الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

ما أنزل ، وأنه لو لم يثبته لركن إليهم ، ثم لأصابه العذاب المضاعف وذلك قاطع فيما ذكرنا.

الثالثة : تفاوت الناس في المعصية بحسب مراتبهم ، بحيث يستكثر من بعضهم قليلها ، لأن الله ـ عزوجل ـ أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لو ركن إليهم شيئا قليلا ؛ لأذاقه عذابا مضاعفا.

ولقائل أن يقول : إن ذلك الركون لقليل لو وقع لكان كفرا عظيما ، إذ هو افتراء على الله ـ عزوجل ـ والكفر العظيم لا يستقل منه شيء.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥) [الإسراء : ٨٥] يحتج به من يرى قدم الروح ، وقرروه بأن الروح من أمر الله ، وأمر الله قديم ، فالروح قديم.

أما الأولى فلصريح هذه الآية ، وأما الثانية فلما سبق في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤) [الأعراف : ٥٤] وأجيب عنه بأن الأمر مشترك بين الكلام والفعل والخلق وغيرها ، فهو مجمل ، ويكفي ذلك في سقوط الاستدلال به ، ثم إنا نقول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥) [الإسراء : ٨٥] أي من خلقه ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، وكانت روح عيسى في تلك الأرواح» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٢) والجنود المجندة ليست قديمة ، ولأنه قد سبق الدليل على جسمية الروح ولا شيء من الجسم بقديم ؛ ولأنها لو كانت قديمة لزم القول بالحلول أو الاتحاد وتعدد القديم ، وكل ذلك محال ، وإنما قيل : الروح من أمر ربي هكذا / [١٢٧ ب / م] مجملا ؛ لأن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح سؤال تعجيز

__________________

(١) أورده العجلوني في كشف الخفاء [١ / ١٢٣ ، ٢٦٥] وانظر نوادر الأصول [٢ / ١١٦ ، ٤ / ١٧٥] والديلمي من قول علي ـ عليه‌السلام [٢ / ١٨٧] ـ [٢٩٣٧ / الفردوس].

(٢) رواه البخاري كتاب [الأنبياء : ٦٠] أخرجه أبو يعلى في مسنده [٤٣٨١] [٧ / ٣٤٤] والبخاري في الأدب المفرد [٩٠٠] ومسلم في كتاب البر والصلة والأدب [٤٥] باب الأرواح جنود مجندة ح [١٥٩] [٢٦٣٨] [١٦ / ٢٨٤]

٤٠١

وتغليظ ؛ إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له : الروح ، وصنف من الملائكة / [٢٦٩ / ل] ، والقرآن ، وعيسى ابن مريم كل واحد من هذه الستة [يسمى روحا] ، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي مسمى أجابهم ، قالوا : ليس هو الذي قلت : فجاءهم الجواب مجملا [كما سألوا مجملا] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥) [الإسراء : ٨٥] وأمر ربي يصدق على كل واحد من مسميات الروح ، فكان هذا الإجمال كيدا [قوبل به] كيدهم.

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨] هذه أعظم آيات التحدي بالقرآن ، لأن بعض هذا مما يوفر دواعي الخصوم على طلب الإتيان بمثله ، فلو كان ذلك في وسعهم لفعلوه بالضرورة عادة ، لكنهم لم يفعلوا ، ولم يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور مثله ، ولا بسورة مثله ، فدل على عجزهم عن معارضته مع كثرتهم وتمكنهم في الفصاحة والبيان ، وذلك يقتضي كونه معجزا ؛ إذ لا معنى للمعجز إلا أمر ممكن خارق للعادة مقرون بالتحدي خال عن المعارض ، وهذه الصفات موجودة في القرآن فكان معجزا مع أن المتحدى به هاهنا هم الجن والإنس ، وكل ما عجز عنه الجن والإنس معجز : بالطرد في معجزات الأنبياء ، وبالعكس في غيرها ؛ إذ كل أمر غريب ليس بمعجز فإن مجموع الجن والإنس لا يعجزون عن مثله.

ثم إن اليهود والنصارى وغيرهم من الخصوم [ألفوا] شكوكا على إعجاز القرآن إيرادها يطول ، وقد أفرد في ذلك كتب.

وهاهنا مسألتان : إحداهما أن تحدي الجن والإنس به يدل على دخولهم تحت دعوته ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل إلى الجن والإنس ، إذ لم تنتظمهم دعوته لما تحداهم بكتابه كما لم يتحد به الملائكة والشياطين والبهائم ، ولأن العجز عن معارضة المعجز كالنكول عن اليمين ، وذلك مستلزم لحكم الدعوى.

الثانية : احتج بالآية من رأى خلق القرآن ؛ لأنها تضمنت إثبات مثل للقرآن ، حيث طولبوا بالإتيان بمثله ، وأخبروا بالعجز عن مثله ، وكل ما له مثل فهو مخلوق ، وسئل بعضهم : ما الدليل على خلق القرآن؟ فقال : قدرة الله على مثله ، ومعناه أن الله ـ عزوجل ـ إن لم يقدر على مثل القرآن لزم التعجيز ، وإن قدر على مثله لزم أنه مخلوق ،

٤٠٢

والأول محال ، فالثاني حق ، ولأن القرآن معجز نبوي [وكل معجز نبوي] مخلوق / [١٢٨ أ / م] أما الأولى فإجماعية ، وأما الثانية فاستقرائية الاستقراء التام ، إذ معجزات الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كلها مخلوقة كالعصا واليد البيضاء وإحياء الموتى ، والناقة وغيرها. وليس بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي يتوقع له معجز قديم ينخرم به هذا الاستقراء فوجب العمل بمقتضاه.

واحتج القائلون بقدم القرآن بأن جميع معجزات الأنبياء لم يتحد بها الجن / [٢٧٠ / ل] مع الإنس إلا القرآن ، وإنما ذلك لكونه قديما ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا» وإنما أشار بذلك إلى الفرق بين [معجزه ، ومعجز] غيره بالقدم والحدوث ، ولأن القرآن معجز باق وغيره من المعجزات فان ، لم يبق إلا ذكره ، فدل على قدم القرآن وحدوث غيره.

وقد سبق في هذا المعنى كلام من الطرفين.

(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي : ليس أمر الآيات التي اقترحتموها إليّ إنما عليّ البلاغ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨) [الرعد : ٣٨].

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥) [الإسراء : ٩٥] أي لم تستغربون أن يبعث الله إليكم بشرا رسولا ، فإن الحكمة لا تقتضي إلا ذلك ، أن يرسل البشر إلى مثله ، أما إرسال الملك إلى البشر ، فيبطل حكمة الإرسال ، إذ يصير الإيمان برؤية الملك اضطرارا والحكمة تقتضي الإيمان الاختياري ، حتى لو كان في الأرض ملائكة ساكنون مقيمون فيها لأرسلنا إليهم ملكا من جنسهم ، إذ الحكمة لا تنافي ذلك ؛ لأن إيمان الملائكة بملك منهم لا يصير اضطراريا يخل بحكمة الإرسال ؛ إذ نسبتهم إليه نسبة البشر إلى الرسول البشري ، ودلت الآية على أن الأرض ليس فيها ملائكة يمشون مطمئنين ، أي : قاطنين بها كالإنس ، وعلى أن فيها ملائكة يمشون ، لكن [لا مطمئنين] قاطنين وشواهده كثيرة.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧) [الإسراء : ٩٧] ، يحتج بها الجمهور على رأيهم في القدر ، وهو صريح في أنه

٤٠٣

يضل بعض الخلق ثم يحشرهم يوم القيامة إلى جهنم مع أنه في ذلك ليس بظالم لهم ؛ فدل على ما قلناه من أنه عاملهم على ما علم منهم على تقدير التفويض إليهم.

وقد حكى ابن خميس في كتاب مناقب الأبرار في ترجمة الجنيد قال : ناظرت قدريا فاشتد بيني وبينه الكلام وقام مصرا على رأيه ، فلما كان الليل رأيت إنسانا يقول لي : ما ينكر هؤلاء القدرية أن الله ـ عزوجل ـ علم ممن عصاه من خلقه أنه لو فوض إليهم لعصوه ، فجبرهم على وفق الواقع منهم ، لو فوض إليهم ثم عاقبهم على تقدير ذلك ، أو كلاما هذا معناه بعينه ، وهذا / [١٢٨ ب / م] هو سر القدر الذي قررناه في المقدمة ، وكنت أظن أن أحدا لم يسبقني إليه حتى رأيت حكاية الجنيد هذه.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٩٨) [الإسراء : ٩٨] هذا إنكار منهم للبعث واستبعاد أو إحالة له.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) (٩٩) [الإسراء : ٩٩] / [٢٧١ / ل] ، دليل جواز البعث ، وتقريره : أن خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتكم وبعثكم ، فالقادر على ذلك ؛ قادر على بعثكم بطريق أولى ، وإنما قلنا ذلك لأن خلق السماوات والأرض أعظم من ابتداء خلقكم ، وابتداء خلقكم أعظم من إعادتكم ، ينتج خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتكم.

بيان الأولى : قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) [غافر : ٥٧] بيان الثانية : قوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) [الروم : ٢٧] وإن شئت فاعكس ، واستدل بالأهون فقل : إعادتكم أهون من ابتدائكم ، وابتداؤكم أهون من خلق السماوات والأرض ، فإعادتكم أهون من خلق السماوات والأرض ، والأهون من الأهون أهون ، فالقادر على الأعظم الأصعب يكون على الأيسر الأهون أقدر بالضرورة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) (٩٩) [الإسراء : ٩٩] يحتج به

٤٠٤

على تحتم الأجل المضروب ، لا زيادة ولا نقص كما سبق.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١) [الإسراء : ١٠١] قيل : هي العصا ، واليد البيضاء ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وانفلاق البحر ، والظلة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١) [الإسراء : ١٠١] أي : يخيل إليك أشياء لا حقائق لها تظنها آيات ، ويحتمل أن مراده : إني لأظنك ساحرا ، ويصير هذا كما في (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) [الإسراء : ٤٥] هل هو فاعل أو على أصله مفعول.

قال : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢) [الإسراء : ١٠٢] ضم التاء وفتحها تتخرج على القولين في مسحورا ، إن أريد به المفعول فالمناسب له ضم التاء أي لقد علمت أنا أن هذه آيات حق من حق ، وما أنا بمسحور ، وإن أريد به الفاعل ناسبه فتح التاء ، أي : لقد علمت يا فرعون أنها آيات حق ، وأني غير ساحر ، ولكنك معاند مثبور ، سيحل بك الثبور ، وهو الهلاك.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) [الإسراء : ١١٠] يحتج به على أن الاسم غير المسمى ، كما مر وعلى تسمية الصفات كالرحمن أسماء إما مجازا لغويا أو حقيقة اصطلاحية ، كما سبق تقريره في آخر الأعراف.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) [الإسراء : ١١٠] وهو من أدلة التوسط بين الطرفين ، وذم الانحراف إلى أحدهما ، وقد سبق آخر وهو (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩) [الإسراء : ٢٩] وبقي آخر في الفرقان (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ

٤٠٥

قَواماً) (٦٧) [الفرقان : ٦٧].

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١) [الإسراء : ١١١] ، فيه نفي الولد والشريك ، والولي من الذل أي / [١٢٩ أ / م] الناصر ، ويجيب به الجمهور عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علي : «إنه مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن / [٢٧٢ / ل] بعدي» أي ناصر كل مؤمن ، وكذلك يقولون في قوله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، وهو بعيد من السياق والظاهر.

٤٠٦

القول في سورة الكهف

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) [الكهف : ١] يحتج به على أنه منزل غير مخلوق ، وقد سبق.

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) [الكهف : ١] وكذلك (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) [الزمر : ٢٨] [قيل : ليس بمخلوق.

وأجيب بأن المراد : أنه مستقيم الطريقة لا ضلال فيه ولا اعوجاج عن الحق ، وما ادعيتموه من عدم الخلق ليس نصا في الآية ولا ظاهرا ، ولا تفسيرا لها عمن يعتد به متواترا].

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) [الكهف : ٢] فيه تعليل الأفعال الإلهية كما سبق.

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) [الكهف : ٢] هذا أدل على تغاير الإيمان والعمل الصالح من (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] ، لأن صفة المؤمنين هاهنا بعمل الصالحات مستقلة ، وهناك صلة معطوفة على صلة ، فلا استقلال لها.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥) [الكهف : ٥] تعظيم للقول باتخاذ الولد وتكذيب لهم فيه.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) [الكهف : ٧] تعليل للفعل الإلهي بحكمة الابتلاء.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) [الكهف : ١٤] [هذا استدلال بالنظر على وجود الصانع ، لأن السماوات والأرض] خلقان عظيمان في العقل يلزمهما وجود ، مؤثر فينتقل العقل منهما إليه انتقالا من الملزوم إلى اللازم وهو ضروري ، وقد سبق تقريره غير موضع.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) [الكهف : ١٤] هذا توحيد ودليله قولهم :

٤٠٧

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (١٥) [الكهف : ١٥] وتقريره : أن السماوات والأرض دليل على إله قديم كامل ، وغيره مما اتخذ آلهة لا دليل عليه ، وما لا دليل عليه لا يثبت ، إذ عدم الدليل على الشيء كدليل عدم الشيء ، كما أن عدم البينة كبينة العدم ، فكأن أهل الكهف تمسكوا على نفي الإله الثاني باستصحاب الحال ، ورأوه كافيا ، فكأنهم قالوا : قد ثبت لنا بدلالة السماوات والأرض على صانعهما إله ، فمن ادعى ثانيا فصاعدا فعليه الدليل ، ويحتمل أنهم أشاروا بذلك إلى طريقة للمتكلمين في نفي ما سوى الله ـ عزوجل ـ إلها ، وتقريرها : أن الإله من حيث هو إله قد ثبت وهو يصدق بواحد ، فإثبات الثاني ليس أولى من ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له ، وحينئذ إثبات ما فوق إله واحد من هذه الأعداد والمقادير ترجيح بلا مرجح وإنه محال ، ولعلهم إلى هذا أشاروا بقولهم : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) [الكهف : ١٤] أي بعيدا محالا للزوم الترجيح منه بلا مرجح منه / [١٢٩ ب / م] :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧) [الكهف : ١٧] يحتج به الجمهور على مذهبهم / [٢٧٣ / ل] وهو صريح فيه.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١) [الكهف : ٢١] جعل إيقاظهم من نومهم الطويل دليلا على البعث عن الموت ؛ لأن النوم أخو الموت بجامع تعطل الحس ، غير أن الموت نوم ثقيل ، والنوم موت خفيف ، ومن ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (١) وحكي عن المسيح أنه كان يقول : «يا بني إسرائيل كما تنامون تموتون ، وكما تستيقظون تبعثون» كل ذلك إشارة إلى تقارب النوم والموت ، ولهذا سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفي الجنة

__________________

(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير موقوفا [٢ / ٢٠٧] وأورده أبو نعيم في الحلية [٧ / ٥٢] وأورده العجلوني في كشف الخفاء [٢ / ٤١٤].

٤٠٨

نوم؟ قل : «لا لأن النوم أخو الموت» (١) وفي الأثر : عجبت لمن ينكر البعث ، وهو كل يوم يموت ثم يبعث! فأما قول أبي الطيب :

تمتع في حياتك من رقاد

ولا ترجو كرى تحت الرجام

فإن لثالث الحالين معنى

سوي حال انتباهك والمنام

فأشار إلى أن للإنسان ثلاثة أحوال : حال يقظة وموت ونوم ، فاليقظة والموت طرفان ؛ إذا اليقظة عبارة عن حال تعلق النفس بالبدن مستعملة للحواس ، والموت عبارة عن حال انقطاع تعلق النفس بالبدن انقطاعا كليا من كل وجه ، ويلزم ذلك تعطل الحواس لعدم تعقل النفس المستعملة لها ، وأما النوم فواسطة بينهما ؛ لأن النفس لا ينقطع تعلقها بالبدن فيه مطلقا ، بل من وجه ، وهو أنها تغتنم ركود الحواس بالنوم فتتوجه إلى عالم الغيب لاقتناص العلوم الغيبية مع التفاتها إلى الجسد ، وعزمها على معاودته إذا قضت أربها من عالمها ، فصار لثالث الحالين ـ وهو الموت ، الذي هو ثالث لحالتي النوم واليقظة ـ معنى يخالف معنى النوم واليقظة.

فالنوم أشبه الموت بجامع التفاتها إلى عالمها ، وفارقه وأشبه الحياة من جهة تعلق همها بالجسد.

وإن شئت قلت : اليقظة بقاء الحس والحركة ، والموت تعطلهما جميعا ، والنوم تعطل الحس دون الحركة ؛ إذ هو يتحرك متقلبا من جنب إلى جنب ، فبتعطل الحس أشبه الموت وببقاء الحركة أشبه اليقظة ، والسر في ذلك غريب عجيب ، ومن ثم كان من آيات الله ـ عزوجل ـ إذ يقول : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣) [الروم : ٢٣].

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤] هذا ضرب من التوحيد لأن من علم ألا تصرف له في نفسه ، وأن التصرف لله ـ عزوجل ـ / [٢٧٤ / ل] فيه وفي غيره من العالم على الإطلاق ، وأنه مصرف تحت مشيئته لا يستطيع حركة ولا سكونا إلا بإذنه وإرادته / [١٣٠ أ / م] كان في ذروة من التوحيد ،

__________________

(١) رواه البزار في كشف الأستار [٣٥١٧] وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد [١٠ / ٤١٥] وصححه.

٤٠٩

وعكسه من اعتقد أنه يفعل ما اختار من غير توقف على إرادة القادر المختار ، فذلك من المشركين الكفار إما حقيقة كعبدة الأوثان ، أو مجازا كالقدرية المحادين للرحمن.

ومن ثم قال الفقهاء : إذا حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل وإن شاء ترك ، ولا حنث عليه ؛ لأنه أعطى [المشيئة حقها من الأدب ، بخلاف ما إذا لم يستثن ، فإن تألى فأكذب ، ثم بالكفارة] عوقب ، وقد عود بعض الناس أنه إذا قال : أفعل كذا إن شاء الله ـ عزوجل ـ وفق لفعله غالبا وإلا فلا.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨) [الكهف : ٢٨] يحتج به الجمهور في أن الله ـ عزوجل ـ هو الذي يغفل من شاء عن ذكره ويضله وينسيه ونحو ذلك ، وتأوله المعتزلة على معنى : أصبناه غافلا ، على ما عرف من تأويلهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) [الكهف : ٢٩] يحتج به المعتزلة على أن العبد مختار تام الاختيار ؛ لأنه خيره بين الإيمان والكفر ، وعلق ذلك بمشيئته ، فلو لم يكن والحالة هذه مختارا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق ، إذ حاصله أنه يتوعده توعد مختار ويسخره تسخير مجبر مكره ، والجمهور تأولوا هذا على أنه أمر تهديد نحو : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) [فصلت : ٤٠] ، والإلزام باق عليهم إذ لو لم يكن مختارا لما تهدده ، وليس لهم إلا الرجوع إلى أصلهم من أنه مختار من حيث الكسب ، مجبر من حيث خلق الفعل فيه على وجه لا يمكنه التخلص منه ، أو على تفويض الجبرية ، وهو أن هذا التخيير على تقدير ذلك التفويض ، أي لو فوض إليه التفويض التام حتى كان مختارا بالحقيقة لكان منه ما وقع بالجبر من خير أو شر وإيمان أو كفر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣٠) [الكهف : ٣٠] يحتج به المعتزلة في أن ثواب الأعمال أجر عليها للنص على ذلك ، ويلزم أن تكون أعمالهم أثرا لهم يعاوضون عنها بالأجر ، وإلا لكان العوض والمعوض عنه من جهة

٤١٠

واحدة ، وإنه محال وقد سبق هذا.

وجوابه من جهة الجمهور : أن الأجر تفضل من الله ـ عزوجل ـ على كسبهم ، وتسميته أجرا لا يضيع مجازا.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦) [الكهف : ٣٦] هذا إنكار للبعث (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) [الكهف : ٣٧] أي يجادله ، فيه مشروعية الجدال لإقامة الحق وإنامة الضلال ، وجوبا أو ندبا على حسب الحال.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) [الكهف : ٣٧] إشارة إلى إنكار البعث كفر (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) [الكهف : ٣٧] استدلال على جواز البعث / [٢٧٧ / ل] بالقياس على الابتداء : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) [الأعراف : ٢٩].

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨) [الكهف : ٣٨] أي لكن أنا ، فاختصر وأدغم حتى قيل : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨) [الكهف : ٣٨] / [١٣٠ ب / م] توحيد (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨) [الكهف : ٣٨] نفي للشرك ، وقد سبق دليلهما ويأتي منه أشياء إن شاء الله عزوجل.

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) (٣٩) [الكهف : ٣٩].

توحيد في المشيئة والقوة ، (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢) [الكهف : ٤٢].

هذا ندم على الشرك وقع من هذا الشخص المعين ، وفيه إشارة إلى أن كل مشرك سيندم في الآخرة ، إذا حرم الجنة ودخل النار ، وهم جديرون بذلك ، فنسأل الله ـ عزّ

٤١١

وجل ـ الثبات والعصمة والدخول في كنف الرحمة.

ويقال : إن هذين الرجلين المتحاورين هما المذكوران في «الصافات» القائل أحدهما للآخر (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦) [الصافات : ٥٦].

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) [الكهف : ٤٧] ، هذا من مقدمات الساعة ، وهو ممكن غير أنه بعيد في قوة البشر ، وإن أردت تقريبه فانظر إلى الغمام المطبق للفضاء كيف يسير ، وهو كالجبال أو قريب منها.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) [الكهف : ٤٧] الآيتين ، إخبار بالحشر والعرض على الله ـ عزوجل ـ واجب الوقوع ؛ إذ كان خبر معصوم من الكذب.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف : ٤٩] ، فيه الحساب والمقابلة بصحائف الأعمال أخذا باليمين والشمال (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] قيل : هما التبسم والضحك ، وقيل : الذنب الصغير كالكذبة والكبير كالقذف.

(إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] أي تحريره وضبطه (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف : ٤٩] يحتج به المعتزلة ، وحجتهم منه وجوابها معروف كما سبق ، وهذه جملة من أحكام اليوم الآخر يجب تسليمها والإيمان بها ، لأنها ممكن أخبر به الصادق ، وكل ما كان كذلك فهو واجب الوقوع ، يجب الإيمان به.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) [الكهف : ٥٠] اختلف فيه ، فقيل : كان من طائفة من الملائكة يسمون الجن كما أن فيهم طائفة يسمون الروح ، وقيل : هو من الجن المعروفين المخلوقين من نار ، وهو أشبه ؛ لوجوه :

٤١٢

أحدها قوله : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) [الأعراف : ١٢] مع قوله ـ عزوجل ـ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) [الحجر : ٢٧] ، (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (١٥) [الرحمن : ١٥] مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور» (١) وهذا يقتضي أنه من الجن الناريين ، لا من الملائكة النوريين : [٢٧٨ / ل].

الثاني : أن إبليس له ذرية بدليل (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) [الكهف : ٥٠] والملائكة لا ذرية لهم ، فإبليس ليس من الملائكة ، والقول بأنه منهم لكنه لما إبليس تجدد له النسل ؛ ضعيف.

الثالث : أن قوله ـ عزوجل ـ : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ) شبيه بالتعليل لفسقه بكون من الجن ، من باب اقتران الحكم بالوصف المناسب ، وهو يقتضي أن الفسق غالب على الجن أو كثير جدا / [١٣١ أ / م] حتى كأنهم علة مناسبة لوجوده ، وليس أحد من الملائكة كذلك.

الرابع : قول الملائكة : (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) [سبأ : ٤١] يقتضي أن الجن غير جنس الملائكة ، وإلا لكانوا قد أحالوا بالذنب على أنفسهم ، وهو خلف من الاعتذار.

الخامس : أن الجن عند إطلاقهم يبادر الذهن إلى غير الملائكة ، وهم الجن الناريون ، وهو دليل الحقيقة المرادة.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣) [الكهف : ٥٣] أي : علموا وتيقنوا ، وهو من استعمال الظن في موضع اليقين بقرينة.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) [الكهف : ٥٤] هذا ذم للجدل لا مطلقا ، بل إذا عاند الحق ؛ لأن الكافر ضرب له أمثال الحق ، ونظمت له براهين الصدق ، فعاند وجادل بالباطل ليدحض به الحق (يُجادِلُونَكَ فِي

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق في أحاديث متفرقة [٦٠ / ٢٩٩٦].

٤١٣

الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) [الأنفال : ٦].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) [الكهف : ٥٧] سبق نظيرها في (سبحان).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) [الكهف : ٥٧] لما صرفوا به عن اتباع الحق ، مما خلق في قلوبهم من دواعي الضلال والصوارف عن الهدى.

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٦٣) [الكهف : ٦٣] يعني الحوت ، (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤) [الكهف : ٦٤] يستدل به على كون العلة الشرعية عدمية بطريق أولى ؛ إذ كان ذهاب الحوت وانعدامه من حيث فقدانه علامة على وجود الخضر الذي طلباه.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥) [الكهف : ٦٥] أي : من عندنا ، وهذا هو متعلق الصوفية وأهل السلوك في إثبات العلم اللدني ، نسبة إلى (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥) [الكهف : ٦٥] وهو إلهام المعرفة بالحقائق الغيبية وغيرها ، ثم إن العلم اللدني إذا تقدمها استعداد بالعلوم النظرية أقوى مما إذا ورد على النفس غير مستعدة ، والخضر ـ عليه‌السلام ـ كان قد تقدم له استعداد بذلك على ما حكي في قصته ومبدأ أمره ، فلهذا كان علمه اللدني عالي الطبقة بحيث صلح به أن يكون معلما لموسى الكليم ـ عليه‌السلام. فإن قيل : سائر علوم الناس من لدن الله ـ عزوجل ـ وعنده ؛ فما وجه تخصيص بعض العلوم / [٢٧٩ / ل] باللدني؟ قلنا : اللدنية والعندية متفاوتة في مراتب الخصوص ، فهذا العلم اللدني خاص ، ألا ترى أن السلطان يعطي جنده وحاشيته ورعيته ، ويخلع عليهم على مراتبهم من الصوف إلى ثياب الذهب والجميع من عنده وخزانته ، فكذلك هاهنا.

٤١٤

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦) [الكهف : ٦٦] فيه استحباب طلب العلم حتى للعالم زيادة على ما عنده والسفر في طلبه وسؤال المشايخ الصحبة لذلك ، اقتداء بموسى عليه‌السلام.

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٦٧) [الكهف : ٦٧] الآيتين ، فيه جواز الإعراض عن صحبة المريد والتلميذ إذا علم أن الطريق صعب عليه ، وطي الأسرار عنه لذلك والاقتصار به / [١٣١ ب / م] على ما يطيق من ذلك الطريق ، اقتداء بالخضر ، وهو من سياسة المشايخ والعلماء للمريدين والطلبة. وفي الأثر. «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله» (١).

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩) [الكهف : ٦٩] فيه استحباب تعليق الأمور المطلوبة والأراجي ونحوها بالمشيئة ، احترازا من التالي المكذب اقتداء بموسى ـ عليه‌السلام ـ وبما سبق في أوائل السورة.

فإن قيل : موسى علق صبره على المشيئة ولم يصبر ، وسليمان ترك التعليق في رجاء حصول الأولاد للجهاد فلم يحصلوا ؛ فقد استوى التعليق وعدمه ، فما فائدته؟ وجوابه : أن التعليق بالمشيئة ليس موجبا لحصول المطلوب ، كيف وأن مقتضاه الترديد بين أن يشاء الله فيفعل أو لا يشاء فلا يفعل؟ وإنما فائدته أن الإنسان إذا تأدب مع الله ـ عزوجل ـ بتعليق الأمور بمشيئته وتقييدها بإرادته ، كان أجدر بحصول مراده وأمنيته ، على أنا لا نسلم أن موسى لم يحصل له ما علق على المشيئة ، فإنه كان نبيا ذا كتاب وشريعة ، وهو إمام عدل وحق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأنه لما رأى الخضر قد خرق سفينة قوم مساكين ، وقتل غلاما لم يبلغ الحلم أخذ برجل الخضر ليلقيه في البحر فيقتله بالغلام ، فلولا أن الله ـ عزوجل ـ ثبته وصبره لكان قد أمضى ما هم به من قتل الخضر كما قتل القبطي بوكزه ، فالصبر المهم قد حصل وأفاد تعليقه بالمشيئة ، ولعله لو لا ذلك لم يصبر ولكان قد قتل الخضر.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠) [الكهف : ٧٠] فيه استحباب تأديب المشايخ للمريدين بالوصايا الحسنة من ترك الاعتراض ونحوه ،

__________________

(١) رواه البخاري [١ / ٥٩] [١٢٧] وعزاه الحافظ ابن كثير [٤ / ٥٠١] للخليفة على ـ عليه‌السلام موقوفا عليه.

٤١٥

والتزام المريد ذلك إذا وثق بحسن طريق الشيخ وسلوكه لمقتضى وصية الخضر ، [٢٨٠ / ل] وفيه وفيما بعد جواز الاعتراض على المشايخ فيما يخالف ظاهر الشرع ممن له ذلك من أولي الأمر العام اقتداء بموسى ، وأن فاعل ما يخالف ظاهر الشرع إذا ادعى أن ذلك جائز في العلم الباطن ونحوه ، لا يسمع منه إلا بدليل شرعي قاطع كالنص على الخضر.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٧٢) [الكهف : ٧٢] فيه تقريع المريد وتذكيره بما يقوي همته على الصبر على صعوبة السلوك ؛ لأن ذلك أجدر بالوصول.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣) [الكهف : ٧٣] فيه أن الناسي معذور ، وأنه ينبغي مسامحته إذ هو غير منتهك للحرمة ، ومن ثم ورد شرعنا بالعفو عنه وأنه غير مكلف.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤) [الكهف : ٧٤] إشارة من موسى إلى ما كان عنده في التوراة أن / [١٣٢ أ / م] النفس بالنفس إلى قوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) [المائدة : ٣٢] وأن موسى كان يتبع نصوص كتابه عاملا بها.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧) [الكهف : ٧٧] هذا تعريض من موسى بالاعتراض والإنكار ؛ إذ كان قد التزم له تركه وألا يصاحبه إن عاوده (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨) [الكهف : ٧٨] وذلك فيه ترتيب أحكام التصريح على التعريض إذا أفهم معناه بقرينة ؛ لأن الخضر رتب على تعريض موسى بالإنكار من مفارقته ما كان التزمه له بالتصريح به.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨) [الكهف : ٧٨] فيه استحباب التبرؤ من التهم وإقامة الأعذار بكشف الأسرار.

٤١٦

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) [الكهف : ٧٩] قيل كان خلفهم يطلبهم ، وقيل : قدامهم مرصدا لهم ، و «وراء» مشترك بينهما ؛ لأنه مشتق من المواراة ، وكلا الجهتين يحصل ذلك منه.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٩٩) [الكهف : ٩٩] فيه إثباته وقد سبق في «الأنعام».

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١) [الكهف : ١٠١] فيه وجوب النظر والاستدلال ؛ لأنه ذمهم على تركه بما خلقه فيهم من الصارف عنه ، إذ معناه كانت أعين رءوسهم وقلوبهم معرضة عن النظر في ملكوتي ليذكروا بذلك وجودي وجبروتي.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) [الأعراف : ١٨٥].

ولا يجوز حمل الذكر على اللساني ؛ لأنه ليس بالأعين ، (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١) [الكهف : ١٠١].

مثل (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠) [هود : ٢٠].

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢) [الكهف : ١٠٢].

أي : وأسكت عنهم ولا أعاقبهم ، هذا لا يكون ، وفيه تعظيم الشرك قبحا والتوحيد حسنا ، وهو مثل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) [النساء : ٤٨].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧)

[الكهف : ١٠٧] فيه إثبات الجنة والمعاد والنعيم / [٢٨١ / ل] الجسمانيين كما مر.

٤١٧

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩) [الكهف : ١٠٩] يستدل بها من رأى قدم القرآن ؛ لأنها اقتضت أن كلماته ـ عزوجل ـ لا تفنى ولا تنفد ، وما كان كذلك فهو قديم ، واعترض عليه بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ، فإنهما لا ينفدان وهما حادثان ، وربما فرق بأن نعيم الجنة لا ينفد من طرف لا يزال وهو الأبد ، والكلمات لا تنفد من الطرفين ، لا تزال ولم تزل وهو الأزل ، وهذا الفرق عين محل النزاع.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) [الكهف : ١١٠] هذا حصر له في البشرية ، باعتبار من نازعه في النبوة ، وسأله الآيات عنادا ونحوهم ، وأما باعتبار نفسه من حيث هو فلا ينحصر في وصف البشرية إذ له صفات / [١٣٢ ب / م] أخر ككونه جسما ، حيا ، متحركا ، بشيرا نذيرا ، نبيا رسولا وغير ذلك ، والحصر يأتي على ضربين : مطلقا باعتبار جميع الجهات ، ومقيدا باعتبار بعضها كما في هذه الآية ، وهذه من مسائل المفهوم الحصري.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف : ١١٠] إثبات للتوحيد (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) [الكهف : ١١٠] يحتج به على الرؤية كما سبق.

* * *

٤١٨

القول في سورة مريم

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : ٥] اعترض به الشيعة على الحديث الصحيح المشهور أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» (١) قالوا : لأن زكريا نبي وقد سأل أن يوهب له وارث فوهب له يحيى ، فورثه ، وهو يقتضي أن الأنبياء يورثون فيكون الحديث المذكور متروكا لوجوه :

أحدها : أنه خبر واحد وهو عندهم غير معتبر.

الثاني : أنه على خلاف نص القرآن القاطع فلا يقبل.

الثالث : أن العباس وعليا وفاطمة نازعوا أبا بكر في روايته إياه كما ثبت في الصحيحين.

الرابع : أنه متناقض في نفسه ، لأنه ثبت في الصحيح أن عليا والعباس سمعاه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إنهما مع ذلك جاءا يطلبان الإرث من أبي بكر ، ولو كانا سمعا لما طلباه من أبي بكر ، ثم من عمر بعده ، إذ كان معنى ذلك منهما حينئذ أعطونا إرث من لا يورث ، وهو خلف من القول ، لا ينسب إلى رعاة الإبل ، فضلا عن العباس وعلي في علمهما وفضلهما وسؤددهما.

وأجاب الجمهور عن الأول : خبر / [٢٨٢ / ل] الواحد عندنا حجة ، وعن الثاني بأن زكريا إنما ورث العلم لا المال ، فلا يكون الخبر مخالفا للنص ، وعن الثالث : لا نسلم أنهم نازعوا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ سلمناه لكنهم نازعوه أولا لعدم علمهم بالخبر ، فلما أثبته لهم بكثرة من رواه من الصحابة كعمر ، وعثمان ، وطلحة ، وسعد ، وعبد الرحمن ، وأبي هريرة ، وعائشة ـ رضوان الله عليهم ـ قبلوه وسلموا له ، وعن الرابع : بأنهما نسيا الرواية فلما ذكّرا ذكرا فتركا المطالبة وحينئذ لا تناقض.

ويشكل على هذا أنه لو كان كذلك لما كررت فاطمة مطالبة أبي بكر مرارا ، ولما طلبه العباس وعلى عمر بعد أبي بكر ، ثم لما منعهما واحتج عليهما بالحديث رأياه [كاذبا آثما] كما رواه مسلم من حديث مالك بن أوس بن الحدثان البصري.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧) [مريم : ٧] يحتج به من رأى الاسم المسمى مع قوله بعد (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] فنادى الاسم فدل على / [١٣٣ أ / م] أنه

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه [٣ / ١٣٧٨] ح [١٧٥٧].

٤١٩

المسمى ، ولا حجة فيه كما سبق ، ومعناه يا أيها الشخص المسمى يحيى ونحوه.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩) [مريم : ٩] يحتج به من رأى المعدوم ليس بشيء ؛ لأنه أخبر أن زكريا قبل وجوده لم يك شيئا ، وهو حينئذ معدوم ، فلو كان المعدوم شيئا لما صح هذا الخبر ، وأجاب المعتزلة : بأن معناه لم تك شيئا مذكورا ، كما صرح به في موضع آخر ، فالمنفي هو المذكورية لا الشيئية ، وبعض المعتزلة لم يقتصر على أن المعدوم شيء ، بل زعم أنه ذات وجوهر وعرض ، وكأنهم زعموا ذلك من قبل أن صدور الموجودات عن عدم محض لا يعقل ، فأثبتوا في العدم شيئا يكون مادة للموجودات ، وتخيلوا أن المعدومات في بحر العدم كالجواهر في قعر البحر متقررة في ذواتها ، وإن غابت عن الحس ، وهي نزعة فلسفية تلقوها عن الفلاسفة في إثباتهم قدم الهيولي وهى المادة الإمكانية ، ولو كان المعدوم شيئا لكان الموجود لا شيء ، أو لاستوى الموجود والمعدوم في الشيئية وإنه محال.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) [مريم : ١٠] أي : على وجود الولد (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١٠) [مريم : ١٠] هذه علامة عدمية ، وهي نفي الكلام على أمر وجودي ، وهو وجود الولد ، فيحتج به على جعل علة الحكم الشرعي أمرا عدميا على الأصح فيه ؛ لأن علل الشرع أمارات ومعرفات لا موجبات ومؤثرات.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧) [مريم : ١٧] قيل هو جبريل ، وقيل : روح القدس الذي أيد به عيسى ، دخل بطنها فتكون منه المسيح ، وبذلك ضلت النصارى حيث اشتبه عليهم / [٢٨٣ / ل] الملك بالإله ، وإضافة الروح إلى الله ـ عزوجل ـ إضافة تشريف كما سبق.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩) [مريم : ٢٩] العادة اطردت بأن مثل هذا لا يتكلم (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠) [مريم : ٣٠] اعتراف بالعبودية خلافا للنصارى ، وربما موهوا بأنه عبد بناسوته دون لاهوته كما سبق من قولهم وهو تمحل.

(وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠) [مريم : ٣٠] رد على اليهود حيث أنكروا نبوته.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) (٣٢) [مريم : ٣٢] ولم يقل بوالدي كما

٤٢٠