الترتيب والتلاوة ، إلّا أنّها متأخّرة في النزول ، ويأتي بعض الكلام فيه عند تفسيرها إن شاء الله.
ورابعها : قوله تعالى : ﴿إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾
في ( الاحتجاج ) عن الكاظم ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهمالسلام في حديث يذكر مناقب النبي صلىاللهعليهوآله قال : ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى﴾(١) فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة ، قوله تعالى : ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(٢) . وقد كانت الآية عرضت على الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله تبارك اسمه محمّدا صلىاللهعليهوآله ، وعرضت على الامم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرضها على امّته فقبلوها ، فلمّا رأى الله عزوجل منهم القبول علم أنّهم لا يطيقونها ، فلمّا صار (٣) إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾(٤) .
إلى أن قال الكاظم عليهالسلام : « ثمّ قال الله عزوجل : أمّا إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها ، وقد عرضتها على الامم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمّتك ، فحقّ عليّ أن أرفعها عن أمّتك ، وقال : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾(٥) الخبر.
وروى الفخر الرازي في تفسيره ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : لمّا نزلت [ هذه ] الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وناس إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقالوا : يا رسول الله ، كلّفنا من العمل ما لا نطيق ، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه ، وأنّ له الدنيا.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : « فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : ﴿سَمِعْنا وَعَصَيْنا !﴾(٦) قولوا : سمعنا وأطعنا » . واشتدّ ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا ، فأنزل الله : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾ فنسخت هذه الآية ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : « إنّ الله تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا ويتكلّموا به » (٧) . أقول : قد دلّت هذه الرّواية أنّ الرّهط الذين شكوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله شدّة الآية لم يكونوا داخلين فيمن قبلها ، ولذلك قال لهم النبيّ صلىاللهعليهوآله : « فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ! قولوا : سمعنا
__________________
(١) النجم : ٥٣ / ٩ و١٠.
(٢) البقرة : ٢ / ٢٨٤.
(٣) في المصدر : فلما أن سار.
(٤) البقرة : ٢ / ٢٨٥.
(٥) الاحتجاج : ٢٢٠ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.
(٦) البقرة : ٢ / ٩٣.
(٧) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥.
وأطعنا » . وليس في الرّواية أنّهم قالوا : سمعنا وأطعنا بعد [ أن ] أمرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بهذا القول.
ومنها : في سورة آل عمران ، قوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾(١) .
عن العيّاشي : عن الصادق عليهالسلام أنّه سئل عنها ، فقال : « منسوخة » . قيل : وما نسخها ؟ قال : « قول الله : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(٢) .
ومن طرق العامّة : عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال : لمّا نزلت [ هذه ] الآية ، شقّ ذلك على المسلمين ، لأنّ حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فأنزل الله تعالى بعد هذه : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ونسخت هذه الآية أوّلها ، ولم ينسخ آخرها (٣) .
أقول : المراد من قوله : « والعباد لا طاقة لهم بذلك » هي الطاقة والقدرة العرفيّة ، وهي عدم العسر والحرج في العمل مع بقاء القدرة العقليّة ، فيكون حاصل كلامه أنّ الله أمر عباده بالتّقوى التي فيها العسر والحرج ، ثم خفّف عنهم بأن أمرهم بالتقوى التي استطاعوها بالاستطاعة العرفيّة ، وهي ما لا حرج فيه ، فلم يكن في المنسوخ التكليف بغير المقدور حتّى يستدلّ به على جوازه ، كما ذهب إليه المشهور من أهل السّنّة.
ومنها : في سورة النساء ، قوله تعالى : ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾(٤) .
عن الصادق عليهالسلام أنّه سئل عن هذه الآية ، قال : « هي منسوخة » . قيل : كيف كانت ؟ قال : « كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود ، ادخلت بيتا ولم تحدّث ولم تكلّم ولم تجالس ، واوتيت بطعامها وشرابها حتّى تموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا » ، قال : « جعل السبيل الجلد والرّجم » (٥) .
وعن العيّاشيّ : عنه عليهالسلام : « هي منسوخة ، والسبيل [ هو ] الحدود » (٦) .
وعن القمّي رحمهالله فيها وفي الآية التي بعدها : ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾(٧) .
__________________
(١) آل عمران : ٣ / ١٠٢.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٣٣ / ٧٦٠ ، والآية من سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.
(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٦١.
(٤) النساء : ٤ / ١٥.
(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٧٧ / ٩٠٣.
(٦) تفسير العياشي ١ : ٣٧٧ / ٩٠٢.
(٧) النساء : ٤ / ١٦.
قال : كان في الجاهليّة إذا زنى الرجل يؤذى ، والمرأة تحبس [ في بيت ] إلى أن تموت ، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى : ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾(١) الآية.
أقول : لا يبعد أن يكون إطلاق النسخ بالنسبة إلى الآية الاولى على خلاف المصطلح ، لأنّ الحكم فيها معنيّ بجعل السبيل ، فلا يكون جعل السبيل ، وهو الحدود ، ناسخا.
ومنها : قوله تعالى : ﴿وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾(٢) .
عن العيّاشي ، عن الباقر والصادق عليهماالسلام : « نسختها آية الفرائض » (٣) .
وعن القمّي رحمهالله : هي منسوخة بقوله : ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ ..﴾(٤) .
وفي رواية عن الباقر عليهالسلام أنّه سئل : أمنسوخة هي ؟ قال : « لا ، إذا حضروا (٥) فأعطهم » (٦) .
أقول : نسخها بلحاظ حكم الوجوب ، وعدم نسخها باعتبار الاستحباب.
ومنها : في سورة الأنفال ، قوله تعالى : ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً﴾(٧) . فإنّه نسخ بقوله تعالى : ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾(٨) .
عن ( الكافي ) : عن الصادق عليهالسلام في حديث ذكر فيه الآية ، فقال : « نسخ الرجلان العشرة » (٩) . وعن القمّي ما يقرب منه (١٠) .
ومنها : في سورة الأحزاب ، قوله تعالى : ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ﴾(١١) فإنّه حكى بعض أصحابنا قولا بأنّها منسوخة بقوله تعالى : ﴿تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ﴾(١٢) ولم أظفر على رواية دالّة عليه.
ومنها : في سورة الممتحنة ، قوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
__________________
(١) تفسير القمي ١ : ١٣٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٩٨ ، والآية من سورة النور : ٢٤ / ٢.
(٢) النساء : ٤ / ٨.
(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٧١ / ٨٧٦ و٨٧٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٩٣.
(٤) تفسير القمّي ١ : ١٣٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٩٣ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١١.
(٥) في العياشي : حضرك ، وفي الصافي : حضروك.
(٦) تفسير العياشي ١ : ٣٧١ / ٨٧٧ ، تفسير الصافي ١ : ٣٩٣.
(٧) الأنفال : ٨ / ٦٥. (٨) الأنفال : ٨ / ٦٦.
(٩) الكافي ٥ : ٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٣.
(١٠) تفسير القمي ١ : ٢٨٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٤.
(١١) الأحزاب : ٣٣ / ٥٢.
(١٢) تفسير الصافي ٤ : ١٩٨ ، والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥١.
نَجْواكُمْ صَدَقَةً﴾(١) .
عن الباقر عليهالسلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « قدّم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام بين يدي نجواه صدقة ، ثمّ نسخها قوله : ﴿أَ أَشْفَقْتُمْ ...﴾(٢) .
وقد استدلّ الخاصّة والعامّة بهذه الآية على فضيلة أمير المؤمنين عليهالسلام على غيره من الصحابة (٣) ، وتقريره أنّه سبق سائر الصّحابة إلى العمل بمضمونها ، وبعد عمله بها نسخت ، فكان نزولها بيانا لأفضليّته عليهم ، لمسارعته إلى قبول أوامر الله تعالى والعمل بها قبلهم فكان أفضل منهم.
وقال بعض أصحابنا : فيه تكذيب لمن يدّعي من أهل السّنّة أنّ أبا بكر ذا مال ، وكان يصرف أمواله في سبيل الله ، حيث إنّ من بخل بصدقة درهم أو درهمين بين يدي نجوى النبي صلىاللهعليهوآله ، ورضي بمفارقته عشرة أيّام وترك مكالمته ، كيف يرضى بإنفاق المال الكثير ؟ ! .
ومنها : في سورة المزّمّل ، قوله تعالى : ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ﴾(٤) .
عن القمّي ، عن الباقر عليهالسلام في هذه الآية : « ففعل ذلك النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وبشّر النّاس به ، واشتد ذلك عليهم [ وقوله : ]﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ وكان الرجل يقوم ولا يدري متى ينتصف الليل ، ومتى يكون الثلثان ، وكان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه ، فأنزل الله : [﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ﴾ إلى قوله ] : ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ..﴾(٥) يقول : متى يكون النّصف والثّلث ، نسخت هذه الآية : ﴿فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾(٦) .
وأمّا ما عدّه العامّة من الآيات المنسوخة مضافا إلى ما ذكر ، فآيات :
منها : قوله تعالى في سورة النساء : ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾(٧) قالوا : كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك (٨) ، وسلمي سلمك ، وحربي حربك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السّدس من ميراث الحليف ، فنسخ بقوله تعالى : ﴿وَأُولُوا
__________________
(١) المجادلة : ٥٨ / ١٢.
(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٧ ، والآية من سورة المجادلة : ٥٨ / ١٣.
(٣) تفسير الطبري ٢٨ : ١٤ ، الكشاف ٤ : ٤٩٤ ، الدر المنثور ٨ : ٨٤ ، تفسير القمي ٢ : ٣٥٧.
(٤) المزمل : ٧٣ / ٢٠.
(٥) المزمل : ٧٣ / ٢٠.
(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٩٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٤٣.
(٧) النساء ٤ : ٣٣.
(٨) الهدم - بالفتح - : المهدر من الدماء ، يقال : دمه هدم ، أي هدر ، والهدم - بالكسر - : كساء من صوف ، والظاهر أنّ المراد الأوّل.
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ...﴾(١) .
وعن القمّي رحمهالله : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ ...﴾ نسخت قوله : ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ﴾(٢) .
وفي ( الكافي ) : عن الصادق عليهالسلام : « إذا والى الرجل الرجل فله ميراثه وعليه معقلته » (٣) . يعني دية جناية خطأه ، فتدلّ هذه الرّواية على أنّها غير منسوخة على الإطلاق ، ويجمع بينها وبين الروايات السابقة بأنّ آية اولوا الأرحام نسخت إطلاق حكمها وقيّدتها بصورة فقد اولي الأرحام ، كما عليه الأصحاب.
وقال بعض العامّة : معناه أعطوهم نصيبهم من النّصر ، والعقل ، والرفد (٤) ، ولا ميراث (٥) . وعلى هذا فلا تكون أيضا منسوخة.
ومنها : قوله تعالى في سورة البقرة : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(٦) فكان يحرم عليهم الجماع في اللّيل ، مطلقا على قول ، أو بعد صلاة العشاء ، أو بعد النوم ، وهذا حكم صوم أهل الكتاب ، فنسخ بقوله تعالى : ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ﴾(٧) وببالي أنّ به قال النعماني من أصحابنا (٨) .
وفيه : أنّه لا دلالة في قوله تعالى : ﴿كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ على حرمة الرّفث في اللّيل للصّائم ، ولم يرد في أخبار أهل البيت عليهمالسلام ما يدلّ على إرادة هذا الحكم من التشبيه ، بل فيها ما يدلّ على خلافه ، حيث إنّه فسّر بأنّ الصوم واجب عليكم كوجوبه على سائر الامم أو على خصوص الأنبياء السّلف.
وظاهر هذا التّفسير تشبيه الوجوب بالوجوب ، لا تشبيه الواجب بالواجب ، مع أنّه لم يثبت أنّ من أحكام صوم الذين من قبلهم حرمة الجماع عليهم باللّيل ، حتّى يدخل في كيفيّات الصّوم الذي هو في الشّرع الإمساك في النّهار عن الامور المعيّنة.
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾(٩) .
قال بعض العامّة : كان المسلمون مخيّرين بين الصّوم والفدية في أوّل الأمر ، ثمّ نسخت بقوله
__________________
(١) تفسير الطبري ٥ : ٣٤ ، الدر المنثور ٢ : ٥١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤ ، والآية من سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.
(٢) تفسير القمي ١ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٣٣.
(٣) الكافي ٧ : ١٧١ / ٣.
(٤) في تفسير الطبري : والرفادة.
(٥) تفسير الطبري ٥ : ٣٥.
(٦) البقرة : ٢ / ١٨٣.
(٧) البقرة : ٢ / ١٨٧.
(٨) تفسير النعماني : ١٠.
(٩) البقرة : ٢ / ١٨٤.
تعالى : ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(١) .
والمرويّ عن الصادق عليهالسلام « أنّ المراد بذلك الحامل المقرب ، والمرضعة القليلة اللّبن ، والشّيخ والشّيخة » (٢) .
وفي رواية : « المرأة التي تخاف على ولدها ، والشيخ الكبير » (٣) .
وعن الباقر عليهالسلام قال : « الشيخ الكبير ، والذي يأخذه العطاش » (٤) .
أقول : على هذه الروايات ليست الآية منسوخة.
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(٥) .
قال بعض العامّة : إنّها نسخت بآية الميراث (٦) .
وأنكر النسخ بعض أصحابنا (٧) . وقد وردت أخبار كثيرة ببقاء حكمه ، وإن روى العيّاشيّ عن أحدهما عليهماالسلام أنّها منسوخة بآية المواريث (٨) ، إلّا أنّها محمولة على التّقيّة لموافقتها مذهب العامّة (٩) .
ويحتمل بعيدا حملها على نسخ الوجوب مع بقاء الاستحباب والرّجحان.
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ﴾(١٠) .
قال بعض العامّة : إنّها منسوخة بقوله تعالى : ﴿وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾(١١) .
وفيه : أنّ الآية الاولى مخصّصة للثانية لا منسوخة.
وعن ( المجمع ) : إنّها لم تنسخ ، لأنّه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال (١٢).
ومنها : قوله تعالى في المائدة : ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ...﴾(١٣) .
__________________
(١) صحيح البخاري ٦ : ٥٥ / ٣٤ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٩٦ / ٢٣١٥ و٢٣١٦ ، سنن النسائي ٤ : ١٩٠ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.
(٢) تفسير الصافي ١ : ٢٠١.
(٣) تفسير العياشي ١ : ١٨٤ / ٢٨٦ ، تفسير الصافي ١ : ٢٠٢.
(٤) تفسير العياشي ١ : ١٨٤ / ٢٨٥ ، تفسير الصافي ١ : ٢٠٢.
(٥) البقرة : ٢ / ١٨٠.
(٦) تفسير الطبري : ٢ / ٦٨ ، تفسير الرازي ٥ : ٦١.
(٧) مجمع البيان ١ : ٤٨٣.
(٨) تفسير العياشي ١ : ١٨٠ / ٢٧٣.
(٩) تفسير الصافي ١ : ١٩٨.
(١٠) البقرة : ٢ / ٢١٧.
(١١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٣ ، والآية من سورة التوبة : ٩ / ٣٦.
(١٢) مجمع البيان ١ : ٥٥٢.
(١٣) المائدة : ٥ / ٢.
قال بعض العامة : إنّ هذا الحكم منسوخ بآية القتال (١) .
وفيه : أنّه روي عن الباقر عليهالسلام « أنّه لم ينسخ من سورة المائدة شيء ... » (٢) الخبر. مع أنّه لا وجه للقول بالنسخ مع إمكان التخصيص كما ذكرنا في الآية السابقة.
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾(٣) .
قالوا : إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى : ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ...﴾(٤) .
وفيه : أنّه روي في ( التهذيب ) عن الباقر عليهالسلام : « أنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و[ أهل ] الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء تركهم » (٥) انتهى ، وعليه لا تكون منسوخة.
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾(٦) قالوا : هي منسوخة بقوله تعالى : ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(٧) .
وفيه : أنّ التّخصيص أولى من النسخ ، وقد اتّفق النّصّ والفتوى على جواز شهادة أهل الكتاب إذا كانوا عدولا في دينهم في خصوص الوصيّة في السّفر إذا لم يجد الموصي مسلما (٨) .
ومنها : قوله تعالى في سورة البراءة : ﴿انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً﴾(٩) .
قالوا : هي منسوخة بآيات العذر (١٠) .
وفيه : أنّها مخصّصة لا ناسخة ، كما يشهد عليه قوله تعالى : ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾(١١) .
ومنها : قوله تعالى في سورة النّور : ﴿الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(١٢) .
__________________
(١) تفسير الطبري ٦ : ٣٩ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٤.
(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٣٩.
(٣) المائدة : ٥ / ٤٢.
(٤) الكشاف ١ : ٦٣٥ ، الدر المنثور ٣ : ٨٣ ، الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٤ ، والآية من سورة المائدة : ٥ / ٤٩.
(٥) التهذيب ٦ : ٣٠٠ / ٨٣٩.
(٦) المائدة : ٥ / ١٠٦.
(٧) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٥ ، والآية من سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.
(٨) الكافي ٧ : ٣٩٩ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٢٥٣ / ٦٥٥.
(٩) التوبة : ٩ / ٤١.
(١٠) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٥.
(١١) النساء : ٤ / ٩٥.
(١٢) النور : ٢٤ / ٣.
قالوا : إنّها منسوخة بقوله تعالى : ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ﴾(١) .
وفيه : أنّ ظاهر الآية الأولى يدلّ على جواز نكاح الزّاني المسلم للمشركة ، وجواز نكاح المشرك الزّانية المسلمة ، والظاهر أنّ هذا الحكم لم يكن في وقت من الأوقات ، فلا بدّ من حمل الآية على الزّاني والزّانية الكافرين ، بقرينة قوله : ﴿وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
ومن الواضح أنّ حرمة نكاح الزّاني الكافر والمشرك للمؤمنة ونكاح الزانية الكافرة والمشركة للمؤمن غير منسوخة ، وروايات أهل البيت وإن كانت متعارضة في جواز نكاح الزّانية قبل التّوبة ، إلّا أنّ الأخبار المانعة غير معمول بها عند المشهور من أصحابنا ، فلا بدّ من حملها على الكراهية.
والحاصل : أنّه لم يثبت من طريق أهل البيت عليهمالسلام نسخ لحكم الآية الاولى ، بل الظاهر من الرّوايات العديدة عدمه ، وتفسيرها بالمشهورات بالزّنا (٢) .
ومنها : قوله تعالى في تلك السورة : ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ﴾(٣) .
قال بعضهم : إنّها منسوخة ، ولم يذكر الناسخ ، وأنكره بعض آخر (٤) . ولم أظفر في رواياتنا ما يدلّ على نسخها.
ومنها : قوله تعالى في سورة الأحزاب : ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ﴾(٥) .
قالوا : هي منسوخة بقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي﴾ الآية (٦) .
وفيه : أنّه لم أفهم له وجها ، ولم يرد فيه خبر.
ومنها : قوله تعالى في الممتحنة : ﴿فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا﴾(٧) .
قال بعض منهم : إنّها منسوخة بآية السّيف (٨) ، وبعض آخر : بآية الغنيمة (٩) .
ومنها : قوله تعالى في سورة المنافقون : ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ﴾(١٠) .
__________________
(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٥ ، والآية من سورة النور : ٢٤ / ٣٢.
(٢) راجع : الكافي ٥ : ٣٥٥ / ٦.
(٣) النور : ٢٤ / ٥٨.
(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٦.
(٥) الاحزاب : ٣٣ / ٥٢.
(٦) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٦ ، والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٠.
(٧) الممتحنة : ٦٠ / ١١.
(٨) هي الآية الخامسة من سورة التوبة : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ....)
(٩) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧٦.
(١٠) المنافقون : ٦٣ / ١٠.
قالوا : منسوخة بآية الزّكاة (١) .
ومنها : قوله تعالى في سورة التّين : ﴿أَ لَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ﴾(٢) .
قالوا : منسوخة بآية السّيف (٣) ، وفي هذه الآيات الثلاث ، وإن كان احتمال النسخ قريبا ، إلّا أنّه لم يرد به نصّ من طرق أصحابنا.
الطرفة الحادية والعشرون
في إبطال عدّ نسخ التلاوة من أقسام النسخ
قد عدّ جمع من العامة من أقسام النسخ نسخ التلاوة ، وذكروا لذلك أمثلة من عبارات مرويّة عن عمر وابنه عبد الله وعائشة وغيرهم من الصحابة (٤) ، وهذا من الأغلاط المشهورة بينهم ، والعبارات المنقولة التي قالوا إنّها من الآيات المنسوخة التلاوة لا تشبه كلمات فصحاء العرب فضلا عن آيات القرآن المجيد. والمتأمّل المنصف يقطع بأنّها ممّا اختلقه المنافقون لتخريب أساس الدّين ، وتوهين الكتاب المبين ، ويؤيّد ذلك بل يشهد عليه أنّه لم ينقل عن أمير المؤمنين عليهالسلام وابن عبّاس والمعتمدين من أصحاب الرّسول رضوان الله عليهم أمثال هذه الرّوايات ، مع كونهم أعرف بآيات القرآن من غيرهم.
والعجب من بعض العامّة حيث إنّهم أنكروا هذا القسم من النسخ ، ونفوا كون هذه العبارات المنقولة من القرآن ، مستدلّا بأنّ الأخبار الواردة أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها ، مع أنّ العبارات الباردة المنقولة التي أكثرها رواية ما سمّوه آية الرّجم ، من قولهم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتّة بما قضيا من اللّذّة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ممّا ينادي عند كلّ ذي مسكة بأنّه ليس من كلام الله المنزل للإعجاز.
بل يستفاد ممّا رواه بعضهم عن عمر أنّه قال : لو لا أن يقول النّاس : زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها - يعني آية الرّجم - (٥) أنّه لم يكن أحد مطّلعا على هذه العبارة التي سمّوها آية ، مع أنّ مقتضى كثير من
__________________
(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧١.
(٢) التين : ٩٥ / ٨.
(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٧١.
(٤) راجع : الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨١ - ٨٤.
(٥) مسند أحمد : ٢٩ ، الاتقان في علوم القرآن ٣ : ٨٥.
رواياتهم أنّه كان يكتب آيات القرآن بشهادة شاهدين (١) .
فلعلّ عدم اجترائه على كتابتها في القرآن لعلم جميع الناس بأنّ مثل هذه العبارة ليس بكلام الله ولا من آيات القرآن ، وأنّه ليس إضافتها إلى الكتاب العزيز إلّا فرية وبهتان.
الطرفة الثانية والعشرون
في أنّ للقرآن المجيد ظهرا
وبطنا ، وبيان المراد منهما
قد تضافرت أو تواترت الروايات من طرق الخاصة والعامّة في أنّ للقرآن العظيم ظهرا وبطنا.
عن الباقر عليهالسلام أنّه قال في حديث : « يا جابر ، إنّ للقرآن بطنا ، وللبطن بطن وظهر ، وللظهر ظهر » (٢) .
وعنه ، في رواية اخرى : « ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن » (٣) .
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله بسند عامّي : « إنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطّلعا » (٤) إلى غير ذلك من الروايات.
والظاهر أنّ المراد من ظهر القرآن ظواهر آياته التي يفهمها كلّ أحد من مدلولاتها المطابقيّة والالتزاميّة الظاهرة ، ومن باطنه دلالاته الالتزاميّة الخفيّة وإشاراته الايهاميّة ، ولطائفه ودقائقه ، وما يستفاد منه بعموم العلّة أو أقوائيّة الملاك (٥) أو خصوصية الكلمات والحروف ، أو بعلم الحساب والأعداد ، فإنّ كلّ واحد من هذه الطرق ممّا يستفاد به من الآيات علوم وفيرة وتكون له بطون كثيرة ، كما روي « أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن » (٦) .
وقد يطلق على ظهره : التنزيل ، وعلى بطنه : التأويل ، كما روي عن الباقر عليهالسلام قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله » (٧) . وإلى ما ذكرنا من معنى الظهر والبطن أشار الصادق عليهالسلام بقوله في رواية : « كتاب الله على أربعة أشياء : العبارة ، والإشارة ، واللّطائف ، والحقائق ، فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواصّ ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء » (٨) .
__________________
(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٥ ، كنز العمال ٢ : ٥٧٤ / ٤٧٥٩.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٨٧ / ٣٩ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧.
(٣) تفسير العياشي ١ : ٨٦ / ٣٦.
(٤) إتحاف السادة المتقين / للزبيدي ٤ : ٥٢٧ ، تفسير الصافي ١ / ٢٨.
(٥) أي قوة الملاك.
(٦) تفسير الصافي ١ : ٥٢.
(٧) بصائر الدرجات : ٢١٦ / ٧ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧.
(٨) الدرة الباهرة : ٣١.
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : « من ما من آية إلّا ولها أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحدّ ، ومطّلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحدّ هو أحكام الحلال والحرام ، والمطّلع هو مراد الله من العبد بها » (١) .
والظاهر من قوله : « والباطن الفهم » فهم ما وراء الظاهر من العلوم الكثيرة بالطرق المذكورة المعلومة عندهم.
في بيان أنّ علوم النّبيّ والأئمّة عليهمالسلام جميعا مستفادة من القرآن
بل يستفاد من بعض الأخبار أنّ علوم النّبيّ صلىاللهعليهوآله وأوصيائه صلوات الله عليهم مستفادة من القرآن العظيم ، والقرآن مظهر للعلوم غير المتناهية الإلهيّة ومجلاه ، ولذا قال الصادق عليهالسلام : « لقد تجلّى الله تعالى [ لخلقه ] في كلامه ، ولكنّ النّاس لا يبصرون » (٢) .
وروي عنه عليهالسلام أنّه سئل : هل عندكم من رسول الله صلىاللهعليهوآله شيء من الوحي سوى القرآن ؟ قال : « لا والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، إلّا أن يعطى عبد فهما في كتابه » (٣) .
والظاهر أنّ المراد من إعطاء الفهم إنارة قلب العبد وتقوية عقله ، وجودة ذهنه ، وتكميل قوّته النّظريّة ، وتعليمه طرق الاستفادة.
وتوضيح المقام بمقدار يسعه الافهام أنّه لا شبهة أنّ لكلّ موجود وجودات مختلفة في عالم الألفاظ ، وعالم الذهن ، وعالم المثل والصور ، وعالم الحقائق ، على اختلاف مراتبها ودرجاتها قوّة وضعفا وسعة وضيقا ، وقد حقّق في محلّه أنّ كلّ عالم مرتبط بالعوالم الاخر وقشر لما فيه مستتر ، ولكلّ وجود آثار في عالمه ، ولكلّ أثر ملاك وأثر وحكم ومصالح بلا عدّ ومرّ ، فمن زكت نفسه ، وكملت جودته ، ينتقل ذهنه من عالم إلى عالم ، ومن مناسب إلى مناسب ، ومن ملزوم إلى لازم ، ومن مؤثّر إلى أثر ، ومن أثر إلى أثر ما شاء الله ، فمن رزقه الله فهم كتابه ، يصل من ظاهره إلى لبابه ، ومنها إلى دقائقه ، ومنها إلى حقائقه ، حتّى يبلغ إلى درجة لا يخفى عليه خافية ، ويحيط بحقائق الأشياء في عوالمها كما هي.
وقد حكى الفيض رحمهالله عن بعض أهل المعرفة ما ملخّصه : إنّ العلم بالشيء إمّا يستفاد من الحسّ
__________________
(١) تفسير الصافي ١ : ٢٨.
(٢) أسرار الصلاة للشهيد الثاني : ١٤٠.
(٣) تفسير الصافي ١ : ٢٩.
برؤية أو تجربة أو سماع خبر أو شهادة أو اجتهاد أو نحو ذلك ، ومثل هذا العلم لا يكون إلّا فاسدا متغيّرا محسورا (١) متناهيا غير محيط ، لأنّه إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده علم ، وقبل وجوده علم آخر ، وبعد وجوده علم ثالث وهكذا ، كعلوم اكثر النّاس.
وأمّا ما يستفاد من مبادئه وأسبابه وغاياته كان (٢) علما واحدا كلّيّا بسيطا محيطا (٣) على وجه عقليّ غير متغيّر ، فإنّه ما من شيء إلّا وله سبب ولسببه سبب ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مسبّب الأسباب.
وكلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه ويوجبه فلا بدّ أن يعرف ذلك الشيء علما ضروريا دائما ، فمن عرف الله تعالى بأوصافه الكماليّة ونعوته الجلاليّة ، وعرف أنّه مبدأ كلّ وجود وفاعل كلّ فيض وجود ، وعرف ملائكته وعلم ملائكته (٤) المقرّبين ، ثمّ ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكلّيّة العقليّة بالعبادات الدائمة والنسك المستمرّة من غير فتور ولغوب ، الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات ، كلّ ذلك على الترتيب السّببي والمسبّبي ، فيحيط علمه بكلّ الامور وأحوالها ولواحقها علما بريئا من التغير والشك والغلط ، فيعلم من الأوائل الثواني ، ومن الكلّيّات الجزئيّات المترتّبة عليها ومن البسائط المرّكبات ، ويعلم حقيقة الانسان وأحواله ، وما يكمّلها ويزكّيها ويسعدها ، ويصعدها إلى عالم القدس وما يدنّسها ويرديها ويشقيها ويهويها إلى أسفل سافلين ، علما ثابتا غير قابل للتغيير ، ولا محتمل لتطرّق الريّب ، فيعلم الامور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلّيّة ومن حيث لا كثرة فيه ولا تغيّر ، وإن كانت هي كثيرة متغيّرة في أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.
وهذا كعلم الله سبحانه بالأشياء ، وعلم ملائكته المقرّبين ، وعلوم الأنبياء والاوصياء بأحوال الموجودات الماضيه والمستقبلة ، وعلمهم بما كان وما سيكون إلى يوم القيامة من هذا القبيل ، فإنّه علم كليّ ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات ، ولا متكثّر بتكثّرها ، ومن عرف كيفيّة هذا العلم ، عرف معنى قوله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(٥) ويصدّق بأنّ جميع العلوم والمعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيّا وتصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد والسماع ونحوهما ، إذ ما من أمر من الامور إلّا وهو مذكور في القرآن ، إمّا بنفسه أو بمقوّماته وأسبابه ومبادثه وغاياته ، ولا
__________________
(١) في تفسير الصافي : محصورا.
(٢) ( كان ) ليس في تفسير الصافي.
(٣) ( محيطا ) ليس في تفسير الصافي.
(٤) ( وعلم ملائكته ) ليس في تفسير الصافي.
(٥) النحل : ١٦ / ٨٩.
يتمكّن من فهم [ آيات ] القرآن وعجائب أسراره وما يلزمها من الأسرار (١) والعلوم التي لا تتناهى إلّا من كان علمه بالأشياء من هذا القبيل ، انتهى (٢) .
وعن معلّى بن خنيس ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله ، ولكن لا تبلغه عقول الرّجال » (٣) .
عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إنّ الله أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء ، حتّى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتّى [ لا ] يستطيع عبد يقول : لو كان هذا نزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله [ الله ] فيه » (٤) .
ولا شبهة أنّ العلم ببطون القرآن بالغا ما بلغ مختصّ بالأئمّة الطاهرة ، وهم بالقرآن يعلمون ، لما كان وما يكون وما هو كائن ، وما يمكن أن يعلمه البشر.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّ ها هنا - وأشار إلى صدره - لعلما جمّا لو وجدت له حملة » (٥) .
وروى الغزالي في ( الإحياء ) والحافظ أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن (٦) .
وروى النّقّاش في ( تفسيره ) عن ابن عباس ما يقرب ممّا قال ابن مسعود (٧) .
في نقل كلام الغزالي في فضيلة أمير المؤمنين عليهالسلام ووفور علمه عليهالسلام
وعن الغزالي قال : قال : أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أدخل لسانه في فمي ، فانفتح في قلبي ألف باب من العلم ، مع كلّ باب » ألف باب إلى أن قال الغزالي : وهذه المرتبة لا تنال بمجرّد التعلّم (٨) ، بل يتمكّن المرء في هذه الرّتبة بقوّة العلم اللّدنّيّ (٩) .
وقال علي عليهالسلام لما حكى عهد موسى على نبينا وآله وعليهالسلام : « إنّ شرح كتابه كان أربعين جملا ، لو أذن الله ورسوله لي لا تسرع (١٠) في شرح معاني ألف الفاتحة حتّى يبلغ مثل ذلك » يعني أربعين وقرا أو جملا (١١) .
__________________
(١) في تفسير الصافي : من الأحكام.
(٢) تفسير الصافي ١ : ٥٠.
(٣) المحاسن : ٢٦٥ / ٣٥٥ ، الكافي ١ : ٤٩ / ٦.
(٤) الكافي ١ : ٤٨ / ١.
(٥) الخصال : ١٨٦ / ٢٥٧ ، نهج البلاغة : ٤٩٦ / ١٤٧.
(٦) حلية الأولياء ١ : ٦٥.
(٧) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ٤٣.
(٨) في البحار : العلم. (٩) بحار الانوار ٩٢ : ١٠٤.
(١٠) كذا في النسخة والبحار والظاهر : لاشرع.
(١١) بحار الأنوار ٩٢ : ١٠٤.
وذكر أبو عمر (١) الزاهد أنّ علي بن أبي طالب عليهالسلام قال : « يابن عبّاس إذا صلّيت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّان » . قال : فصلّيت ولحقته وكانت ليلة مقمرة.
قال : فقال لي : « ما تفسير الألف من الحمد ؟ » قال : فما علمت حرفا أجيبه. قال : فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.
قال : ثمّ قال لي : « فما تفسير اللّام من الحمد ؟ » قال : فقلت : لا أعلم. فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.
ثمّ قال : « فما تفسير الميم من الحمد ؟ » فقلت : لا أعلم. قال : فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.
قال : ثم قال : « ما تفسير الدال [ من الحمد ] ؟ » قال : قلت : لا أدري. قال : فتكلّم فيها حتى برق عمود الفجر. قال : فقال لي : « يابن عبّاس ، قم إلى منزلك وتأهّب لفرضك » .
قال أبو العباس عبد الله بن عبّاس : فقمت وقد وعيت كلّ ما قال ، ثمّ تفكّرت فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ كالقرارة في المثعنجر (٢) ، انتهى (٣) .
قالوا : القرارة : الغدير ، والمثعنجر : البحر.
وعن عليّ عليهالسلام قال : « لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب » (٤) .
وعن الباقر عليهالسلام قال : « لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزوجل حملة ، لنشرت التوحيد والإسلام [ والإيمان ] والدّين والشرائع من الصّمد » (٥) .
وعن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « إنّي لأعلم خبر السّماء ، وخبر الأرض ، وخبر ما كان وما هو كائن ، كأنّه في كفّي » .
ثمّ قال : « من كتاب الله أعلمه ، إنّ الله يقول : ( فيه تبيان كلّ شيء ) » (٦) .
وفي رواية عن أبي عبد الله ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : « ليس شيء أبعد عن عقول (٧) الرّجال من تفسير القرآن ، وفي ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا ما شاء الله ، وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك أن
__________________
(١) في النسخة : أبو عمرو ، وهو أبو عمر الزاهد ، محمد بن عبد الواحد اللغوي المشهور بغلام ثعلب ، المتوفّى سنة ٣٤٥ ه . راجع : فهرست ابن النديم : ١١٣ ، تاريخ بغداد ٢ : ٣٥٦ ، لسان الميزان ٥ : ٢٦٨ ، وفيات الأعيان ٤ : ٣٢٩.
(٢) المثعنجر : الماء وسط البحر وليس في البحر ماء يشبهه ، والسيل الكثير ، والقراءة : القاع المستدير يجتمع فيه الماء ، يقال : علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر ، أي مقيسا إلى علمه كالقاع الصغير موضوعا في جنب البحر.
(٣) بحار الأنوار ٩٢ : ١٠٤.
(٤) إحياء علوم الدين ١ : ٣٣٤ و٣٤١ ، أسرار الصلاة للشهيد الثاني : ١٣٨.
(٥) التوحيد : ٩٢ / ٦.
(٦) تفسير العياشي ٣ : ١٨ / ٢٤١٥.
(٧) في المحاسن : شيء بابعد من قلوب.
ينتهوا إلى بابه وصراطه ، وأن يعبدوه وينتهوا إلى طاعة القوّام بكتابه ، والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما (١) احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم. ثمّ قال : ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(٢) . وأمّا غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ، ولا يوجد.
وقد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر ، إذا لا يجدون من يأتمرون عليه ، ولا من يبلّغونه أمر الله ونهيه ، فجعل [ الله ] الولاة خواصّا ليقتدي بهم [ من ] لم يخصصهم بذلك.
فافهم ذلك إن شاء الله ، وإيّاك وتأويل القرآن برأيك ، فإنّ النّاس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور ، ولا قادرين عليه ولا على تأويله ، إلّا من حدّه وبابه الذي جعله الله له ، فافهم إن شاء الله ، واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله » (٣) .
الطرفة الثالثة والعشرون
في أنّ جميع القرآن في الأئمة وولايتهم
ووجوب اتّباعهم وشؤونهم وشؤون
أوليائهم وأعدائهم ، وتوضيحه
قد استفاضت الأخبار عن الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم في أنّ جميع القرآن فيهم ، وفي ولايتهم ، ووجوب اتّباعهم ، وشؤونهم وشؤون أوليائهم وأعدائهم.
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه - عن النبيّ صلىاللهعليهوآله - في حديث ذكر فيه محامد أهل بيته عليهمالسلام - قال : « نحن معدن التنزيل ، ومعنى التأويل » (٤) .
وقريب منه ما روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حديث طويل ذكر فيه صفات الإمام (٥) .
ولا ينافي ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : « القرآن نزل على أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدوّنا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام ، ولنا كرائم القرآن » (٦) .
وفي رواية اخرى عنه عليهالسلام : « أنّه نزل أثلاثا : ثلثي القرآن فينا وفي شيعتنا ، فما كان من خير فلنا
__________________
(١) في النسخة : يستنبطوا لما ، وفي المحاسن : يستنطقوا ما.
(٢) النساء : ٤ / ٨٣. (٣) المحاسن : ٢٦٨ / ٣٥٦ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١٠٠ / ٧٢.
(٤) مشارق أنوار اليقين : ٤٠ ، بحار الأنوار ٢٥ : ٢٢ / ٣٨.
(٥) مشارق أنوار اليقين : ١١٤.
(٦) تفسير فرات : ٤٦ / ٢.
ولشيعتنا ، والثلث الباقي اشركنا فيه النّاس ، فما كان من شرّ فلعدوّنا » (١) .
فإنّ الاختلاف بين الأخبار راجع إلى اختلاف اللّحاظ والاعتبار ، فباعتبار يكون جميع ما ذكر فيه من مدح المؤمنين وثوابهم ، وذمّ الكفّار وعقابهم راجعا إلى شيعتهم وأعدائهم ، وجميع الفرائض والأحكام مرتبطا بولايتهم ، وجميع ما ذكر فيه من قصص الأنبياء وأممهم جاريا فيهم.
عن الكاظم عليهالسلام في قوله : ﴿إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾(٢) قال : « القرآن له ظهر وبطن ، فجميع ما حرّم الله في الكتاب هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمّة الجور ، وجميع ما أحلّ الله في الكتاب هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمّة الحقّ » (٣) .
وعن أبي بصير ، قال : قال الصادق عليهالسلام : « يا أبا محمّد ، ما من آية تقود إلى الجنّة ويذكر أهلها بخير إلّا وهي فينا وفي شيعتنا ، وما من آية نزلت تذكر أهلها بشرّ وتسوق إلى النّار ، إلّا وهي في عدوّنا ومن خالفنا » (٤) .
وفي ( التوحيد ) بأسانيده : عنه عليهالسلام أنّه قال : « ما من آية تسوق إلى الجنّة إلّا وهي في النبيّ والأئمّة عليهمالسلام وأشياعهم وأتباعهم ، وما من آية تسوق إلى النّار إلّا وهي في أعدائهم ومخالفيهم » (٥) .
وعن الصادق عليهالسلام وكثير من الصّحابة والتابعين « أنّه ما من آية أوّلها : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*﴾ إلّا وعليّ بن أبي طالب أميرها وقائدها وشريفها وأوّلها » (٦) .
وعن ( الاحتجاج ) عن الباقر عليهالسلام قال : « قال النبيّ صلىاللهعليهوآله في خطبة يوم الغدير : معاشر النّاس ، هذا عليّ (٧) أحقّكم بي ، وأقربكم إليّ (٨) ، والله عزوجل وأنا عنه راضيان ، وما نزلت آية رضا إلّا فيه ، وما خاطب [ الله ] الذين آمنوا إلّا بدأ به ، وما نزلت آية مدح في القرآن إلّا فيه (٩) .
معاشر النّاس ، إنّ فضائل عليّ عند الله عزوجل ، وقد أنزلها عليّ في القرآن أكثر من أن احصيها في مكان (١٠) واحد ، فمن نبّأكم بها وعرفها فصدّقوه » (١١) .
أقول : لا ريب في أنّ كلّ ما نزل من الآيات في فضائل عليّ عليهالسلام فهو جار في أوصيائه
__________________
(١) بصائر الدرجات : ١٤١ / ٢ ، بحار الأنوار ٩٢ : ٨٥ / ١٨.
(٢) الأعراف : ٧ / ٣٣.
(٣) الكافي ١ : ٣٠٥ / ١٠.
(٤) الكافي ٨ : ٣٦ / ٦.
(٥) إعتقادات الصدوق : ٩٥.
(٦) تفسير فرات : ٤٨ - ٥١ / ٤ و٦ - ٩ ، مناقب الخوارزمي : ١٩٨ ، ذخائر العقبى : ٨٩.
(٧) زاد في المصدر : انصركم لي و.
(٨) زاد في المصدر : وأعزكم عليّ.
(٩) الإحتجاج : ٦١.
(١٠) في المصدر : مقام.
(١١) الاحتجاج : ٦٦.
المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين أيضا ، كما روي عن الباقر عليهالسلام في حديث ، قال : « ظهر القرآن للذين نزل فيهم ، وبطنه للذين (١) عملوا بمثل أعمالهم » (٢) .
وفي رواية اخرى : عنه عليهالسلام قال : « ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ، ثمّ مات اولئك [ القوم ] ماتت الآية ، لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض » (٣) .
وعنه عليهالسلام في رواية ، قال في قوله تعالى : ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾(٤) « عليّ الهادي ، ومن الهادي [ اليوم ] ؟ » فقلت : أنت جعلت فداك الهادي. قال : « صدقت ، إنّ القرآن حيّ لا يموت ، والآية حيّة لا تموت. فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن (٥) ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين » (٦) .
وعن الصادق عليهالسلام : « إنّ القرآن حيّ لا يموت ، وإنّه يجري كما يجري اللّيل والنّهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا » (٧) .
وبالجملة : الرّوايات الّتي تدلّ على أنّ جميع القرآن في شأن الأئمّة عليهمالسلام وإيجاب ولايتهم كثيرة جدّا ، بل وردت روايات في آيات ظاهرها بيان الأحكام ، وباطنها بيان شأنهم ، كما روي عن عبد الله بن سنان ، قال ذريح المحاربيّ : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قوله تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾(٨) فقال : « المراد لقاء الإمام عليهالسلام » .
[ قال عبد الله بن سنان ] : فأتيت أبا عبد الله صلوات الله عليه وقلت له : جعلت فداك ، قول الله عزوجل : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ قال : « أخذ الشّارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك » فحكيت له كلام ذريح ، فقال عليهالسلام : « صدق ذريح ، وصدقت [ أنت ] ، إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح ! » (٩) .
قال الفيض : إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النّحو ، جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهمالسلام في تأويل آية آية ، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على ترتيب القرآن ، وقد رأيت منها
__________________
(١) في تفسير العياشي : الذين.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٨٦ / ٣٤.
(٣) تفسير العياشي ١ : ٨٥ / ٣١ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١١٥ / ٤.
(٤) الرعد : ١٣ / ٧.
(٥) في العياشي : في الأقوام ماتوا فمات القرآن.
(٦) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٩ / ٢١٨٥.
(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٩ / ٢١٨٥.
(٨) الحج : ٢٢ / ٢٩.
(٩) معاني الأخبار : ٣٤٠ / ١٠.
كتابا كاد يقرب من عشرين ألف بيت (١) .
وقد ذكر أصحابنا لذلك أسرارا ، أحسنها أنّه تعالى لمّا جعل الأنوار المقدّسة في الخلق مظاهر لصفاته الجلاليّة والجماليّة بهم عرف الله وبهم عبد ، فلا يحصل لأحد قرب إلى الله إلّا بالقرب إليهم ، ولا الإيمان بالله إلّا بالايمان بهم ، ولا يعرف الله الّا بمعرفتهم ، ولا ينال أحد درجة عند الله إلّا بولايتهم.
فكلّ أمر في القرآن بالإيمان بالله وبعرفانه وبالقرب إليه ، يكون أمرا بالإيمان بهم وبعرفانهم وبالقرب إليهم ، وكلّ تكليف جعل مقرّبا إلى الله ، يكون مقرّبا إليهم ، وكلّ مدح يكون للمؤمنين ، يكون لهم ولشيعتهم ، وكلّ ذمّ ووعيد يكون للكفار ولأعداء الله ، يكون في الواقع راجعا إلى الكافرين بهم وإلى أعدائهم ، وكلّ ما هو راجع إلى الله ، راجع إليهم ، فهم صلوات الله عليهم مع الله ، والله معهم ، لا يفارقونه في شيء ولا يفارقهم.
ويشهد لما ذكر الأخبار الواردة في أنّ ولايتهم قرينة ولاية الله وتوحيده ، وأنّهم علّة غائيّة لخلق العالم ، وأنّ جميع الأنبياء من أوّل الخلق ، كما كانوا مأمورين بدعوة اممهم إلى التوحيد ، كانوا مأمورين بدعوتهم إلى الإقرار بولايتهم ومعرفة حقوقهم.
في ( تفسير الإمام عليهالسلام ) أنّه قال : « ولاية محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم هي الغرض الأقصى والمراد الأفضل ، ما خلق الله أحدا من خلقه ، ولا بعث أحدا من رسله إلّا ليدعوهم إلى ولاية محمّد وعليّ وخلفائه صلوات الله عليهم ، ويأخذ عليهم العهد ليقيموا عليه ، وليعلموا به (٢) سائر عوامّ الأمم » (٣) .
وعن ( أمالي الشيخ ) : عن محمّد بن عبد الرحمن ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : « ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيّ قطّ إلّا بها » (٤) .
وفي ( الكافي ) : عن عبد الأعلى ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : « ما من نبيّ جاء قطّ إلّا بمعرفة حقّنا ، وتفضيلنا على من سوانا » (٥) .
وفيه أيضا : عن أبي الحسن عليهالسلام قال : « ولاية عليّ صلوات الله عليه مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، ولم يبعث الله رسولا إلّا بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله ووصيّة عليّ عليهالسلام » (٦) .
__________________
(١) تفسير الصافي ١ : ٢٣ ، منها تأويل الآيات لشرف الدين النجفي ، وكتاب الهداية القرآنية إلى الولاية الإمامية للسيد هاشم البحراني.
(٢) في التفسير : وليعمل به.
(٣) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليهالسلام : ٣٧٩ / ٢٦٤.
(٤) أمالي الطوسي : ٦٧١ / ١٤١٢.
(٥) الكافي ١ : ٣٦٢ / ٤.
(٦) الكافي ١ : ٣٦٣ / ٦.
وعن ( تفسير العياشي ) (١) : عن الحسن بن عليّ عليهماالسلام أنّه قال : « من دفع فضل أمير المؤمنين صلوات الله عليه [ على جميع من بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ] فقد كذّب بالتّوراة والانجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى وسائر كتب الله المنزلة ، فإنّه ما نزل شيء [ منها ] إلّا وأهمّ ما فيه بعد الإقرار (٢) بتوحيد الله عزوجل والاقرار بالنبوّة ، الاعتراف بولاية عليّ والطيّبين من آله عليهمالسلام » (٣) .
[ وعن ( أمالي الشيخ ) : عن جعفر بن محمّد الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه عليهمالسلام ، ] قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما قبض الله نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى [ أفضل ] عشيرته من عصبته ، وأمرني أن اوصي ، فقلت : إلى من يا ربّ ؟ فقال : إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب ، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة ، وكتبت فيها أنّه وصيّك ، وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ، ومواثيق أنبيائي ورسلي ، أخذت مواثيقهم لي بالرّبوبيّة ، ولك يا محمّد بالنبوّة ، ولعليّ بالولاية » (٤) .
وعن ( كتاب سليم بن قيس الهلاليّ ) : عن المقداد رضى الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : « والذي نفسي بيده ، ما أستوجب آدم أن يخلقه الله وينفخ فيه من روحه ، وأن يتوب عليه ويردّه إلى جنّته إلّا بنبوّتي والولاية لعليّ بعدي.
والذي نفسي بيده ، ما رأى (٥) إبراهيم ملكوت السماوات (٦) ، ولا اتّخذه الله خليلا إلّا بنبوّتي ومعرفة عليّ بعدي. والذي نفسي بيده ، ما كلّم الله موسى تكليما ولا أقام عيسى آية للعالمين إلّا بنبوّتي والإقرار لعليّ بعدي. والذي نفسي بيده ، ما تنبّأ نبيّ قطّ إلّا بمعرفتي (٧) والإقرار لنا بالولاية ، ولا استأهل خلق من الله النظر [ إليه ] إلّا بالعبوديّة له والإقرار لعليّ بعدي » (٨) .
وعن جابر الجعفيّ ، عن الباقر عليهالسلام - في رواية طويلة - قال : « فنحن أوّل خلق الله ، وأوّل خلق عبد الله وسبّحه ، ونحن سبب خلق الله الخلق ، وسبب تسبيحهم وعبادتهم من الملائكة والآدميّين ، فبنا عرف الله ، وبنا عبد الله ، وبنا وحّد الله ، وبنا أكرم الله من أكرم من جميع خلقه ، وبنا أثاب الله [ من
__________________
(١) لم نجده في تفسير العياشي ، والظاهر أنّه وهم ، فقد ورد في التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليهالسلام وتأويل الآيات.
(٢) في تفسير العسكري وتأويل الآيات : الأمر.
(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليهالسلام : ٨٨ / ٤٦ ، تأويل الآيات ١ : ٣٣ / ٤.
(٤) أمالي الطوسي : ١٠٤ / ١٦٠ ، بحار الأنوار ٣٨ : ١١١ / ٤٤.
(٥) في المصدر : ما اري.
(٦) زاد في المصدر : والأرض.
(٧) في المصدر : بمعرفته.
(٨) كتاب سليم : ٢٠٦.
أثاب ] ، وبنا عاقب من عاقب ، ثمّ تلا قوله تعالى : ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾(١) ، وقوله تعالى : ﴿قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ﴾(٢) فرسول الله صلىاللهعليهوآله أوّل من عبد الله ، وأوّل من أنكر أن يكون له ولد أو شريك ، ثمّ نحن بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله » الخبر (٣) .
فظهر من جميع ما ذكر أنّ حقيقة الدّين وروح الأحكام ؛ معرفتهم وولايتهم ، وجميع الخلق راجع إليهم ، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم وما يتعلّق بهم.
الطرفة الرّابعة والعشرون
في دفع توهّم استلزام أمر اشتمال القرآن
على البطون استعمال اللفظ في أكثر من معنى
قد يتوهّم المتوهّم أنّه يلزم من إرادة المعاني الظاهريّة ، والبطون الكثيرة من الآيات ، إرادة المعاني الكثيرة من اللّفظ الواحد في استعمال واحد ، وقد تقرّر في علم الاصول عدم جوازه ، بل امتناعه ، وبعد الإحاطة بما ذكرنا سابقا من اختلاف جهات الدلالة واستنباط المعاني منها ، يندفع هذا التوهّم ، فإنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى ، واستفادة المطلب من الكلام ، ليس منحصرا في الدلالة بجهة واحدة ووجه فارد ، بل كلّما استعملت الجمل المركّبة من المفردات تركيبا مفيدا ، فهي تدلّ على معانيها الظاهريّة مطابقة ، وعلى أجزائها العقليّة والخارجية تضمّنا ، وعلى عللها وأجزاء عللها وشرائطها ، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ ، وعلّة العلل ومعلولاتها ، إلى ما شاء الله التزاما.
هذا بالنسبة إلى الجملة الواحدة بالنظر إلى الدّلالات الثلاث مع قطع النّظر عن انضمامها إلى الآيات الاخر ، وعن الدلالات غير الكلاميّة من كيفية الألفاظ وأعداد حروفها وسائر طرق الاستفادة منها ، التي لا يعلمها إلّا الرّاسخون في العلم.
فبتلك الوجوه يكون لكلّ آية ظاهر ، وظاهرها ظاهر وباطن وباطن باطن إلى ما شاء الله ، وبها يجمع بين الأخبار المتنافية الواردة في تفسير بعض الآيات كالمختلفات في تفسير قوله تعالى : ﴿وَرابِطُوا﴾ في آية ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا﴾(٤) ففي بعضها أنّ المراد منه
__________________
(١) الصافات : ٣٧ / ١٦٥ و١٦٦.
(٢) الزخرف : ٤٣ / ٨١.
(٣) بحار الأنوار ٢٥ : ٢٠ / ٣١.
(٤) آل عمران : ٣ / ٢٠٠.