نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

الأمر والنهي (١).

وفيما ذكرناه هنا كفاية لاثبات أن الحكم مطلقا بالاضافة الى موضوعه من قبيل عوارض الماهية ، فلا يتوقف ثبوته على ثبوت موضوعه ، بل ثبوت موضوعه بثبوته والعروض تحليلي.

ومنه تعرف أنه لا دور ، إذ ليس هناك تعدد الوجود حتى يلزم الدور ، أو يجاب بأن الدور معي ، أو أن الحكم يتوقف على ثبوت الموضوع لحاظا لا خارجا.

وقد اشرنا (٢) إلى كل ذلك مرارا.

نعم لازم أخذ الحكم في موضوع نفسه أو أخذ ما ينشأ من قبل شخص الحكم في موضوع نفسه ، هو الخلف أو اجتماع المتقابلين ، فان الحكم حيث إنه عارض لموضوعه ولو تحليلا فهو متأخر عنه ، فلو أخذ هو أو ما ينشأ من قبله فيما هو متقدم عليه طبعا لزم من فرض أخذه تقدم المتأخر وتأخر المتقدم ، فالموضوع متقدم ومتأخر ، والحكم متأخر ومتقدم ، وهو اجتماع المتقابلين ، وإن التزم بأحد الأمرين لزم الخلف.

وملاك التقدم والتأخر الطبعيين موجود في الحكم وموضوعه ؛ لأن ملاكهما إمكان الوجود للمتقدم ، ولا وجود للمتأخر ، وعدم إمكان الوجود للمتأخر إلا والمتقدم موجود ، فان الواحد والكثير كذلك ، حيث يمكن وجود الواحد ، ولا وجود للكثير ، ولا يمكن وجود الكثير إلا والواحد موجود.

وكذا العلة الناقصة ومعلولها ، فانه يمكن وجود العلة الناقصة ولا وجود

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ ، التعليقة : ٦٢ و ٦٣.

(٢) منها ما تقدم في مبحث التّعبدي والتوصلي. نهاية الدراية : ١ ، التعليقة : ١٦٧.

ومنها ما تقدم في مبحث القطع. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٢٧.

ومنها ما تقدم في مبحث القطع ايضا. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤٦.

ومنها في مبحث حجية خبر الواحد. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ١٠٠.

١٦١

للمعلول ، ولكن لا يمكن وجود المعلول إلا والعلة موجودة.

وكذا الشرط والمشروط والشوق مثلا والبعث كذلك ، فان الفعل له تقرر ماهوي وثبوت ذهني وخارجي ، ولا شوق ولا بعث نحوه ، ولكن لا يمكن ثبوت الشوق ولا البعث إلا والفعل في مرتبتهما موجود.

ولا يخفى أن أخذ الحكم بشخصه في موضوع نفسه وإن كان كذلك من حيث لزوم هذا المحذور ، إلا ان هذا المحذور لا يلزم من أخذ العلم به في موضوعه ، ولا من أخذ قصد القربة في موضوعه :

أما الأول فلما مرّ في أوائل مباحث القطع (١) من أن الحكم قائم بشخص الحاكم ، والعلم قائم بنفس العالم ، فلا يعقل أن يكون مشخص الحكم مقوّما لصفة العلم ، فالموقوف هو الحكم بوجوده الحقيقي ، وهو المتأخر بالطبع ، والمقوم لصفة العلم المأخوذ في الموضوع ماهية الحكم الشخصي دون وجوده ، لأن مقوّم العلم هو المعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض ، فالموقوف عليه والمتقدم بالطبع غير المعلوم بالعرض المتأخر بالطبع ، وبقية الكلام فيما تقدم.

وأما الثاني فبما مرّ (٢) مرارا : أن الأمر بوجوده الخارجي لا يعقل أن يكون داعيا ، بل بوجوده العلمي الحاضر في النفس.

وقد عرفت أن المعلوم بالذات غير المعلوم بالعرض ، فالمتأخر طبعا هو الحكم بوجوده الخارجي ، والمتقدم بالطبع هو الحكم بوجوده العلمي. فراجع مباحث القطع ومبحث التعبدي والتوصلي من مباحث الجزء الأول.

__________________

(١) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٢٧.

(٢) منها ما تقدم في مبحث القطع. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤١.

ومنها ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي. نهاية الدراية : ١ ، التعليقة : ١٦٧.

ومنها ما تقدم في مبحث القطع ايضا. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤٦.

١٦٢

ثم إن هذا كله بالاضافة إلى المحذور المذكور في المتن من حيث توقف العارض على المعروض القابل للانطباق على محذور الدور ، وعلى محذور الخلف.

وأما سائر المحاذير الأخر المذكورة في باب قصد القربة وشبهه من لزوم عدم الشيء من وجوده ، أو علية الشيء لعلية نفسة ، فقد تعرضنا لها ولدفعها في باب التعبدي والتوصلي (١) ، وفي أواخر مباحث القطع عند التعرض لقصد الوجه ونحوه فراجع (٢).

نعم خصوص الأمر بالاحتياط فيه محذور آخر وهو : أن الأمر الاحتياطي إن تعلق بذات الفعل بعنوانه لا بعنوان التحفظ على الواقع فانه وإن أمكن أخذ قصد الأمر في موضوع نفسه ، إلا أن لازمه خروج الشيء عن كونه احتياطا ؛ لأن موضوعه محتمل الوجوب حتى يتحفّظ عليه.

وبعد فرض تعلق الأمر ـ بذات الفعل بقصد هذا الامر ـ كان تحقيقا للعبادة الواقعية المعلومة المنافية لعنوان الاحتياط ، وهو خلف.

وإن تعلق الأمر بالاحتياط بعنوانه المأخوذ فيه قصد شخص الأمر ، فهو خلف من وجه آخر ؛ لأن معناه جعل الاحتياط عبادة لا جعل الاحتياط في العبادة ، والكلام في الثاني دون الأول. وسيجيء (٣) ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يتعلق بالمقام.

٤٨ ـ قوله (قدّس سره) : مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف (٤) ... الخ.

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ ، التعليقة : ١٦٧ و ١٦٨.

(٢) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤٦.

(٣) في التعليقة : ٥٢.

(٤) كفاية الأصول : ٣٥٠.

١٦٣

لكن ليعلم أن أوامر الاحتياط ليست كأوامر الاطاعة ـ بحيث تتمحّض في الارشاد ـ حتى لا يكون حسنه علة للأمر به مولويّا على الملازمة ، وذلك لما عرفت في مبحث (١) دليل الانسداد : أن المانع ـ عن تعلق الأمر المولوي بالفعل ـ ليس مجرد استقلال العقل بحسنه كي يتخيل أن الانقياد الاحتياطي كالانقياد الحقيقي من حيث الحسن العقلي.

ولا المانع أن حسن الاطاعة والانقياد في رتبة متأخرة عن الأمر ، فلا يعقل أن يكون موجبا للأمر ، فانه إنما يكون ذلك بالاضافة إلى الأمر بذات الفعل المتقدم على الاطاعة ، لا بالنسبة إلى الأمر المتعلق بنفس الاطاعة ، فان مثل هذا الحسن واقع في مرتبة العلة للأمر.

بل المانع عدم قابلية المورد للحكم المولوي ، لكونه محكوما عليه بالحكم المولوي كما في موارد الاطاعة الحقيقية.

واما في موارد الاحتياط فليس فيها إلا احتمال الأمر ولا مانع من البعث المولوي نحو المحتمل ، لعدم كفاية الاحتمال للدعوة.

كما لا مانع من تنجيز المحتمل بالأمر الاحتياطي طريقيا.

فان أريد عدم الكاشفية لامتناع المنكشف فهو غير وجيه.

وإن أريد عدم تعينه ، لاحتمال الارشادية والمولوية فهو وجيه ، فتدبر.

٤٩ ـ قوله (قدّس سره) : مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على

__________________

(١) الذي تقدّم منه قده في المبحث المزبور هو استحالة الأمر المولوي في مورد يستقل العقل بحسن الفعل لاستلزامه اجتماع داعيين مستقلين مورد واحد لأن المفروض ثبوت الحكم من قبل المولى بما هو مرشد وعاقل فلو أمر مع ذلك مولويا لزم ما ذكر من المحال. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ١٤٥.

١٦٤

حسنه (١) ... الخ.

فان المفروض في كلام هذا القائل ـ وهو الشيخ الأعظم ( قده ) في (٢) رسالة البراءة ـ تعلق الأمر بذات الفعل ، لا بإتيانه بداعي كونه محتمل الوجوب مثلا.

ومن الواضح أن الحسن عقلا ليس ذات الفعل بما هو بل بما هو احتياط.

فإتيانه ـ بما هو محتمل الوجوب ـ هو الذي يحكم العقل بحسنه ، فان اكتفينا في العبادية باتيان الفعل بداعي احتمال وجوبه أو بداعي حسنه بعنوانه عقلا فهو كما سيجيء (٣) ـ إن شاء الله تعالى ـ وإلاّ لم يكن مجال للاحتياط في العبادة وان كان يقع الفعل بهذا الداعي حسنا عقلا ، وسيجيء (٤) ـ إن شاء الله تعالى ـ بقية الكلام.

٥٠ ـ قوله (قدّس سره) : قلت لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل (٥) ... الخ.

لا يخفى عليك أن قصد القربة ـ المنوط به عبادية العبادة ـ إن كان خصوص الاتيان بداع الامر المحقق تفصيلا أو إجمالا ، فالعبادة لا يعقل تحققها ، لأن المفروض أن الشبهة وجوبية ولا أمر محقق لا تفصيلا ولا اجمالا ، سواء كان قصد القربة مأخوذا في موضوع الأمر الاول او كان بأمر آخر او كان مأخوذا في الغرض ، فان قصد القربة لا يختلف معناه الدخيل في مصلحة الفعل

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٠.

(٢) ذكره في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة. فرائد الأصول المحشى ٢ / ٥٢.

(٣) في التعليقة : ٥٢.

(٤) في التعليقة : ٥٢.

(٥) كفاية الأصول : ٣٥١.

١٦٥

الباعث على الأمر به باختلاف طرق اثباته.

فبناء على هذا وإن كان مأخوذا في الغرض ، لكنه حيث لا ثبوت لما أخذ في الغرض على الفرض فلا يعقل اتيان الفعل على نحو يترتب عليه الغرض.

وإن كان قصد القربة هو اتيان الشيء بداع الأمر سواء كان محققا او محتملا فالاحتياط بمكان من الامكان ، سواء أخذ قصد القربة بهذا المعنى الأعم في متعلق الأمر الأول أو كان بأمر آخر أو مأخوذا في الغرض.

فاتضح أن مبنى الاشكال في إمكان الاحتياط وامتناعه أجنبي عن إشكال قصد القربة في العبادات من حيث إمكان أخذه في متعلق أوامرها ، أو في متعلق أمر آخر بها ، أو عدم إمكان أخذه إلا في الغرض ، وإن كان محذور تصحيح عبادية مورد الاحتياط بالأمر الاحتياطي تحقيقا للأمر المنوط به العبادة مشتركا مع محذور تصحيح عبادية العبادات بأوامرها.

مع أنك قد عرفت (١) أنه على فرض دفع المحذور هناك لا يندفع هنا ، وأمّا أنّ عبادية العبادة يحتاج إلى أمر محقق أو يكفيها احتماله. فسيجيء (٢) ـ إن شاء الله تعالى ـ بيانه.

٥١ ـ قوله (قدّس سره) : على تقدير الامر به امتثالا (٣) ... الخ.

فان قلت : المعلول الفعلي يتوقف على علة فعلية ولا يكفيه العلة التقديرية.

فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الأمر على تقدير ثبوته ، بل لا بد من استناده (٤) إلى شيء محقق ، وليس في البين إلا احتمال الأمر فانه شيء

__________________

(١) في التعليقة : ٤٨ حيث قال قده : نعم خصوص الأمر بالاحتياط فيه محذور آخر ...

(٢) في التعليقة التالية.

(٣) كفاية الأصول : ٣٥١.

(٤) في الأصل : استناده ، لكن الصحيح : استنادها.

١٦٦

فعلي ، فلو صار الفعل قربيّا فانما يصير به لا بالامر على تقدير ثبوته ، وهل هو إلا الانقياد ، لا أنه إطاعة تارة وانقياد اخرى.

قلت : الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محركا ابدا ؛ ضرورة أن مبدأ الحركة الاختيارية هو الشوق النفساني ، فلا بد له من علة واقعة في أفق الشوق النفساني ، فلا بد من كون الأمر بوجوده الحاضر للنفس داعيا ومحركا دائما.

وكما أن الأمر الحاضر للنفس المقترن بالتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق ، كذلك الأمر الحاضر المقترن بالتصديق الظني أو الاحتمالي.

فاذا كان التصديق القطعي موافقا للواقع كانت الصورة الحاضرة من الأمر صورة شخصه ، فينسب الدعوة بالذات إلى الصورة ، وبالعرض إلى مطابقها الخارجي.

وإذا لم يكن التصديق القطعي موافقا للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض ، فلا شيء في الخارج حتى تنسب إليه الدعوة بالعرض فيكون انقيادا محضا ، لا امتثالا وإطاعة للأمر وانبعاثا عنه.

فكذا الأمر المظنون أو المحتمل ، فالأمر المظنون أو المحتمل هو الداعي ، وهو بهذه الصفة فعلي في هذه المرتبة.

فان وافق الواقع نسب إليه الدعوة وكان انبعاثا عنه وامتثالا له بالعرض ، وإلا فلا.

بل كان محض الانقياد ، كما في صورة القطع طابق النعل بالنعل.

ومنه علم الوجه في اختيار الشق الثاني من الشقين المتقدمين في عبادية العبادة ، ولا حقيقة للامتثال المقرب عقلا ، إلا الانبعاث ببعث المولى ، وقد عرفت كيفية الانبعاث.

٥٢ ـ قوله (قدّس سره) : بل لو فرض تعلقه بها لما كان من

١٦٧

الاحتياط (١) ... الخ.

توضيح الكلام الى آخر ما أفاده في المقام هو أن الامر بالاحتياط اذا كان مولويا بداعي جعل الداعي ، فاما أن يكون متعلقا بذات محتمل الوجوب أو متعلقا به بما هو محتمل الوجوب :

فان كان متعلقا بذاته ، فهو محقق لعبادية نفس الفعل ، بحيث يمكن أن يؤتى به بداعي هذا الأمر المحقق ، كسائر الأوامر المتعلقة بذوات الأفعال بعناوينها الواقعية ، فان الأمر حيث إنه مولوي أنشئ بداعي جعل الداعي يمكن اتيان متعلقه بداعي أمره ، إلا أنه خارج عن محل الكلام.

إذ الكلام في الأمر بالاحتياط لا في الأمر بغيره ، فالالتزام بالأمر بهذا الوجه مع أنه مخالف لظاهر الأمر بالاحتياط مخرج لمورده عن كونه احتياطا.

وإن كان متعلقا بالفعل بما هو محتمل الوجوب ليكون عنوان التحفظ على الوجوب المحتمل محفوظا ، فهو أمر مولوي بالاحتياط بعنوانه.

إلا أن الغرض من خصوص هذا الأمر المولوي تارة ـ يتحقق باتيان متعلقه بما هو محتمل الوجوب ، وهو الذي يكون حسنا عقلا ، سواء انبعث عن هذا الأمر أو لا ، فلا محالة يكون الأمر بالاحتياط توصليا محضا.

وحينئذ إن اكتفينا في عبادية محتمل الوجوب بكونه بداعي احتمال وجوبه فهو عبادة في نفسه ، تعلق به أمر مولوي بعنوان الاحتياط أم لا ، فلا حاجة إلى فرض تعلق أمر مولوي به لهذه الغاية.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٢.

١٦٨

وإن لم نكتف في العبادية باحتمال الأمر ، فهذا الأمر الاحتياطي حيث إنه يسقط ـ ولو لم يؤت بمتعلقه بداع الأمر الاحتياطي ـ أمر توصلي غير موجب لعبادية مورده ، فلا حاجة إليه بلحاظ الغاية المقصودة من فرضه هنا.

وأخرى ـ يكون الغرض منه سنخ غرض لا يترتب على فعل محتمل الوجوب إلا إذا أتي به بداع الأمر الاحتياطي المحقق ، فهو أمر مولوي تعبدي ، إلا أنه يصحح العبادية للاحتياط ، لا أنه يصحح جريان الاحتياط في العبادة.

بل نقول : إذا كان الغرض مترتبا على الاحتياط العبادي في مورد العبادة فلا محالة لا يتحقق هذا الغرض أيضا ، إلا إذا تحقق الغرض من فعل مورد الاحتياط ، ولا يتحقق إلا إذا أتي مورده عباديا.

فان كفى احتمال الأمر صار مورده عباديا بذاته ، لا من ناحية الأمر التعبدي المولوي بالاحتياط ، فلا حاجة إلى فرض الأمر المولوي التعبدي ؛ اذ ليس الكلام في تعداد العبادات بل في جريان الاحتياط فيها.

وإن لم يكف الاحتمال لعبادية المورد كان فرض الأمر المولوي التعبدي بالاحتياط في العبادة لغوا ، بل مستحيلا كما عرفت.

فتبين أن فرض تعلق الأمر المولوي بالاحتياط ، اما لغو لا حاجة إليه فيما نحن بصدده ، أو مستحيل في نفسه. هذه غاية توضيح ما أفيد في المقام.

والتحقيق : أن الأمر ـ بمحتمل الوجوب مثلا ـ يتصور على أقسام ثلاثة :

احدها : الأمر بمحتمل الوجوب ـ بما هو ـ بحيث يصدر في الخارج معنونا به.

١٦٩

وهو مع أنه خلاف الواقع ـ ، اذ لا خصوصية لهذا العنوان حتى يجب صدور الفعل معنونا به ـ يرد عليه أن الوجوب ـ مقطوعا كان أو مظنونا أو محتملا ـ لا عروض له على الفعل المأتي به حتى يتصف بعنوان مقطوع الوجوب أو مظنونه أو محتمله ، بل لا بقاء للوجوب بعد وجود متعلقه في الخارج.

فالموصوف به هو الفعل في حد ذاته بعد تعلق الوجوب به وقبل وجوده في الخارج. فليس العنوان المزبور كعنوان التعظيم والتأديب مما يتصف به الفعل المأتي به.

ثانيها : الأمر بمحتمل الوجوب بنحو الحيثية التعليلية لا الحيثية التقييدية ، لاستحالتها كما عرفت.

فمرجع الأمر إلى الأمر بالشيء بداعي أمره المحتمل ، وحيث إنه يستحيل جعل الداعي إلى الفعل في عرض داع آخر إليه حسب الفرض ، فلا محالة يكون الأمر الاحتياطي داعيا للداعي ، فيكون الأمر الواقعي المحتمل جعلا للداعي بالاضافة إلى نفس الفعل ، والأمر الاحتياطي جعلا للداعي إلى جعل الأمر المحتمل داعيا.

فمتعلق الأول من الأفعال الأركانية ، والثاني من الأعمال الجنانية.

وعليه فالأمر المولوي حيث لا تعلق له بذات العمل لا يعقل أن يكون موجبا لعباديته ، بل متعلق بجعل الأمر المحتمل داعيا.

وحينئذ فان اكتفينا في العبادية بدعوة الأمر المحتمل فالأمر المولوي لأجل هذه الغاية لغو ، وإلا يستحيل كما تقدم.

ثالثها : الأمر بمحتمل الوجوب بنحو المعرفية ، كالأمر بتصديق العادل عملا ، حيث إنه أمر بملزومه ، وهو الفعل الذي أخبر العادل بوجوبه مثلا ، لا بما هو معنون بعنوان تصديق العادل ، بحيث يقصد اتصاف الفعل به ، ولا بداعي تصديق العادل بحيث يكون الأمر المخبر به داعيا. بل الأمر بتصديق العادل

١٧٠

بعنوان ايصال الواقع بجعل حكم مماثل له. فهو إنشاء بداعي جعل الداعي إلى ما أخبر بوجوبه العادل حقيقة بالأمر بلازمه ، وهو تصديق العادل كناية.

لكنه لا بعنوان أنه حكم في عرض الواقع بل بعنوان أنه الواقع ، فيكون وصوله بالذات وصول الواقع بالعرض.

وكذا فعليته وتنجزه بالذات فعلية الواقع وتنجزه بالعرض.

وهكذا الأمر في الأمر الاحتياطي ، فانه منبعث عن الغرض الواقعي المنبعث عنه الأمر الواقعي ، لكنه تحفظا على ذلك الغرض ـ لعدم وصول الأمر المنبعث عنه المحصل له خارجا ـ أمر الشارع بما يقوم به ذلك الغرض.

لكنه لا بعنوانه بذاته ، ليقال : إنه كسائر ما علم وجوبه واستحبابه ، بل بعنوان الاحتياط والتحفظ على الواجب الواقعي بعنوان الكناية ، فان لازم اتيان محتمل الوجوب التحفظ على الواقع على تقدير ثبوته.

وحيث إن هذا الأمر لجعل الداعي إلى الفعل لبّا وحقيقة ، فهو توصلي في التوصليات وتعبدي في التعبديات.

فيمكن اتيان الفعل بداعي هذا الأمر ، فيقع عبادة وقربيّا ، وإن أمكن أن يقع قربيا بداعي الأمر المحتمل أيضا.

غاية الأمر أنه إذا صدر بداعي الأمر المحتمل كان احتياطا حقيقيّا وحسنا عقلا ، من حيث إنه انقياد للأمر المحتمل. واذا وقع بداعي هذا الأمر الاحتياطي المقطوع كان إطاعة حقيقية لهذا الأمر ، واحتياطا عنوانا بلحاظ أنه الأمر الواقعي المحتمل.

بل حيث إن هذا الأمر منبعث عن الغرض الواقعي وبعنوان التحفظ عليه ، فلا محالة يكون هذا الحكم مقصورا على صورة مصادفة الاحتمال للواقع ، كالأمر بتصديق العادل بناء على جعل الحكم المماثل بعنوان الطريقية لا الموضوعية ، فانه أيضا مقصور على صورة مصادفة الخبر مثلا للواقع.

١٧١

فيكون إطاعة حقيقية على تقدير الموافقة ، وانقيادا على تقدير المخالفة ، كما في صورة الاتيان بداعي الأمر المحتمل.

٥٣ ـ قوله (قدّس سره) : لا يبعد دلالة بعض الأخبار على (١) ... الخ.

ربما يورد عليه بأنها أخبار آحاد ولا يجوز التمسك بها في المسائل الأصولية.

وأجيب تارة ـ بأنها إما متواترة معنى ، أو محفوفة بالقرينة.

وأخرى ـ بأن المسائل الأصولية التي لا يصح التمسك بالآحاد فيها هي المسائل الأصولية الاعتقادية (٢) المطلوب فيها العلم والمعرفة ، لا الأصولية العملية.

وثالثة ـ بأن المطلوب ليس إثبات حجية الخبر الضعيف في السنن ، ليقال : بعدم ثبوتها بالآحاد ، بل المطلوب إثبات استحباب ما ورد فيه خبر ضعيف باستحبابه.

فالمسألة فقهية لا أصولية ، والخبر الضعيف محقق للموضوع المحكوم عليه بالاستحباب ، لا أنه دليل على استحبابه ، نظير الشهرة الموجبة بنفس وجودها للظن بصدور الخبر المدرجة له في الخبر الموثوق بصدوره.

وأورد على الأخير شيخنا العلامة الأنصاري (قدّس سره) في رسالته المعمولة (٣) في هذه المسألة بوجوه ، والمهم منها وجهان :

أحدهما : أنه لا فرق بين التعبيرين إذ استحباب كل فعل ـ دل الخبر الضعيف على استحبابه ـ عبارة أخرى عن حجية الخبر الضعيف في المستحبات ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٢.

(٢) الأولى أن تكون العبارة هكذا : الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها ... الخ.

(٣) مجموعة رسائل فقهية وأصولية : ١٦.

١٧٢

ويجوز مثل هذا التعبير في حجية الخبر الصحيح ، بأن يقال : الكلام فيه في وجوب كل فعل دل الخبر الصحيح على وجوبه.

ولا محصل لجعل الخبر حجة ومتبعا إلا إنشاء أحكام ظاهرية مطابقة لمدلول الخبر لموضوعاتها.

ثانيهما : سلمنا أن البحث ليس في حجية الخبر الضعيف في المستحبات. إلا أن عدم البحث عن الحجية لا يجعل المسألة فقهية ، لعدم انحصار المسائل الأصولية في البحث عن الحجية ، لوجود ملاك المسألة الأصولية ومناطها فيما نحن فيه ، فان المسألة الأصولية كل قاعدة يبتنى عليها الفقه ، أعني معرفة الأحكام الكلية الصادرة من الشارع ، بحيث تكون بعد اتقانها عموما أو خصوصا مرجعا للفقيه في الأحكام الكلية الفرعية ، سواء بحث فيها عن حجية شيء أو لا.

ومن الواضح أن هذه المسألة ومسألة الاستصحاب وكذا الاحتياط وإن كانت مضامينها استحباب ما دل الخبر الضعيف على استحبابه ، أو ثبوت الحكم السابق لكل موضوع احتمل بقاء ذلك الحكم فيه ، أو ثبوت الوجوب المحتمل مثلا ، لكنها أحكام كلية لا تنفع المقلد ؛ لأن العمل بها موقوف على إعمال ملكة الاجتهاد في فهم المراد ، والفحص عن المعارض وأشباه ذلك.

فهذه احكام شرعية أصولية تختص بمن ينتفع بها وهو المجتهد ، في قبال الأحكام الفرعية المشتركة بين المجتهد والمقلد المبحوث عنها في علم الفقه ، هذا ملخص ما أفيد.

أقول يرد على الوجه الأول : أن الحجية وإن كانت بمعنى جعل الحكم المماثل ، لكنه ليس كل حكم مماثل مجعول مساوقا للحجية ، بل جعل خاص بعنوان تتميم الكشف ، أو بعنوان إبقاء الكاشف.

والأول إما بعنوان جعل الظن كالقطع بالغاء احتمال الخلاف ، أو بعنوان جعل المجمل كالمفصل كما في الاحتياط الشرعي.

١٧٣

ومن الواضح قصور أدلة التسامح عن إثبات هذه الخصوصية ، بل على العكس من ذلك ، فان لسانها إثبات الاستحباب باثبات الثواب وإن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يقله ، فكم فرق بين هذا اللسان ولسان تصديق العادل ، ( وأنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا ) (١) ، وأن ( ما يؤدي الراوي فعنّي يؤدي ) ، أو لسان ابقاء اليقين وعدم نقضه ، فتدبره فانه حقيق به.

وكذا الأمر إذا كانت الحجية بمعنى تنجيز الواقع عقابا كما في الواجب والحرام ، أو ثوابا كما في المستحب أو تعذيرا كما في المباح ، فان مقتضى الحجية بهذا المعنى ثبوت العقاب أو الثواب على تقدير المصادفة ، ومقتضى هذه الأخبار ثبوت الثواب مطلقا وإن لم يكن كما بلغه.

ويرد على الوجه الثاني : أن المسألة الأصولية هي القاعدة التي تبتنى عليها معرفة الأحكام العملية الكلية. وهذا إنما يكون فيما لم تكن نفس القاعدة متكفلة للحكم العملي الكلي ، بل فيما إذا كانت واسطة لاستنباط حكم عملي.

واستحباب ما دل الخبر الضعيف على استحبابه حكم عملي كلي جامع تنطبق على موارد الأخبار الضعيفة المتكلفة لاستحباب أعمال خاصة ، لا أن هذا الاستحباب الجامع واسطة في استنباط استحبابات خاصة ، ليكون مما يبتنى عليه تلك الاستحبابات المبحوث عنها في علم الفقه.

وليست المسألة الفقهية إلا ما كانت نتيجتها حكما عمليا ، سواء كان حكما عمليا كليا يندرج تحته أحكام عملية خاصة أم لا.

ولأجله استشكلنا (٢) مرارا في جعل حجية الخبر الصحيح أو حجية

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٦.

(٢) منها ما تقدم منه قده في التعليقة على تعريف المصنف قده لعلم الأصول ، نهاية الدراية : ١ ، التعليقة : ١٣.

ومنها ما ذكره في مبحث حجية خبر الواحد. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٩١.

١٧٤

الاستصحاب ، بناء على أن الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل من المسائل الأصولية.

بل حكم عملي جامع من دون توسيط في استنباط حكم عملي آخر ، بل تطبيق محض.

وما ذكرناه (١) من التفصي هناك ـ بجعل التوسيط بلحاظ إثبات اللازم في الفقه باثبات ملزومه في الأصول ، أو باثبات الحجية بمعنى المنجزية في الأصول ، وإقامة الحجة في الفقه ـ غير جار هنا ؛ إذ المفروض عدم الحجية بكلا المعنيين هنا على التحقيق ، أو على التقدير كما في كلامه (رحمه الله).

وأما ما ذكره (قدّس سره) من الاختصاص بالمجتهد وأنه لاحظ منه للمقلد ، ولذا جعل مثل هذا الحكم حكما أصوليا في قبال الحكم الفرعي الفقهي.

فمدفوع بأن التصديق العملي أو الابقاء العملي عمل المقلد بالخصوص ، أو عنوان عمل المجتهد والمقلد معا ، لا عنوان عمل المجتهد فقط ، نظير الافتاء والقضاء وما شابههما مما يختص بالمجتهد ، وإنما يختص بالمجتهد عنوانا ، من حيث نيابته عن المقلد العاجز عن الاستنباط أو التطبيق.

فالمقلد هو المكلف به لبّا وحقيقة ، والمجتهد هو المخاطب به عنوانا لتنزيله منزلة المقلد بادلة جواز الافتاء والاستفتاء ، فنظر المجتهد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكه كلها بمنزلة نظر المقلد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكه ، فتدبره فانه حقيق به.

٥٤ ـ قوله (قدّس سره) : ظاهرة في أن الأجر كان مترتبا على (٢) ... الخ.

__________________

(١) التفصي المزبور مذكور بعد التعرض للاشكال في التعليقة : ١٣ و ٩١.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٢.

١٧٥

مبنى الكلام ـ في دلالة اخبار من بلغ على الاستحباب أو على الارشاد إلى حسن الانقياد ، وترتب الثواب عليه عقلا ـ على أن موضوع الثواب الذي تكفله هذه الروايات هل هو فعل محتمل الثواب بالبلوغ لا بداعي الثواب المحتمل؟ او فعله بداعي الثواب المحتمل؟.

فانه على الثاني انقياد حسن عقلا ، فلا يكشف ترتب الثواب عن رجحان آخر مقتض للثواب دون الأول ، فانه لا ثواب على ذات العمل ، فترتبه عليه كاشف عن مقتض لترتبه عليه ، وليس إلاّ إطاعة الأمر المحقق أو الأمر المحتمل.

وحيث فرض عدم الثاني تعين الأول ، فيكون جعلا للملزوم بجعل لازمه.

والمعين للوجه الأول هو أن الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل لا بداعي الثواب المحتمل أو الأمر المحتمل ، فان مضمون الخبر الضعيف كمضمون الخبر الصحيح من حيث تكفله للثواب على العمل لا بداعي احتماله الناشئ من جعله أو جعل ملزومه.

وهذا الظهور مما لا ريب فيه ، وإنما اللازم دعوى ظهور آخر وهو ظهور ( أخبار من بلغ ) ، من حيث كونها في مقام تقرير الثواب البالغ وتثبيته وتحقيقه في أن الثواب الموعود بهذه الأخبار في موضوع ذلك الثواب البالغ ، وإلا لكان ثوابا آخر لموضوع آخر.

والمنافي لهذا الظهور ليس إلا ما يتوهم من اقتضاء التفريع في جميع الأخبار ، والتقييد في بعضها لترتب الثواب على الفعل بداعي احتمال الثواب وهو الانقياد المحض المقتضي في نفسه لترتب الثواب ، فلا كاشف عن مقتض آخر.

فنقول : أما التفريع فهو على قسمين :

أحدهما ـ تفريع المعلول على علته الغائية ، ومعناه هنا انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل.

١٧٦

ثانيهما ـ مجرد الترتيب الناشئ من ترتب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب.

فالعمل المترتب عليه الثواب حيث كان متقوما ببلوغ الثواب عليه ، فلذا رتبه على بلوغ الثواب.

فيكون نظير من سمع الأذان فبادر الى المسجد ، فان الداعي إلى المبادرة فضيلة المبادرة ، لا سماع الأذان ، وإن كان لا يدعوه فضيلة المبادرة إلا في موقع دخول الوقت المكشوف بالأذان.

فلا يتعين التفريع في الأول حتى ينافي الظهور المدعى سابقا.

وأما ما ذكره شيخنا العلامة الانصاري (قدّس سره) في رسالة (١) التسامح من منع دلالة الفاء على السببية والتأثير ، بل هي عاطفة.

فخلاف الاصطلاح لعدم التقابل بين السببية والعطف ، بل العاطفة تارة ـ للسببية ، وأخرى للترتيب ، وثالثة ـ للتعقيب والأمر سهل.

وقد التزم شيخنا الاستاذ (قدّس سره) في المتن بعدم منافاة كون الفاء للسببية ، وتفرع العمل على الثواب المحتمل بكونه داعيا إليه لما مرّ من الظهور بتقريب : أن العمل المنبعث عن الثواب المحتمل على ما هو عليه من عنوانه. ولا يتعنون من قبل دعوة الثواب المحتمل بعنوان يؤتى به بحيث يدعو الثواب المحتمل إلى العمل المعنون من قبل نفس دعوته.

وإذا كان العمل المدعو إليه على حاله من عنوان نفسه من دون تقيّده بعنوان من قبل الداعي حتى عنوان الانقياد ، فانه عنوان المأتي به بذاك الداعي ، لا عنوان المدعو إليه حتى يدعو إليه ذلك الداعي ، فلا ينافي ظهور الأخبار في ترتب الثواب على العمل الغير المتقيد بداعي الثواب المحتمل.

__________________

(١) مجموعة رسائل فقهية واصولية : ٢٥.

١٧٧

كما هو الحال في الأخبار المقيدة ، حيث إن موضوعها العمل الملحوظ في نفس الموضوع التماس الثواب.

فحاصل الأخبار ترتب الثواب على نفس العمل وان كان منبعثا عن الثواب المحتمل ، فهو وإن كان على الفرض منبعثا عن الثواب المحتمل إلا أن انبعاثه عنه غير دخيل في ترتب الثواب المجعول بهذه الأخبار عليه.

وهذا هو الفارق بين التفريع على الوجه المزبور والتقييد بالتماس الثواب البالغ في الاخبار المقيدة.

لا يقال : مع فرض انبعاثه عن الأمر المحتمل لا يعقل جعل الداعي بجعل الاستحباب المنكشف بلازمه ، وهو الثواب المحقق بهذه الأخبار ؛ لأن الفعل ما لم ينبعث عن الاستحباب الثابت بهذه الأخبار لا يرتب عليه ثواب إطاعة الاستحباب المحقق.

وانبعاث عمل واحد عن داعيين متماثلين مستقلين في الدعوة محال ، فجعل الداعي مع فرض وجود الداعي المؤثر بالفعل محال.

وجعل الاستحباب المحقق داعيا في طول دعوة الثواب المحتمل أو الأمر المحتمل وان لم يكن مستحيلا في نفسه لكنه خلف ، لأن الكلام في استحباب نفس محتمل الثواب لا استحباب المأتي به بداعي احتمال الثواب.

والمشهور أيضا يقولون بترتب الثواب عليه إذا أتي به بداعي استحبابه ، لا إذا أتى المتقيد بالداعي المزبور بداعي استحبابه.

مع أن الاستحباب إذا كان داعيا للداعي فالمستحب الحقيقي جعل الأمر المحتمل أو الثواب داعيا الى العمل ، لا أنه داع لأمر خاص وعمل مخصوص.

فهناك مستحب جناني وعمل حسن أركاني.

مع أنه مناف لكلامه (قدّس سره) حيث إنه في مقام ترتيب الثواب

١٧٨

المجعول على نفس العمل لا على العمل المأتي به بداعي الثواب المحتمل بما هو كذلك.

لأنا نقول : فرض انبعاث العمل عن الثواب المحتمل ليس فرض عمل شخصي منبعث عنه ، ليستحيل جعل الداعي مع فرض تأثير داع محقق. بل فرض انبعاث العمل كليّا عن الداعي الطبعي ، فانه من بلغه الثواب يدعوه بطبعه الثواب البالغ.

إلا أن هذا الداعي الطبعي لم يؤخذ قيدا في موضوع الثواب المجعول حتى يكون جعلا للداعي في فرض تقيّد العمل بداع آخر. بل الفرض جعل الداعي نحو ذات العمل الذي بطبعه يدعوه الثواب البالغ. فيكون تحريكا إلى العمل بذاته.

بل جعل الداعي في الواجبات كذلك ، فانه جعل داع عمومي ، وإن فرض أن العامة يفعلون بداعي الثواب والخاصة بداع آخر أعلى منه. والوجه في صحة الكل عدم القيدية.

وأما التقييد كما هو ظاهر قوله (عليه السلام) في خبر محمد بن مروان : ( ففعله التماس ذلك الثواب ) (١).

وفي خبر آخر له ( ففعل ذلك طلب قول النبي ( صلّى الله عليه وآله ) (٢) ... الخ ).

فقد اجاب (قدّس سره) في المتن بعدم المنافاة بين المقيد من هذه الأخبار مع مطلقها.

إذ لا منافاة بين الثواب على نفس العمل لا بداعي الثواب المحتمل بما هو ، والثواب على العمل بداعي الثواب المحتمل بما هو.

__________________

(١ و ٢) جامع أحاديث الشيعة : ١ / ٣٤٠ و ٣٤١ ، الكافي : ٢ / ٨٢ ، وسائل الشيعة ١ : ٨١ / ٤ ، ٨٢ / ٧.

١٧٩

فالمطلق متكفل للثواب المجعول الكاشف عن جعل لازمه ، والمقيد متكفل للارشاد إلى الثواب الذي يحكم به العقل على الانقياد والاحتياط.

وهذا التقريب لا يرد عليه محذور عدا وحدة سياق الأخبار وأنها في مقام ترتيب سنخ واحد من الثواب على موضوع واحد.

وحينئذ فالنكتة ـ لعدم التقييد في بعضها ـ وضوح أن الداعي الطبعي لمن بلغه ثواب هو ذلك الثواب البالغ ، لا الثواب المجعول بهذه الأخبار على فرض جعله.

لكنك عرفت مما ذكرنا في التفريع بناء على السببية أن السببية طبعية عادية لا أنها قيد جعلي أخذ في الموضوع.

وأما ما في كلمات بعض الاعلام (١) : من أن المطلق لا يحمل على المقيد في المندوبات ، فلا موجب لحمل المطلق هنا على المقيد وإن سلم التقييد.

ففيه : أن الوجه في عدم الحمل في المندوبات إمكان حمل المطلق والمقيد منها على مراتب المحبوبية.

فالمستحب الفعلي هو المقيد وما عداه مستحب ملاكي ، بخلاف الواجبات فان حملها على مراتب الوجوب يلازم الحمل على المقيد ، فان الملاك الوجوبي لازم التحصيل.

وهذا الوجه غير جار هنا فان المقيد بداعي الثواب المحتمل ليس مستحبا شرعيا لا فعليا ولا ملاكا ، بل المقيد بهذا الداعي راجح عقلي. والمطلق الذي حقيقته إتيان الفعل لا بهذا الداعي بل بسائر الدواعي مستحب شرعي ، فليس المقيد من مراتب المستحب الشرعي في قباله.

مع أن وحدة السياق في الأخبار يقتضي أن يكون الكل بصدد ترتيب

__________________

(١) هو المحقق النائيني قده ، أجود التقريرات ٢ : ٢١٠.

١٨٠