البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته : (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) فى تعاقبهما على حدّ معلوم ، وتناوبهما على قدر مقسوم ، (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فى اختصاصهما بسير مقدّر ، ونور مقرّر ؛ إذ لا يصدر ذلك إلا من واحد قهار. (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) ؛ فإنها مخلوقان مثلكم ، وإن كثرت منافعهما ، (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي : الليل والنهار والشمس والقمر. وحكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث فى الضمير ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهنّ. ولعلّ ناسا من المشركين كانوا يسجدون للشمس والقمر ، تبعا للصّابئين من المجوس فى عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله ـ تعالى ـ فنهوا عن هذه الواسطة ، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله وحده ، إن كانوا موحدين ، ولذلك قال : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلابد من تخصيصه به سبحانه ، وهذا موضع السجدة عند مالك والشافعي ، وعند أبى حنيفة : (لا يسأمون).

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الامتثال ، (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : دائما ، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) ؛ لا يملّون ولا يفترون ، والمعنى : فإن استكبر هؤلاء وأبوا إلا الواسطة ، فدعهم وشأنهم ، فإن الله غنى عنهم ، وقد عمّر سماواته بمن يعبده ، وينزهه بالليل والنهار عن الأنداد. والعندية عبارة عن الزلفى والكرامة.

(وَمِنْ آياتِهِ) أيضا (أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) ؛ يابسة مغبرة. والخشوع : التذلل ، فاستعير للأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) ؛ المطر (اهْتَزَّتْ) أي : تحركت (وَرَبَتْ) ؛ انتفخت ؛ لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت به وانتفخت ، ثم تصدعت عن النبات ، وقيل : تزخرفت وارتفعت بارتفاع نباتها ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) بالبعث ، (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ومن جملة الأشياء : البعث والحساب.

١٨١

الإشارة : الليل والنهار والشمس والقمر خلقهن من أجلك ، فعار عليك أن تخضع لما خلق لك ، وتترك المنعم بها عليك. قال القشيري : الحق ـ سبحانه ـ يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر مع علوهما ، وأنت لأجل حظّ خسيس تنقل قدمك إلى كلّ أحد ، وتذل وجهك لكل أحد. ه. وأما الخضوع لمن أمر الله بالخضوع له من الدعاة إلى الله فهو من الخضوع لله ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع للأنبياء والأولياء ، فكان مآل من سجد وخضع التقريب ، ومآل من استكبر وأنف الطرد والبعد ، والله تعالى غنى عن الكل ، ولذلك قال : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ...) الآية.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ...) الآية ، وكذلك أرض النّفوس تراها يابسة بالغفلة والقسوة والجهل ، فإذا أنزل عليها ماء الحياة ، وهى خمرة المحبة ، هاجت وارتفعت ، وحييت بذكر الله ومعرفته ، إن الذي أحيا الأرض الحسية قادر على إحياء النفوس الميتة بالغفلة ، وانظر القشيري (١).

ثم ذكر حال من أعرض عن الآيات ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي : يميلون عن الحق فى أدلتنا التكوينية ، الدالة على وحدانيتنا ، فلا ينظرون فيها ، أو : يلحدون فى آياتنا التنزيلية ، بالطعن فيها ، وتحريفها ، بحملها على المحامل الباطلة ، (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) ، بل نجازيهم على ذلك. يقال : ألحد الكافر ولحد : إذا مال عن الاستقامة عن الحق.

ثم ذكر جزاءهم فقال : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ). قيل : نزلت فى أبى جهل وعثمان (٢) ، وهى عامة ، (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإبقاء فى النار ، والإتيان آمنا ، وفيه تهديد وتنديد. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بحسب أعمالكم.

__________________

(١) راجع لطائف الإشارات (٣ / ٣٣٤).

(٢) قاله مقاتل ، فيما ذكره أبو حيان ، فى البحر المحيط (٧ / ٤٧٨). وانظر تفسير القرطبي (٧ / ٥٩٨٧).

١٨٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) ؛ القرآن (لَمَّا) حين (جاءَهُمْ) مخلدون فى النار ، أو : هالكون ، أو : معاندون ، فخبر «إن» محذوف ، دلّ عليه ما قبله. وقيل : بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) فخبر «إن» هو الخبر السابق ، وقال عمرو بن العلاء : الخبر : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) (١) ، وردّ بكثرة الفصل.

ثم فسّر الذكر المذكور بقوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ، منيع ، محمىّ بحماية الله ، لا تتأتى معارضته بحال ، أو : كثير المنافع ، عديم النّظير ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي : لا يتطرقه الباطل من جهة من الجهات ، أو : لا يأتيه التبديل والتحريف ، أو : التناقض بوجه من الوجوه ، وأما النّسخ فليس بمبطل للمنسوخ ، بل هو : انتهاء حكم إلى مدة وابتداء حكم آخر ، خلافا لمن احتج بالآية على عدم النّسخ فى القرآن ، انظر ابن عرفه. (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي : تنزيل من حكيم محمود ، ف «تنزيل» : خبر عن مضمر ، أو : صفة أخرى لكتاب ، مفيدة لفخامته الإضافية ، كما أن الصلتين السابقتين ، مفيدتان لفخامته الذاتية ، كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر به وبشاعة قبحه.

الإشارة : إن الذين يلحدون فى آياتنا ، فيطعنون فى أوليائنا ، الدالين علينا ، لا يخفون علينا ، وسيلقون فى نار القطيعة والبعد مع عموم الخوف من هول المطّلع ، أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى آمنا يوم القيامة؟ اعملوا ما شئتم من التسليم أو الانتقاد ، وكلّ من لا يصحب الرجال لا يخلو خاطره من شك أو وهم فى مواعيد القرآن ، كالرزق وغيره ، ينسحب عليه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ...) الآية ، من طريق الإشارة. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) قال الشيخ عبد الرحمن اللجاى فى كتاب «قطب العارفين» : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعلم عزيز ، والعمل به أعز ، والعمل عزيز ، والذوق أعز ، والذوق عزيز ، والمشاهدة فى الذوق أعز ، والمشاهدة عزيزة ، والموافقة فى المشاهدة أعز ، والموافقة عزيزة ، والأنس فى الموافقة أعز ، والأنس عزيز ، وآداب الأنس أعز. ثم قال : لكن لا يستنشق رائحة هذه المقامات من غلب جهله على علمه ، وهواه على عقله ، وسفهه على حلمه. ه.

ثم سلّى نبيه من تكذيب قومه ، فقال :

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ

__________________

(١) من الآية ٤٤ من سورة فصلت.

١٨٣

أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

يقول الحق جل جلاله : (ما يُقالُ لَكَ) أي : ما يقول لك كفار قومك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ؛ إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن فى الكتب المنزلة ، فاصبر كما صبروا ، (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) ورحمة لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم ، وقد نصر من قبلك من الرسل ، وانتقم من أعدائهم ، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك ، أو : (ما يقال لك) من الوحى وتخاطب به من جهته تعالى ، (إلا ما قد قيل للرسل) وأوحى إليهم ، فلست ببدع منهم (إن ربك لذو مغفرة) لمن صدق وحيه ، (وذو عقاب أليم) لمن كذب.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : الذكر (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : هلّا بيّنت بلسان العرب حتى نفهمها ، كانوا يقولون ؛ لتعنتهم : هلّا نزل القرآن بلغة العجم! فقيل لهم : لو كان كما تقترحون لقلتم : هلّا بيّنت آياته بلغتنا لنفهمه ، أأعجمى وعربىّ ، بهمزتين (١) ، الأولى للإنكار ، يعنى : لو نزل بلغة العجم لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى؟ والأعجمى : الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه ، سواء كان من العجم أو من العرب ، والعجمي : منسوب إلى أمة العجم ، فصيحا كان أو غير فصيح ، ومن قرأ بهمزة واحدة ، فالمعنى : هلّا فصّلت آياته فيجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم ، وبعضها عربيا لإفهام العرب ، فيكون معنى «فصّلت» : نوّعت.

وقرئ «أعجمى» بفتح العين (٢) ، ويتجه على كونهم طعنوا فيه من أجل ما فيه من الكلمة العجمية ، ك (سِجِّينٍ) (٣) و (إِسْتَبْرَقٍ) (٤) ، فقالوا : فيه أعجمى وعربى ، مخلط من كلام العرب وكلام العجم ، وأيّا ما كان فالمقصود : أن آيات الله ـ عزوجل ـ على أىّ طريق جاءتهم وجدوا متعنتا يتعللون به ؛ لأنهم غير طالبين للحقّ ، وإنما يتبعون أهواءهم. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) يهديهم إلى الحق ، (وَشِفاءٌ) لما فى الصدور من شك وشبهة ؛ إذ الشك مرض.

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر (أأعجمي) بهمزتين. وقرأ حفص عن عاصم (آعجمى) ممدودة. وقرأ هشام بهمزة واحدة من غير مد. راجع الغاية فى القراءات العشر (٣٨٦) والإتحاف (٢ / ٤٤٤).

(٢) وهى قراءة عمرو بن ميمون. وهى قراءة شاذة ، ذكرها فى البحر المحيط (٧ / ٤٨٠).

(٣) كما جاء فى الآية السابعة والثامنة من سورة المطففين.

(٤) كما جاء فى الآية ٣١ من سورة الكهف.

١٨٤

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) به (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي : صمم ، فالموصول : مبتدأ ، والجار : خبره ، وقيل : فى موضع الجر ، بدل من (الذين آمنوا) أي : هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر ، إلا أن فيه عطفا على عاملين ، وهو جائز عند الأخفش. (وَهُوَ) أي : القرآن (عَلَيْهِمْ عَمًى) ظلمة وشبة ، (أُولئِكَ) البعداء الموصوفون بما ذكر من التعامي عن الحق الذي يسمعونه ، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها ، (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعنى : أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم ، كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون ، لبعد المسافة ، وهو تمثيل لحالهم بحال من ينادى من مسافة بعيدة ، لا يكاد يسمع من مسافتها الأصوات ، وقيل : ينادون فى القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء.

الإشارة : ما يقال لك أيها المتوجه أو الولىّ ، إلا ما قد قيل لمن قبلك من المنتسبين ، فقد أوذى من قبلك من أهل النسبة بأنواع الإذايات ؛ من ضرب وقتل وسجن ، وغير ذلك ، ففيهم أسوة لمن بعدهم ، (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم). ومما جرت عادة الله فى خلقة ألا يسلّموا لأحياء عصرهم ما نطقوا به من حكم ، وأتوا به من علوم ، ولو بلغت من البلاغة ما بلغت ، كما وقع من طعن الكفرة فى القرآن ، على أىّ وجه جاء ، وهى نزعة جاهلية.

وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) ، قال الورتحبى : هدى ، لقلوب العارفين إلى معدنه ، وهو الذات القديم ، وشفاء لقلوب العاشقين ، وأرواح مرضي المحبة وسقمى الصبابة ، فلأنه خطاب حبيبهم ، وكتاب مشوقهم ، يستلذونه من حيث العبارات ، ويعرفونه من حيث الإشارات. ه. وقوله تعالى : (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) قال ذو النّون : من وقر سمعه وأصم عن نداء الحق فى الأزل ، لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان ذلك عليه عمى ، ويكون عن دقائقه بعيدا ، وذلك أنهم نودوا عن بعد ، ولم يكونوا بالقرب. ه. ف كل من قرأه ذاهلا عن تدبره بوساوس نفسه ، فهو ممن نودى فى الأزل عن بعد. وبالله التوفيق.

ولما ذكر بيان القرآن ؛ أتبعه بذكر التوراة ، تسلية أيضا ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

١٨٥

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ؛ التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فقال بعضهم : حق ، وقال بعضهم : كتبه بيده فى الجبل ، كما اختلف قومك فى كتابك القرآن ، فمن مؤمن به وكافر ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) فى حق أمتك بتأخير العذاب ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ؛ لأهلكهم إهلاك استئصال. وقيل : الكلمة السابقة هو العدة بالقيامة لقوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (١) ، وأن الخصومات تفصل فى ذلك اليوم ، ولو لا ذلك لقضى بينهم فى الدنيا. (وَإِنَّهُمْ) أي : كفار قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من أجل القرآن (مُرِيبٍ) ؛ موقع الريبة ، وقيل : الضمير فى (بينهم) و (إنهم) لليهود ، وفى (منه) لموسى ، أو : لكتابه ، وهو ضعيف.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً) بأن آمن بالكتب وعمل بوحيها ، (فَلِنَفْسِهِ) نفع ، لا غيره ، (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضرره ، لا على غيره ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فيعذب غير المسيئ ، أو ينقص من إحسان المحسن.

الإشارة : الاختلاف على أهل الخصوصية سنّة ماضية ، (ولن تجد لسنة الله تبديلا) ، فمن رام الاتفاق على خصوصيته ، فهو كاذب فى دعوى الخصوصية ، وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك» (٢).

ثم ذكر بيان الساعة الموعودة بها فى قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ؛ لأنها محل القضاء بين العباد ، فكأن قائلا قال : متى ذلك؟ فقال :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

يقول الحق جل جلاله : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : إذا سئل عنها يجب أن يقال : الله أعلم بوقت مجيئها ، أو : لا يعلمها إلا الله ، (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) ؛ من أوعيتها ، جمع «كم» بكسر الكاف ؛ وهو وعاء الثمرة قبل أن تنشق ، أي : لا يعلم كيفية خروجها ومآلها إلا الله. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) أي : تعلق النطفة فى رحمها ، وما ينشأ عنها من ذكورة وأنوثة وأوصاف الخلقة ؛ تامة أو ناقصة ، (وَلا تَضَعُ) حملها (إِلَّا

__________________

(١) الآية ٤٦ من سورة القمر.

(٢) (حكمة ١٦١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندى (ص ١١).

١٨٦

بِعِلْمِهِ) ؛ استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : ما يحدث شىء من خروج ثمرة ، ولا حمل حامل ، ولا وضع واضع ، ملابسا بشىء من الأشياء ، إلا ملابسا بعلمه المحيط.

(وَ) اذكر (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) فيقول : (أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمكم ، أضافهم إليه على زعمهم ، وفيه تهكم بهم وتقريع ، (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي : من أحد يشهد لهم بالشركة ، إذ تبرأنا منهم ، لما عاينا حقيقة الحال ، وتفسير «آذن» هنا بالإخبار ، أحسن من تفسيره بالإعلام ؛ لأن الله ـ تعالى ـ كان عالما بذلك ، وإعلام العالم محال ؛ أما الإخبار للعالم بالشيء ليتحقق بما علم به فجائز ، إلا أن يكون المعنى : إنك علمت من قلوبنا الآن : أنّا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة ؛ لأنه إذا علمه من نفوسهم ، فكأنهم أعلموه ، أي : أخبرناك بأنّا ما منا أحد اليوم يشهد بأنّ لك شريكا ، وما منا إلا من هو موحّد. أو : (ما منا من) أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلوا عنهم فى ساعة التوبيخ ، وقيل : هو من كلام الشركاء ، أي : ما منا شهيد يشهد بما أضافوا لنا من الشركة.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) ؛ يعبدون (مِنْ قَبْلُ) فى الدنيا (وَظَنُّوا) ؛ وأيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ؛ من مهرب ، والظن معلق عنهم بحرف النّفى عن المفعولين.

الإشارة : إليه تعالى يردّ علم الساعة ، التي يقع الفتح فيها على المتوجه ، بكشف الحجاب بينه وبين حبيبه ، وما تخرج من ثمرات العلوم والحكم من أكمام قلبه ، وما تحمل نفس من اليقين والمعرفة ، إلا بعلمه. ثم ذمّ من مال إلى غيره بالركون والمحبة ، وذكر أنه يتبرأ منه فى حال ضيقه ، فلا ينبغى التعلق إلا به ، ولا ميل القصد والمحبة إلا له ـ سبحانه ـ وبالله التوفيق.

ثم ذكر ما جبل عليه طبع الإنسان من الجزع والهلع ، فقال :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

١٨٧

يقول الحق جل جلاله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) أي : جنسه ، أو : الكافر ، بدليل قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) (١) ، أي : لا يملّ (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ؛ من طلب السعة فى المال والنّعمة ، ولا يملّ عن إرادة النّفع والسلامة ، والتقدير : من دعائه الخير ، فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول ، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) ؛ الفقر والضيق ، (فَيَؤُسٌ) من الخير (قَنُوطٌ) من الرّحمة ، أي : لا يرجو زواله ؛ لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه فى الرّجوع إلى ربه ، بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير ؛ لأن اليأس هو القنط ، والقنوط : أن يظهر أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، ويظهر الجزع ، وهذا صفة الكافر لقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢). وقال الإمام الفخر : اليأس على أمر الدنيا من صفة القلب ، والقنوط : إظهار آثاره على الظاهر. ه.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي : وإذا فرجنا عنه بصّحة بعد مرض ، أو : سعه بعد ضيق ، قال : (هذا لِي) أي : هذا قد وصل إلىّ لأنى استوجبته بما عندى من خير ، وفضل ، وأعمال برّ ، أو : هذا لى لا يزول عنى أبدا ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي : ما أظنها تقوم فيما سيأتى ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) كما يقول المسلمون ، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي : الحالة الحسنى من الكرامة والنّعمة ، أو : الجنة. قاس أمر الآخرة على أمر الدنيا ؛ لأن ما أصابه من نعم الدنيا ، زعم أنه لاستحقاقه إياها ، وأن نعم الآخرة كذلك. وهذا غرور وحمق ، الرجاء ما قارنه عمل ، وإلا فهو أمنية ، «الجاهل من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله ، والكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت» (٣).

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي : فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب ، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) ؛ شديد ، لا يفتر عنهم.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) ، هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان ؛ إذا أصابه الله بنعمته ؛ أبطرته النعمة ، وأعجب بنفسه ، فنسى المنعم ، وأعرض عن شكره ، (وَنَأى بِجانِبِهِ) ؛ وتباعد عن ذكر الله ودعائه

__________________

(١) من الآية ٣٦ من سورة الكهف.

(٢) من الآية ٨٧ من سورة يوسف.

(٣) هذا حديث نبوى شريف. أخرجه ابن ماجه فى (الزهد ، باب ذكر الموت والاستعداد له ، ٢ / ١٤٢٣ ، ح ٤٢٦٠) والترمذي فى (صفة القيامة ، باب ٢٥ ، ٤ / ٥٥٠ ح ٢٤٥٩) والحاكم (٤ / ٢٥١) عن شداد بن أوس رضي الله عنه. بلفظ : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله ، قال الترمذي : حديث حسن.

١٨٨

وطاعته ، أو : ذهب بنفسه وتكبر وتعاظم ، والتحقيق : أن المراد بالجانب النّفس ، فكأنه قال : وتباعد بنفسه عن شكر ربه ، (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) ؛ الفقر والضر ، (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : تضرع كثير ، أي : أقبل على دوام الدعاء والابتهال. ولا منافاة بين قوله : (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) وبين قوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ؛ لأن الأول فى قوم ، والثاني فى قوم ، أو : قنوط فى البر ، وذو دعاء عريض فى البحر ، أو : قنوط بالقلب ، وذو دعاء باللسان ، أو : قنوط من الصنم ، وذو دعاء لله تعالى.

الإشارة : اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعيا بلسانه ، راضيا بقلبه ، إن أجابه شكر ، وإن منعه انتظر وصبر ، ولا ييأس ولا يقنط ، فإنه ضمن الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفى الوقت الذي يريد ، لا فى الوقت الذي تريد ، وإن فرّج عنك نسبت النّعمة إليه ، دون شىء من الوسائط العادية ، هذا ما يفهم من الآية ، وتقدم الكلام عليها فى سورة هود (١). والله التوفيق.

ثم وبّخ من أعرض عن النّظر ، فقال :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) ؛ أخبرونى (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ؛ جحدتم أنه من عند الله ، مع تعاضد موجبات الإيمان به ، (مَنْ أَضَلُ) منكم؟ فوضع قوله : (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موضعه ، شرحا لحالهم ، وتعليلا لمزيد ضلالهم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا) الدالة على حقيّته وكونه من عند الله ، (فِي الْآفاقِ) من فتح البلاد ، وما أخبر به النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحوادث الآتية ، وآثار النّوازل الماضية ، وما يسّر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوحات ، والظهور على آفاق الدنيا ، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب ، على وجه خرق العادة ، (وَ) نريهم (فِي أَنْفُسِهِمْ) ؛ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم.

__________________

(١) راجع تفسير الآيات : ٩ ـ ١١ من سورة هود. (٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥).

١٨٩

وقال ابن عباس : فى الآفاق : منازل الأمم الخالية وآثارهم ، وفى أنفسهم : يوم بدر. وقال مجاهد وغيره : فى الآفاق : ما يفتح الله من القرى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، وفى أنفسهم : فتح مكة. وقيل : الآفاق : فى أقطار السموات والأرض ، من الشمس ، والقمر ، والنّجوم ، وما يترتب عليها من الليل ، والنّهار ، والأضواء ، والظلال ، والظلمات ، ومن النبات ، والأشجار ، والأنهار ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، من تكوين النّطفة فى ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ...) (١).

وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك ، بمعنى أن الله ـ تعالى ـ سيطلعهم على تلك الآيات زمانا فزمانا ، ويزيدهم وقوفا على حقائقها يوما فيوما ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) بذلك (أَنَّهُ الْحَقُ) أي : القرآن ، أو : الإسلام ، أو : التوحيد ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، توبيخ على ترددهم فى شأن القرآن ، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات ، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : ألم يغن ولم يكف ربك. والباء : مزيدة للتأكيد ، ولا تكاد تزاد إلا مع «كفى».

و (أنه ...) إلخ : بدل منه ، أي : ألم يغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم فى ذلك أنه تعالى ـ شهيد على كلّ شىء ، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل : معناه : إن هذا الموعود من إظهار آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب ؛ الذي هو على كلّ شىء شهيد.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) ؛ شك عظيم (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فلذلك أنكروا القرآن ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ؛ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها ، وظواهرها ، وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم ، لا محالة.

الإشارة : قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال فى مقام الإيمان ، وعلى مقام العيان فى مقام الإحسان ، أي : سنريهم آياتنا الدالة على وجودنا فى الآفاق ، وفى أنفسهم ، أي : فى العوالم المنفصلة والمتصلة ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي : وجوده حق ، لأن الصنعة قطعا تحتاج إلى صانع ، ثم رقّاهم إلى مقام المراقبة بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ) أي : أهل الجهل بالله ، (فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فى الدنيا ، بحصول الفناء ، فيفنى وجود العبد فى وجود الحق ، ألا إنه بكلّ شىء محيط ، فبحر العظمة أحاط بكلّ شىء ، وأفنى كلّ شىء ، ولم يبق مع وجوده شىء.

__________________

(١) من الآية ٢١ من سورة الذاريات. وانظر تفسير البغوي (٧ / ١٧٩) وابن كثير (٤ / ١٠٥).

١٩٠

وفى الحكم : «ما حجبك عن الله وجود موجود معه ؛ إذ لا شىء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه» (١) وقال أيضا : «الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته» فأحدية الذات محت وجود الأشياء كلها ، ولم يبق إلا القديم الأزلى.

وقال القطب ابن مشيش لأبى الحسن رضي الله عنه : يا أبا الحسن ، حدد بصر الإيمان تجد الله فى كلّ شىء ، وعند كل شىء ، ومع كلّ شىء ، وقبل كلّ شىء ، وبعد كلّ شىء ، وفوق كلّ شىء ، وتحت كلّ شىء ، وقريبا من كلّ شىء ، ومحيطا بكلّ شىء ، بقرب هو وصفه ، وبحيطة هى نعته ، وعد عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة والقرب فى المسافات ، وعن الدور بالمخلوقات ، وأمحق الكلّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو هو هو ، كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. ه.

وقوله : وعد عن الجهات : جاوز عن اعتقادها ؛ إذ لا ظرف ، ولا حد ، ولا مكان ، ولا جهة ، إذ الكلّ عظمة ذاته ، وأنوار وصفاته ، والحد إنما يتصور فى المحدود ، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية ، ولا يحصرها مكان ، ولا جهة ؛ إذ الكلّ منه وإليه وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، عين بحر التحقيق ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما (٢).

__________________

(١) (حكمة ١٣٧) انظر الحكم بترتيب المتقى الهندي (ص ٣٤).

(٢) فى آخر المجلد الثالث فى المخطوطة الأم ، والمحفوظة بمكتبة السيد الفريق حسن التهامي مايلى : كمل الجزء الثالث بحول الله وقوته ، ووافق الفراغ من تبييضه يوم الأربعاء ، تاسع رمضان ، عام تسعة عشر ومائتين وألف ، والحمد لله رب العالمين. انتهى استخراجه من مبيضته بحمد الله وتوفيقه عشية الأربعاء ، السادس عشر من رمضان المعظم ، موافقا لتاريخ التبييض من هاك العام ، وعلى نبينا محمد أزكى الصلاة والسّلام.

١٩١
١٩٢

سورة الشّورى (*)

مكية. وهى خمس وثلاثون آية ، ومناسبتها لما قبلها قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) إلى قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١) أي : إن القرآن حق ، أي : وحي من الله ، مع قوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) ، فهى كالتتمة لما قبلها. قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥))

يقول الحق جل جلاله : (حم. عسق) يشير ـ والله أعلم ـ بكلّ حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالحاء : أحببناك ، أو : حبيناك ، أي : أعطيناك الملك والملكوت ، والميم : ملكناك ، والعين : علّمناك ما لم تكن تعلم ، أو : عيّناك للرسالة ، والسين : سيّدناك ، والقاف : قرّبناك. (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) أي : كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، فقد خصصناهم ببعض ذلك ، وأوحينا إليهم ، وفى ابن عطية : عن ابن عباس : أن هذه الحروف بأعيانها نزلت فى كلّ كتب الله ، المنزلة على كلّ نبىّ أنزل عليه كتاب ، ولذلك قال تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) (٢). وقال القشيري : الحاء : مفتاح اسمه حكيم وحفيظ ، والميم : مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن ، والعين : مفتاح اسمه عليم وعلىّ ، والسين : مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب ، والقاف : مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس ، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يوحى إليك يا محمد. ه.

__________________

(*) أول المجلد الرّابع فى النّسخة الأم.

(١) من الآية ٥٣ من سورة فصلت.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٥) وعزاه للثعلبى ، وانظر : تفسير البغوي (٧ / ١٨٤).

١٩٣

وقال ابن عطية : وإنما فصلت «حم عسق» ، ولم يفعل ذلك ب «كهيعص» ؛ لتجرى هذه مجرى الحواميم أخواتها. ه. زاد النّسفى : وأيضا : هذه آيتان ، و «كهيعص» آية واحدة. ه. فانظره.

(اللهُ) أي : يوحى الله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : فاعل «يوحى» ، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول (١). و «الله» : فاعل بمحذوف ، كأن قائلا قال : من الموحى؟ فقال : (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب بقهره ، الحكيم فى صنعه وتدبيره.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا ، (وَهُوَ الْعَلِيُ) شأنه (الْعَظِيمُ) سلطانه وبرهانه.

ثم بيّن عظمته ، فقال : (تَكادُ) (٢) (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) ؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه ، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). وقيل : من دعائهم له ولدا ، كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) (٣) إلخ ، ويؤيده : مجىء قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) (٤). وقرأ البصرىّ وشعبة : «ينفطرن» ، والأول أبلغ. ومعنى : (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي : يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول ؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة ، وأيضا : استقرار الملائكة إنما هو من فوق ، فكادت تنشق من كثرة الثقل ، كما فى الحديث : «أطّت السماء ، وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد» (٥).

وعلى الثاني للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى ؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء ، الواقعة فى الأرض حين أثرت فى جهة الفوق فلأن تؤثر فى جهة التحت أولى. وقيل : «من فوقهن» : من فوق الأرض ، فالكناية راجعة إلى الأرض ، من قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأنه بمعنى الأرضين.

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) خضوعا ؛ لما يرون من عظمته ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : للمؤمنين منهم ، خوفا عليهم من سطواته ، ويوحدون الله وينزهونه عما لا يليق به من الصفات ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين لما رأوا من تعرض الكفرة لسخط الله تعالى ، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض ،

__________________

(١) قرأ ابن كثير ـ وحده : «يوحى» بفتح الحاء. والنّائب إما «إليك» وإما ضمير يعود إلى «ذلك» أي : مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك. انظر الإتحاف (٢ / ٤٤٨).

(٢) أثبت المفسر ـ رحمه‌الله ـ قراءة «يكاد» بالياء ، وهى قراءة نافع والكسائي ، وقرأ الباقون «تكاد» بتاء التأنيث. انظر : الإتحاف ٢ / ٤٤٨.

(٣) من الآية ٩٠ من سورة مريم.

(٤) من الآية ٦ من السورة نفسها.

(٥) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٥ / ١٧٣) والترمذي فى (الزهد ، باب فى قول النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ٤ / ٤٨١ ، ح ٢٣١٢) وابن ماجة فى (الزهد ، باب الحزن والبكاء ٢ / ١٤٠٢ ح ٤١٩٠) ، وصحّحه الحاكم (٢ / ٥١٠) وأقره الذهبي ، من حديث أبى ذر ، رضي الله عنه. وقوله (أطت) : الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ، أي : إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ، وإنما هو كلام تقريب ، أريد به تقرير عظمة الله تعالى. انظر النّهاية (أطط ، ١ /٥٤).

١٩٤

الذين تبرءوا من تلك الكلمات ، (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.

الإشارة : حم عسق ، الحاء تشير إلى حمده لأوليائه ، وتنويهه بقدرهم ، والميم إلى تمليكهم التصرف فى حس الملك ، وأسرار الملكوت ، والعين إلى علو رتبتهم ، أو إلى علومهم اللدنية ، والسين إلى سيادتهم وسنا نورهم وسرهم ، والقاف إلى قربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم فى وجود محبوبهم ، فيمتحى القرب من شدة القرب ، وبذلك صاروا مقربين. والوحى ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحى أحكام ، ووحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي إعلام ، فاختصت الأنبياء بالأول ، وشاركتهم الأولياء فى الثلاثة. ووحي إعلام هو اطلاعهم على بعض المغيبات.

وقوله تعالى : (تَكادُ) (١) (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطف حسها أدركت هيبة معانى أسرار الذات ، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حس بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله ، وإذا كثفت بشريتها ، بمباشرة الحس واتباع الهوى ، غلظ حجابها ، فبعدت عن حضرة الحق فى حال قربها. وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، انظر جلالة قدر هذا الآدمي ، حتى سخّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له ، ويسعون فى مصالحه ، فاستحى من الله أيها العبد ، إن كان لك عقل وتمييز.

ثم ردّ على أهل الشرك ، فقال :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

قلت : (وَكَذلِكَ) : الكاف فى محل النّصب على المصدر ، و (قُرْآناً) : مفعول «أوحينا».

__________________

(١) راجع الهامش رقم ٢ فى الصفحة السابقة.

١٩٥

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ؛ شركاء ، يوالونهم بالعبادة والمحبة (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، فيجازيهم بها ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ؛ بموكّل عليهم ، تجبرهم على الإيمان ، ثم نسخ بالجهاد. أو : ما أنت بموكول إليك أمرهم ، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآنا عربيا ، لا لبس فيه عليك ولا على قومك ، (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي : أهلها ، وهى مكة ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو : لأنها أشرف البقع ، (وَ) تنذر (مَنْ حَوْلَها) من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري : وجميع العالم محدق بالكعبة ؛ لأنها سرّة الأرض. ه.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) ؛ يوم القيامة ؛ لأنه تجمع فيه الخلائق ، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من «تنذر» الأول للتهويل ، أي : لتنذر النّاس أمرا فظيعا تضيق عنه العبارة ، (لا رَيْبَ فِيهِ) ؛ لا شك فى وقوع ذلك اليوم ، (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي : بعد جمعهم فى الموقف يفترقون ، فريق يصرف إلى الجنة ، وفريق إلى السعير بعد الحساب ، والتقدير : فريق منهم فى الجنة. والجملة : حال ، أي : وتنذر يوم الجمع متفرقين.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ) فى الدنيا (أُمَّةً واحِدَةً) إما مهتدين كلّهم ، أو ضالين ، (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : ويدخل من يشاء فى عذابه ، يدلّ عليه ما بعده ، ومن ضرورة اختلاف الرّحمة والعذاب : اختلاف الداخلين فيهما ، فلم يشأ جعل الكلّ أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين ، فيسّر كلّا لمن خلق له. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.

قال أبو السعود : والذي يقتضيه سياق النّظم أن يراد بقوله : (أُمَّةً واحِدَةً) الاتحاد فى الكفر ، كما فى قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية (١) ، على أحد الوجهين ، بأن يراد بهم الذين هم فى فترة إدريس ، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر ، بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع ، وما فيه من ألوان الأهوال ، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ، ولكن يدخل من يشاء فى رحمته إن شاء ذلك ، فيرسل إلى الكلّ من ينذرهم ، فيتأثر بعضهم بالإنذار ؛ فيعرفون الحق ؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة ،

__________________

(١) الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

١٩٦

ويدخلهم فى رحمته ، ولا يتأثر به الآخرون ، ويتمادون فى غيهم ، وهم الظالمون ، فيبقون فى الدنيا على ما هم عليه ، ويصيرون فى الآخرة إلى السعير ، من غير ولىّ يلى أمرهم ، ولا نصير يخلصهم من العذاب. ه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ، هذه جملة مقررة لما قبلها ، من انتفاء أن يكون للظالمين ولىّ ولا نصير. و «أم» : منقطعة ، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه ، أي : ليس المتخذون أولياء ، ولا ينبغى اتخاذ ولىّ سواه. وقوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) : جواب عن شرط مقدر ، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام : إن أرادوا وليا فى الحقيقة فالله هو الولىّ ، لا ولىّ سواه. (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) أي : ومن شأنه إحياء الأموات ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق بأن يتخذ وليا ، فليخصّوه بالاتخاذ ، دون من لا يقدر على شىء. وبالله التوفيق.

الإشارة : قال القشيري : كل من تبع هواه ، وترك لله حدا ، أو نقض له عهدا ؛ فهو ممن اتخذ الشيطان وليا ، فالله يعلمه ، لا يخفى عليه أمره ، وعلى الله حسابه ، ثم إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له. ه. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأس عليهم إن أدبروا ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى الله ، ينذر الناس بالقرآن ، فمن تبعه كان من أهل الجنة ، ومن خالفه كان من أهل السعير ، وبقي خلفاؤه من بعده ، العلماء بالله ، الذين يذكّرون النّاس ، ويدلونهم على الله ، فمن صحبهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف ، أو الزخارف ، أو هما ، ومن انحرف عنهم كان من أهل السعير ، نار القطيعة أو الهاوية.

قال القشيري : كما أنهم اليوم فريقان ؛ فريق فى [درجات] (١) الطاعات وحلاوة العبادات [أو المشاهدات] (٢) ، وفريق فى ظلمات الشّرك وعقوبات الجحد ، فكذلك غدا ، فريق هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل الشقاء. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرّشاد لم يكن مانع. ه.

وقوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) تحويش إلى التوجه إلى الله ، ورفض كلّ ما سواه ، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحبا ، ودع النّاس جانبا ، ف كل من والى غير الله تعالى خذله ، ومن حبه أبعده.

__________________

(١) فى القشيري [راحة].

(٢) ما بين المعقوفتين من تدخل المفسر فى النّقل عن القشيري.

١٩٧

ثم أمر بالرجوع إليه عند الاختلاف ، فقال :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) ، حكاية لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين ، بدليل قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين ، من أمور الدين ، واختلفتم أنتم وهم ، فحكم ذلك المختلف [فيه] (١) راجع إلى الله ، ومفوض إليه ، وهو إثابة المحقّين فيه ، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم ، أي : وما اختلفتم فيه أيها النّاس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحكم ذلك إلى الله ، وقد قال فى آية أخرى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٢).

ف كل ما اختلف فيه يردّ إلى كتاب الله ، ثم إلى سنة رسول الله ، ثم إلى الإجماع ، ثم القياس ، فهذه هى قواعد الشريعة ، وعليها بنيت الأحكام ، فمن خرج عنها فهو مبطل ، ففى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غنية ، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.

وقيل : وما اختلفتم فيه من العلوم ، التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم.

ثم قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي : ذلكم العظيم الشأن ؛ الله مالكى ومدبر أمرى ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فى جميع أمورى ، لا على غيره ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ؛ أرجع فى كلّ ما يعرض لى ، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكّل أمرا واحدا مستمرا ، والإنابة متعددة ، متجددة بحسب تجدد مؤداها ، أوثر فى الأول صيغة الماضي ، والثاني صيغة المضارع.

__________________

(١) زيادة ليست فى الأصول.

(٢) من الآية ٥٩ من سورة النّساء.

١٩٨

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ خالقهما ومظهرهما ، وهو خبر ثان لذلكم ، أو عن مضمر ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ من جنسكم (أَزْواجاً) ؛ نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجا ، أو : خلق لكم من الأنعام أصنافا ؛ ذكورا وإناثا ، (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع ، من : الذرء ، وهو البث ، فجعل النّاس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير لفظ «فيه» على «به» ؛ لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير فى «يذرؤكم» يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.

وقال الهروي : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي : يكّثركم بالتزويج ، كأنه قال : يذرؤكم به. ه. وقال ابن عطية : لفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخر ، ليس فى خلق ، وهو توالى طبقاته على مرّ الزمان ، وقوله : «فيه» الضمير عائد على الجعل. وقال القتبى : الضمير للتزويج. ه.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : ليس مثله شىء [فى شأن] (١) من الشئون ، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفى التماثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه ، فنفى التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمر ، فإذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية فى هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعل هذا المعنى شواهد كثيرة. ه.

قال النّسفى : وقيل : المثل زائد ، والتقدير : ليس كهو شىء ، كقوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (٢) ، وهذا لأن المراد نفى المثليّة ، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. ه. والجواب ما تقدم لابن عطية.

وقيل : الآية جرت على طريق الكناية ، كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، أي : أنت لا تبخل ؛ لأنه إذا نفى البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.

ثم قال تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان ، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له ، كما لا مثل له ، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول الخطية ، وأثبته من تفسير أبى السعود ـ رحمه‌الله.

(٢) الآية ١٣٧ من سورة البقرة.

١٩٩

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفاتيح خزائنها ، (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي : يوسعه (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحكم البالغة. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغى أن يفعل ، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.

قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال ، فالقدرة فى قوله : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والوحدانية فى قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والإرادة فى قوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) ؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم فى قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، والكلام فى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) ؛ لأن المراد به الحكم الشرعي ، وهو خطاب الله تعالى المعلق بأفعال المكلفين ، وخطابه كلامه. ه. زاد فى الحاشية الفاسية : يعنى وكلّ وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة ، مع أنه قال : (يُحْيِ الْمَوْتى) والإحياء إنما يكون من الحي. ه.

الإشارة : قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) قال القشيري : ويقال إذا لم تهتدوا إلى شىء وتعرضت منهم الخواطر ؛ فدعوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلّ شهود تقديره ، [وانتظروا] (١) ما الذي ينبغى لكم أن تفعلوا بحكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم ، فلا تدرون أبالسعادة جرى حكمكم ، أو بالشقاوة جرى اسمكم ، فكلوا الأمر فيه إلى الله ، واشتغلوا فى الوقت بأمر الله ، دون التفكّر فيما ليس له سبيل إلى علمه من عواقبكم. ه.

وقوله : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : شققهما من أسرار الغيب ، ومتجلّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم فى عالم الحكمة من أنفسكم أزواجا ليقع التناسل ، بعضكم من بعض ، ومن الأنعام أزواجا ليقع التناسل فيها ؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شىء. وقال بعض العارفين : ليت شعرى هل معه شىء حتى يشبهه أو لا يشبهه ، كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : ليس معه شىء حتى يشبهه.

وقال الورتجبي عن الواسطي : [أمور] (٢) التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ؛ لأنه ما عبر عن الحقيقة بشىء إلا والعلة مصحوبة ، والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق لا ينعت على أقداره ؛ لأن كلّ ناعت مشرف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم ، وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم ، فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبته من القشيري.

(٢) فى عرائس البيان : (رموز).

٢٠٠