الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه ! عثمان عمل ما قد بلغك ، فصنع الناس به ما قد رأيت ، وأنك لتعلم أني قد كنت في عزلةٍ عنه ، إلا أن تتجنّىٰ ، فتجنّىٰ ما بدا لك !
وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فاني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه ، فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفوك أن تطلبهم في برٍ ولا بحر ، ولا سهل ولا جبل .
وقد أتاني أبوك حين ولّى الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بمقام محمد ، وأولى الناس بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل . فأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإِسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فان تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تُصبْ رشدك وان لم تفعل ، فسيغني الله عنك ؛ والسلام (١) .
الإِمام علي يستشير المهاجرين والأنصار في القتال
وعزم علي ( ع ) على مواجهة معاوية عسكرياً ولكنه قبل أن يتجهز لذلك دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد ، فانكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فاشيروا علينا برأيكم » .
فقام المهاجرون والأنصار كلٌّ يدلي برأيه ، ونقتصر هنا على ذكر آراء بعضهم إختصاراً للمسافة ، فإن ذلك يعطينا فكرةً كافية عما كان يتمتع به أصحاب علي ( ع ) من قوة العقيدة ورباطة الجأش والجرأة والشجاعة .
__________________
(١) شرح النهج ١٥ / من ٧٣ إلى ٧٨ .
خطبة هاشم بن عتبة
فقام هاشم بن عبتة بن أبي وقاص الملقب « بالمرقال » فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين ، فأنا بالقوم جدُّ خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً ؛ مشاحةً على الدنيا ، وظنّاً بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربةً غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ، ليس بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون ، فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبوا إلا الشقاق ، فذلك الظن بهم ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، ولا يسمع إذا أمر » (١) .
رأي عمار بن ياسر
وقام عمار فذكر الله بما هو أهله وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن إستطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل ! إشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى حظهم ورشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ؛ وإن أبوا إلا حربنا ، فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه .
رأي قيس بن سعد بن عبادة
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إنكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج (٢) فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم (٣) في دين الله ، وإستذلالهم أولياءَ الله من أصحاب محمد ( ص ) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ،
__________________
(١) صفين : ٩٢ .
(٢) في الأصل لا تعرّد ، والتعريد معناه الإحجام والإنهزام .
(٣) الإِدهان : الغش والمصانعة .
ونحن لهم فيما يزعمون قطين (١) .
الإِمام يدعو إلى المسير
فقام علي خطيباً على منبره وجعل يحرض الناس ويأمرهم بالمسير إلى صفين ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : « سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار .
هذا ، وقد تقاعس نفر عن الإِستجابة ، منهم حنظلة بن الربيع ، وقد هرب فيما بعد إلى معاوية ، ولحقه أناس من قومه ، فأمر علي ( ع ) بداره فهدمت (٢) .
بين علي ( ع ) وأبي زبيب
ودخل أبو زبيب بن عوف على علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدنا سبيلاً ، وأعظمنا في الخير نصيباً ، ولئن كنا في ضلالةٍ إنك لأثقلنا ظهراً وأعظمنا وزراً ، أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العدواة نريد بذلك ما يعلم الله من طاعتك ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها ، أليس الذي نحن عليه الحق المبين والحوب الكبير ؟ » .
فقال علي : « بلى ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصراً لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العدواة كما زعمت ، فانك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زبيب » .
« عمّار يحرض »
فقال له عمار بن ياسر : أثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله .
__________________
(١) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك .
(٢) راجع كتاب صفين / ٩٥ ـ ٩٧ .
فقال : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدوا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما .
وخرج عمار بن ياسر وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي |
|
سيروا فخيرُ الناس أتباعُ علي |
هذا أوان طاب سلّ المشرفي |
|
وقَوْدُنا الخيلَ وهزُّ السمهري |
يزيد بن قيس وزياد بن النضر
ودخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهازٍ وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ، ومن ليس بمضعَّف وليس به علة ، فمرْ مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ولا من إذا أمكنته الفرصُ أجّلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غدٍ وبعد غد !
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشداً معاناً ، فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبةً عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي ( ص ) والقدم في الإِسلام والقرابة من محمد ( ص ) . وإلا يُنيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا ، نجد حربهم علينا هيّناً ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس .
رأي عبد الله بن بديل
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال :
« يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة (١) وحباً للأثرة ، وظناً بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحنٍ في أنفسهم ، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمةٍ ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم .
__________________
(١) الأسوة : المساواة في الحقوق .
ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المرّان (١) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمّة بين الفريقين .
ثم إن أمير المؤمنين ( ع ) كتب إلى ولاته وعمّاله في الآفاق كتباً يوصيهم فيها بتقوى الله والعطف على الرعية ويأمرهم بالتوسعة في العطاء على من عندهم وإرسال ما يتبقى لصرفه في شؤون الجيش .
الإِنذار الأخير
وكتب إلى معاوية كتاباً يعظه فيه أولاً ويخوفه من الدنيا ، ثم يبكّته ويضعه في خانة العدو المغتصب للحق ، والمتسلط والباغي الذي ركبه الشيطان حتى جرى منه مجرى الدم في العروق ، وينصحه بالعودة إلى جادة الصواب ، ولعله آخر كتبه ( ع ) لمعاوية قبل الخروج للحرب ، وكأنه يعطيه الإِنذار الأخير ويقيم عليه الحجة ، وجاء فيه :
« إنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى ، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً ، وأعلم يا معاوية أنك قد أدعيت أمراً لست من أهله لا في القَدَم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمرٍ بيّن تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا إنقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنياً أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذتها ، وخلي فيها بينك وبين عدوٍّ جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها .
فاقعس (٢) عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يُجنُّك من مِجَنّ .
__________________
(١) الرماح .
(٢) أي تأخر وارجع .
ومتى كنتم يا معاوية ساسةً للرعية ، أو وُلاةً لأمر هذه الأمة بغير قدَمٍ حسن ، ولا شرفٍ سابقٍ على قومكم ، فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تُمكّن الشيطان من بُغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مُترفٌ قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، وإعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وأمتنّوا به علينا ، ولكنه قضاءٌ ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدّق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبيّنة .
اللهم أحكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين » .
وكتب ( ع ) إلى عمرو بن العاص كتاباً يعظه فيه ويحذره أمر الدنيا ، ويقول فيه أخيراً « والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس ، وسفه الحق ، والسلام » .
وأرسل إلى قادة العرب وزعماءهم في الأمصار يستنهضهم للقتال ، فأجابه منهم خلق كثير ، وقد اقتصرنا على هذا القدر تحاشياً عن الإِطالة .
كتاب محمد بن أبي بكر ( رض ) إلى معاوية
ولمحمد بن أبي بكر رضي الله عنه قدم سبق في الإِسلام ولدى أمير المؤمنين علي مكانة خاصة ، وتشهد له على ذلك مواقفه في حرب الجمل كما قدمنا ، ومواقفه قبل وبعد صفين ، وقد كتب إلى معاوية كتاباً بمثابة إقرار واعتراف من الصادق الصدوق بفضل الإِمام علي ( ع ) على بقية أصحاب الرسول ( ص ) ، كما أن فيه تبكيت وتأنيب لمعاوية على موقفه من الإِمام علي وبغيه وطلبه ما ليس له ، ونحن نذكره كما جاء في رواية نصر :
بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن
أبي بكر إلى الغاوي بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله من هو مسلمٌ لأهل ولاية الله ، أما بعد :
فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنَت ، ولا ضعف في قوته ، ولا حاجةٍ به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقياً وسعيداً ، وغوياً ورشيداً .
ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمداً ( ص ) ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وإتمنه على أمره ، وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق وأسلم وسلّم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( ع ) فصدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ، فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سَلْمَه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل (١) ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله .
وقد رأيتك تساميه وأنت أنت . وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابنَ عم ، وأنت اللعين بن اللعين . ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله ( ص ) والشاهد لعليٍّ مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذُكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في إتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ( ص ) ووصيُّه وأبو ولده ، وأول الناس له إتباعاً ، وأخرهم به عهداً ، يخبره بسرّه ويُشركه في أمره ؛ وأنت عدوُّه وابن عدوه ؟! فتمتع ما
__________________
(١) الإزْل : الضيق والشدة .
استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد إنقضى ، وكيدك قد وهىٰ . وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا .
واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غَرُور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغَنَاء ، والسلام على من اتبع الهدى (١) .
وقد أجابه معاوية على كتابه هذا ولا داعي لذكره .
الإِمام علي ( ع ) يأمر بالخروج
وأمر عليٌّ الحارث الأعور ينادي في الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة ، فنادى : أيها الناس ، أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة .
وبعث عليٌّ إلى مالك بن حبيب اليربوعي ـ صاحب شرطته ـ فأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر .
ودعا عقبةَ بن عمروٍ الأنصاري فاستخلفه على الكوفة ، وكان أصغر أصحاب بيعة العقبة السبعين ، وأوصاه بوصاياه .
ثم خرج عليٌّ وخرج الناس معه .
إلى الحرب يسيرون
وخرج أمامه الحر بن سهم بن طريف الربعي وهو يقول :
يا فرسي سيري وأمي الشاما |
|
وقطعي الحزون والأعلاما |
ونابذي من خالف الإِماما |
|
إني لأرجو أن لقينا العاما |
جمع بني أمية الطغاما ـ |
|
أن نقتل العاصيَ والهُماما |
|
وأن نزيل من رجال هاما |
|
وسار عليٌّ ( ع ) حتى أتى مكاناً يقال له دير أبي موسى ، فصلى بالناس
__________________
(١) كتاب صفين ص ١١٨ .
صلاة العصر ، فلما انصرف من الصلاة ، رفع يديه بالدعاء وقال : « سبحانَ ذي الطَوْلِ والنِعَمْ ، سبحان ذي القدرة والإِفضال ، أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والإِنابة إلى أمره ؛ فإنه سميع الدعاء » .
ثم سار حتى نزل على شاطىء نرس ، وهو نهر حفره نرس بن بهرام بنواحي الكوفة ، فصلى هناك صلاة المغرب ، فلما انصرف قال : الحمد لله الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق » .
ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى بلغ قُبّة قُبِّين ـ مكان ـ وفيها نخل طوال إلى جانب البِيعة من وراء النهر ، فلما رآها قال : « والنخلَ باسقاتٍ لها طلْعٌ نضيد » . ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها فمكث بها قدر الغداة .
ثم تابع سيره فوصل إلى أرض بابل ، فجعل ( ع ) يخفُّ في سيره ويقول : إن ببابل أرضاً قد خسف بها فلعلنا نصلي العصر خارجاً منها ، فحرّك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره ، حتى أتوا على مكان وقد كادت الشمس أن تغيب ، فنزل علي ( ع ) فدعا الله ، فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، فصلى بالناس العصر ثم غابت الشمس (١) .
قول علي في كربلاء
عن هرثمة بن سليم قال : غزونا مع علي بن طالب غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاةً ، فلما سلّم رُفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ليُحشَرُّنَّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب .
وعن سعيد بن وهب قال : بعثني مخنف بن سُليْم إلى علي ، فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا ههنا ! فقال رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثقل لآل محمدٍ ينزل ها هنا ، فويلٌ لهم منكم ، وويلٌ لكم
__________________
(١) صفين ص ١٣٦ .
منهم . فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويلٌ لهم منكم : تقتلونهم ، وويلٌ لكم منهم : يُدخلكم الله بقتلهم إلى النار .
وعن الحسن بن كثير عن أبيه : أن علياً أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل يا أمير المؤمنين هذه كربلاء . قال : ذات كربٍ وبلاء . ثم أومأ بيده إلى مكان فقال : ها هنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : ها هنا مهراق دمائهم (١) .
قوله حين مر بآثار كسرى
ثم مضى ( ع ) إلى مدينة بُهرُسِير ، وإذا برجل من أصحابه يقال له حرّ بن سهم ، ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي :
جرتِ الرياحُ على مكانِ ديارِهمْ |
|
فكأنما كانوا على ميعادِ |
فقال علي ( ع ) : « كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ » (٢) . إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسُلِبوا دنياهم بالمعصية . إياكم وكُفرُ النِعَمْ لا تحلَّ بكم النقَمْ ، ثم قال : أنزلوا بهذه النجوة (٣) .
وصوله إلى المدائن ثم الأنبار
لما وصل ( ع ) المدائن ، أمر الحارث الأعور فصاح في أهلها : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر ، فوافوه في تلك الساعة ، ولحق به فيما بعد ألف ومائتا مقاتل .
__________________
(١) صفين ١٤٠ ـ ١٤٢ .
(٢) سورة .
(٣) النجوة : المكان المرتفع .
وجاء علي حتى مر بالأنبار ، فاستقبله دهاقنتها بنو خُشْنُوشَكْ (١) ثم جاؤوا يشتدون معه ، قال : ما هذه الدواب التي معكم ؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟
قالوا : أما هذا الذي صنعنا هو خُلُقٌ منا نعظّم به الأمراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً ، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً ، قال ( ع ) : أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء ، فوالله ما ينفع هذا الأمراء ، وأنكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له . وأما دوابكم هذه ، فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم ، أخذناها منكم ، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا ، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئاً إلا بثمن .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقوّمه ثم نقبل ثمنه ؛ قال : إذن لا تقوِّمُونَهُ قيمته ، نحن نكتفي بما دونه .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، فإن لنا من العرب موالي ومعارف ، فتمنُعنا أن نهدي لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا ؟ قال : كل العرب لكم موالٍ ، وليس ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يقبل هديتكم ، وإن غصبكم أحد فأعلمونا .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا . قال لهم : ويحكم ، نحن أغنى منكم ! فتركهم وسار .
قصة الصخرة ، وصاحب الدير ، وإسلام الراهب
وعطش الناس وهم في طريقهم إلى صفين ، فانطلق علي ( ع ) مع بعض أصحابه حتى أتى على صخرة ضرس (٢) من الأرض كأنها ربضة عنز (٣) فأمرهم ، فاقتلعوها ، فخرج لهم ماء ، فشربوا وارتووا وشرب الناس منه ، ثم
__________________
(١) خشن يعني طيّب ونوشك معناها راضٍ . يعني بين الطيب الراضي ـ بالفارسية .
(٢) الضِرس بالكسر : الأرض الخشنة .
(٣) ربضة عنز : حجم جثتها إذا بركت .
أمرهم علي أن يرجعوا الصخرة مكانها . ثم سار قليلاً ثم التفت إلى بعض أصحابه وقال : هل منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فانطلقوا إليه . فانطلق منهم رجال مشاةً وركباناً حتى وصلوا إلى المكان الذي يعتقدون أنها فيه ، فطلبوها فلم يجدوها . فانطلقوا إلى ديرٍ قريب بعد أن يئسوا منها ، وسألوهم : أين الماء الذي هو عندكم ؟ قالوا : ما قربنا ماء ! فقال صاحب الدير : ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء ، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي ! (١) .
ثم سار ( ع ) حتى وصل الرقة فنزل فيها بمكان يقال له بليخ ، على جانب الفرات ، وكان هنالك صومعة فيها راهب ، فلما رأى أمير المؤمنين نزل من صومعته ، وسلم عليه وقال له : إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا ، كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك .
قال علي ( ع ) : نعم ، فما هو ؟ قال الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضىٰ فيما قضىٰ ، وسطّر فيما سطّر ، أنه باعث في الأميِّين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظٌّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادُّون الذين يحمدون الله على كل نشز ، وفي كل صعود وهبوط ، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح ، وينصره الله على كل من ناواه ، فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطىء هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخافُ اللهَ في السرّ ، وينصح له في العلانية ، ولا يخاف في الله لومةَ لائم ، من أدرك ذلك النبي ( ص ) من أهل هذه البلاد فآمن به ، كان
__________________
(١) صفين ١٤٥ وفي كشف الغمة ١ ص ٢٧٩ وردت القصة بصورة أخرى وأنه ( ع ) قلع الصخرة بيده .
ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ؛ فإن القتل معه شهادة .
ثم قال له : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك .
فبكى ( ع ) ثم قال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيّاً ، الحمد لله الذي ذكرني في كُتُبِ الأبرار . ومضىٰ الراهب معه ، وكان ـ فيما ذكروا ـ يتغدى مع علي ويتعشى معه حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم ، قال علي : إطلبوه . فلما وجدوه ، صلى عليه ودفنه ، وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مراراً (١) .
وعبر علي ( ع ) شاطىء الفرات بعد أن أقاموا له جسراً إلى صفين . ودعا زياد بن النضر وشريح بن هاني ، فسرحهما أمامه نحو معاوية في اثني عشر ألفاً . . . فلما انتهوا إلى معاوية ، لقيهم أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام ، فدعوهم إلى طاعة علي فأبوا ، فأرسلوا إلى علي يخبرونه ، فبعث إليهم مالك الأشتر وجعله أميرا عليهم ، وحذره من أن يبدأهم بقتال .
فخرج الأشتر حتى قدم على القوم ، فاتبع ما أمره به علي ( ع ) وكفَّ عن القتال حتى إذا جاء المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي ، فثبتوا له واضطربوا ساعة .
ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال ، وخرج إليهم أبو الأعور ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، فصبر القوم بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا .
غلبة أصحاب معاوية على الماء
وكان أصحاب معاوية قد غلبوا على الماء ، وكان في نيّتهم أن يمنعوه عن علي وأصحابه حتى يموتوا عطشاً ـ على زعمهم ـ وقد أشار ابن العاص على معاوية أن لا يفعل ذلك ، لأن ابن أبي طالب لن يظمأ وفي يده أعنة الخيل حتى يشرب أو يموت ـ في حديث طويل ـ فأبى معاوية ذلك .
__________________
(١) صفين ١٤٨ .
غلبة علي على الماء
وفي صبيحة اليوم التالي نهض الأشعث بن قيس في اثني عشر ألف ، وتبعه الأشتر بخيله ورجاله ثم كبّر الأشعث وكبّر الأشتر ، ثم حملا ، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام ، وكان قد قتل من أصحاب معاوية أبطال لا يستهان بهم ، وغلب أصحاب علي على الماء .
وقال عمرو بن العاص لمعاوية : ما ظنّك بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتُرَاكَ تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ، وما أغنى أن تكشف لهم السْوءَة ؟
فقال : دع عنك ما مضى منه . ما ظنك بعلي ؟ قال : ظني به أنه لا يستَحلُّ منك ما استحلَلْتَ منه ، وأن الذي جاء له غير الماء . فقال له معاوية قولاً أغضبه . فردّ عليه ابن العاص شعراً ، جاء فيه :
أمرتك أمراً فسخفته |
|
وخالفني ابن أبي سَرَحَه |
فكيف رأيت كباش العراق |
|
ألم ينطحوا جمعنا نطَحَة |
فإن ينطحونا غداً مثلها |
|
نكن كالزبيري أو طلحَة |
وقد شرب القوم ماء الفرات |
|
وقلّدك الأشتر الفضحة (١) |
وحين غلب علي أهل الشام وطردهم عن الماء بعث إلى معاوية : « إنا لا نكافيك بصنعك ، هلّم إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء » . فأخذ كل واحد من الفريقين بالشريعة التي تليه . وقال علي ( ع ) يومذاك لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء (٢) .
عدد الجيشين
واختلف في عدد الجيشين ، والمتفق عليه ـ كما يقول المسعودي ـ أن عدة جيش علي ( ع ) تسعون ألفاً ، وأن عدة جيش معاوية خمسة وثمانون
__________________
(١) الأبيات وما قبلها في صفين ـ ١٨٦ .
(٢) صفين ـ ١٩٣ .
ألفاً ، بينما يذهب البعض إلى أن كلاً من الجيشين قارب المائة والخمسين ألفاً .
هذا وقد بقيت الحرب فاترةً بين الطرفين مدة ثلاثة أشهر تقريباً ، أي من أواخر شهر شوال حتى انقضاء المحرم سنة ٣٧ للهجرة .
وكان علي ( ع ) في تلك الفترة قد أمهل معاوية ، وأقام الحجة عليه ودعاه إلى الكف عن بغيه ، كما أن القُرّاءَ من الطرفين كانوا يحجزون بينهما ويحولون دون وقوع الحرب ويدعون إلى وحدة الكلمة دون جدوى ، ويظهر أن تلك المحاجزة استفاد منها معاوية في تقوية موقفه .
ولما كان آخر يوم من المحرّم قبل غروب الشمس ، بعث علي إلى أهل الشام : إني قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم إليه ، وإني قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين .
فلم يردُّوا عليه جواباً إلا قولهم : « السيف بيننا وبينك ، أو يهلك الأعجز منا » (١) .
خطبة علي ( ع )
وخطب علي ( ع ) في ذلك اليوم خطبةً جاء فيها : نحن أهلُ بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا القصد ، ومِنّا خاتَمُ النبيين ، وفينا قادة الإِسلام ، وفينا حَمَلةُ الكتاب آلا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه ، والشدّة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت . . إلى أن قال : ألا وأن أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ( ص ) قط ، ولم أعصِه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكِصُ فيها الأبطال وترعُدُ فيها الفرائص ، بنجدةٍ أكرمني الله بها وله الحمد ، ولقد قُبِض رسول الله ( ص )
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٣٧٧ .
وإن رأسه لفي حجري ، ولقد وَليْتُ غسله بيدي وحدي ، تُقَلّبُه الملائكة المقربون معي ، وأيمُ الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله .
فنادى عمار بن ياسر بالناس : أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقمْ عليه أوّلاً . وأنها لن تستقيمَ عليه آخرا ! .
فتفرّقَ الناسُ وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم ، فتأهبوا واستعدوا ، ووثبوا إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يُصلحونها .
وخرج ( ع ) يُعبّىءُ الناس ليلته تلك كلها حتى أصبحْ ، وعقد الألوية وأمرّ الأمراء وكتّبَ الكتائب ، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم : اغدوا إلى مَصَافّكم ! فضجّ أهلُ الشام واستعدوا .
خطبة عبد الله بن بُدَيلْ
وقام عبد الله خطيباً في أصحاب علي فقال : ألا إن معاوية إدّعىٰ ما ليس له ، ونازعَ الأمر أهلَهُ ومن ليس مثله ، وجادَلَ بالباطل لِيدحضَ به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّنَ لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حُبَّ الفتنة ، ولبَسَ عليهم الأمور ، وزادهم رجساً إلى رجسهم .
وأنتم والله على نور وبرهان مبين ، قَاتِلوا الطُغاة الجُفَاة ، قاتِلُوهم ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين . . إلى أن قال : لقد قاتَلْتُهُم مع النبي ( ص ) والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرَّ ، إنهضوا إلى عدو الله وعدوكم .
خطبة سعيد بن قيس
قام في الناس فقال : إن أصحاب محمد
المصطَفِينْ الأَخيار معنا وفي حيّزنا . . إلى أن قال : وإنما رئيسنا ابن عم نبينا ، بَدريٌّ صُدُقٌ ، صلىٰ
صغيراً وجاهد مع نبيكم كبيراً ، ومعاويةُ طليق من وثاق الإِسار بن طليق ، ألا
وإنه أغرى جفاةً فأوردهم النار ، وأوردهم العار ، والله محلٌّ بهم الذل والصَغَارْ .
خطبةُ ابن التيّهان
وأقبل أبو الهيثم بن التيهان ، وكان من أصحاب رسول الله ( ص ) بدرياً ، نقيباً ، عَقْبيّاً ، يُسوّي صفوف أهل العراق ويقول : يا معشر أهل العراق ، انه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار ، فأرسُوا أقدامكم وسوّوا صفوفكم ، وأعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلٰهِكم ، وجاهدوا عدو الله وعدوّكم ، واقتلوهم قَتَلهُمْ الله وأبادهم ، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمتقين .
مالك الأشتر يشيد بالإِمام علي ( ع )
وقام مالك الأشتر رضي الله عنه يخطب الناس وهو يومئذٍ على فرس أدهم مثل حلك الغراب ، فقال : الحمد لله الذي خلق السمواتِ العلىٰ ، والرحمان على العرش استوى . . إلى أن قال : معنا ابن عم نبينا ، وسيفٌ من سيوف الله عليُّ بن أبي طالب ، صلى مع رسول الله ، لم يسبقه إلى الصلاة ذَكَرٌ حتى كان شيخاً ، لم تكن له صَبْوَة ، ولا نَبْوَة ، ولا هَفْوَة ولا سَقْطَة ، فقيهٌ في دين الله تعالى ، عالم بحدوده ، ذو رأيٍ أصيل وصبرٍ جميل ، وعَفَافٍ قديم ، فاتقوا الله وعليكم بالعزم والجد ، واعلموا أنكم على الحق ، وأن القوم على الباطل ، وإنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد ( ص ) أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله . ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله ( ص ) فما يَشُكُّ في قتال هؤلاء إلا من كان ميّت القلب ، أنتم على إحدى الحُسْنَيينْ إما الفتحُ وإما الشهادة ، عصمنا الله وإياكم بما عصم .
« مساومة عمرو لمعاوية »
وطلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يُسوّي
صفوف أهل الشام . فقال
له عمرو : على إن لي حكمي إن قتلَ اللهُ ابنَ أبي طالب ؛ واستوثقتْ لك البلاد .
فقال : أليس حكمك في مصر ؟ فقال : وهل مصرُ تكون لي عِوضاً عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذابِ النار ؟! « الذي لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ » . فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله إن قُتِل ابنُ أبي طالب . رويداً لا يسمعُ أهلُ الشام كلامَك .
فقام عمرو فقال : معاشر أهل الشام ، سووا صفوفكم قَصّ الشارِب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، فلم يبق إلا ظالم ، أو مظلوم . . !
يقاتلون طمعاً في الحكم
وقام يزيد بن قيس الأرحبي خطيباً يحرّض أهل العراق ، فقال : إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم ـ والله ـ ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتْنَاه ، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرةً وملوكاً ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً ـ إذن لولِيَكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السّفيه ، يُحدّث أحدهم في مجلسه بذَيْت وذَيْت ويأخذ مال الله ويقول : لا إثم عليَّ فيه ! فكأنما أعطي تراثه من أبيه ، كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتِلوا عباد الله ـ القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومةُ لائم ، إنهم إن يَظْهروا عليكم يُفسدوا عليكم دِينكم ودُنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتُمْ ، والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرّاً ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
عمرو بن العاص يرتجز
وارتجز عمرو بن العاص موجّهاً كلامه لعلي ( ع ) :
لا تأمَننّا بعدها أبا حَسن |
|
إنا نُمِرُّ الأمر إمرارَ الرَسَنْ |
|
خذها إليك واعْلمن أبا حسن |
|
فأجابه شاعر من أهل العراق :
ألا احذروا في حربكم أبا حسَن |
|
ليثاً أبا شبلين محذوراً فَطِنْ |
يدقكم دق المهاريس الطحن |
|
لتُغْبَنَن يا جاهلاً أي غَبَنْ |
|
حتى تعضَّ الكف أو تقرعَ سِنْ |
|
ـ بداية الحرب ـ
من عادة علي ( ع ) عند الحرب أن يدعوَ ببغلةٍ يركبها ، فلما أوشكت الحرب أن تقع في صفين قال : إإتوني بفرس ، فأتي بفرس له ذَنُوبْ ، أدهم يُقَادُ بشِنْطَيَنْ ، يبحث الأرض بيديه جميعاً ، له حَمْحَمَةٌ وصهيل فركبه وقال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان ( ع ) إذا سار إلى قتال ذكر إسم الله ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول : « اللهم إليك نُقِلَتِ الأقدام ، وأتعبت الأبدانُ ، وأفْضِتِ القلوبُ ، ورُفِعَتِ الأيدي وشخَصَتِ الأبصار ، ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين » . ثم يقول : سيروا على بركة الله . ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، يا الله يا أحد يا صمد ، يا ربَّ محمد ، أكفُفْ عنّا بأس الظالمين .
ويُروى عنه ( ع ) : ما كان في قتال إلا ونادى : « يا كهيعص » . وكان شعاره في الحرب ، الله أكبر ، ثم يحملُ فيُورِدُ ـ والله ـ من إتّبعه ومن حادّهُ حياض الموت (١) .
« دعاؤه يوم صفين »
أما في صفين ، فكان له دعاء آخر يرويه زيد بن وهب ، قال : لما
__________________
(١) شرح النهج ٥ / ١٧٥ ـ ١٧٧ .
خرج علي ( ع ) إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه ، رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم ربَّ هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار ، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ، ومنازل الكواكب والنجوم ، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة ، ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام وما لا يُحصىٰ مما يُرىٰ ولا يُرىٰ من خلقك العظيم ورب الفُلْكِ التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس ، ورب السحاب المسخّر بين السماء والأرض ، ورب البحر المسْجُور المحيط بالعالمين ، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً ، وللخلق متاعاً ، إن أظهرتنا على عدونا فجنّبْنا البغي وسدّدْنا للحق ، وأن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقية أصحابي من الفتنة .
وصف علي ( ع )
وكان ( ع ) رجلاً ربعةً ، أدعجَ العينين ، كأن وجهه القمرُ ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة شثن الكفين ضخِم الكُسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، من خلفه شعر صفيف ، لمنكبه مشاشٌ كمشاش الأسد الضاري ، إذا مشى تكفأ ومار به جسده ، ولظهره سنام كسنام الثور ، لا يبين عضده من ساعده ، قد أدْمِجَتْ إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجلٍ قط إلا أمسك بنَفَسه فلم يستطع أن يتنفس ، ولونه إلى سمرة ما ، وهو أذلف الأنف ، إذا مشىٰ إلى الحرب هرول ، قد أيده الله في حروبه بالنصر والظفر .
على يزحف بجيشه
وكان على ميمنته يومئذٍ عبد الله بن بُدَيل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقُرّاء العراق مع ثلاثة نفر هم ، عمّار بن ياسر ، وقيسُ بن سعد بن عبادة ، وعبد الله بن بُديل ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي ( ع ) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة عدد حسن .