وإن كان لا يبقى مجال للامتثال بعد عصيان أحد أفراد الطلب ، لزوال الموضوع حينئذ.

وإن كان طلب الترك منبعثا عن مصلحة في نفس طبيعي الترك ، فالمصلحة حيث إنها وجودية تطلب نفسها فيمكن أن تفرض تارة متمانعة ، وأخرى غير متمانعة ، فيكون طلب الترك تارة بنحو العموم الشمولي ، وأخرى بنحو العموم البدلي. فتدبره فانه حقيق به.

ثم إنك بعد ما عرفت الوجوه المتصورة والاعتبارات الواردة على متعلق الأمر والنهي تعرف أن ما أفاده شيخنا العلامة ـ « رفع الله مقامه » في أول الوجهين هنا من تعلق الطلب بترك شيء في زمان أو مكان ، بحيث لو وجد في ذلك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا الى آخر ما افاد ـ ينبغي أن يحمل على ما إذا انبعث طلب الترك عن مصلحة واحدة في طبيعي الترك بحده ، أو في مجموع التروك.

وأما إذا كان منبعثا عن مفسدة في مجموع الأفعال ، أو في طبيعي الفعل بحده ، فلا محالة يكون المطلوب ترك المجموع ، فلا يسقط الطلب بفعل بعض المجموع عصيانا.

وأوضح من ذلك ما إذا كان المفسدة متعددة قائمة بالجميع ، فان الطلب متعدد حقيقة ولبّا ، وإن كان بحسب الاعتبار واحدا سنخا ونوعا.

٢٠٠