الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
ترجمة مالك بن نويرة
كان مالك بن نويرة ، رجلاً سرياً نبيلاً ، يردف الملوك ، وهو الذي يضرب به المثل فيقال : فتىً ولا كمالك !
وكان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه ، وكان فيه خيلاء وتقدم ، وكان ذا لمّة كبيرة ـ شعر كثيف ـ وكان يقال له الجفول .
قدم على النبي ( ص ) فيمن قدم من العرب ، فأسلم ، فولّاه النبي ( ص ) صدقات قومه .
قال المرزباني : . . فلما بلغته وفاة النبي ( ص ) أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك :
فقلت خذوا أموالكم غير خائف |
|
ولا ناظر فيما يجيء من الغد |
فإن قام بالدين المخوّف قائم |
|
أطعنا وقلنا الدين دين محمد |
وقد ذكر هذه الأبيات السيد المرتضى رحمه الله في كتابه « الشافي » مع أبيات أُخر لمالك استدل بها على أنه حين بلغه وفاة النبي ( ص ) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه قائلاً لهم : تربصوا حتى يقوم قائم بعده وننظر ما يكون من أمره .
النص والإجتهاد ١٣١ ـ ١٣٤
« مقتله »
حين فرغ خالد من « أسد وغطفان » توجه نحو البطاح حيث مالك بن نويرة وقومه هناك فلما عرف الأنصار الذين كانوا مع خالد عزمه على ذلك ، توقفوا عن المسير معه وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ، إنما عهده إن نحن فرغنا من « البزاخة » واستبرأنا بلاد القوم ، أن نقيم حتى يكتب إلينا .
فأجابهم خالد : إنه ـ أي الخليفة ـ لم يكن عهد إليكم بهذا ، فقد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير ، وإليَّ تنتهي الأخبار ، ولو أنه لم يأتني كتابٌ ولا أمر ثم رأيت فرصةً إن أعلمته بها فاتتني ، لم أعلمه حتى انتهزها ، وكذلك إذا ابتلينا بأمرٍ لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصدٌ له بمن معي .
وكان مالك قد فرق قومه ونهاهم عن الإِجتماع ، وقال : يا بني يربوع ، إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوآة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر .
فتفرقوا على ذلك وسار خالد ومن معه قاصدين البطاح ، فلم يجدوا فيها أحداً ، فأرسل خالد سراياه في أثرهم فجائته بمالك بن نويرة في نفرٍ من بني يربوع ، فحبسهم !
وقد روى الطبري بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري ـ وكان من رؤساء تلك السرايا ـ قال : إنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح ! قال أبو قتادة ، فقلنا : إنا المسلمون ؛ فقالوا : ونحن المسلمون ! قلنا ، فما بال السلاح معكم ؟ فقالوا لنا : فما بال السلاح معكم ؟؟ فقلنا : فإن كنتم كما تقولون ، فضعوا السلاح ، فوضعوا السلاح ، ثم صلينا وصلّوا .
قال العقاد : وبعد الصلاة خفوا إلى
الإستيلاء على أسلحتهم وشدّ وثاقهم ، وسوقهم أسرى إلى خالد ـ وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال أم
تميم ـ وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ولا سيما جمال العينين والساقين ـ .
وقد تجادل خالد في الكلام مع مالك ـ وهي إلى جنبه ـ فكان مما قاله خالد : إني قاتلك ! قال له مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟ ـ يعني أبا بكر ـ قال : والله لأقتلنّك .
وكان عبد الله بن عمر . وأبو قتادة الأنصاري إذ ذاك حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره ، فكره كلامهما .
فقال مالك : يا خالد ، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا ، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا ! وألح عبد الله بن عمر وأبو قتادة على خالد بأن يبعثهم إلى الخليفة ، فأبى عليهما ذلك ! وقال خالد : لا أقالني الله إن لم أقتله ، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه .
فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني .
فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإِسلام .
فقال له مالك : إني على الإسلام .
فقال خالد : يا ضرار ، اضرب عنقه ، فضرب عنقه ، وجعل رأسه أثفيةً لقدرٍ من القدور المنصوبة .
ثم قبض خالد على زوجته ليلى ، فبنى بها في تلك الليلة ، وفي ذلك يقول أبو زهير السعدي :
ألا قل لحيٍّ أوطئوا بالسنابك |
|
تطاول هذا الليل من بعد مالكِ |
قضى خالدٌ بغياً عليه لعرسه |
|
وكان له فيها هوىً قبل ذلك |
فأمضى هواه خالدٌ غير عاطفٍ |
|
عنان الهوى عنها ولا متمالك |
وأصبح ذا أهلٍ وأصبح مالك |
|
على غير شيءٍ هالكاً في الهوالك |
فمن لليتامى والأرامل بعده |
|
ومن للرجال المعدمين الصعالك |
أصيبت تميم غثها وسمينها |
|
بفارسها المرجو سحب الحوالك |
وكان خالد قد أمر بحبس الأسرى من قوم مالك ، فحبسوا والبرد شديد ، فنادى مناديه في ليلةٍ مظلمة : أن أدفئوا أسراكم !! وهي في لغة كنانة كناية عن القتل ! فقتلهم بأجمعهم .
وكان قد عهد إلى الجلادين من جنده أن يقتلوهم عند سماع هذا النداء ، وتلك حيلة منه توصّل بها إلى أن لا يكون مسؤولاً عن هذه الجناية ، لكنها لم تخف على أبي قتادة وأمثاله من أهل البصائر ، وإنما خفيت على رعاع الناس وسوادهم .
والتفت أبو قتادة الأنصاري إلى خالد وقال : هذا عملك ؟!!
فنهره خالد ، فغضب ومضى .
وكان أبو قتادة ممن شهد لمالك بالإِسلام ـ كما قدمنا ـ وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً بعدها أبداً .
حين وصلت أنباء البطاح ومقتل مالك إلى المدينة ، أثارت موجة سخط في أوساط كبار المسلمين . . . فحين بلغ ذلك عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر وقال : « عدو الله . عدا على امرىءٍ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته . . » .
وأقبل خالد بن الوليد قافلاً ، حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامةٍ له قد غرز فيها أسهماً ، فلما دخل قام إليه عمر ، فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ـ ثم قال : أرئاءً . قتلت امرىء مسلماً . . الخ . . كما تقدم .
وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمان بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ؟ وأنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة .
وقدم متمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه رد السبي ، فكتب إليه برد السبي . وأنشده .
أدعوته بالله ثم غدرته |
|
لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدرِ |
فضائل عمار بن ياسر رضي الله عنه
إن فضائلَ عمّار بن ياسر كثيرةٌ جداً يطول ذكرُها . فمن ذلك : ما وردَ في تحديد هويته الدينية وسابِقتهِ وهجرته ومعاناتِهِ في الله ما ذكره أبو عُمر في الإِستيعاب حيث قال :
« هاجرَ إلى أرض الحبشة ، وصلىٰ إلى القبلتين وهو من المهاجرين الأولين ، ثم شهد بدراً والمشاهدَ كلها ، وأبلىٰ بلاءً حسناً ، ثم شهد اليمَامَة ـ حرب الردّة ـ فأبلىٰ فيها أيضاً يومئذٍ ، وقُطعت أذنُهُ » .
وأمّا ما رُوي عن رسولِ الله ( ص ) في فضله ، فقد بلغَ حدَّ التواتر ، فمن ذلك :
حديثُ خالد بن الوليد أن رسول الله ( ص ) قال : من أبغضَ عماراً أبغضه اللهُ . فما زِلتُ أحبه من يومئذٍ .
وعن ابنِ عباس في تفسير قوله تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) إنه عمّارُ بن ياسر ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) إنه أبو جهل بن هشام » .
ومن حديث علي بن أبي طالب ( ع ) : إنّ عماراً
جاءَ يستأذنُ على
رسول الله ( ص ) يوماً ، فعرف صوتُه ، فقال : « مرحباً بالطيّب المطيّب ! إإذنوا له » .
وهو أحدُ الذين تشتاق إليهم الجنةُ كما روي عن النبي ( ص ) في حديث أنَسْ : « إن الجنّة تشتاق إلى أربعةٍ ، عليّ بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وسلمانِ الفارسي ، والمقداد » .
وعنه ( ص ) : مُلىءَ عمار إيماناً إلى أخمص قدميه .
وعنه ( ص ) : عليكم بابن سميّة فإنه لن يفارق الحق حتى يموت . وفي حديث آخر : إن عماراً مع الحقِ والحقَ معه ! يدور عمارٌ مع الحق أينما دار ، وقاتلُ عمارٍ في النار .
وعنه ( ص ) : ما لهم ولعمَّار ، يدعوهم إلى الجنةِ ، ويدعونهُ إلى النارِ ! إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني وأنفي .
وجاء رجلٌ إلى عبد اللهِ بن مسعود فقال له : « أرأيتَ إذا نزلت فتنةٌ كيف أصنع ؟
قال : عليك بكتاب الله .
قال : أرأيتَ إن جاء قومٌ كلّهم يدعون إلى كتابِ الله ؟
فقال : سمعتُ رسول الله ( ص ) يقول : إذا اختلفَ الناسُ ، كان ابن سمية مع الحق (١) .
وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة : أما بعد ، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً ، وعبدَ الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، وهما من النجباء من أصحابِ محمد ، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما .
__________________
(١) هذه الأحاديث وردت بألفاظ مختلفة وبطرق وأسانيد عدة . راجع كتاب الغدير ٩ / ٢٧ ـ ٣٠ .
بين عمّار وعثمان
جاء في كتاب الأنساب ، ما يلي :
« كان في بيتِ المال بالمدينة سفطٌ فيه حليّ وجوهرٌ ، فأخذ منه عثمان ما حَلّىٰ به بعض أهله ، فأظهرَ الناسُ الطعنَ عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديدٍ حتىٰ أغضبوه ، فخطب فقال :
لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيىء وإن رغِمتْ أنوف أقوام . فقال له علي : إذن تُمنع من ذلكَ ويُحال بينكَ وبينَه .
وقال عمار بن ياسر : أُشهدُ اللهَ أن أنفي أولَ راغمٍ من ذلك .
فقال عثمان : أعَليّ يا بن المتكاءْ (١) تجترئ ؟! خذوه ، فأُخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غُشي عليه ، ثم أُخرج فحُمل حتى أُتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله ( ص ) فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد للهِ ، ليس هذا أولُ يومٍ أُذينا فيه في الله .
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ـ وكان عمار حليفاً لبني مخزوم ـ فقال : يا عثمان أما عليٌّ فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحنُ فاجترأتَ علينا
__________________
(١) المتكاء : البظراء : أو التي لا تمسك البول .
وضربت أخانا حتى أشفيتَ به على التَلف ، أما والله لئن ماتَ لأقتلن به رجلاً من بني أميّة عظيم السرّة .
فقال عثمان : وإنك لههنا يا بن القسريّة ؟ قال : فإنهما قسريتان . وكانت أمّهُ وجدّته قسريّتين من بَجيلة .
فشتمه عثمان وأمرَ به فأُخرج . فأتىٰ أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمّار .
وبلغ عائشةَ ما صُنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله ( ص ) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ، ثم قالت : ما أسرَعَ ما تركتم سنّة نبيكمْ ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يُبلَ بعد .
فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درىٰ ما يقول ، فالتجَّ المسجد ، وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله !!
وكان عمرو بن العاص واجداً على عثمان لعزله إياه عن مِصر وتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجعل يكثر التعجب والتسبيح .
وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار ، فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلتْ إليه : دع ذا عنك يا عثمان ولا تحملِ الناس في أمرك على ما يكرهون . واستقبحَ الناسُ فعله بعمّار ، وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له (١) .
وأظن أن هذه الحادثة أنموذج كافٍ في الدلالة على خروج السلطة من إطارها الذي أراده الله سبحانه ، وألِفه المسلمون بعد وفاة الرسول الأعظم ( ص ) إلى إطارٍ آخر ترسمه ثلة من المستفيدين الطامحين للملك ، سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار ما ورد في نصوص المؤرخين : من أن الغالبَ على عثمان آنذاك ، مروانُ بن الحكم وأبو سفيان بن حرب .
__________________
(١) الغدير ٩ / ١٥ وقد ورد هذا الخبر بعدة طرق وبألفاظ ثانية والمضمون واحد .
كما أن في هذه الحادثة دليل واضح على مدى البُعد بين عثمان وعمار في التفكير الديني وسياسة الأمور .
وزاد في الهُوّة بين الطرفين تتابعُ الأحداث التي يشبه بعضها بعضاً من حيث المبدأ السلطوي الذي انتهج ازاء كبراء الصحابة وعظمائهم ، أمثال أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود ، وملاحقتهم بالنفي تارة ، وبالضرب والإِذلال تارةً أخرى حتى مات الأول منفياً في الربذة ، ومات الثاني مقهوراً بعد أن كُسِر ضلعهُ وحُرم عطاءه . وكان لابن ياسر نصيبٌ من سخط الخليفة وغضبه بسبب هذين الصحابيين الجليلين .
فحين نُفي أبو ذر ، كان عمّار أحدَ المشيعين والمودعين له ، وحين توفي أبدى حزنه وأسفه العميقين عليه أمام عثمان مما زاد في غضبه ، ثم بعد ذلك توفي ابن مسعود فصلى عليه عمار بوصيةٍ منه ، ثم توفي المقداد فصلىٰ عليه عمار أيضاً دون أن يؤذن عثمان بذلك ، فاشتد سخطهُ وغضبهُ عليه .
قال البلاذري : لما بلغ عثمانَ موت أبي ذرٍ بالربذة قال : رحمه الله . فقال عمار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كل أنفسنا ! فقال عثمان : يا عاض . . أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟! وأمر به فدُفع في قفاه وقال : إلحقْ بمكانه . فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له علي : يا عثمان ، إتق الله ! فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره !؟ وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان ـ مخاطباً علياً ـ : أنت أحق بالنفي منه ! فقال عليٌّ : رُمْ ذلك إن شئت !!
واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنتَ كُلما كلّمكَ رجل سيّرته ونفيته ، فإن هذا شيء لا يسوغ فكَفَّ عن عمار (١) .
وتوفي ابن مسعود وكان قد أوصى عماراً أن لا يصلي عليه عثمان ،
__________________
(١) الغدير ٩ / ١٨ .
فقبل وصيته ، وكان عثمان غائباً ، فلما عاد « رأى القبر فقال : قبرُ من هذا ؟ فقيل : قبرُ عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دُفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : وَليَ أمرَه عمار بن ياسر . . ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أمَا لقد كنتُ به عليماً » (١) .
ومن هنا يتضح بأن ما حصل بين عثمان وعمار من عداءٍ لم يكن عداءً شخصياً نمىٰ وتطور حتى تحول إلى حرب مواقف ـ إذا صح التعبير ـ بين صحابيين كان بالإِمكان تلافيه ، أو على الأقل السكوتُ عنه حفظاً لمقام الخلافة وهيبتها . بل إن الأمر كان على العكس من ذلك . فالمتتبع للأحداث يلمس بوضوح أن الصراع بينهما كان صراعاً بين مبدئين . مبدأ يعتمدُ اللامحدودية في سلطته والنزوع وراء المُلْك ، ومبدأ يعتمد السنَّةَ النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين . فعثمانُ لم يكن وحده في آرائه ، وكذلك عمار لم يكن وحده في معارضته .
وعلى هذا يمكن القول أن خلافة عثمان أوجدت الفرصةَ لسيطرةِ الأمويين على مقدرات الأمة وأرزاقها عن طريق نفوذهم لسُدّة الحكم ، ولولا يقظة بعض الصحابة وحذرهم لتم لهم ذلك بشكل سريع ، لكن معارضتهم هي التي كانت تحول دون ذلك .
وقد حدد العقاد في كتابه عثمان ، نظرة عثمان للخلافة بقوله :
« فكانت له نظرةٌ للإِمامة قاربتْ أن تكون نظرةً إلى المُلك ، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة : ما لَكَ ولبيتِ مالِنا ؟! وقال في خطبته الكبرىٰ يرد على من آخذوه بهباته الجزيلة : فضلٌ من مالٍ ، فلم لا أصنعُ في الفضل ما أريد ؟ فلِم كنتُ إماماً !! » (٢) .
وكان جديراً به أن يتقبل نصائح المخلصين من الصحابة ويناقش
__________________
(١) اليعقوبي ٢ / ١٤٧ .
(٢) عثمان : ٢١١ ـ ٢١٢ .
ملاحظاتهم وآرائهم بقلبٍ مفتوح كما كان يفعل صاحباه من قبل ، لكي تبقى للخلافة هيبتُها وللمسلمين وحدتهُم ، لكنه تهاون أزاء ذلك فأدى تهاونه إلى ما انتهت إليه الأمور من خسارةٍ وتمزيق .
لقد كان تسامحه مع أهل بيته وأقربائه وحبه لهم وتقريبه إياهم هو السببُ الأول في تحويل مركز الخلافة إلى سلطةٍ زمنية أهملت الكثير من توجيهات القرآن وتعاليم الإِسلام . ويصف المؤرخون عثمان بأنه « كن جواداً وصولاً بالأموال ، وقدم أقاربه وذوي رحمه على سائر الناس ، وسوى بين الناس في الأعطية ، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم وأبو سفيان بن حرب (١) .
كما كان إلى جانب ذلك يستخفُّ بصيحات الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ويضع من قدرهم ما استطاع ، ويرد على من ينتقدُ وُلاتَهُ وعمّاله من زعماء الأمصار وقادتهم بالتجريح تارةً ، وبالنفي والإِذلال إذا رأى في ذلك رادعاً .
ولنلقي الآن نظرةً سريعةً تجاه سياسة عثمان المالية ، والإِدارية ، والتأديبية .
__________________
(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٣ .
سياسته المالية
ونذكر منها ما يلي على سبيل المثال :
١ ـ افتُتِحت أرمينية في أيامه ، فأخذ الخمسَ كله فوهبه لمروان بن الحكم (١) .
٢ ـ زوّجَ ابنته عائشة من الحرث بن الحكم بن العاص ، « فأعطاه مائَةَ ألف دِرهم » .
٣ ـ زوّجَ ابنته من عبد الله بن خالد بن أُسَيْد وأمر له « بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة » .
٤ ـ حمىٰ المراعي حول المدينة كلّها ، من مواشي المسلمين كلّهم ، إلا عن بني أمية .
٥ ـ أقطع مروان بن الحكم فَدَك ، وكانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( ص ) ، تارةً بالميراث ، وتارة بالنِحْلة ، فدُفِعت عنها .
٦ ـ أعطى عبد الله بن أبي سَرْح جميع ما أفاء اللهُ عليه من فتح إفريقية . . من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .
__________________
(١) راجع ترجمة مروان بن الحكم .
٧ ـ إن رسول الله ( ص ) تصدّق على المسلمين بموضع « سُوق » بالمدينة ، فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان ، وهو أغرب ما ذكرنا .
٨ ـ أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسمها كلها في بني أمية (١) .
٩ ـ بُنيان مروان القصور بذي خشب ، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله .
١٠ ـ ما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ( ص ) ثم لا يغزون ولا يذبّون (٢) .
١١ ـ أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر به لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال (٣) .
١٢ ـ قَدِمت إبل الصدقة عليه ، فوهبها للحرث بن الحكم .
إن مقدرات الدولة الإِسلامية وثرواتها ليست حكراً على أحد ، ولا ملكاً لجماعة أو فئةٍ معينةٍ من الناس ، وليس لأحد الحق في أن يتطاول عليها أو يدعيها لقرابته فضلاً عن أن يؤثرهم بها إلا ما يأمر الله سبحانه به مما جاء في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة ، وعلى هذا الأساس بدأت النقمة تتزايد على عثمان من جراء سياسته تلك .
قال اليعقوبي في تأريخه : « ونقم الناس على عثمان بعد ولايته بست سنين ، وتكلم فيه من تكلم ، وقالوا آثر الأقرباء ، وحمى الحمىٰ وبنىٰ الدور واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين . . الخ » (٤) وكان عثمان يقول في
__________________
(١) شرح النهج ١ / ٦٦ ـ ٦٧ .
(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٩ .
(٣) شرح النهج ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩ .
(٤) اليعقوبي ٢ / ١٧٤ .
ذلك : « هذا مالُ الله أُعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغَمَ الله أنف من رغِم » (١) .
« سياسته في اختيار الولاة »
وقد اقتصر في سياسته الإِدارية على أقاربه وذوي رحمه مخالفاً بذلك القاعدة المتعارفة لدىٰ المسلمين ولدىٰ من سبقه من الخلفاء في إختيار ذوي السابقة في الدين من كبار الصحابة وعظمائهم . ولو أن في أقاربه من كان له سابقةٌ أو صحبةٌ أو جهادٌ لهان الأمر ، لكنهم كانوا على عكس ذلك متهمين في دينهم ، بل فيهم من أمره بالفسق معروفٌ مشهور .
ومن هؤلاء :
١ ـ عبد الله بن سعدِ بن أبي سرح : ولّاه عثمان على مصر
« وكان عبد الله هذا قد أسلم وكتبَ الوحي لرسول الله ( ص ) فكان إذا أملىٰ عليه : عزيزٌ حكيم يكتب : عليمٌ حكيمٌ ، وأشباه ذلك . ثم إرتدَّ ، وقال لقريشٍ . إني أكتب أحرفَ محمدٍ في قرآنه حيث شئت : ودينكم خير من دينه .
فلما كان يوم الفتح ، فرَّ إلى عثمان بن عفان ـ وكان أخاه من الرضاعة ـ فغيّبهُ عثمان حتى إطمأن الناس ، ثم أحضره إلى رسول الله ( ص ) وطلب له الأمان ، فصمَتَ رسولُ الله ( ص ) طويلاً ، ثم أمّنه ، فأسلم وعاد . فلما انصرف ، قال رسول الله ( ص ) لأصحابه : لقد صمَتُّ ليقتلَهُ أحدكم . . » (٢) .
٢ ـ الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط :
ولّاه عثمان الكوفة سنة ٢٥ للهجرة ، والوليدُ هذا هو الذي وصفه القرآن بالفسق ، ففيه نزلت الآية الكريمة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ
__________________
(١) الغدير ٨ / ٢٨١ .
(٢) الكامل / ٢ / ٢٤٩ .
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . . ) وكان النبي ( ص ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا لإِستقباله فظن أنهم أرادوا قتله ، فرجع إلى النبي وأخبره أنهم منعوا صدقاتهم . . » الخ (١) . وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص ، فالتفت الوليد إلى سعد مسلِّياً إياه قائلاً له : « لا تجزع أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وإنما هو المُلك يتغداه قومٌ ويتعشاه آخرون » . ثم شاع فِسقه وشربه للخمر وأقام عليٌّ ( ع ) عليه الحد ثم عُزل .
٣ ـ معاوية بن أبي سفيان :
وكان عاملاً لعُمَر على دمشق والأردن ، فضمَّ إليه عثمان ولاية حِمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان إلى أبعد مدىً مستطاع (٢) وأمرُ معاوية واضح غير خفي . فهو أحد الطلقاء المستسلمين يوم الفتح .
٤ ـ سعيد بن العاص :
عينه عثمان والياً على الكوفة بعد أن عزَل الوليد عنها . ولم يكن سعيد ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيىء المسلمين إن أمكنت الفرصة من ذلك ، بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : « إنما هذا السواد بُستانُ قريش » (٣) .
٥ ـ عبد الله بن عامر بن كريز :
وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة إلى سياسة التضييق والإِفقار والإِشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين بالعدالة ورفع الجور عنهم ، وعزل العمال غير ذوي الكفاءة فقد أشار على عثمان بذلك ، فقال له حين استشاره :
« أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ،
__________________
(١) مجمع البيان ٩ / ١٣٢ الحجرات . راجع ترجمة الوليد ص .
(٢) ثورة الحسين / ٤٠ .
(٣) للتفصيل راجع الكامل ٣ / ١٢٩ .
ولا يكون هِمّةُ أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُرِ دابته وقُمَّلِ فروته . . » (١) .
« سياسته التأديبية »
كانت في الواقع سياسةً انتقاميةً وليست تأديبيةً ، اعتمدها الخليفة في سيرته مع معارضيه الذين كانوا يرفعون أصواتهم في وجهه أزاء ما يرونه خارجاً عن حدود الشريعة الإِسلامية والسُنَّة النبوية الشريفة ، بل وسيرةِ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقد مرَّ معنا ما لقيهُ عمار بن ياسر وما عاناه ابن مسعود من كسر ضلعه ومن بعدهما نفي أبي ذر إلى الربذة وموته هناك . ولا ننسى أن هذا النمط من الصحابة يُعدُّ من زعمائهم وعظمائهم الذين يتسنىٰ لهم أن يقولوا ويعترضوا ومع ذلك عُوقبوا بهذه الطريقة الموجعة والمزرية من العقاب .
وتخطىٰ الأمر المدينة ـ دار الخلافة ـ ليشمل الكوفة ، فقد حصلت مشادةٌ كلامية بين سعيد بن العاص والي الكوفة وبين بعض زعمائها كمالك الأشتر وصعصعة بن صوحان ، حين قال سعيد كلمته المعروفة « إنما هذا السواد بستان قريش » . انتهت بتسيير هؤلاء « نفيهم » إلى الشام ، ثم إلى حمص واضطهادهم وترويعهم ، وإليك القصة مفصلةً :
حين ولي سعيد الكوفة استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده ، فقال سعيد يوماً : إن السواد ـ أي الأرض الخضراء بما فيها ـ بستان لقريش وبني أمية .
فقال الأشتر النخعي : وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟
فقال صاحب شرطته : أترد على الأمير مقالته !؟ واغلظ له : فقال
__________________
(١) ـ المصدر السابق / ١٥٠ .
الأشتر لمن حوله من النُخَع وغيرهم من أشراف الكوفة : ألا تسمعون ؟ فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطؤه وطأً عنيفاً وجرّوا برجله .
فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سُمّاره فلم يأذن بَعدُ لهم ، فجعلوا يشتمون سعيداً في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان .
واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم ، فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم ، فكتب إليه أن يُسيّرهم إلى الشام لئلا يُفسدوا أهل الكوفة ، وكتب إلى معاوية وهو والي الشام :
« إن نفراً من أهل الكوفة قد همّوا بإثارة الفتنة وقد سيرتهم إليك ، فإنهَهُم فإن آنست منهم رشداً فأحسِن إليهم وارددهم إلى بلادهم » (١) .
وحين قدموا الشام دارت محاورات بينهم وبين معاوية وكان لهم معه مجالس ، وقد قال لهم معاوية في جملة ما قال : « إن قريشاً قد عرفت أن أبا سفيان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه ( ص ) فإنه انتجبه وأكرمه ، ولو أن أبا سفيان ولَدَ الناس كلهم لكانوا حكماء !
فقال له صعصعة بن صوحان : كذِبتْ ، قد ولَدَهُم خيرٌ من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ونفخَ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البَرُّ والفاجر والكيّس والأحمق .
وفي بعض المحاورات قال لهم معاوية : « أيها القوم ، ردوا خيراً واسكنوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه وأطيعوني .
فقال له صَعْصَعة : لستَ بأهلِ لذلك ، ولا كرامة لك أن تُطاع في معصية الله .
فقال : إن أول كلام ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .
__________________
(١) الغدير ٩ / ٣٢ .
فقال صعصعة : بل أمرتَ بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ( ص ) .
فقال : إن كنتُ فعلت فإني الآن أتوبُ وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم .
فقال صعصعة : إذا كنت تبت فإنّا نأمرك أن تعتزل أمرك ، فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثراً في الإِسلام من أبيك ، وهو أحسن قدَماً في الإِسلام منك .
فقال معاوية : إن لي في الإِسلام لقدَماً وإن كان غيري لأحسنُ قدماً مني لكنه ليس في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمرُ بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادةٌ لي ولغيري ، ولاحدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي ، ولو رأىٰ ذلك أمير المؤمنين لكتب إليَّ فاعتزلت عمله ، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير ، فمهلاً فإن فيّ دون ما أنتم فيه ، ما يأمر في الشيطان وينهى ، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم وأهوائكم ما استقامت الأمور لأهل الإِسلام يوماً وليلة ، فعودوا إلى الخير وقولوه .
فقالوا : لست لذلك أهلاً .
فقال : أما والله ، إن للهِ لسطوات ونقمات وإني لخائفٌ عليكم أن تتبايعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمان فيحلّكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل .
فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته ، فقال : مَهْ ، إن هٰذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكتُ أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليُشبه بعضه بعضاً . ثم قام من عندهم فقال : والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ، وكتب إلى عثمان :
« أما بعد ، يا أمير المؤمنين فإنك بعثت
إلي أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم ، ويأتون الناس ـ زعموا ـ من قِبل القرآن فيشبّهون
على الناس ، وليس كل الناس يعلم ما يريدون وإنما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الإِسلام وأضجرهم ، وتمكنت رُقىٰ الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولستُ آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم . والسلام .
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردَّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنةً منهم حين رجعوا . وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم . فكتب عثمان إلى سعيد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان أميراً على حمص .
وهؤلاء النفر هم : مالك الأشتر (١) وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وحبيب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .
وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه : أما بعد ، فإني قد سيّرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإِسلام وأهله شراً . والسلام .
فلما قرأ الأشتر الكتاب قال : اللهم أسوأنا نظراً للرعيّة ، وأعملنا فيهم بالمعصية ، فعجّل له النقمة .
فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمان بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقاً .
وروى الواقدي : أن عبد الرحمان بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أياماً وفرض لهم طعاماً ثم قال لهم : يا بني الشيطان ! لا مرحباً بكم ولا أهلاً ، قد
__________________
(١) راجع ترجمته .
رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعدُ في بساط ضلالكم وغيكم ، جزى الله عبد الرحمان إن لم يؤذكم ، يا معشر من لا أدري أعربٌ هم أم عجم ، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية ؟ أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقىء عين الردة ، والله يا بن صوحان : لأطيّرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحداً ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك .
قال : فأقاموا عنده شهراً كلما ركب أمشاهم معه ، ويقول لصعصعة : يا بن الخطيّة : إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ، مالك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقِلْنا أقالك الله ، فما زال ذاك دأبُهُ ودأبهم حتى قال : تاب الله عليكم . فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم ، فردّهم إلى الكوفة (١) .
هذه صورة مختصرة عن سياسة عثمان التأديبية التي انتهجها أزاء كبار الصحابة وبعض زعماء المسلمين .
__________________
(١) الغدير ٩ / ٣٢ ـ ٣٧ .