نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠
١

٢

٣
٤

في تفسير سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى

 الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

ثمّ لمّا ختم الله تعالى سورة النحل المحتوية لاثبات التوحيد بالبراهين القاطعة ، وردّ شبهات المشركين فيه وفي صدق القرآن العظيم ونبوة خاتم النبيين ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باتّباع إبراهيم عليه‌السلام ، أردفها بسورة الاسراء المشتملة على جلّ تلك المطالب العالية وإظهار شرف نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على إبراهيم عليه‌السلام ، حيث بيّن فيها أنّه تعالى أسرى بحبيبه وعبده إلى قاب قوسين أو أدنى ليريه من آياته الكبرى ، وإنما أرى خليله ملكوت السماوات والأرض وهو في مكانه من الأرض ، إلى غير ذلك من المناسبات التي توجب تعاقبهما ، فابتدأ فيها بذكر أسمائه الحسنى على حسب دأبه تعالى ورسمه تعليما للعباد بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع فيه بتنزيه ذاته المقدّسة من الشرك والمعجز بقوله : ﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾ فعل بقدرته الكاملة أعجب العجائب وأبدع البدائع ، وهو أنّه ﴿أَسْرى بِعَبْدِهِ﴾ وحبيبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعرج به (١)﴿لَيْلاً.

قيل : ذكر الليل وتنكيره للدلالة على قلّة مدّة الإسراء ، وهو بعض الليل (٢) .

وقيل : لما وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في معراجه ، أوحى الله إليه : يا محمّد ، بم أشرّفك ؟ قال : « يا ربّ بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية » فأنزل الله فيه (٣) : ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ ومكة المعظّمة ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ قيل : هو بيت المقدس (٤)﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ بالثّمار والأزهار وقرار الأنبياء وهبوط الملائكة فيه ﴿لِنُرِيَهُ﴾ بعضا ﴿مِنْ آياتِنا﴾ العظام التي لم نره غيره من الأنبياء ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقواله ﴿الْبَصِيرُ﴾ بنورانيته ومسانحته لعالم الأنوار وبأحواله وأخلاقه وأعماله.

__________________

(١) في النسخة : وأعرجه.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٤٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٠٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٤٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٤٦.

٥

وقيل : إنّ المراد السميع لما يقولون للرسول عند دعواه المعراج ، البصير بما يعملون في هذه الواقعة(١) .

روى بعض العامة أنّه بات ليلة الاثنين السابع والعشرين من رجب في بيت امّ هانئ بنت أبي طالب ، ونام بعد أن صلّى الركعتين اللتين كان يصليهما في وقت العشاء ، ففرج عن سقف بيتها ونزل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، ومع كلّ واحد منهم سبعون ألف ملك فأيقظه جبرئيل بجناحه ، قال عليه‌السلام :  فقمت إلى جبرئيل ، فقلت : أخي جبرئيل ما لك ؟ فقال : يا محمّد ، إنّ ربّي تعالى بعثني إليك ، وأمرني بأن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك ، فانّك تريد أن تكلّم ربّك وتنظر إليه وترى في هذه الليلة من عجائب ربّك وعظمته وقدرته » قال : « فتوضّأت وصليت ركعتين » .

قال الراوي : وشقّ جبرئيل صدره الشريف من الموضع المنخفض بين التّرقوتين إلى أسفل بطنه ، فجاء بطشت من ماء زمزم ، واستخرج قلبه فغسله ثلاث مرات ، ونزع ما كان فيه من أذى ، ثمّ جاء بطشت من ذهب يمتلئ إيمانا وحكمة ، فأفرغ فيه ، ثمّ أعاد القلب إلى مكانه ، والتأم صدره الشريف ، فكانوا يرون أثرا كأثر الخيط (٢) في صدره.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثمّ جاء جبرئيل بدابة بيضاء ، فقلت : يا جبرئيل ، ما هذه الدابة ؟ فقال : هذا البراق فاركب عليه حتى تمضي إلى دعوة ربّك ، فأخذ جبرئيل بلجامها وميكائيل بركابها وإسرافيل من خلفها ، فقصدت أن أركبها فجمحت الدابة وأبت ، فوضع جبرئيل يده على وركها ، وقال لها : ألا تستحين ممّا فعلت ؟ ! فو الله ما ركبك أحد أكرم على الله من محمّد ، فرشحت عرقا من الحياء ، فقالت : يا جبرئيل ، لم أستصعب منه إلّا ليضمن أن يشفع لي يوم القيامة ، لأنّه أكرم الخلائق على الله ، فضمن لها ذلك » (٣) .

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لمّا عرج بي إلى السماء ، بكت الأرض من بعدي ، فنبت الأصفر من نباتها ، فلمّا رجعت قطر عرقي على الأرض ، فنبت ورد أحمر ، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد الأحمر » .

قال : فركبه (٤) ، فانطلق البراق يهوي به يضع حافره حيث أدرك طرفه ، حتى بلغ أرضا ، فقال له جبرئيل : انزل فصلّ ركعتين هاهنا. ففعل ، ثمّ ركب فقال له جبرئيل : أتدري أين صلّيت ؟ قال : « لا» . قال : صلّيت بمدين ، فانطلق البراق يهوي به ، فقال له جبرئيل : انزل فصلّ ففعل ، ثم ركب ، فقال : أتدري أين صلّيت ؟ قال : « لا » . قال : صلّيت ببيت لحم ، وهي قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٤٧.

(٢) في تفسير روح البيان : المخيط.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٠٦.

(٤) في النسخة : فركبتها.

٦

عيسى عليه‌السلام.

وبينا هو على البراق إذ رأى عفريتا من الجنّ يطلبه بثعلة من نار ، كلّما التفت رآه ، فقال له جبرئيل : ألا اعلّمك كلمات تقولهنّ ، إذا أنت قلتهنّ طفئت شعلته وخرّ لفيه ؟ فقال : « بلى » . فقال جبرئيل : قل أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلمات الله التامّات اللّاتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر ، من شرّ ما ينزل من السماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض ، ومن شرّ ما يخرج منها ، ومن فتن الليل والنهار ، ومن طوارق الليل والنهار ، إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ، فانكبّ لفيه ، وطفئت شعلته ، فرآى صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما يزرعون ويحصدون من ساعته ، وكلّما حصدوا عاد كما كان ، فقال : « يا جبرئيل ، ما هذا ؟ » قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ، وما انفقوا من خير فهو يخلفه.

فنادى مناد عن يمينه : يا محمّد ، انظرني اسألك ، فلم يجبه ، فقال : « ما هذا يا جبرئيل ؟ » قال : هذا داعي اليهود ، أما إنّك لو أجبته لتهوّدت امّتك ، ونادى مناد عن يساره كذلك ، فلم يجبه ، فقال : « ما هذا يا جبرئيل ؟ » فقال : هذا داعي النصارى ، أما إنّك لو أجبته لتنصّرت امّتك ، فرأى امرأة حاسرة عن ذراعها ، فقالت : يا محمّد ، انظرني أسألك ، فلم يلتفت إليها ، فقال : « من هذه يا جبرئيل ؟ » فقال : تلك الدنيا ، أما إنك لو أجبتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

إلى أن قال : ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتى إيليا من أرض الشام ، فاستقبله من الملائكة جمّ غفير لا يحصى عددهم ، فدخلها من الباب [ اليماني ] الذي فيه مثال الشمس والقمر ، ثمّ انتهى إلى بيت المقدس ، وكان بباب المسجد حجر ، فأدخل جبرئيل يده فيه فخرقه ، فكان فيه كهيئة الحلقة وربط به البراق.

ثمّ دخل عليه‌السلام المسجد ، ونزلت الملائكة ، وأحيا الله له آدم ومن دونه من الأنبياء ، فسلّموا عليه وهنّأوه بما أعطاه الله من الكرامة ، وقالوا : الحمد لله الذي جعلك خاتم الأنبياء ، فنعم النبيّ أنت ، ونعم الأخ أنت ، وامّتك خير الامم. ثمّ قال جبرئيل : تقدّم يا محمّد وصلّ باخوانك من الأنبياء ركعتين ، فصلّى بهم ركعتين ، وكان خلف ظهره إبراهيم ، وعن يمينه إسماعيل ، وعن يساره إسحاق ، وكانوا سبعة صفوف ؛ ثلاثة [ صفوف ] من الأنبياء المرسلين ، وأربعة من سائر الأنبياء.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لمّا وصلت إلى بيت المقدس وصلّيت فيه ركعتين ، أخذني العطش أشدّ ما أخذني ، فأتيت بإناءين ؛ في أحدهما لبن ، وفي الآخر خمر ، فأخذت الذي فيه اللبن - وكان ذلك بتوفيق ربّي - فشّربته إلّا قليلا منه ، وتركت الخمر ، فقال جبرئيل : أصبت الفطرة يا محمد ، أما إنّك لو شربت الخمر لغوت امّتك كلّها ، ولو شربت اللبن كلّه لما ضلّ أحد من امّتك بعدك. فقلت : يا جبرئيل : اردد عليّ

٧

اللبن حتى أشربه كلّه. فقال جبرئيل : قضي الأمر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيي عن بيّنة.

ثمّ قال جبرئيل : قم يا محمّد ، فقمت فاذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضّة ، مركّب من اللؤلؤ والياقوت ، يتلألأ نوره ، وأسفله على صخرة بيت المقدس ، ورأسه في السماء ، فقيل لي : يا محمّد ، اصعد. فصعدت فانتهيت إلى بحر أخضر عظيم أعظم ما يكون من البحار ، فقلت : يا جبرئيل ، ما هذا البحر ؟ فقال : يا محمّد ، هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلّق به ، ولا شيء تحته يقرّ فيه ، ولا يدري قعره وعظمته إلّا الله ، ولو لا أنّ هذا البحر كان حائلا لاحترق ما في الدنيا من حرّ الشمس » .

قال : « ثمّ انتهيت إلى سماء الدنيا ، واسمها رقيع ، فأخذ جبرئيل بعضدي ، وضرب بابها به (١) ، وقال : افتح الباب. قال الحارس : من أنت ؟ قال : جبرئيل. قال : ومن معك ؟ قال : محمّد. قال : أو قد بعث محمّد ؟ قال : نعم. قال : الحمد لله. ففتح [ لنا ] الباب ودخلنا ، فلمّا نظر إليّ قال : مرحبا بك يا محمّد ، ولنعم المجيء مجيئك. فقلت : يا جبرئيل ، من هذا ؟ قال : هذا إسماعيل خازن سماء الدنيا ، وهو ينتظر قدومك ، فادن وسلّم عليه ، فدنوت وسلّمت ، فردّ عليّ السّلام وهنّأني ، فلمّا صرت إليه قال : أبشر يا محمّد ، فإنّ الخير كلّه فيك وفي امّتك. قال : وإذا جنوده قائمون صفوفا ، ولهم زجل بالتسبيح يقولون : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح ، قدّوس قدّوس لربّ الأرباب ، سبحان العظيم الأعظم » .

قال : « ثمّ انتهيت إلى آدم ، فاذا هو كهيئته يوم خلقه الله ، وكان تسبيحه : سبحان الجليل الأجلّ ، سبحان الواسع الغنيّ ، سبحان [ الله ] العظيم وبحمده ، فاذا هو تعرض عليه أرواح ذريّته المؤمنين ، فيقول : روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب ، اجعلوها في علّيين ، وتعرض عليه أرواح ذرّيته الكفّار ، فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث ، اجعلوها في سجّين » قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فتقدّمت إليه وسلّمت عليه ، فقال : مرحبا بالابن الصالح والنبيّ الصالح » .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل (٢) ، في أيديهم قطع من نار كالأفهار - أي الحجارة التي [ كلّ ] واحد منها ملء الكفّ - يقذفونها في أفواههم ثمّ تخرج من أدبارهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : أكلة أموال اليتامى ظلما.

ثمّ رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت ، فيها حيّات ترى من خارج البطون بطريق آل فرعون يمرّون عليهم كالابل المهيومة (٣) حين يعرضون على النّار ، لا يقدرون أن يتحوّلوا من مكانهم ذلك -

__________________

(١) في النسخة : وضرب بابه.

(٢) مشفر الإبل : بمثابة الشفة للانسان.

(٣) أي العطشى.

٨

وفي رواية : كلّما نهض أحدهم خرّ - قلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا.

ثمّ رأيت أخونة (١) عليها لحم طيب ، ليس عليها أحد ، واخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون منه. قلت : يا جبرئيل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين تركوا الحلال ويأكلون الحرام.

ثمّ رأيت نساء معلّقات بثديهنّ ، فقلت : يا جبرئيل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء اللاتي أدخلن [ على ] الرجال ما ليس من أولادهم.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبرئيل ، قال الحارس : من أنت ؟ قال : جبرئيل. قال : ومن معك ؟ قال : محمد. قال : أو قد بعث ؟ قال : نعم ، ففتح لنا ، فاذا أنا بابني الخالة ؛ عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريا ، ومعهما نفر من قومهما ، فرحّبا بي ودعوا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبرئيل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبرئيل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمّد. قال : أو قد بعث ؟ قال : نعم ، ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف ومعه نفر من قومه ، وإذا هو أعطي شطر الحسن ، فرحّب بي ، ودعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبرئيل قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل قيل : ومن معك ؟ قال : محمّد. قيل : وقد بعث ؟ قال. نعم ، ففتح لنا ، فاذا أنا بإدريس ، فرحّب بي ودعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبرئيل ، قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمّد ، قيل : أو قد بعث ؟ قال : نعم ، ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء ، تكاد تضرب إلى سرّته من طولها ، وحوله قوم من بني إسرائيل ، وهو يقصّ عليهم ، فرحّب بي ودعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبرئيل ، قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث ؟ قال : نعم ، ففتح لنا ، فاذا أنا بموسى ، فرحّب بي ودعا لي بخير ، فلمّا جاوزت بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأنّ غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخل الجنّة من امّتي.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبرئيل ، قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث ؟ قال : نعم. ففتح لنا ، فاذا أنا بابراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلّم عليه وسلّمت عليه ، فردّ السّلام ثمّ قال : مرحبا بالابن الصالح ، والنبي الصالح ، وإذا إبراهيم رجل أشمط (٢)

__________________

(١) جمع خوان : ما يؤكل عليه.

(٢) في النسخة : أمشط ، والأشمط : الذي يختلط سواد شعره ببياض.

٩

جالس عند باب الجنّة على كرسيّ ، مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وهو من عقيق محاذ للكعبة بحيث لو سقط سقط عليها ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون ، وإذا أنا بامّتي شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنّها القراطيس ، وشطر عليهم ثياب رمدة (١) . فدخلت البيت المعمور ، ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض ، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرّمدة ، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور » .

وفي رواية : « أنّ أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم ، فلمّا رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع إبراهيم ، قال : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا. قال له : وأولاد الكافرين ؟ قال : وأولاد الكافرين » .

وقال إبراهيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقرأ امّتك منّي السّلام ، وأخبرهم أنّ الجنّة طيبة التربة عذبة الماء ، وأن غرسها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « استقبلتني جارية لعساء (٢) ، قد أعجبتني ، فقلت لها : لمن أنت ؟ قالت : لزيد بن حارثة » .

قال : « ورأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم [ من ] النار ، ونصفها من الثلج ، فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفئ النار ، وهم يقولون : اللهمّ كما ألّفت بين النار الثلج ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين » .

قال : صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثمّ ذهب بي جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، وهي شجرة فوق السماء السابعة في أقصى الجنّة ، إليها ينتهي الملائكة بأعمال أهل الأرض من السعداء ، وإليها تنزل الأحكام ، وإذا أرواقها كآذان الفيلة » (٣) .

قيل : إنّه عرج من السماء السابعة إلى السّدرة على جناح جبرئيل (٤) ، وإنّه عليه‌السلام رأى جبرئيل عند السّدرة على الصورة التي خلقه الله عليها (٥) ، ثمّ عرج منها على الرّفرف - وهو بساط عظيم على قول ، أو هو كالمحفّة (٦) - ورأى أنّ جبرئيل لمّا وصل إلى السّدرة التي هي مقامه تأخّر فلم يتجاوز ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفي مثل هذا المقام يترك الخليل خليله ؟ ! » فقال : لو تجاوزت لأحترقت بالنور (٧) . وفي رواية قال : لو دنوت أنملة لاحترقت (٨) .

فقال : « يا جبرئيل ، هل لك [ من ] حاجة إلى ربّي ؟ قال : يا محمّد ، سل الله لي أنّ أبسط جناحي على

__________________

(١) الرّمد : الكدر الذي صار على لون الرماد. (٢) جارية لعساء : في لونها أدنى سواد مشربة من الحمرة.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٠٨ - ١٢٠. (٤) تفسير روح البيان ٥ : ١٢١.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٠.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ١٢١ ، والمحفّة : هودج لا قبّة له ، تركب فيه المرأة.

(٧ و٨) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٠.

١٠

الصراط لامّتك حتّى يجوزوا عليه (١) .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثمّ زجّ بي في النور ، فخرق بي سبعون ألف حجاب ، ليس [ فيها ] حجاب يشبه حجابا ، غلظ كلّ حجاب خمسمائة عام ، وانقطع عنّي حسّ كلّ ملك ، فلحقني عند ذلك استيحاش ، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر : قف فانّ ربك يصلّي (٢) » ، أي يقول : سبحاني سبحاني ، سبقت رحمتي غضبي.

أقول : العجب كلّ العجب أنّ المنادي في ذلك المقام لم يجد لغة ولسانا لم ينطق بالشرك ، واختار لغة ولسانا نطق بالشّرك دهرا دهيرا.

« وجاء نداء من العليّ الأعلى : ادن يا خير البرية ، ادن يا أحمد ادن يا محمد ، فأدناني ربيّ حتى كنت كما قال : ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى(٣) ونادى جبرئيل من خلفه : يا محمّد ، إنّ الله يثني عليك ، فاسمع وأطع ، ولا يهولنّك كلامه. فبدأ بالثناء وهو قوله : التحيات لله والصلوات والطيّبات » . فقال تعالى : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » . فقال جبرئيل : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، وتابعه جميع الملائكة (٤) .

روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سألني ربّي فلم أستطع أن اجيبه ، فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها ، فأورثني علم الأولين والآخرين ، وعلّمني علوما شتّى ، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنّه لا يقدر على حمله غيري ، وعلم خيّرني فيه ، وعلم أمرني بتبليغه إلى العامّ والخاصّ من امّتي » (٥).

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فرض الله عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم وليلة ، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا ، ثمّ أتيت موسى فقال : ما فرض ربك على امّتك ؟ قلت : خمسين صلاة. قال : ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف ، فانّ امّتك لا تطيق ذلك ، فانّي والله قد جرّبت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة ، ولقيت الشدّة في ما أردت فيهم من الطاعة » .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فرجعت إلى ربّي ، فخررت له ساجدا ، فقلت : أي ربّي ، خفّف عن امّتي ، فحطّ عنّي خمسا ، فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال : إنّ امّتك لا تطيق ذلك ، قال : فلم أزل اراجع بين ربي وموسى ويحطّ خمسا خمسا حتّى قال موسى : بم أمرت ؟ قلت بخمس صلوات كلّ يوم. قال : ارجع

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٢١.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٢١.

(٣) النجم : ٥٣ / ٨ و٩.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ١٢١.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٢.

١١

إلى ربك فاسأله التخفيف. فقلت : قد راجعت ربّي حتّى استحييت ، ولكن أرضى واسلّم ، فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت فريضتي يا محمّد ، وهي خمس صلوات في كلّ يوم وليلة بكلّ صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن علمها كتبت له عشر ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيء ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة » (١) .

وروي أنّه كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات ، وغسل البول من الثوب سبع مرات ، ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وآله يسأل ربه حتى جعلت الصلاة خمسا ، وغسل الجنابة مرة واحدة ، وغسل البول من الثوب مرّة (٢) .

وعن أنس ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رأيت ليلة اسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة ، كلّ مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة ، مملوءة من الملائكة ، يسبّحون الله ويقدّسونه ، ويقولون في تسبيحهم : اللهمّ اغفر لمن شهد الجمعة ، اللهمّ اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة.

ورأيت ليلة اسري بي إلى السماء مكتوبا على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر. فقلت : يا جبرئيل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة. قال : لأنّ السائل يسأل وعنده شيء ، والمستقرض لا يستقرض إلّا من حاجة.

ورأيت رضوان خازن الجنة ، فلمّا رآني فرح بي ورحّب بي ، وأدخلني الجنة ، وأراني فيها من العجائب ما وعد الله فيها لأوليائه ممّا لا عين رأت ولا اذن سمعت ، ورأيت فيها درجات أصحابي ، ورأيت فيها الأنهار والعيون ، وسمعت فيها صوتا وهو يقول : آمنّا بربّ العالمين. فقلت : ما هذا الصوت يا رضوان ؟ قال : هم سحرة فرعون وأزواجهم.

وسمعت آخر يقول : لبّيك اللهمّ لبّيك فقلت : من هو ؟ قال : أرواح الحجّاج ، وسمعت التكبير ، فقال : هؤلاء الغزاة. وسمعت التسبيح ، فقال : هؤلاء الأنبياء. ورأيت قصور الصالحين.

وعرضت النار عليّ ، وإن كانت في الأرض السابعة ، فاذا على بابها مكتوب : وإنّ جهنم لموعدهم أجمعين. قال : وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي ، فقلت : يا أخي جبرئيل ، من هذا ؟ قال : مالك خازن النار ، لم يضحك منذ خلقه الله ، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، فقال له جبرئيل : يا مالك ، هذا محمّد فسلّم عليه. فسلّم عليّ وهنّأني بما صرت إليه من الكرامة والشرف.

قال : فسألته أن يعرض عليّ النار بدركاتها ، فعرضها عليّ بما فيها ، وإذا فيها غضب الله ، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها ، وإذا قوم يأكلون الجيف ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هؤلاء

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٣.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٣.

١٢

الذين يأكلون لحوم الناس - أقول : يعني يغتابونهم - ورأيت قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم ، فقلت : من هم ؟ قال : هم الذين يحلفون بالله كاذبين. ورأيت جماعة من النساء علّقن بشعورهنّ ، فقلت : من هنّ ؟ قال : هنّ اللاتي لا يستترن من غير محارمهنّ. ورأيت جماعة منهنّ لباسهنّ [ من ] القطران. فقلت : من هنّ ؟ قال : نائحات » .

فلمّا نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه ، فاذا هو بهرج ودخّان وأصوات ، فقال : « ما هذه يا جبرئيل ؟ » قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات ، ولا يتفكّروا في ملكوت السماوات ، ولو لا ذلك لرأوا العجائب. ونزل صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت المقدس ، وتوجّه إلى مكّة وهو على البراق حتّى وصل إلى بيته ، أو إلى بيت امّ هانئ (١) .

قيل : كان ذهابه وإيابه ثلاث ساعات ، أو أربع ساعات (٢) . وقيل : إنّه كان قدر لحظة (٣) .

القمي ، عن الباقر عليه‌السلام : أنه كان جالسا في المسجد الحرام ، فنظر إلى السماء مرّة ، وإلى الكعبة مرّة ، ثم قال : ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ وكرّر ذلك ثلاث مرات ، ثمّ التفت إلى إسماعيل الجعفي ، فقال : « أيّ شيء يقول أهل العراق في هذه الآية يا عراقي ؟ » قال : يقولون اسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس.

فقال : « ليس كما يقولون ، ولكنّه أسرى به من هذه إلى هذه » وإشار بيده إلى السماء ، وقال : « ما بينهما حرم » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن المساجد التي لها فضل ، فقال : « المسجد الحرام ، ومسجد الرسول » قيل : والمسجد الاقصى ؟ فقال : « ذاك في السماء ، إليه أسرى رسول الله » .

فقيل : إنّ الناس يقولون إنّه بيت المقدس ؟ فقال : « مسجد الكوفة أفضل منه » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه سئل كم عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : « مرتين » (٦) .

وعن الباقر صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتى جبرئيل بالبراق أصغر من البغل وأكبر الحمار ، مضطرب الاذنين عيناه في حافره وخطامه مدّ بصره » (٧) .

وزاد في ( الكافي ) : « أنّه إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه ، فاذا هبط طالت يداه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٣.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٥.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٤٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٦.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٣٥ / ٢٤٥٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٦.

(٦) الكافي ١ : ٣٦٧ / ١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٧.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٣١ / ٢٤٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٧ ، وفي تفسير العياشي : في حوافره ، خطوه مدّ بصر.

١٣

وقصرت رجلاه ، أهدب العرف (١) الأيمن ، له جناحان من خلفه » (٢) .

وعن ( العيون ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ [ الله ] سخّر لي البراق ، وهي دابة من دوابّ الجنّة ليست بالقصير ولا بالطويل ، فلو أنّ الله أذن لها لجالت الدنيا والآخرة في جرية واحدة ، وهي أحسن الدوابّ لونا » (٣) .

القمي عن الصادق عليه‌السلام : « جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ واحد باللّجام ، وواحد بالرّكاب ، وسوّى الآخر عليه ثيابه ، فتضعضعت البراق ، فلطمها جبرئيل ، ثمّ قال [ لها ] : اسكني يا براق ، فما ركبك نبي قبله ، ولا يركبك بعده مثله » قال : « فترقّت (٤) فرفعته ارتفاعا ليس بالكثير ، ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : [ فبينا ] أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني : يا محمّد ، فلم أجبه ، ولم ألتفت إليه ، ثمّ نادى مناد عن يساري : يا محمّد ، فلم أجبه ، ولم التفت إليه ، ثمّ استقبلتني امرة كاشفة عن ذراعيها وعليها من كلّ زينة الدنيا ، فقالت : يا محمّد ، انظرني حتّى اكلّمك فلم التفت إليها.

ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني [ فجاوزت به ] ، فنزل بي جبرئيل فقال : صلّ ، فنزلت وصليت ، فقال لي : تدري أين صليت ؟ فقلت : لا. فقال : صلّيت بطيبه وإليها مهاجرك. ثمّ ركبت ومضينا ما شاء الله ، ثمّ قال لي : إنزل فصلّ ، فنزلت وصليت ، فقال لي : تدري أين صليت ؟ فقلت : لا. قال : صليت [ بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليما ، ثمّ ركبت فمضينا ما شاء الله ، ثمّ قال لي : انزل فصلّ ، فنزلت وصليت ، فقال لي : تدري أين صليت ؟ فقلت : لا ، قال : صليت في ] بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء يربطون بها ، فدخلت المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي ، فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى في من شاء الله من أنبياء الله قد جمعوا إليّ ، وأقمت الصلاة ، ولا أشكّ أن جبرئيل يستقدمنا (٥) ، فلمّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني وأممتهم ولا فخر ، ثمّ أتاني الخازن بثلاث أوان : إناء فيه لبن ، وإناء فيه ماء ، وإناء فيه خمر ، وسمعت قائلا يقول : إن أخذ الماء غرق وغرقت امّته ، وإنّ أخذ الخمر غوى وغوت امّته ، وإن أخذ اللّبن هدي وهديت امّته. قال : فأخذت اللّبن وشربت منه ، فقال لي جبرئيل : هديت وهديت امّتك.

__________________

(١) أي طويل العرف.

(٢) الكافي ٨ : ٣٧٦ / ٥٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٣٢ / ٤٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٧.

(٤) في المصدر : فرقت به.

(٥) في المصدر : ولا أشك إلا وجبرئيل استقدمنا.

١٤

ثمّ قال لي : ماذا رأيت في مسيرك ؟ فقلت : ناداني مناد عن يميني. فقال لي : أو أجبته. قلت : لا ولم التفت إليه. قال : ذلك داعي اليهود ، ولو أجبته لتهوّدت امّتك من بعدك. ثمّ قال : ماذا رأيت ؟ فقلت : ناداني مناد عن يساري. فقال لي : أو أجبته ؟ فقلت : لا ، ولم التفت إليه. فقال : ذاك داعي النصارى ، ولو أجبته لتنصّرت امتك من بعدك. ثمّ قال : ماذا استقبلك ؟ فقلت : لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا. فقالت : يا محمّد ، انظرني حتّى اكلّمك. فقال لي : أفكلّمتها ؟ فقلت : لم اكلّمها ولم التفت إليها. فقال : تلك الدنيا ، ولو كلّمتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني ، فقال لي [ جبرئيل : ] تسمع يا محمّد ؟ قلت : نعم. قال : هذه صخرة قذفتها على شفير جهنّم منذ سبعين عاما ، فهذا حين استقرّت. قالوا : فما ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قبض.

قال : فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى سماء الدنيا وعليها ملك يقال له إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال الله تعالى : ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ(١) وتحته سبعون ألف ملك ، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك : فقال : يا جبرئيل ، من معك ؟ فقال : محمّد. قال : أو قد بعث ؟

قال : نعم ، ثمّ فتح الباب ، فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وقال : مرحبا بالأخ الناصح والنبيّ الصالح ، وتلقّتني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا ، فما لقيني ملك إلّا كان ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه ، كريه المنظر ، ظاهر الغضب. فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلّا أنّه لم يضحك ، ولم أر فيه [ من ] الاستبشار ما رأيت ممّن ضحك من الملائكة.

فقلت : من هذا يا جبرئيل ، فإنيّ قد فزعت منه ؟ فقال : يحقّ أن تفزع منه ، وكلّنا نفزع منه ، إن هذا مالك خازن النار ، لم يضحك قطّ ، ولم يزل منذ ولّاه الله جهنّم يزداد غضبا وغيظا على أعداء الله وأهل معصيته ، فينتقم الله به منهم ، ولو ضحك إلى أحد كان قبلك ، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك ، لضحك إليك ، ولكنّه لا يضحك. فسلّمت عليه فردّ السّلام عليّ ، وبشّرني بالجنة.

فقلت لجبرئيل وهو بالمكان الذي وصفه الله : ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(٢) : ألا تأمره أن يريني النار ؟ فقال له جبرئيل : يا مالك ، أر محمّدا النار. فكشف عنها غطاءها ، وفتح بابا منها ، [ فخرج ] لهيب ساطع في السماوات ، وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني ممّا رأيت. فقلت : يا جبرئيل ، قل له فليردّ عليها غطاءها ، فأمرها وقال : ارجعي ، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلا آدما (٣) جسيما فقالت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا أبوك آدم. فاذا هو

__________________

(١) الصافات : ٣٧ / ١٠.

(٢) التكوير : ٨١ / ٢١.

(٣) الآدم من الناس : الأسمر.

١٥

تعرض عليه ذرّيته فيقول : روح طيب وريح طيبة من جسد طيّب ثمّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : ﴿إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(٢) إلى آخرها. قال : فسلّمت على أبي آدم وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وقال : مرحبا بالابن الصالح ، والنبي الصالح ، والمبعوث في الزمن الصالح.

ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس (٣) ، وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه ، وإذا بيده لوح من نور ينظر إليه مكتوب فيه ، كتاب ينظر فيه ولا يلتفت يمينا ولا شمالا إلا وهو مقبل عليه كهيئة الحزين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح. فقلت : يا جبرئيل ادنني منه حتّى اكلّمه ، فأدناني منه فلّسمت عليه ، فقال له جبرئيل : هذا نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد ، فرحّب بي وحيّاني بالسلام ، وقال : أبشر يا محمّد ، فإنّي أرى الخير في امتك. فقلت : الحمد لله المنّان ذي النّعم على عباده ، ذلك من فضل رّبي ورحمته عليّ.

فقال جبرئيل : هو أشدّ الملائكة عملا. فقلت : أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا يقبض روحه ؟ فقال : نعم : قلت : ويراهم حيث كانوا ويشهدهم بنفسه ؟ فقال : نعم. فقال ملك الموت : ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها الله لي ومكّنني منها إلّا كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء ، وما من دار إلّا وأنا أتصفّحها كلّ يوم خمس مرات ، وأقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم : لا تبكوا عليه ، فانّ لي فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفى بالموت طامّة يا جبرئيل. فقال جبرئيل : إنّ ما بعد الموت أطمّ وأطمّ من الموت.

قال : ثمّ مضيت فاذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث يأكلون الخبيث ويدعون الطيب ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويدعون الحلال ، وهم من امّتك يا محمد.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل الله أمره عجبا ، نصف جسده نار ، والنصف الأخر ثلج ، فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفىء النار ، وهو ينادي بصوت رفيع يقول : سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب الثلج ، وكفّ برد [ هذا ] الثلج فلا يطفئ حرّ هذه النار ، اللهمّ يا مؤلّف بين الثلج والنار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك وكّله الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين ، وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرضين من عباده المؤمنين ،

__________________

(١) زاد في المصدر : سورة المطففين على رأس سبعة عشر آية.

(٢) المطففين : ٨٣ / ١٨ - ٢١.

(٣) في المصدر : الملائكة وهو جالس.

١٦

يدعو لهم بما تسمع منه منذ خلقه ، وملكان يناديان في السماء ؛ أحدهما يقول : اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا ، والآخر يقول : اللهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل (١) ، يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في أفواههم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من أدبارهم. فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا.

ثمّ مضيت فاذا أنا باقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا ، ويقولون : ربّنا متى تقوم الساعة ؟

قال : ثمّ مضيت فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اشتدّ غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم ، فاطّلع على عوراتهم وأكل خزائنهم.

قال : ثم مررت بملائكة من ملائكة الله عزوجل خلقهم كيف شاء ، ووضع وجوههم كيف شاء ، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلّا وهو يسبّح الله ويحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة ، أصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله ، فسألت جبرئيل عنهم ، فقال : كما ترى خلقوا ، إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ ، وما رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ، ولا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا ، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤوسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع. فقال لهم جبرئيل ، هذا محمّد نبي الرحمة ، أرسله الله إلى عباده رسولا نبيا ، وهو خاتم الأنبياء وسيّدهم ، أفلا تكلّمونه [ قال : ] فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام ، وأكرموني ، وبشّروني بالخير لي ولامّتي.

قال : ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية ، فاذا فيها رجلان متشابهان ، فقلت : من هذان يا جبرئيل ؟ قال : أبنا الخالة يحيى وعيسى ، فسلّمت عليهما وسلّما عليّ ، واستغفرت لهما واستغفرا لي ، وقالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح ، وإذا فيها من الملائكة [ مثل ما في السماء الاولى ] وعليهم الخشوع ، وقد

__________________

(١) المشفر للبعير بمثابة الشّفة للانسان.

١٧

وضع الله وجوههم كيف شاء ، ليس منهم ملك إلّا يسبّح الله ويحمده بأصوات مختلفة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة ، فإذا [ فيها رجل ] فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا أخوك يوسف ، فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي. وقال : مرحبا بالأخ الصالح ، والنبيّ الصالح ، والمبعوث في الزمان الصالح. وإذا فيها ملائكة [ عليهم ] من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى والسماء الثانية ، فقال له جبرئيل في أمري ما قال للآخرين ، وصنعوا مثل ما صنع الآخرون.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة ، وإذا فيها رجل فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليا ، فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات ، فبشّروني بالخير لي ولامتّي.

ثمّ رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ألف (١) ملك ، تحت كلّ ملك سبعون ألف ألف (٢) ملك ، فوقع في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه هو ، فصاح به جبرئيل ، فقال : قم ، فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا الى السماء الخامسة ، فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أكهل (٣) منه ، حوله ثلّة من امّته ، فأعجبتني كثرتهم ، فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا المجيب لقومه (٤) هارون بن عمران. فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة ، وإذا فيها رجل آدم كأنّه من شعره لو (٥) أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما ، وسمعته يقول : زعم بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على الله ، وهذا رجل أكرم على الله منّي.

فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : [ هذا ] أخوك موسى بن عمران. فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة ، فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا : يا محمد ، احتجم وأمر أمّتك بالحجامة ، وإذا فيها رجل أشمط (٦) الرأس واللّحية جالس على كرسيّ ، فقلت : يا جبرئيل ، من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله ؟ فقال : هذا يا محمد أبوك إبراهيم ،

__________________

(١ و٢) في المصدر : سبعون ألف.

(٣) في المصدر : أعظم.

(٤) في المصدر : المحبب في قومه.

(٥) في المصدر : آدم طويل عليه سمرة ولو لا.

(٦) الشّمط : بياض يخالطه سواد في الشعر.

١٨

وهذا محلّك ومحلّ من اتّقى من امّتك ، ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(١) فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، وقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، والمبعوث في الزمن الصالح. وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات ، فبشّروني بالخير لي ولامّتي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ورأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالابصار ، وفيها بحار مظلمة وبحار ثلج ترعد (٢) ، فلمّا فزعت ورأيت هؤلاء سألت جبرئيل ، فقال : أبشر يا محمد ، واشكر كرامة ربك ، واشكر الله ما صنع إليك [ قال : ] فثبّتني الله بقوّته وعونه حتى كثر قولي لجبرئيل وتعجّبي ، فقال جبرئيل : يا محمّد أتعظّم ما ترى ؟ إنّما هذا خلق من خلق ربك ، فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى وما لا ترى من خلق ربك أعظم من هذا ؟ إنّ بين الله وبين خلقه تسعين (٣) ألف حجاب ، وأقرب الخلق إلى الله أنا وإسرافيل ، وبيننا وبينه أربعة [ حجب ] : حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وحجاب من غمام ، وحجاب من ماء.

قال : ورأيت من العجائب التي خلق الله وسخّره على ما أراد ديكا رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ، ورأسه عند العرش ، وملكا من ملائكة الله خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ، ثمّ أقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة ، وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول : سبحان ربي حيث ما كنت ، لا تدري أين ربّك من عظم شأنه ، وله جناحان في منكبيه إذا نشرهما جاوزوا المشرق والمغرب ، فاذا كان في السّحر (٤) نشر جناحيه وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح ، يقول : سبحان الله الملك القدّوس ، سبحان الله الكبير المتعال ، لا إله إلّا هو الحيّ القيوم. فاذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلّها ، وخفقت بأجنحتها ، وأخذت بالصّراخ ، فاذا سكت ذلك الديك في السماء سكتت ديوك الأرض كلّها ، ولذلك الدّيك زغب أخضر وريش أبيض كأشدّ بياضا ما رأيته قطّ ، وله زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة ما رأيتها قطّ.

قال : ثمّ مضيت مع جبرئيل ، فدخلت البيت المعمور فصلّيت فيه ركعتين ومعي اناس من أصحابي عليهم ثياب جدد ، وآخرون عليهم ثياب خلقان (٥) ، فدخل أصحاب الجدد ، وحبس أصحاب الخلقان.

ثمّ خرجت فانقاد لي نهران : نهر يسمّى الكوثر ، ونهر يسمّى الرحمة ، فشربت [ من ] الكوثر ، واغتسلت من الرحمة ، ثمّ انقادا إليّ حتى دخلت الجنة ، فإذا على حافتيها بيوتي وبيوت أزواجي ، وإذا

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ٦٨.

(٢) في المصدر : ثلج ورعد.

(٣) في المصدر : سبعون.

(٤) زاد في المصدر : ذلك الديك.

(٥) الخلقان : جمع خلق ، أي بال.

١٩

ترابها كالمسك ، وإذا جارية تنغمس في أنهار الجنة ، فقلت : لمن أنت يا جارية ؟ فقالت : لزيد بن حارثة فبشّرته بها حين أصبحت ، وإذا بطيرها كالبخت (١) ، وإذا رمّانها مثل الدّلاء العظام ، وإذا شجرة لو ارسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة (٢) سنة ، وليس في الجنة منزل إلّا وفيه فرع منها ، فقلت : ما هذه يا جبرئيل. فقال : هذه شجرة طوبى ، قال الله تعالى : ﴿طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(٣) .

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فلما دخلت الجنّة ، رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار وهولها وأعاجيبها ، فقال : هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك وتعالى بها ، ولو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كلّ شيء فيه.

فانهيت إلى سدرة المنتهى ، فاذا الورقة منها تظلّ أمّة من الامم ، فكنت [ منها ] كما قال الله تعالى : ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى(٤) فناداني ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ(٥) وقد سبق ذلك في آخر سورة البقرة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ربّ ، أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني. فقال : قد أعطيتك في ما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولا منجى منك إلّا إليك.

قال : وعلّمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت وأمسيت : اللهم إن ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك ، وذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك ، وذلّي أصبح مستجيرا بعزّك ، وفقري أصبح مستجيرا بغناك ، ووجهي [ الفاني ] البالي أصبح مستجيرا بوجهك الباقي (٦) الذي لا يفنى.

ثمّ سمعت الأذان ، فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك الليلة ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، فقال الله : صدق عبدي ، أنا أكبر. فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله. فقال الله : صدق عبدي أنا الله لا إله غيري. فقال : أشهد أن محمّدا رسول الله ، أشهد أنّ محمّدا رسول الله. فقال الله : صدق عبدي إنّ محمّدا عبدي ورسولي. أنا بعثته وأنا انتجبته. فقال : حيّ على الصلاة ، [ حيّ على الصلاة ] فقال : صدق عبدي ، ودعا إلى فريضتي ، فمن مشى [ إليها ] راغبا فيها محتسبا ، كانت كفارة لما مضى من ذنوبه. فقال : حيّ على الفلاح ، [ حيّ على الفلاح. ] فقال الله : هي الصلاح والنجاح والفلاح ، ثمّ أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.

قال : ثمّ غشيتني ضبابة ، فخررت ساجدا ، فناداني ربّي : إنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة ، وفرضتها عليك وعلى أمّتك ، فقم بها أنت في أمّتك فقال : رسول الله : فانحدرت حتّى مررت بابراهيم فلم يسألني عن شيء ، ثمّ انتهيت إلى موسى ، فقال : ما صنعت يا محمّد ؟ فقلت :

__________________

(١) البخت : الإبل الخراسانية.

(٢) في المصدر : تسعمائة.

(٣) الرعد : ١٣ / ٢٩.

(٤) النجم : ٥٣ / ٩.

(٥) البقرة : ٢ / ٢٨٥.

(٦) في المصدر : الدائم.

٢٠