البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

سورة القمر

مكية كلها عند الجمهور ، وقيل : إلّا قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ...) إلخ. وهى خمسون آية ، ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (١) وهى التي أخبر عنها بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

يقول الحق جل جلاله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ؛ قربت القيامة ، قال القشيري : ومعنى قربها : أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليل بالإضافة إلى ما مضى. ه. قال ابن عطية : وأمرها مجهول التحديد ، وكلّ ما يروى من التحديد فى عمر الدنيا فضعيف. ه. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) نصفين ، وقرىء : و «قد انشقّ القمر» ، أي : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنّ القمر قد انشقّ ، كما تقول : أقبل الأمير ، وقد جاء البشير بقدومه.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : انشق القمر على عهد النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين ، فكانت إحداهما فوق الجبل ، والأخرى أسفل من الجبل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا» (٢). قال ابن عباس : إنّ المشركين قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فلقتين ، فقال : «إن فعلت ؛ أتؤمنون؟» فقالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه ؛ فانشق فرقتين ، نصف على أبى قبيس ، ونصف على قعيقعان (٣). وقيل : سألوا آية مجملة ، فأراهم انشقاق القمر (٤). قال ابن عطية : وعليه الجمهور ، يعنى عدم التعيين.

__________________

(١) الآية ٥٧ من سورة النّجم.

(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ، تفسير سورة القمر ، باب (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب انشقاق القمر ، ح ٢٨٠٠).

(٣) ذكره القرطبي فى تفسيره (٧ / ٦٤٨٣). وقعيقعان : جبل بمكة. انظر اللسان (قعع ٥ / ٣٦٩٦).

(٤) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب انشقاق القمر ح ٣٨٦٨) عن أنس بن مالك.

٥٢١

وفى صحيح مسلم : أنه انشق مرتين (١) ، وصرح فى شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. ه. وقيل : معناه ؛ انشق ، أي : ينشق يوم القيامة ، وهو ضعيف ، ولا يقال : لو انشقّ لما خفى على أهل الأقطار ، ولو ظهر عندهم لنقل متواترا ؛ لأن الطباع جبلت على نشر العجائب ، لأنه يجوز أن يحجبه الله عنهم بغيم أو غيره ، مع أنه كان ليلا ، وجلّ النّاس نائمون ، وأيضا : عادة الله ـ تعالى ـ فى معجزاته أنه لا يراها إلّا من ظهرت لأجله فى الغالب.

تنبيه : قال القسطلاني فى المواهب اللدنية : ما يذكره بعض القصاص أن القمر دخل فى جيب النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج من كمه ، ليس له أصل ، كما حكاه الزركشي عن شيخه العماد ابن كثير. ه.

(وَإِنْ يَرَوْا) أي : أهل مكة (آيَةً) تدل على صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُعْرِضُوا) عن الإيمان (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ؛ محكم شديد قوىّ ، من : المرّة ، وهى القوة ، أو : دائم مطّرد. روى : أنه لما انشق ؛ قالوا : هذا سحر ابن أبى كبشة؟ فسلوا السّفار ، فلما قدموا سألوهم ، فقالوا : إنهم قد رأينه ، فقالوا : قد استمر سحره فى البلاد ، فنزلت (٢). قال البيضاوي : دل قوله : (مستمر) على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة ، ومعجزات سابقة. ه. أو : مستمر ؛ ذاهب ومارّ ، يزول ولا يبقى ، من : مرّ الشيء واستمر : ذهب.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) الباطلة ، وما زيّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره ، حتى قالوا : سحر القمر ، أو : سحر أعيننا ، (وَكُلُّ أَمْرٍ) وعدهم الله به (مُسْتَقِرٌّ) ؛ كائن فى وقته ، أو : كل أمر قدر واقع لا محالة يستقر فى وقته ، أو : كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب ، وقرىء «مستقر» بالجر (٣) ، فيعطف على «الساعة» ، أي : اقتربت الساعة وكلّ أمر مستقر ، يعنى : أشراطها.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي : أهل مكة فى القرآن ؛ (مِنَ الْأَنْباءِ) ؛ من أخبار القرون الماضية ، وكيف أهلكوا بالتكذيب (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي : ازدجار عن الكفر والعناد ، يقول : زجرته وازدجرته ، أي : منعته ، وأصله : ازتجر ، افتعل ، من الزجر ، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاى ساكنة أبدلت دالا ؛ لأن التاء حرف مهموس ، والزاى حرف مجهور. فأبدل من التاء حرف مجهور ، وهو الدال ؛ ليناسب الميم.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب انشقاق القمر ح ٢٨٠٢) عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري (٢٧ / ٨٥) وعزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١٧٦) لابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبى نعيم ، والبيهقي ، كلاهما فى الدلائل ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(٣) قرأ أبو جعفر «مستقر» بخفض الرّاء ، صفة ، ورفع (كل) حينئذ بالعطف على «الساعة» ، وقيل : بالابتداء والخبر ، أي : وكلّ أمر مستقر لهم فى القدر بالغوه. وقرأ الباقون بالرفع ، خبر «كل». انظر الإتحاف (٢ / ٥٠٥).

٥٢٢

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : بدل من «ما» ، أو : خبر ، أي : هو حكمة بالغة ؛ ناهية فى الرّشد والصواب ، أو : بالغة من الله إليهم. قال القشيري : والحكمة البالغة ؛ الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن فكّر فيها. ه. قال المحلى : وصفت بالبلاغة ؛ لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها ه. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) شيئا ، حيث سبق القدر بكفرهم ، و «ما» نافية ، أو استفهامية منصوبة ب «تغن» ، أي : فأىّ إغناء تغنى النّذر مع سابق القدر؟ والنّذر : جمع نذير ، وهم الرّسل ، أو : المنذر به ، أو : مصدر بمعنى الإنذار ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء ، واستمراره حسب تجدد مجىء الزواجر واستمرارها.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك بأنّ الإنذار لا يغنى فيهم شيئا ، واذكر (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (١) وهو إسرافيل عليه‌السلام (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي : منكر فظيع ، تنكره النّفوس ، لعدم العهد بمثله ، وهو هول القيامة. (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ) ، ف «خشعا» : حال من فاعل «يخرجون» ، أي : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أذلة أبصارهم من شدة الهول ؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن فى أعينهما ، ومن قرأ : «خاشعا» (٢) فوجهه : أنه أسند إلى ظاهر ، فيجب تجريده كالفعل ، وأما من قرأ بالجمع ، فهو على لغة : «أكلونى البراغيث» ، (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) فى الكثرة والتموّج والتفرق فى الأقطار. قال ابن عطية : فى الحديث : أن مريم دعت للجراد ؛ فقالت : اللهم أعشها بغير رضاع ، وتتابع بينها بغير شباع. ه.

ثم وصف خروجهم من القبور ، فقال : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) ؛ مسرعين مادى أعناقهم إليه ، أو ناظرين إليه ، (يَقُولُ الْكافِرُونَ) استئناف بيانى ، وقع جوابا عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال ، وأهله بسوء الحال ، كأنّ قائلا قال : فما ذا يكون حينئذ؟ فقال : (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) ؛ صعب شديد. وفى إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا فى تلك المرتبة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : اقتربت ساعة الفتح لمن جدّ فى السير ، ولازم صحبة أهل القرب ، قال القشيري : الساعة ساعتان ؛ كبرى ، وهى عامة ، وصغرى ، وهى خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله ، برفع الأوصاف البشرية ، وقطع العلائق الطبيعية. ثم قال : وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» (٣) راجعة إلى الساعة الصغرى. ه. أي :

__________________

(١) أثبت المصنف الياء فى «الداع إلى» وهى قراءة ورش وأبى عمرو وأبى جعفر ، وصلا ، والبزي ويعقوب فى الحالين. وقرأ الباقون بغير ياء وصلا ووقفا. انظر السبعة / ٦١٧ والإتحاف ٢ / ٥٠٥.

(٢) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «خاشعا» بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين مخففة ، بالإفراد. وقرأ الباقون «خشعا» بضم الخاء وفتح الشين وتشديدها بلا ألف. انظر الإتحاف (٢ / ٥٠٦).

(٣) قال العراقي فى المغني ٤ / ٦٧ : «أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت ، من حديث أنس ، بسند ضعيف» وكذا قال الشوكانى فى الفوائد المجموعة (ص ٢٦٧) وزاد : «وهو من قول الفضيل بن عياض رحمه‌الله تعالى» وأخرجه الديلمي ، الفردوس بمأثور الخطاب (ح ١١١٧) عن أنس بلفظ : «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ...» الحديث. وانظر كشف الخفاء (ح / ٢٦١٨).

٥٢٣

من مات عن رؤية نفسه ؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي : قمر الإيمان ؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان ، لم يبق لنوره أثر ، ليس الخبر كالعيان ، وإن يروا ـ أي : أهل الغفلة والحجاب ـ آية تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص ، يعرضوا منكرين ، (وَيَقُولُوا) : هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ..) الآية ، وكلّ أمر قدّره الحق ـ تعالى فى الأزل ، من أوقات الفتح أو غيره ، مستقر ، يستقر ويقع فى وقته ، لا يتقدم ولا يتأخر ، فلا ينبغى للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه ، فربما عوقب بحرمانه ، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكرى أهل الخصوصية ، وما لحق أهل الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبعد ما فيه مزدجر ، كما فعل بابن البراء وأمثاله ، حكمة من الله بالغة ، وسنة ماضية ، يقول : «من آذى لى وليّا فقد آذن بالحرب» فما تغن النّذر إذا سبق الخذلان ، فتولّ أيها السالك عنهم ، وعن خوضهم ، واشتغل بالله عنهم ؛ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، واذكر الموت وما بعده ، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء ، وذل الأغبياء ، يقولون : هذا يوم عسر على من طغى وتجبر.

ثم سرد قصص الأنبياء ، تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتفسيرا لقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) فقال :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام. ومعنى تكرار التكذيب : أنهم كذّبوا تكذيبا عقب تكذيب ، كلما خلا منهم قرن مكذّب ، جاء عقبه قرن آخر مكذّب مثله ، وقيل : كذبت قوم نوح الرّسل ، (فكذّبوا عبدنا) ؛ لأنه من جملتهم. وفى ذكره عليه‌السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة ؛ تفخيم له عليه‌السلام ورفع لمحله ، وزيادة تشنيع لمكذّبيه ، (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي : لم يقتصروا على مجرد التكذيب ، بل نسبوه للجنون ، (وَازْدُجِرَ) أي : زجر عن أداء الرّسالة ؛ بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو : هو من جملة قولهم ، أي : قالوا : هو مجنون وقد ازدجرته الجن ، أي : تخبّطته وذهبت بلبه.

٥٢٤

(فَدَعا رَبَّهُ) حين أيس منهم (أَنِّي مَغْلُوبٌ) أي : بأنى مغلوب من جهة قومى ، بتسليطهم علىّ ، فلم يسمعونى ، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري : مغلوب بالتسلط لا بالحجة ، إذ الحجة كانت له. ه. وهذا جار فيمن لم يستجب لك ، تقول : غلبنى. ثم دعا عليهم بقوله : (فَانْتَصِرْ) ؛ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وذلك بعد تحقق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد روى أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه ، فيقول : اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) ؛ منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما ، قال يمان : حتى طبق بين السماء والأرض (١) ، وقيل : كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار ، وشدة أنصابها ، وقيل : كان فى السماء يومئذ أبواب حقيقة.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) ؛ وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ، ومثله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٢) فى إفادة العموم والشمول ، (فَالْتَقَى الْماءُ) أي : مياه السماء ومياه الأرض ، وقرىء : «الماءان» (٣) ، أي : النوعان من الماء السمائى والأرضى. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : قضى فى أم الكتاب ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ، أو : قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحدا من غير تفاوت. قيل : كان ماء السماء باردا كالثلج ، وماء الأرض مثل الحميم ، ويقال : إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب ، والذي نزل من السماء بقي حارا.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أي : أخشاب عريضة ، والمراد : السفينة ، وهى من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له ، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه ، (وَدُسُرٍ) ؛ ومسامير ، جمع : دسار ، وهو المسمار ، فعال من : دسره : إذا دفعه ؛ لأنه يدسر به منفذه. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي. بمرأىّ منا ، أو : بحفظنا ، وهو حال من فاعل «تجرى» ، أي : تجرى محفوظة (جَزاءً) مفعول له ، أي : فعلنا ذلك جزاء (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح عليه‌السلام ، وجعله مكفورا ؛ لأن النّبى نعمة من الله ورحمة ، فكان نوح نعمة مكفورة. وقرأ مجاهد بفتح الكاف ، أي : عقابا لمن كفر بالله. قيل : ما نجا من الغرق إلّا عوج بن عنق ، كان الماء إلى حجزته (٤) ، وسبب نجاته : أنّ نوحا احتاج إلى

__________________

(١) ذكره البغوي فى تفسيره ٧ / ٤٢٨.

(٢) من الآية ٤ من سورة مريم.

(٣) عزاها فى مختصر ابن خالويه ، وزاد فى البحر المحيط (٨ / ١٧٥) علىّ والحسن ومحمد بن كعب.

(٤) الحجزة : موضع التكة من السروال.

٥٢٥

خشب الساج للسفينة ، فلم يمكنه نقلها ، فحمل عوج تلك الخشب إليه من الشام ، فشكر الله له ذلك ، ونجّاه من الغرق. قاله الثعلبي (١). قلت : وقد تقدم إبطاله فى سورة العقود (٢) ، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي : السفينة ، أو : الفعلة ، أي : جعلناها (آيَةً) يعتبر بها من يقف على خبرها. وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة ، وقيل : على الجودىّ ، حتى رآها أوائل هذه الأمة (٣). (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ؛ من متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله : مذتكر ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟! استفهام تعظيم وتعجيب ، أي : كان عذابى وإنذارى لهم على هيئة هائلة ، لا يحيط بها الوصف ، والنّذر : جمع نذير ، بمعنى الإنذار.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي : سهّلناه للادّكار والاتعاظ ؛ بأن شحنّاه بأنواع المواعظ والعبر ، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ إنكار ونفى للمتعظ على أبلغ وجه ، أي : فهل من متعظ يقبل الاتعاظ ، وقيل : ولقد سهّلناه للحفظ ، وأعنّا من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ قال القشيري : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ؛ يسّر قراءته على ألسنة قوم ، وعلمه على قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحفظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن ، وكلهم أهل الله وخاصته. ويقال : كاشف الأرواح من قوم قبل إدخالها فى الأجساد ، فهل من مدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. ه.

ويروى : أن كتب أهل الأديان من التوراة فى الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظرا ، ولا يحفظونها ظاهرا كالقرآن ، وفى القوت : مما خصّ الله به هذه الأمة ثلاثة أشياء : حفظ كتابنا هذا ، إلا ما ألهم الله عزيزا من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها ، ومنها : تبقية الإسناد فيهم ، يأثره خلف عن سلف ، متصلا إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما كانوا يستنسخون الصحف ، كلما خلقت صحيفة جددت ، فكان ذلك أثرة العلم فيهم ، والثالثة : أن كان مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان ، ويسمع قوله مع حداثة سنه ، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين والرّهبان. وزاد رابعة : وهى ثبات الإيمان فى قلوبهم ، لا يعتوره شك ، ولا يختلجه شرك ، مع تقليب الجوارح فى المعاصي. وقد قال قوم موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) (٤) بعد أن رأوا الآيات العظيمة ، من انفلاق البحر وغيره. ه. قال أبو السعود : وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. ه.

__________________

(١) وذكره القرطبي فى تفسيره (٧ / ٦٤٨٩).

(٢) لم يذكر الشيخ شيئا عن عوج بن عنق فى تفسير سورة المائدة. وقد ولع بعض المفسرين بذكر قصة عوج عند تفسير قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) المائدة / ٢٢. وقد بين العلماء زيف ما نقل فى هذه القصة. راجع فى هذا ، الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة / ١٨٦.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٧ / ٩٥) وعزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١٨٠) لعبد الرّزّاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) من الآية ١٣٨ من سورة الأعراف.

٥٢٦

الإشارة : فى الآية تسلية لمن أوذى من الأولياء ، وإجابة الدعاء على الظالم ، لهم إن [أذن] (١) لهم فى ذلك بإلهام أو هاتف ، وإلّا فالصبر أولى ، وجعل القشيري نوحا إشارة إلى القلب ، وقومه جنود النّفس ، من الهوى والدنيا وسائر العلائق ، فيكون التقدير : كذبت النّفس وجنودها القلب ، فيما يرد عليه من تجليات الحق ، وكشوفات الغيب ، وقالوا : إنما هو مجنون فيما يخبر به ، فزجرته ، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها ، فدعا ربه وقال : أنى مغلوب فى يد النّفس وجنودها ، فانتصر لى حتى تغيبنى عنهم ، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية ، لتمحق تلك الظلمات النّفسانية ، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية ، فالتقى ماء الواردات ، التي هى من حضرة الرّبوبية ، مع ماء علوم العبودية ، على أمر قد قدر أنه ينصر القلب ، ويرقيه إلى حضرة القدس ، وحملناه على سفينة الجذب والعناية ، تجرى بحفظنا ، جزاء لنعمة القلب التي كفرت به النّفس وجنودها ، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا ، والطالبون لنا ، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابى لمن استولت عليه النّفس وجنودها؟ وكيف كان إنذارى من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ولقد يسّرنا القرآن للذكر ؛ للاتعاظ ، فهل من مدكر ، فينهض من غفلته إلى مولاه؟.

ثم ذكر قصة عاد ، فقال :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ عادٌ) هودا عليه‌السلام ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟! أي : وإنذارى لهم بالعذاب قبل نزوله ، والاستفهام لتوجيه قلوب السامعين للإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره ؛ لتهويله وتعظيمه ، وتعجيبهم من حاله قبل بيانه ، كما قبله وما بعده ، كأنه قيل : كذبت عاد فهل سمعتم ما حلّ بهم؟ أو : فاسمعوا ، فكيف كان عذابى وإنذارى لهم.

ثم بيّن ما أجمل فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) ؛ باردة أو : شديدة الصوت ؛ (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) ؛ شؤم (مُسْتَمِرٍّ) شؤمه عليهم إلى أن أهلكهم ، وكان فى أربعاء آخر شوال ، (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي : تقلعهم ، وجاء بالظاهر

__________________

(١) فى الأصول [أوذن].

٥٢٧

مكان المضمر ؛ ليشمل ذكورهم وإناثهم ، صغيرهم وكبيرهم. روى : أنهم كانوا يتداخلون الشّعاب ، ويحفرون الحفر ، ويندسون فيها ، ويمسك بعضهم ببعض ؛ فتزعجهم الرّيح ، وتصرعهم موتى.

قال ابن إسحاق : ولمّا هاجت عليهم الرّيح ، قام سبعة نفر من عاد ؛ [فأولجوا] (١) العيال فى شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ، ليردوا الرّيح عنهم ، فجعلت الرّيح تجعفهم (٢) رجلا رجلا. ه. ثم صاروا بعد موتهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي : أصول نخل منقلع من مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النّخلة ، وهى أصولها التي قطعت رؤوسها ؛ لأنّ الرّيح كانت تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجسادا بلا رؤوس ، فيتساقطون على الأرض أمواتا ، وهم جثث طوال. وتذكير صفة النّخل بالنظر إلى اللفظ ، كما أن تأنيثه فى قوله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٣) بالنظر للمعنى. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟! تهويل وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما ، فليس فيه شائبة تكرار ، وما قيل : من أن الأول لما حاق بهم فى الدنيا ، والثاني لما يحيق بهم فى الآخرة ، يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟! وفى تكريره بعد كلّ قصة ؛ تنبيه على أن إيراد قصص الأمم إنما هو للوعظ والتذكار ، وللانزجار عن مثل فعلهم ، لا لمجرد السماع والتلذذ بأخبارهم ، كما هى عادة القصاص.

الإشارة : من شأن النّفوس العاتية المتجبرة العادية ؛ تكذيب أهل الخصوصية كيفما كانوا ، ولا ترضى بحط رأسها لمن يدعوها إلى ربها ، فيرسل الله عليهم ريح الهوى والخذلان ، فتصرعهم فى محل الذل والهوان ، وتتركهم عبيدا لنفوسهم الخسيسة ، وللدنيا الدنية ، فكيف كان عذابى لهؤلاء وإنذارى لهم؟!. ولقد يسرنا القرآن للذكر ، وبيّنا فيه ما فعلنا بأهل التكبر والعناد من الإهانة والطرد والإبعاد ، فهل من مدكر ، يتيقظ من سنة غفلته ، ويرحل من دنياه لآخرته ، ومن نفسه إلى ربه؟.

ثم ذكر قصة ثمود ، فقال :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ

__________________

(١) فى الأصول : [فألجوا].

(٢) تجعفهم : تصرعهم.

(٣) من الآية ٧ من سورة الحاقة.

٥٢٨

كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) بصالح عليه‌السلام ؛ لأنّ من كذّب واحدا فقد كذّب الجميع ؛ لاتفاقهم فى الشرائع ، أو : كذّبوا بالإنذارات والمواعظ التي يسمعونها من صالح ، (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) أي : كائنا من جنسنا ، وانتصابه بفعل يفسره «نتبعه» أي : أنتبع بشرا منا (واحِداً) منفردا لا تباعة له؟ أو : واحدا من النّاس لا شرف له (نَتَّبِعُهُ) وندع ديننا؟ (إِنَّا إِذاً) أي : على تقدير اتباعنا له ، وهو مفرد ونحن أمة جمة (لَفِي ضَلالٍ) عن الصواب (وَسُعُرٍ) نيران تحرق ، جمع «سعير». كان صالح يقول لهم : إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق ، وصرتم إلى سعير ، ونيران تحرق ، فعكسوا عليه ، لغاية عتوهم ، وقالوا : إن اتبعناك كنا كما تقول. وقيل : المراد بالسعر : الجنون ، لأنها تشوه صاحبها ، أنكروا أن يكون الرّسول بشرا ، وطلبوا أن يكون من الملائكة ، وأنكروا أن تتبع أمة واحدا ، أو : رجلا لا شرف له فى زعمهم ، حيث لم يتعاط معهم أسباب الدنيا. ويؤيد التأويل الثاني قولهم : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أي : الوحى (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟ (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي. بطر متكبر ، حمله بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعائه ذلك.

قال تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي : عن قريب ، وهو عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة ، (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أصالح أم من كذّبه؟ وقرأ الشامي وحمزة بتاء الخطاب ، على حكاية ما قاله صالح مجيبا لهم. (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) ؛ باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا ، (فِتْنَةً لَهُمْ) ؛ ابتلاء وامتحانا لهم ، مفعول له ، أو : حال ، (فَارْتَقِبْهُمْ) ؛ فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم ، ولا تعجل حتى يأتيك أمرى.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) ؛ مقسوم بينهم ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم ، وقال : «بينهم» تغليبا للعقلاء. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ؛ محضور ، يحضر القوم الشرب يوما ، وتحضر النّاقة يوما ، (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف ، حمير ثمود ، (فَتَعاطى) ؛ فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم ، غير مكترث به ، (فَعَقَرَ) الناقة ، ، أو : فتعاطى النّاقة فعقرها ، أو : تعاطى السيف فقتلها ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلف. وقال أبو حيان : هو مضارع عاطا ، وكأنّ هذه الفعلة تدافعها النّاس بعضهم بعضا ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. ه.

٥٢٩

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) فى اليوم الرّابع من عقرها ، (صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بهم جبريل عليه‌السلام (فَكانُوا) ؛ فصاروا (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالشجر اليابس الذي يجده من يعمل الحظيرة ، فالهشيم : الشجر اليابس المتكسر ، الذي يبس من طول الزمان ، وتتوطّؤه البهائم ؛ فيتحطّم ويتهشّم ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة. قال ابن عباس : «هو الرّجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك ، فما يسقط من ذلك ودرسته الغنم فهو هشيم» (١) شبههم فى تبددهم ، وتفرق أو صالهم ، بالشوك الساقط على الأرض ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فيتعظ بما يسمع من هذه القصص.

الإشارة : سبب إنكار النّاس على أهل الخصوصية ؛ ظهور وصف البشرية عليهم ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، ووصف البشرية على قسمين :

قسم لازم ، لا تنفك العبودية عنه ، كالأ كل والشرب والنّوم والنّكاح ، وغيرها من الأوصاف الضرورية ، وهذه هى التي تجامع الخصوصية وبها سترت ، واحتجبت حتى أنكرت ، فوجودها فى العبد كمال ؛ لأنها صوان لسر الخصوصية. قال فى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الرّبوبية فى إظهار العبودية». وقسم عارض يمكن زواله ؛ وهى الأوصاف المذمومة ، كالكبر والحسد والحقد ، وحب الدنيا والرّياسة ، وغير ذلك ، فهذا لا تجامعه الخصوصية ، ولا بد من التطهير منه فى وجودها.

وللقشيرى إشارة أخرى ، وحاصلها : كذبت ثمود ؛ النفس الأمّارة وجنودها ؛ صالح القلب ؛ حين دعاها إلى الخروج عن عوائدها ، والتطهر من أوصافها المذمومة ، فقالت النّفس وجنودها : أنتبع واحدا منا ، لأنه مخلوق مثلنا ، ونحن عصبة؟ إنا إذا لفى ضلال وسعر ، أألقي الذكر الإلهامى عليه من بيننا؟ بل هو كذّاب أشر ، سيعلمون غدا ، حين يقع لهم الرّحيل من عالمهم ، من الكذاب الأشر ، أثمود النّفس وجنودها ، أم صالح القلب؟ إنّا مرسل ناقة النّفس فتنة لهم ، ابتلاء ؛ ليظهر الخصوص من العموم ، فارتقبهم ، لعلهم يرجعون إلى أصلهم من النّزاهة والطهارة ، واصطبر فى مجاهدتهم ، ونبئهم أنّ ماء الحياة ـ وهى الخمرة الأزلية ـ قسمة بينهم ، من شرب منها صفا ، ومن تنكب عنها أظلم ، كل شرب يحضره من يتأهل له. فنادوا صاحبهم ـ وهو الهوى ـ فتعاطى ناقة النّفس ، التي أرادت العروج إلى وطن الرّوح ، فعقرها وردها إلى وطنها الخسيس ، فكيف كان عذابى لها ، وإنذارى إياها؟ إنّا أرسلنا عليهم صيحة القهر ، فسقطوا إلى الحضيض الأسفل ، فكانوا كهشيم المحتظر ؛ صاروا أرضيين بعد أن كانوا سماويين. ه بالمعنى مع تخالف له.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي ٧ / ٤٣١.

٥٣٠

ثم قال القشيري : اعلم أن النّفس حقيقة واحدة ، غير متعددة ، لكن بحسب توارد الصفات المتباينة تعددت أسماؤها ، فإذا توجهت إلى الحق توجها كليّا ؛ سميت مطمئنة ، وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجها كليا ؛ سميت أمّارة ، وإذا توجهت إلى الحق تارة ، وإلى الطبيعة أخرى ؛ سميت لوّامة. ه مختصرا.

ثم ذكر قصة لوط ، فقال :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) ، وقد تقدم ، (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) أي : على قوم لوط (حاصِباً) أي : ريحا تحصبهم ، أي : ترميهم بالحصباء ، (إِلَّا آلَ لُوطٍ) ابنتيه ومن آمن معه ، (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) ؛ ملتبسين بسحر من الأسحار ، ولذا صرفه ، وهو آخر الليل ، أو : السدس الأخير منه ، وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى : قبل انصداع الفجر ، والآخر : عند انصداعه ، (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي : إنعاما منا ، وهو علة لنجّينا ، (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء العجيب (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمتنا بالإيمان والطاعة.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط (بَطْشَتَنا) ؛ أخذتنا الشديدة بالعذاب ، (فَتَمارَوْا) ؛ فكذّبوا (بِالنُّذُرِ) ؛ بإنذاره متشاكّين فيه ، (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بأضيافه ، (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسخناها وسويناها كسائر الوجه ، أي : صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها.

روى أنهم لمّا قصدوا دار لوط ، وعالجوا بابها ليدخلوا ، قالت الرّسل للوط : خلّ بينهم وبين الدخول ، فإنّا رسل ربك ، لن يصلوا إليك. وفى رواية : لمّا منعوا من الباب تسوروا الحائط ، فدخلوا ، فصفعهم جبريل بجناحه ؛ فتركهم عميا يترددون ، ولا يهتدون إلى الباب ، فأخرجهم لوط عميا. وقلنا لهم على ألسنة الرّسل ، أو بلسان الحال : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي : وبال إنذارى ، والمراد به : الطمس ؛ فإنه من جملة ما أنذروا به.

٥٣١

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أول النّهار (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) لا يفارقهم حتى يسلمهم إلى النّار ، وفى وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهى إليه ، (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) ، حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته ـ تعالى ـ تشديدا للعتاب.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، قال النّسفى : وفائدة تكرير هذه الآية ؛ أن يجدّدوا عند سماع كلّ نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا إذا سمعوا الحث على ذلك ، وأن يستأنفوا تنبّها واستيقاظا إذا سمعوا الحثّ على ذلك ، وهكذا حكم التكرير فى قوله ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) عند كلّ نعمة عدّها ، وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢) عند كلّ آية أوردها ، وكذا تكرير القصص فى أنفسها ؛ لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب ، مصوّرة فى الأذهان ، [مذكّرة] (٣) غير منسيّة فى كلّ أوان. ه.

الإشارة : قال القشيري : يشير إلى أنّ كلّ من غلبته الشهوة البهيمية ـ شهوه الجماع ـ يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ، ويكسرها بأحجار ذكر «لا إله إلا الله» ، ويعالج تلك الصفة بضدها ، وهو العفة. ه. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية ، فقد كذّبت الرّوح حين دعتها إلى مقام الصفا ، ودعتها النّفس بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل ، فإذا أراد الله نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات ، فمحت أوصافها الذميمة ، ونقلتها إلى مقام الرّوحانية ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعنى الأوصاف المحمودة ، نجيناهم فى آخر ليل القطيعة ، أو : الروح وأوصافها الحميدة ، نجيناها فى وقت النّفحات من التدنس بأوصاف النّفس الأمّارة ، نعمة من عندنا ، لا بمجاهدة ولا سبب ، كذلك نجزى من شكر نعمة العناية ، وشكر من جاءت على يديه الهداية ، وهم الوسائط من شيوخ التربية. ولقد أنذر الرّوح النّفس وهواها وجنودها بطشتنا : قهرنا ، بوارد قهرى ، من خوف مزعج ، أو شوق مقلق ، حتى يخرجها من وطنها ، فتماروا بالنذر ، وقالوا : لم يبق من يخرجنا من وطننا ، فقد انقطعت التربية ، ولا يمكن إخراجنا بغيرها ، ولقد راودوه عن ضيفه ، راودوا الرّوح عن نور معرفته ويقينه ، بالميل إلى شهوات النّفس ؛ فطمسنا أعينهم ، فلم يتمكنوا من رد الرّوح إذا سبقت لها العناية ، فيقال للنفس وجنودها : ذوقوا عذابى ونذرى بالبقاء مع الخواطر والهموم ، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر ، وهو محق أوصاف النّفس ، والغيبة عنها أبدا سرمدا. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) كررت هذه الآية فى سورة الرّحمن إحدى وثلاثين مرة ، المرة الأولى جاءت فى الآية ١٣.

(٢) الآية ١٥ من سورة المرسلات.

(٣) فى النّسفى [مذكورة].

٥٣٢

ثم ذكر قوم فرعون ، تعالى :

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) موسى وهارون ، جمعهما لغاية ما عالجا فى إنذارهم ، أو : بمعنى الإنذار ، وصدّر قصتهم بالتوكيد القسمي ؛ لإبراز كمال الاعتناء بشأنها ؛ لغاية عظم ما فيها من الآيات ، وكثرتها ، وهول ما لا قوة من العذاب ، واكتفى بذكر آل فرعون ؛ للعلم بأنّ نفسه أولى بذلك ، (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) وهى التسع (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شىء.

الإشارة : النفوس الفراعنة ، التي حكمت المشيئة بشقائها ، لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير ؛ لأنّ الكبرياء من صفة الحق ، فمن نازع الله فيها قصمه الله وأبعده.

ثم هدد قريشا بما نزل على من قبلهم ، فقال :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

يقول الحق جل جلاله : (أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب ، أو : يا أهل مكة (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين فى السورة ؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، والمعنى : أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوّة وآلة ومكانة فى الدنيا ، أو : كانوا أقلّ منكم كفرا وعنادا ، فهل تطمعون ألّا يصيبكم مثل ما أصابهم ، وأنتم شر منهم مكانة ، وأسوأ حالا؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) ؛ أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة فى الكتب المتقدمة : أنّ من كفر منكم وكذّب الرّسول كان آمنا من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة؟

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ) أي : جماعة أمرنا جميع (مُنْتَصِرٌ) ؛ ممتنع لا نرام ولا نضام ، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم ، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية قبائحهم لغيرهم ، أي : أيقولون واثقين

٥٣٣

بشوكتهم : نحن أولوا حزم ورأى ، أمرنا مجتمع لا يقدر علينا ، أو : منتصرون من الأعداء ، لا نغلب ، أو : متناصرون ، ينصر بعضنا بعضا. والإفراد باعتبار لفظ «جميع».

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) ؛ جمع أهل مكة ، (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ؛ الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس ، أو : إرادة أنّ كل منهم يولّى دبره ، وقد كان كذلك يوم بدر. قال عمر رضي الله عنه : لما نزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) كنت لا أدرى أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ، ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فعرفت تأويلها (١) ، فالآية مكية على الصحيح. (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي : ليس هذا تمام عقوبتهم ، بل الساعة موعد أصل عذابهم ، وهذا طلائعه ، (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي : أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا. والداهية : الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه ، وإظهار الساعة فى موضع إضمارها تربية لهولها.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) من الأولين والآخرين (فِي ضَلالٍ) عن الحق فى الدنيا (وَسُعُرٍ) ؛ ونيران تحرق فى الآخرة ، أو : لفى هلاك ونيران مسعرة ، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) ؛ يجرّون فيها (عَلى وُجُوهِهِمْ) ويقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي : قيسوا حرها وألمها ، كقولك : وجد مسّ الحمّى ، وذاق طعم الضرب ؛ لأن النّار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّا بذلك ، و «سقر» غير مصروف للعلمية والتعريف ؛ لأنها علم لجهنم ، من : سقرته النّار : إذا لوّحته.

الإشارة : ما قيل فى منكرى خصوصية النّبوة ، يقال فى منكرى خصوصية الولاية إذا اشتغل بأذاهم ، يعنى : أنّ من أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم ، إما ذل فى الظاهر ، أو طرد فى الباطن ، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلهم. أمنتقدكم خير من أولئكم أم لكم براءة من العذاب فى كتب الله تعالى؟ أم يقولون : نحن جميع ، أي : مجتمعون على الدين ، لا يصيبنا ما أصاب الكفار ، فيقال لهم : سيهزم جمعكم ، ويتفرق شملكم ، وتفضوا إلى ما أسلفتم ، نادمين على ما فعلتم ، ولن ينفع النّدم حين تزل القدم ، فتبقون فى حسرة البعد على الدوام ، فالكفار حرموا من جنة الزخارف ، وأنتم تحرمون من جنة المعارف ، مع غم الحجاب وذل البعد عن الحضرة القدسية ، إن المجرمين ـ وهم أهل الطعن والانتقاد ـ فى ضلال عن طريق الوصول إلى الله ، ونيران القطيعة ، يوم

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد (٢ / ٣٢٩) والطبري (٢٧ / ١٠٨). وزاد المناوى فى الفتح السماوي (٣ / ١٠١٨ ـ ١٠١٩) عزوه لعبد الرّزاق وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، فى تفاسيرهم ، من مرسل عكرمة.

٥٣٤

يسحبون على وجوههم ، فينهكمون فى الدنيا فى الحظوظ والشهوات ، وفى الآخرة فى نار البعد والقطيعة ، على دوام الأوقات ، ويقال لهم : ذوقوا مرارة الحجاب وسوء الحساب ، وكلّ هذا بقدر وقضاء سابق ، كما قال تعالى :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي : بتقدير سابق فى اللوح قبل وقوعه ، قد علمنا حاله وزمانه قبل ظهوره ، أو : خلقناه كلّ شىء مقدّرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة ، و «كل» : منصوب بفعل يفسره الظاهر. وقرىء بالرفع شاذا ، والنّصب أولى ؛ لأنه لو رفع لأمكن أن يكون «خلقنا» صفة لشىء ، ويكون الخبر مقدرا ، أي : إنا كلّ شىء مخلوق لنا حاصل بقدر ، فيكون حجة للمعتزلة ، باعتبار المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله. فلم يسبق لها قدر ، تعالى الله عن قولهم ، ويجوز أن يكون الخبر : «خلقناه» ، فلا حجة فيه ، ولا يجوز فى النّصب أن يكون «خلقنا» صفة لشىء ؛ لأنه يفسر النّاصب ، والصفة لا تعمل فى الموصوف ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا. قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه فى القدر ، فنزلت الآية (١) ، وكان عمر يحلف أنها نزلت فى القدرية ، أي : على طريق الإخبار بالغيب.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي : كلمة واحدة ، سريعة التكوين ، وهو قوله تعالى : (كُنْ) أي : وما أمرنا لشىء نريد تكوينه إلّا أن نقول له : كن ، فيكون ، أو : إلّا فعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معالجة ، (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) فى السرعة ، أي : على قد ما يلمح أحد ببصره ، وقيل : المراد سرعة القيامة ، لقوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) (٢). (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي : أشباهكم فى الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ؛ من متعظ بذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل (فِي الزُّبُرِ) ؛ فى ديوان الحفظة ، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال ، ومن كلّ ما هو كائن (مُسْتَطَرٌ) ؛ مسطور فى اللوح بتفاصيله.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (القدر ، باب كلّ شىء بقدر ، ح ٢٦٥٦).

(٢) الآية ٧٧ من سورة النّحل.

٥٣٥

ولمّا بيّن سوء حال الكفرة بقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ...) إلخ ، بيّن حسن حال المؤمنين ، جمعا بين الترهيب والترغيب فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي : الكفر والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) عظيمة (وَنَهَرٍ) أي : أنهار كذلك. والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس ، مراعاة للفواصل ، وقرىء : «ونهر» (١) جمع «نهر» ، كأسد وأسد. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) ؛ فى مكان مرضى ، وقرئ «فيمقاعد صدق» (٢) ، (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي : مقربين عند مليك قادر لا يقادر قدر ملكه وسلطانه ، فلا شىء إلا وهو تحت ملكوته ، سبحانه ، ما أعظم شأنه. والعندية : عندية منزلة وكرامة وزلفى ، لا مسافة ولا محاسّة.

الإشارة : هذه الآية وأشباهها هى التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار ، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار ؛ لأنّ العاقل إذا علم علم يقين أنّ شئونه وأحواله ، وكلّ ما ينزل به ، قد عمه القدر ، لا يتقدم شىء عن وقته ولا يتأخر ، فوّض أمره إلى الله ، واستسلم لأحكام مولاه ، وتلقى ما ينزل به من النّوازل بالرضا والقبول ، خيرا كان أو شرا ، كما قال الشاعر :

إذا كانت الأقدار من مالك الملك

فسيّان عندى ما يسر وما يبكى

وقال آخر :

تسلّ عن الهموم تسل (٣)

فما الدنيا سوى ثوب يعار

وسلّم للمهيمن فى قضاه

ولا تختر فليس لك اختيار

فما تدرى إذا ما الليل ولّى

بأيّ غريبة يأتى النّهار

وقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ..) إلخ ، هذا فى عالم الأمر ، ويسمى عالم القدرة ، وأما فى عالم الخلق ، ويسمى عالم الحكمة ، فجلّه بالتدريج والترتيب ، سترا لأسرار الرّبوبية ، وصونا لسر القدرة الإلهية ، ليبقى الإيمان بالغيب ، فتظهر مزية المؤمن ، ويقال لأهل العناد المتجبرة : ولقد أهلكنا أشياعكم ؛ إما بالهلاك الحسى ، أو المعنوي ، كالطرد والبعد ، فهل من متعظ ، يرجع عن عناده؟ وكلّ شىء فعلوه فى ديوان صحائفهم ، وكلّ صغير وكبير من

__________________

(١) عزاها فى مختصر ابن خالويه / ١٤٩ للأعرج. وزاد فى البحر المحيط (٨ / ١٨٢) الأعمش وأبا مجلز واليماني وأبا نهيك وزهير العرقبى.

(٢) عزاها فى مختصر ابن خالويه / ١٤٩ وفى البحر المحيط (٨ / ١٨٢) لعثمان البتى.

(٣) كذا ، والشطرة غير مستقيمة الوزن ، وقد تكون : «تسل عن الهموم به تسل».

٥٣٦

أعمال العباد مسطورة فى العلم القديم. إنّ المتقين ما سوى الله ، فى جنات المعارف ، وأنهار العلوم والحكم ، فى مقعد صدق ، هو حضرة القدس ، ومحل الأنس ، عند مليك مقتدر. قال الورتجبي : مقامات العندية جنانها زفارف الأنس ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم الله فى بساط الزلفة والمداناة ، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها بالتستر والحجاب ؛ لذلك سماه «مقعد صدق» أي : محل كرامة دائمة ، ومزية قائمة ، ومواصلة سرمدية ، والله مقدّر قادر. انظر تمام كلامه.

وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (١).

__________________

(١) إلى هنا ينتهى المجلد الخامس بتجزئة المحقق. ويتلوه ـ إن شاء الله ـ المجلد السادس ، وأوله تفسير سورة «الرحمن» ، أسأل الله تعالى أن ينفعنى وجميع المسلمين به ، وأن يبلغنا بهذا الكتاب أسمى الدرجات ، وأن يوفقنا لما يقربنا إليه فى كلّ الأوقات ، وألا يجعلنا من المفتونين. اللهم اغفر لنا وارحمنا ويسر لنا كلّ عسير. آمين. أحمد عبد الله القرشي

٥٣٧
٥٣٨

فهرس المجلد الخامس

سورة ص........................................................................ ٥

سورة الزمر..................................................................... ٤٧

سورة غافر................................................................... ١٠٩

سورة فصلت................................................................. ١٥٩

سورة الشورى................................................................. ١٩٣

سورة الزخرف................................................................. ٢٣٣

سورة الدخان................................................................. ٢٧٧

سورة الجاثية.................................................................. ٢٩٩

سورة الأحقاف............................................................... ٣٢٣

سورة محمد................................................................... ٣٥٣

سورة الفتح................................................................... ٣٨٣

سورة الحجرات................................................................ ٤١٣

سورة ق..................................................................... ٤٤٣

سورة الذاريات................................................................ ٤٦٣

سورة الطور................................................................... ٤٨٥

سورة القمر................................................................... ٥٢١

٥٣٩