الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

إما أن يكون أولى بالحكم من المنطوق وهو مفهوم الموافقة ، أو لا يكون أولى به وهو مفهوم المخالفة نحو : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) [المطففين : ١٥] «وفي سائمة الغنم الزكاة» (١) / [٤٢ أ / م] وإلى هذه القسمة ترجع الألقاب الكثيرة نحو مفهوم الخطاب ، ودليله وفحواه ولحنه وما كان من ذلك.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩)

[آل عمران : ٧٩] دليل خطابه أنه يكلم ويزكي من ليس كذلك ، ممن وفى بعهده ولم يشتر بعهد الله ـ عزوجل ـ ويمينه ثمنا قليلا.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩) [آل عمران : ٧٩] ، تدل على أن من علم الكتاب وعلمه ودرس كان ربانيا ، وهو مشاهد ، ودل صدر الآية وهو (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩) [آل عمران : ٧٩]. على أنه لا أحد من البشر ينبغي أن يكون إلها حقيقيا ، وهي قضية سالبة دائمة إن لم تكن ضرورية ، وهي تنعكس كنفسها هكذا : لا واحد من الآلهة الحقيقية ينبغي أن يكون بشرا ، وهو مبطل لمذهب النصارى في اعتقادهم إلهية المسيح ، والكلام معهم طويل.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠)

[آل عمران : ٨٠] فيه رد على اليهود والنصارى ، حيث تألهوا عزيرا والمسيح ، وعلى الصابئة حيث عبدوا الملائكة والكواكب.

ومستند الرد أن هؤلاء كلهم حادثون ، لما سبق في بيان حدوث العالم ، [ولا شيء] من الحادث بإله ، فلا شيء من هؤلاء بإله ، وهو واضح.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ

__________________

(١) البخاري فتح الباري [٣ / ٣٧٢] وفي رواية أبي داود [٢ / ٩٧] «في سائمة الغنم إذا كانت».

١٤١

رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١) [آل عمران : ٨١] فيها مسألتان :

إحداهما : جواز التكليف بالمعدوم بشرط وجوده ، لأن الله ـ عزوجل ـ أخذ ميثاق النبيين ـ عليهم‌السلام ـ على نصرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به في الزمن القديم وليس حينئذ موجودا ، لكن بشرط وجوده في عصره.

الثانية : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١) [آل عمران : ٨١] فيه مستدل لمن اشترط في صحة الرواية إقرار الشيخ بأن يقال له : حدثكم فلان أو سمعتم ، فيقول : سمعت. أو : نعم ، وهو مذهب من شدد في الرواية ، والصحيح أنه متى علم إقراره بالسماع ونحوه بنص منه أو قرينة جازت الرواية.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) / [٨٩ / ل]) [آل عمران : ٨٥] عام مطرد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١) [آل عمران : ٩١] عام مطرد في عدم قبول الفدية منهم ، ولحوق العذاب الأليم بهم ، وعدم الناصر لهم.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣) [آل عمران : ٩٣] عام خص بالاستثناء بعده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢)

[آل عمران : ١٠٢] قيل : عام خص بقوله ـ عزوجل ـ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦) [التغابن : ١٦] وقيل : عام أريد به ذلك الخاص ، وقيل : منسوخ به في البعض ، وهو ما لا يستطاع ، ولعلك تطلب الفرق بين العام المخصوص ، والعام الذي أريد

١٤٢

به الخاص وهو فرق مهم ، وهو المتكلم إذا أطلق اللفظ العام فإن أراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص ، مثاله : قام الناس. فإن أردت إثبات القيام لزيد مثلا لا غير ، فهو عام أريد به الخاص ، وإن أردت سلب القيام عن [زيد] فهو عام مخصوص ، وأيضا العام يراد به الخاص ، إنما يحتاج إلى دليل معنوي يمنع من إرادة الجميع فيتعين له البعض ، والعام المخصوص يحتاج إلى مخصص لفظي غالبا كالشرط والاستثناء والغاية والصفة والمنفصل نحو : قام القوم ، ثم بقوله : ما قام زيد.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣) [آل عمران : ١٠٣] يحتج به وبأمثاله من ذم الفرقة ، والنهي عنها من ينكر الخلاف في الفروع ، وتقريره : أن الخلاف مطلقا مذموم ، ولا شيء من المذموم بمشروع فالخلاف مطلقا ليس بمشروع ، فإن اضطر إليه لتعارض الأمارات والماخذ ، فليجتهد في تقليله ما أمكن ، على ما تقرر في كتاب «عمدة الاختلاف في تقليل الخلاف».

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣) [آل عمران : ١٠٣] يحتج بظاهره من يرى أن ما قارب الشيء يعطى حكم ذلك ؛ لأن هؤلاء المخاطبين كانوا قد قاربوا الوقوع في النار فأعطوا حكم من وقع فيها ، ثم أخرج منها ، أما إن تأولناه على معنى : فأنقذكم من الوقوع فيها ، على تقدير حذف المضاف لم ينهض حجة على ذلك.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤) [آل عمران : ١٠٤] فيها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، لأن / [٩٠ / ل] المأمور به بعض الناس ، ويلزم منه جواز الإيجاب على الكفاية ، خلافا لمن منعه ؛ لأنه إيجاب على مبهم مجهول ، وذلك غير معقول.

والجواب يمنع أنه غير معقول ؛ إذ لا يأبى العقل أن يوجب السيد على جماعة عبيده عملا إن تركوه عاقبهم ، وإن فعلوه سلموا من العقاب سواء فعله جميعهم أو بعضهم ، ولا يعين لفعله أحدا منهم ، وقياسا على الواجب المخير ، إذ هو تكليف ببعض غير معين وعلى الواجب الموسع إذ هو تكليف في زمن غير معين ، والمسائل الثلاث من مادة واحدة ، إذ

١٤٣

هي مشتركة في تعلق الحكم بالقدر المشترك.

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (١٠٨) [آل عمران : ١٠٨] يحتج به المعتزلة على أن الظلم الواقع في العالم ليس من الله ـ عزوجل ـ بخلق ولا إرادة ، وتقريره أن الله ـ عزوجل ـ نفى أن يريد أن يظلم هو أحدا ، ولو كان الظلم الواقع منهم مخلوقا ، أو مرادا له ثم عاقبهم عليه لكان ظالما لهم وذلك مع كونه لا يظلمهم ما لا يجتمع.

وجواب الجمهور بمنع هذه الملازمة فلا نسلم أنه لو خلق الظلم فيهم ثم عاقبهم عليه كان ظالما.

ومستند / [٤٣ / أ / م] المنع ما قررناه في سر القدر.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠) [آل عمران : ١١٠] ربما تعلق به بعض الجهال في الطعن على الأمة بأن قال : معنى الآية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ثم انتقلتم عن الخيرية كما يقال : كانت دولة فلان وانقضت ، وكان الناس كراما ، ثم حالوا عن الكلام.

والجواب : أن هذا جهل بالكلام وأقسامه ، فإن هذا إنما يصح أن لو كانت «كان» هاهنا ناقصة ، وليست كذلك بل هي تامة تقديره : وجدتم خير أمة ، نحو : إذا كان الشتاء أي : إذا وقع ، (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي وجد.

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠] فيه أن هذه الخصال الثلاثة هي جماع الخير وملاكه ؛ لأنه عزوجل فسر خيرية الأمة بها.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) (١١٩) [آل عمران : ١١٩] عام مطرد.

(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران : ١١٩] هذا أمر تعجيز وتحسير ، أي : أنكم عاجزون عن كيدنا ، وبحسرته تموتون.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩) [آل عمران : ١١٩] عام مطرد.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) [آل عمران : ١٢٦] هذا

١٤٤

عموم وخصوص تضمن عموما / [٩١ / ل] مطردا ، وكذلك كل جملة تضمنت نفيا ب «ما» وإثباتا ب «إلا» فقوله ـ عزوجل : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦) [آل عمران : ١٢٦] عام ، أي ما النصر موجود ، ثم خص بالاستثناء بعد وهو (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فحصل منهما عام مطرد تقديره : النصر كله من عنده الله.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨) [آل عمران : ١٢٨] عام مطرد ، إذ هو نكرة في سياق نفي ، وهو شبيه بقوله ـ عزوجل ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) [القصص : ٥٦] في الدلالة على استبداد الله ـ عزوجل ـ بالتصرف في خلقه من غير مشارك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠) [آل عمران : ١٣٠] هذا خرج مخرج الغالب ، أو حكاية حالهم في أكل الربا ، أو التعريض بالتشنيع على أكلته ، كذلك فلا مفهوم حتى لو أكله آكل لا أضعافا مضاعفة لكان حراما أيضا.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) [آل عمران : ١٤٤] فيه إثبات رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيأتي البرهان عليها في سورة الفتح إن شاء الله عزوجل.

(انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) (١٤٤)

[آل عمران : ١٤٤] زعمت الشيعة أن هذا تعريض من الله ـ عزوجل ـ بارتداد الصحابة ، وانقلابهم على أعقابهم بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ذلك ، فأكد في نهيهم عنه ، بقوله : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولا ترجعوا بعدي ضلالا ...» (١) الحديث ، ثم لم يكفه ذلك حتى أخبرهم بأنهم سيؤخذ بهم يوم القيامة عن الحوض ذات الشمال إلى النار حتى لا يخلص منهم إلا همل النعم ، قالوا : وقد كان ذلك منهم بانحرافهم عن إمامهم المنصوص عليه وهو علي إلى غيره.

__________________

(١) رواه البخاري ح [١٢١] ومسلم [٦٥] والنسائي [٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨] وابن ماجة [٣٩٤٢] وأحمد [٤ / ٣٥٨ ، ٣٦٣ ، ٣٦٦].

١٤٥

وأجاب الجمهور بأنا لا نسلم أن في الآية تعريضا بما ذكرتم ، وإنما هو جملة شرطية دخل عليها حرف الاستفهام ، فأفادت تشجيعهم على القيام بالأمر معه / [٤٣ ب / أ] ومن بعده ، وقد فعلوا ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا» فهو نهي لهم عن مثل ما خلفت به الأمم السالفة أنبياءها من الكفر ، وقد امتثلوا فلم يكفروا ، وما كان بينهم من الحروب والدماء فعن تأويل واجتهاد هم فيه معذورون بل ومأجورون ، وأما المأخوذ بهم ذات الشمال إلى النار فمحمول على أهل الردة الذين ماتوا عليها.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥) [آل عمران : ١٤٥] عام مخصوص بمن شاء الله ـ عزوجل ـ أن ينال ذلك ، ووفق لأسبابه بدليل :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨) [الإسراء : ١٨].

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١) [آل عمران : ١٥١] أي : بما نخلق فيها من أسباب الضعف والجبن ، ونقرره فيها من مقدمات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم ، وهو من مادة (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) [آل عمران : ١٣] ونحوه.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤) [آل عمران : ١٥٤] أي التصرف في الوجود له ـ عزوجل ـ يتصرف في لطيفه وكثيفه ، علويه وسفليه ، في العقول والنفوس والأفلاك والأرواح والطبائع ،

١٤٦

وغيرها من العوالم لا تصرف في شيء من ذلك في الدنيا والآخرة لغيره ، عزوجل.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣) [هود : ١٢٣] ، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤) [فاطر : ٤] ، (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) [النجم : ٤٢] ، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

[آل عمران : ١٥٤] يعني بقدرة الله ـ عزوجل ـ وقضائه وقدره الغالب النافذ ، ومستند ذلك وسببه ما يلقيه ويخلقه في النفوس من دواعي البروز إلى القتال والصوارف عن القرار في البيوت ، بما تسول للإنسان نفسه من لذة الظفر بخصمه ، أو الغنيمة ونحوه.

فإذا خرج ضعفت أسبابه ، وانعكس حسابه ، وأخذت أسلابه كما جرى للكفار ببدر.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨) [الأنفال : ٤٨] ونحو ذلك ، وكشف السر عن خلق الدواعي والصوارف ، وتحقيق كيفيته ما لا يليق مع كل أحد ، وهو إذا حقق انتفضت به قوى القدر وانعزل الصواب عن أهل الاعتزال. وهذه كقوله عزوجل : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) [النساء : ٧٨] وقول الشاعر :

فإن المنية من يخشها

فسوف تصادفه أينما

أي : أينما ذهب.

قول علي ـ رضي الله عنه ـ :

في أي يومي من الموت أفر [أيوم لم يقدر] أو يوم قدر ونظائره (كثيرة).

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥) [آل عمران : ١٥٥] ، فيها مسائل للشيعة :

١٤٧

الأولى : أن هذا كان يوم أحد ففر عثمان وثبت علي ؛ فدل على أن عليا أفضل ؛ لأنه سلم من هذه اللائمة.

الثانية / : [٤٤ أ / م] : أن الفرار من الزحف كبيرة خصوصا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الضائقة ، وقد أتاها عثمان.

الثالثة : دلت الآية على أن فرار عثمان إنما كان عقوبة على ذنب آخر أتاه لقوله عزوجل : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥] فكان عقوبة الذنب ذنبا مثله.

وأجابت السّنّة بتمام الآية ، وهو / [٩٣ / ل] قوله ـ عزوجل : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥) [آل عمران : ١٥٥] والذنب المغفور كغير المعمول ، ولو ساعد الدليل على أن يحمل تولى عثمان وأصحابه توليا مباحا ، إما تحرفا لقتال ، أو تحيزا إلى فئة ، لكان أولى ، لكنه لا يساعد إذ لو كان كذلك لما لحقتهم اللائمة ، ولما احتاجوا إلى العفو ، وبما أجبنا به أولا أجاب ابن عمر عن عثمان مع معرفة ابن عمر بحقيقة الواقعة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦) [آل عمران : ١٥٦] هذا هو قول القدرية المعتقدين لكون الإنسان يخلق الموت والقتل وأسبابه ، فلو لم يخلقه لم يقع ، فرد الله ـ عزوجل ـ ذلك عليهم

بأنه هو الذي يحيي ويميت بما يخلقه من الموت والحياة على أيدي خلقه ، ويجبرهم على اكتساب أسبابه ، وإنما خذل القدرية حتى اعتقدوا معتقدهم ليجعل ذلك حسرة في قلوبهم ، يتندمون على فعلها كلما ذكروها تعجيلا لجزء من عذاب القدر لهم في الدنيا قبل الآخرة.

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ١٦٥] أي : بذنوبكم ، فعله الله ـ عزوجل ـ بكم ، وليس المراد أنكم خلقتموه كما زعم القدرية بدليل قوله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٦) [آل عمران : ١٦٦] إشارة إلى تعليل هذا الفعل بهذه الحكمة ، ويحتج به على أن أفعاله ـ عزوجل ـ معللة بالعلل الحكمية (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا

١٤٨

قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) [آل عمران : ١٦٧] يحتج به المعتزلة في إثبات المنزلة بين المنزلتين ، وعلى المنافقين لا كفار ولا مؤمنون ، كالخنثى بين الذكر والأنثى ؛ لأن الكلام هنا في المنافقين ، ولم يقطع لهم أحد بأحد الطرفين بل جعلهم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان ، وهو يدل على ما ذكرنا ، وكذلك المعتزلة قالوا : المؤمن إذا أتى الكبيرة خرج عن الإيمان لفسقه ، ولم يدخل في الكفر لبقاء إسلامه وتوحيده ، فهو إذن في منزلة بين منزلتين ، لا كافر ولا مؤمن.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨) [آل عمران : ١٦٨] كقولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦) [آل عمران : ١٥٦] وقد سبق ، ثم أجيبوا على جهة التعجيز والتكذيب ؛ فقيل لهم : (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨) [آل عمران : ١٦٨] ، لأن من يدفع عن غيره أولى / [٤٤ ب / م] بأن يدفع عن نفسه ، وهم لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم كما تبين في الواقع ، فكذا عن غيرهم.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩) [آل عمران : ١٦٩] يعني الشهداء ، يحتج بها على أن الأرواح أجسام ؛ لأنه وصفوا بعد القتل بالحياة والرزق والفرح والاستبشار وتلك صفات الأجسام ، ثم إن تلك ليست هي الأجسام الطبيعية التي كانت قبل القتل ؛ لأن تلك مشاهدة عندنا ليس لها شيء من الصفات المذكورة ، فدل على أنها صفات أجسام [هي] الأرواح ، ولقائل أن يقول : لعل الصفات المذكورة للطير الخضر التي تتعلق بها أرواح الشهداء ، وتعلق من شجر الجنة ، وحينئذ لا يدل على أن الأرواح أجسام.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا

١٤٩

حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) [آل عمران : ١٧٣] هذا عام أريد به الخاص كما مر في المقدمة.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥)

[آل عمران : ١٧٥] أي يخوفكم أولياءه ، وفيه إثبات الشيطان والجن خلافا للفلاسفة.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦) [آل عمران : ١٧٦] هو يشوش مذهب المعتزلة من وجهين :

أحدهما : أن هذا شر وقد أراده ، وهم زعموا أنه لا يريد الشر.

الثاني : أنهم زعموا أنه يجب عليه اللطف ورعاية المصالح.

وهذا ينافي ذلك ، إذ لا مصلحة لهم في حرمان حظهم من الآخرة ، وفي لزوم هذا لهم نظر.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) [آل عمران : ١٧٨] هذا أيضا ينافي رعاية المصالح لهم ، إذ إن مصلحتهم إذن في أن يعاجلهم ليكون أقل لإثمهم ، بل في ألا كان يبتليهم ، بل ألا كان يخلقهم.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢) [آل عمران : ١٨٢] يحتج به القدرية في أن فعلهم مخلوق لهم ، ويحمله الآخرون على الكسب أو مقتضى الجبر على ما عرف.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) [آل عمران : ١٨٣] ظاهرة أنه سلم لهم هذه الدعوى ، ثم ألزمهم المناقضة ، وهو قتلهم من جاءهم بذلك ، فإن كان صادقا فلم قتلتموه! وإن كان كاذبا فقد بطل كون القربان المذكور علامة على صدقه.

والتحقيق له [أنه] إنما سلم لهم ذلك على سبيل التنزيل ، كأنه قال : لا أسلم أن الله ـ عزوجل ـ عهد إليكم بذلك ، سلمناه لكن قد قتلتم من هذه صفته فلزمكم ما ذكرناه.

١٥٠

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥) [آل عمران : ١٨٥] عام مخصوص بنفس الله ـ عزوجل ـ بأن وصف له نفسا ، وعالم الجنة إن قلنا : لا يموتون ، وحينئذ تقديره : كل نفس حادثة لم تخلق للبقاء ذائقة الموت.

فيختص بالقيد الأول ، نفس الله ـ عزوجل ـ وبالثاني عالم الجنة ونحوه ، ممن خلق للبقاء.

(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٥] عام مطرد في توفية الأجور والحصر هو للتوفية في ذلك اليوم.

وكذا (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] ، وهو مثل (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ١٢٦] / [٤٥ أ / م] في أنه جمع عموما وخصوصا حصل منه عموم مطرد.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) [آل عمران : ١٩٠] الآيتين ، فيهما إشارة إلى كيفية النظر في شواهد الوجود الدالة على الصانع الموجود ، كما في نظيرتها في البقرة غير أن هذه أخص من تلك وأحق بهذا المعنى ، إذ فيها التصريح / [٩٥ / ل] بالتفكر في خلقهما ، ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها وما بعدها حين يقوم من منامه ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويل لمن قرأها ثم لم يتدبرها» (١).

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١) [آل عمران : ١٩١] إشارة إلى وجه الاستدلال بها وهو هكذا : ربنا أنت خلقت هذا ، ومن خلق هذا لم يخلقه باطلا ، فأنت لم تخلق هذا باطلا ولا عبثا نحو :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) [المؤمنون : ١١٥] ففيه إشارة إلى الاستدلال على المبدأ ، وهو الصانع ، وعلى المعاد وهو المرجع.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا

__________________

(١) رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه [٢ / ٣٨٦] ح [٦٢٠].

١٥١

ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣) [آل عمران : ١٩٣] ربما استشعر منه وجوب إجابة الداعي بمجرد دعواه من غير معجز ، وليس كذلك ، بل لا بد من المعجز والنظر فيه ، وإلا ادعى النبوة كل أحد ، [وإذا] كان مع اشتراط المعجز ظهر كذابون دجالون يدعون النبوة فكيف لو لم يشترط.

وهذه الآية مطلقة أو مجملة في اشتراط المعجز ، قيدت أو [بينت] بالإجماع والنظر على ما قد يأتي إن شاء الله ـ عزوجل.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥) [آل عمران : ١٩٥] يحتج به المعتزلة على مذهبهم في الأعمال ؛ لأن الثواب هو العوض ، فلولا أن أعمالهم التي استحق عليها الثواب من خلقهم لكان العوض والمعوض من جهة واحدة وأنه محال.

والكسبية قالوا : هو ثواب على أكسابهم.

الجبرية قالوا : سمي ثوابا مجازا ، وإلا فكلاهما العمل والجزاء عليه من الله عزوجل.

* * *

١٥٢

القول في سورة النساء

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) [النساء : ١] عام مطرد.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١] الضمير عام إذ جميع الناس خلقوا من تلك النفس.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢) [النساء : ٢] عام مطرد في اليتامى تدفع إليهم أموالهم بشرطه المذكور بعد.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] أي : مضمومة إليها ، فمعنى الغاية موجود ، ولا ضرورة إلى حملها على معنى مع.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) [النساء : ٣] عام مطرد في الصفة ، خاص في (لكم) أي : أنكحوا هذا العدد المخصوص على أي صفة كن من الصفات الطبيعية ونحوها.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) [النساء : ٣] عام خص بذوات محارمه من نسب أو رضاع إذا ملكهن ، لا يباح له وطؤهن ونحو ذلك ، مما قام الدليل على تخصيصه.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤) [النساء : ٤] عام خص بما وهبته المرأة له أو أبرأته منه ، أو سقط بأمر من جهتها فلا يجب إيتاء شيء / [٤٥ ب / م] من ذلك.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥) [النساء : ٥] عام مطرد ، لا يعطى السفيه / [٩٦ / ل] شيئا من ماله ، ولا يصرف فيه ، وإنما أضاف مال السفيه إلى الوصي لكونه تحت يده كماله ،

١٥٣

وقيل فيه غير ذلك.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦) [النساء : ٦] عام مطرد ، أي اختبروهم فإن صلحوا لتسليم المال إليهم سلموا بشرط البلوغ والرشد.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) [النساء : ٦] عام مطرد.

(وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] وهو الأقل من كفايته وأجرة مثله ، فلو كانت كفايته درهما كل يوم وأجرة مثله درهمين أو بالعكس ، أخذ درهما لأنه المعروف [المتيقن استحقاقه].

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧) [النساء : ٧] الظاهر أن هذا النصيب بالإرث ؛ فيكون عاما مخصوصا بالعبد [والقاتل والكافر] من المسلم وبالعكس ، وبمن حجب فلم يرث ، وكذا (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] أما ما ترك فعام أيضا ، يخص بالوصايا ونحوها ، وبالديون لا نصيب للورثة في شيء من ذلك.

ولقائل أن يقول : مقدار الدين لم يتركه الميت فلا يتناوله العموم ، فلا يحتاج إلى أن يخص ، وجوابه بالمنع بل هو تركة يتناوله العموم ، بدليل ما لو برئ الميت من الدين تناول العموم مقداره بلا خلاف. نعم ذلك المقدار تعلق به حق الغير ، وذلك لا يمنع من دخوله تحت عموم التركة.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي : قسمة الميراث (أُولُوا الْقُرْبى) [النساء : ٨] يعني قرابة الميت الذين لا إرث لهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [النساء : ٨] عام في هذه الأصناف إلا من خص بدليل وإعطاؤهم من الميراث على جهة الصدقة والتبرع والأمر به ظاهر في الوجوب ، ويحتمل الندب.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً

١٥٤

وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) [النساء : ١٠] عام مطرد في أموال اليتامى ، ومن فرط فيها ، وخاص في الأكل [أريد به العام] ، إذ ليس المراد خصوصه ، بل عموم تفويت أموالهم عليهم ، وإنما خص الأكل ؛ لأنه غالب ما يغصب لأجله المال.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١) [النساء : ١١] أي في توريثهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] خص منهم من سبق من عبد وكافر وقاتل ومحجوب كابن الابن يحجبه الابن ، وبنت الابن يحجبها بنات الصلب.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١) [النساء : ١١] عام مطرد فيهم إذ لا يعلم عاقبة النفع والضرر فيهم إلا الله ـ عزوجل ـ وفيه إشارة إلى أن تفاوت أنصباء الورثة بالقلة والكثرة والإرث والحجب لتفاوت نفعهم للموروث في علم الله عزوجل دنيا وأخرى.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢) [النساء : ١٢] ، وكذلك (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) [النساء : ١٢] عام في الأزواج والزوجات خص بمن لا يرث كالرقيق / [٩٧ / ل] والذمي والقاتل فلو ترك زوجة أمة أو ذمية أو قاتلة له لم ترثه ، وكذا لو تركت زوجا عبدا أو قاتلا لم يرثها.

١٥٥

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣) / [٤٦ أ / م] [النساء : ١٣].

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤) [النساء : ١٤] عام فيهما بشرط الموافاة على ذلك.

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْه ِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥) [النساء : ١٥] عام في إتيان الفواحش غير أن الآية منسوخة في إمساكهن في البيوت ، بما شرع فيهن من الجلد والرجم والتغريب.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧) [النساء : ١٧] هذا عام في هؤلاء مطرد.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٧] أي واجب منه بمقتضى صدق وعده لا أنه واجب عليه ، خلافا للمعتزلة ، إذ أوجبوا عليه قبول التوبة ، ورعاية المصالح وفعل اللطف وإزاحة [العلل في التكليف] ؛ لأنه لو لم يجب عليه لجاز له تركه ، ولو تركه لكان [ذلك قدحا في الحكمة والعدل ، وأنه محال.

وقال الجمهور : لو وجب عليه شيء من ذلك لكان] فوقه موجب أعلى منه شرع أو عقل وأنه محال ، إذ الله ـ عزوجل ـ هو العلي المطلق ، فلا أعلى منه ، ولا نسلم أنه لو ترك شيئا مما ذكرتم لكان قد جار في حكمه أو عدل ، فلم قلتم ذلك ، فإن الله يتصرف في خلقه بحق ملكه التام واستعلائه العام ، وإنما هذا من الخصم بناء على التحسين والتقبيح العقلي ، وهو ممنوع.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

[النساء : ١٨] عام مطرد في سلب قبول التوبة عن هذين الفريقين لكنهما إنما تنقطع عن عامل السيئات عند حضور الموت ، ومعاينة الملك ونحوه ، وهي مقبولة ما لم ييأس من الحياة إن شاء الله عزوجل.

١٥٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) [النساء : ١٩] عام في الوارث والموروث وجهة الإرث.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠) [النساء : ٢٠] عام خص بما تراضيا عليه كتواهب أو تخالع كما سبق في قوله ـ عزوجل ـ : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩) [البقرة : ٢٢٩].

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٢٢] عام ، والاستثناء بعده منقطع ، فليس بمخصوص ، نعم من يرى أن النكاح حقيقة في الوطء ، وأن الزنا لا يوجب تحريم المصاهرة يخص منه موطوءة الأب بالزنا فيبيحها للابن واختلف في النكاح ؛ فقيل : هو حقيقة في العقد ، وقيل : في الوطء ، وقيل فيهما.

والأشبه أنه في الوطء حقيقة وضعية ، وفي العقد حقيقة عرفية مجاز لغوي ، ثم من يرى استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا / [٩٨ / ل] فقياس قوله التحريم بهما ، ومن لم ير ذلك غلب إحدى الحقيقتين فحرم بها دون الأخرى والأشبه الأول.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] عام فيهن من الطرفين كأمه وأمها وأم أبيه وأم جده ومن ولدتهن وإن علون.

١٥٧

(وَأَخَواتُكُمْ) من الطرفين أو أحدهما (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) كذلك إذ العمة أخت الأب من الجهات / [٤٦ ب / م] الثلاث ، والخالة أخت الأم منهن.

(وَبَناتُ الْأَخِ) الذي هو من الجهات الثلاث ، (وبنات الأخت) التي هي كذلك.

(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] عام فيهن من النسب والرضاع.

(وَرَبائِبُكُمُ) [النساء : ٢٣] الواحدة ربيبة ، وهي بنت زوجته المدخول بها دون غير المدخول بها ، فلو دخل بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها. ولو عقد عليها ولم يدخل بها حرمت عليه أمها لعموم (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) [النساء : ٢٣] دون ابنتها لخصوص (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] ، ولا أثر لتخصيصهن بالحجور ؛ لأنه دليل خطاب خرج مخرج الغالب ، وليس بحجة خلافا لداود حيث أباح للرجل ربيبته التي ليست في حجره لظاهر دليل الخطاب.

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] خص به عموم مسمى الأبناء فخرج منه أبناء التبني لا النسب ، كزيد بن حارثة بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسالم بالنسبة إلى مولاه أبي حذيفة فلا تحرم عليه زوجته ، وهو عام في تحريم زوجة الابن وابن الابن وابن البنت لأنه من الصلب بواسطة أمه [البنت] وإن سفلوا في هذه البنوة.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] أي : والجمع بين الأختين حرام عليكم ؛ فاقتضى عمومه تحريم الجمع بينهما بالنكاح والملك.

وقوله عزوجل : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦) [النساء : ٣٦].

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ

١٥٨

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) [النساء : ٣] (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠) [المعارج : ٣٠] جوازه بملك اليمين ، من ثم قيل : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فمن ثم حرم الجمع بينهما بالنكاح إجماعا ، وخرج فيه بالملك قولان للعلماء : أحدهما : يحرم لعموم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] والثاني : تباح لعموم : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠) [المعارج : ٣٠] ثم من حاول ترجيح الإباحة قال : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٣] خاص بتحريم النكاح فتبقى إباحة الجمع بينهما بالملك على عمومه من غير معارض ، ومن حاول ترجيح التحريم قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) [النساء : ٣] عام خص بأمته المشركة والمجوسية لا تحل له.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] عام لم يخص ، [وما لم يخص] أولى بالاعتبار ، مما خص ، فيكون العمل بمقتضاه أولى والأشبه الأول ، ثم قوله / [٩٩ / ل] : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] ذهب الكرخي (١) إلى أنه مجمل ؛ لأن عين [الأم والميتة] لا تحرم ، وإنما المحرم هو فعل متعلق بها. وذلك الفعل غير متعين ؛ لاحتمال أنه من الأم وطؤها أو استخدامها أو إجارتها وغيره من الأفعال ، ومن الميتة أكلها أو بيعها أو

__________________

(١) هو عبيد الله بن حسين بن دلال شيخ الحنفية بالعراق ولد سنة ٢٦٠ ه‍ وتوفي سنة ٣٤٠ ه‍ انظر شذرات الذهب [٤ / ٢٢٠] وتاريخ بغداد [١٠ / ٣٥٣].

١٥٩

إتلافها ونحوه.

فكان النص فيها مجملا ، والجمهور على أنه ليس بمجمل ، والتحريم ينصرف إلى الفعل المعهود ، وهو الاستمتاع بالأم ، وأكل الميتة / [٤٧ أ / م] وصار ذلك كالحقيقة العرفية لمبادرة الذهن إليه خصوصا ، والآية مكتنفة بذكر النكاح قبلها وبعدها نحو : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢) [النساء : ٢٢].

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] فصار ذلك كالقاطع في البيان ، وهذه من مسائل المجمل والمبين.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٢٤] أي المزوجات يعني ذوات الأزواج حرام عليكم وهو عام خص بالاستثناء بعده (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤] بالسبي ، لأن سبيهن يقطع عصمة نكاحهن ، فإذا اعترض الملك بابتداء الرق على النكاح قطعه وأباح ، وإذا اعترض النكاح على الملك كالأمة يزوجها السيد ، لم يبح له وطؤها.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] أي نكاح ما سوى المحرمات المذكورة ، وهو عام خص بالسّنّة في تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ونكاحهما عليها.

(أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢٤] عام في جنس المال وقدره ، فيستدل به على جواز كون المهر نقدا وعرضا من جماد وثياب وحيوان وجوهر أو عرضا كالمنافع ؛ إذ هي كالمال في مقابلتها بالعوض وعلى جواز كونه قليلا وكثيرا كخاتم حديد وقنطار ذهب.

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء : ٢٤].

احتج الشيعة بهذا على جواز نكاح المتعة ، وهو عقد النكاح إلى مدة معلومة مع باقي شروطه عند الجمهور ، من خلوها من زوج وعدة ، وغير ذلك ولحوق النسب فيها ونحوه

١٦٠