البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي : النصر ، أو الفصل بالحكومة ؛ من قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) (١). وكان المسلمون يقولون : إن الله سيفتح لنا على المشركين ، أو يفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون ، قالوا : متى هذا الفتح؟ أي : فى أي وقت يكون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى أنه كائن؟.

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) أي : يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو : يوم نصرهم عليهم. أو : يوم بدر ، أو يوم فتح مكة ، (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) ؛ لفوات محله ، الذي هو الإيمان بالغيب ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ؛ يمهلون ، وهذا الكلام لم ينطبق ؛ جوابا عن سؤالهم ؛ ظاهرا ، ولكن لمّا كان غرضهم فى السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم ، على وجه التكذيب والاستهزاء ، أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم من سؤالهم ، فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا ، فكأنى بكم وقد حصلتم فى ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح ، فهو يريد المقتولين منهم ؛ فإنهم لا ينفعهم إيمانهم فى حال الفعل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند درك الغرق. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) النصر وهلاكهم ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليكم وهلاككم.

قال عليه الصلاة والسلام : «من قرأ (الم تَنْزِيلُ) فى بيته ، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام» (٢).

الإشارة : أو لم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة ، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح ، تأكل منه ، من لذة حلاوته ، جوارحهم وقلوبهم ، أفلا يبصرون؟. ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء : متى هذا الفتح ، إن كنتم صادقين فى أنه موجود؟ قال : يوم الفتح الكبير ـ وهو يوم يرفع الله أولياءه فى أعلى عليين ـ لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية ، فى دار الدنيا ، إيمانهم فى الالتحاق بهم ، ولا هم يمهلون حتى يعملوا مثل عملهم ، فأعرض عنهم اليوم ، واشتغل بالله ، وانتظر هذا اليوم ، إنهم منتظرون لذلك.

قال القشيري : «أولم يروا ..» الآية. الإشارة فيه : نسقى حدائق [وصلهم] (٣) ، بعد جفاف عودها ، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله ، حاكيا حاله حال حصوله ، (ويقولون متى هذا الفتح ..) استبعدوا يوم التلاق ، وجحدوه ، فأخبرهم

__________________

(١) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.

(٢) قال ابن حجر فى الكافي الشاف (ح ١٩٦) : «لم أجده». وانظر : الفتح السماوي (٢ / ٩٢٦).

(٣) فى الأصول المخطوطة (وصفهم) والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.

٤٠١

أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ..) أي : باشتغالك بنا ، وإقبالك علينا ، وانقطاعك إلينا ، وانتظر زوائد وصلنا وعوائد لطفنا ، إنهم منتظرون هواجم مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وجد كلّ منتظره محتضرا ه. وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد ، عين الوصول إلى التحقيق ، وعلى آله المبينين سواء الطريق ، وسلم.

٤٠٢

سورة الأحزاب

مدنية. وهى ثلاث وسبعون ـ بتقديم السين ـ آية. وعن أبىّ ؛ أنه قال : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قالوا : ثلاثا وسبعين ، قال : فوالذى يحلف به أبىّ إن كانت لتعدل سورة البقرة ، أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة ، إذا زنيا ، فارجموهما البتّة ؛ نكالا من الله ، والله عزيز حكيم (١). أراد أبىّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. انظر النسفي. ومناسبتها لما قبلها : أن الفتح إنما يكون مع التقوى ، فأمره بها ، بعد أمره بانتظار نصره ، كأنه قيل : يا أيها النبي اتق الله ؛ تر الفتح طوع يدك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) أي : المشرّف ؛ حالا ، المفخم ؛ قدرا ، العلى ؛ رتبة ؛ لأن النبوة مشتقة من النّبوة ، وهو الارتفاع. أو : يا أيها المخبر عنا ، المأمون على وحينا ، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل : يا محمد ، كما قال : «يا آدم ، يا موسى» ؛ تشريفا وتنويها بفضله ، وتصريحه باسمه فى قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (٢) ، ونحوه ، ليعلم الناس بأنه رسول الله. (اتَّقِ اللهَ) أي : اثبت على تقوى الله ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) ؛ لا تساعدهم على شىء ، واحترس منهم ؛ فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.

روى أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبى جهل ، وأبا الأعور السّلمى ، نزلوا المدينة على ابن أبىّ ، رأس المنافقين ، بعد أحد ، وقد أعطاهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن أبى سرح ، وطعمة بن

__________________

(١) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (٢ / ٤١٥) وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٤٣٥٢) ، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٣٤٥) لعبد الرزاق فى المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، وابن منيع ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن الأنبارى فى المصاحف ، والدارقطني فى الأفراد ، وابن مردويه ، عن زر ، عن أبىّ.

(٢) كما جاء فى الآية ٢٩ من سورة الفتح.

٤٠٣

أبيرق ، فقالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ؛ اللات ، والعزى ، ومناة ، وقل : إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها ، وندعك وربّك. فشق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم ، فقال عمر : ائذن لنا ، يا رسول الله ، فى قتلهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى قد أعطيتهم الأمان». فقال عمر : اخرجوا فى لعنة الله وغضبه ، فخرجوا من المدينة ، فنزلت (١).

أي : اتق الله فى نقض العهد ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، كأبى سفيان وأصحابه ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما طلبوا ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخبث أعمالهم ، (حَكِيماً) بتأخير الأمر بقتالهم.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) فى الثبات على التقوى ، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو : كل ما يوحى إليك من ربك ، (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : لم يزل عالما بأعمالهم وأعمالكم. وقيل : إنما جمع ؛ لأن المراد بقوله : «اتبع» : هو وأصحابه ، وقرأ بالغيب : أبو عمرو ، أي : بما يعمل الكافرون والمنافقون ، من كيدهم لكم ومكرهم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ؛ أسند أمرك إليه ، وكله إلى تدبيره. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ؛ حافظا موكولا إليه كل أمر. وقال الزجاج : لفظه ، وإن كان لفظ الخبر ؛ فالمعنى : اكتف بالله وكيلا.

الإشارة : أمر بتقوى الله ، وبالغيبة عما يشغل عن الله ، وبالتوكل على الله ، فالتقوى أساس الطريق ، والغيبة عن الشاغل : سبب الوصول إلى عين التحقيق ، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام : يا أيها المرقّى إلى أعلى المراتب ، المتلقّى بأسنى القرب والمناقب ؛ اتق الله أن تلاحظ غيرا معنا ، أو تساكن شيئا دوننا ، أو تثبت شيئا سوانا ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) ؛ إشفاقا منك عليهم ، وطمعا فى إيمانهم ، بموافقتهم فى شىء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء ، تمنعهم ، فى أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم ، أن ينظروا إلى غيره ، أو يثبتوا معه سواه ، إلا منصوبا بقدرته ، مصرّفا بمشيئته ، نافذا فيه حكم قضيته.

التقوى لجام يمنعك عمّا لا يجوز ، زمام يقودك إلى ما تحب ، سوط يسوقك إلى ما أمر به ، حرز يعصمك من توصل عقابه إليك ، عوذة تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلة إلى ساحة كرمه ، ذريعة يتوصّل بها إلى عفوه وجوده. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) ؛ لا تبتدع ، واقتد بما نأمرك ، ولا تقتد ، باختيارك ، غير ما نختار لك ، ولا تعرّج ـ أي : تقم ـ فى أوطان الكسل ، ولا تجنح إلى ناحية التواني ، وكن لنا لا لك ، وقم بنا لا بك. «وتوكل» ؛ انسلخ عن إهابك لنا ، واصدق فى إيابك إلينا ، وتشاغلك عن حسبانك معنا ، واحذر ذهابك عنا ، ولا تقصّر فى خطابك معنا. ويقال : التوكل : تخلّق ، ثم تخلّق ، ثم توثّق ، ثم تملّق ؛ تحقق فى العقيدة ، وتخلق بإقامة الشريعة ، وتوثّق بالمقسوم من القضية ، وتملق بين يديه بحسن العبودية. ويقال : التوكل : استواء القلب فى العدم والوجود. ه.

__________________

(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٦٤) ، والبغوي فى تفسيره (٦ / ٣١٥) ، بدون إسناد.

٤٠٤

والتقوى محلها القلب ، ولا يحصل منتهاها إلا بانفراد القلب إلى مولاه ، كما أبان ذلك بقوله :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

يقول الحق جل جلاله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر ، أو : يتقى بأحدهما ويعصى بالآخر ، أو : يقبل على الله بأحدهما ويقبل على الدنيا بالآخر ، بل ما للعبد إلا قلب واحد ، إن أقبل به على الله ؛ أدبر عمن سواه ، وإن أقبل به على الدنيا ؛ أدبر عن الله. قيل : الآية مثل للمنافقين ، أي : إنه لا يجتمع الكفر والإيمان ، وقيل : لا تستقر التقوى ونقض العهد فى قلب واحد. وقال ابن عطية : يظهر من الآية ، بجملتها ، أنها نفى لأشياء كانت العرب تعتقدها فى ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر فيها ، فمنها : أن العرب كانت تقول : الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضادّ الخواطر يحملها على ذلك .. إلخ كلامه.

قال النسفي : والمعنى : أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين ؛ لأنه لا يخلو : إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة ؛ غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك ، فيؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها ، عالما ظانا ، موقنا شاكا ، فى حالة واحدة. ه.

وكانت العرب تعتقد أيضا أن المرأة المظاهر منها : أمّا ، فردّ ذلك بقوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي : ما جمع الزوجية والأمومة فى امرأة واحدة ؛ لتضاد أحكامهما ؛ لأن الأم مخدومة ، والمرأة خادمة.

وكانت تعتقد أن الدّعى ابن ، فرّد عليهم بقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي : لم يجعل المتبنّى من أولاد الناس ابنا لمن تبناه ؛ لأن البنوة أصالة فى النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، لا غير ، ولا يجتمع فى شىء واحد أن يكون أصيلا [و] (١) غير أصيل.

__________________

(١) زيادة ، ليست فى الأصول.

٤٠٥

ونزل هذا فى «زيد بن حارثة» ، وهو رجل من كلب ، سبى صغيرا ، فاشتراه حكيم بن حزام ، لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبته له ، فطلبه أبوه وعمه ، وجاءا بفدائه ، فخيّر ، فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعتقه وتبناه. وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فلما تزوج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب ؛ وكانت تحت زيد ـ على ما يأتى ـ قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه ، فأنزل الله هذه الآية.

وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان ، قلب معكم ، وقلب مع أصحابه (١). وقيل : كان «أبو معمر» أحفظ العرب ، فقيل له : ذو القلبين (٢) ، فأكذب الله قولهم. والتنكير فى رجل ، وإدخال «من» الاستغراقية على (قلبين) ، وذكر الجوف ؛ للتأكيد. و (اللائي) : جمع «التي». وفيها أربع قراءات : «اللاء» ؛ بالهمزة مع المد والقصر ، وبالتسهيل ، وبالياء ، بدلا من الهمز. وأصل (تُظاهِرُونَ) : تتظاهرون ، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف ؛ من : ظاهر. ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة : أنت علىّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر ، وتعديته بمن ؛ لتضمنه معنى التجنب ؛ لأنه كان طلاقا فى الجاهلية. وهو فى الإسلام يقتضى الحرمة حتى يكفّر ، كما يأتى فى المجادلة. والأدعياء : جمع دعى ، فقيل : بمعنى مفعول ، وهو الذي يدعى ولدا ، وجمعه على أفعلاء : شاذ ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل ؛ كتقى وأتقياء ، وشقى وأشقياء. ولا يكون فى ذلك فى نحو رميّ وسمى ، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل ، فجمع جمعه.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) ؛ إذ أن قولكم للزوجة : أما ، والدعىّ : هو ابن ، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ؛ إذ الابن يكون بالولادة ، وكذا الأم. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) ؛ ما له حقيقة عينية ، مطابقة له ظاهرا وباطنا. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) ؛ سبيل الحق.

ثم بيّن ذلك الحقّ ، وهدى إلى سبيله ، فقال : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ؛ انسبوهم إليهم. (هُوَ) ، أي : الدعاء ، (أَقْسَطُ) ؛ أعدل (عِنْدَ اللهِ). بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين فى العدل. وقيل : كان الرجل فى الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ؛ ضمّه إليه ، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده ، من ميراثه. وكان ينسب إليه ، فيقال : فلان بن فلان. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) أي : فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم ، (فَإِخْوانُكُمْ فِي

__________________

(١) هذا معنى ما أخرجه الإمام أحمد (١ / ٢٦٨) والترمذى ، وحسنه ، فى (التفسير ، باب : ومن سورة الأحزاب ، ٥ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، ح ٣١٩٩) والطبرى (٢١ / ١١٨) والحاكم (٢ / ٤١٥) عن ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الحاكم ، وفيه «قابوس بن أبى ظبيان» قال الذهبى : قابوس ، ضعيف.

(٢) ذكره الواحدى فى أسباب النزول / ٣٦٥. بدون إسناد.

٤٠٦

الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي : فهم إخوانكم فى الدين ، وأولياؤكم فيه. فقولوا : هذا أخى ، وهذا مولاى ، ويا أخى ، ويا مولاى ، يريد الأخوة فى الدين والولاية فيه ، (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك ، مخطئين جاهلين ، قبل ورود النهى ، أو بعده ، نسيانا. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي : ولكن الإثم فيما تعمّدتموه بعد النهى. أو : لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم : يا بنىّ ، على سبيل الخطأ ، أو : الشفقة ؛ ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ؛ لا يؤاخذكم بالخطأ ، ويقبل التوبة من المتعمّد.

الإشارة : العبد إنما له قلب واحد ، إذا أقبل به على مولاه ؛ أدبر عن ما سواه ، وملأه الله تعالى بأنواع المعارف والأسرار ، وأشرقت عليه الأنوار ، ودخل حضرة الحليم الغفار ، وإذا أقبل به على الدنيا ؛ أدبر عن الله ، وحشى بالأغيار والأكدار ، وأظلمت عليه الأسرار ، وطبع فيه صور الكائنات ، فحجب عن المكوّن ، وكان مأوى للخواطر والوساوس ، فلم يسو عند الله جناح بعوضة. قال القشيري : القلب إذا اشتغل بشىء ؛ اشتغل عما سواه ، فالمشتغل بما من العدم ؛ منفصل عمن له القدم ، والمتصل بقلبه بمن نعته القدم ؛ مشتغل عمّا من العدم ، والليل والنهار لا يجتمعان ، والغيب والغير لا يلتقيان. ه.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ...) الآية ، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنّ من ظاهر الدنيا ، وتباعد عنها ؛ لا يحل له أن يرجع ، ويتخذها أما ؛ فى المحبة والخدمة. وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ..) : تشير إلى أنه لا يحل أن يدّعى الفقير حالا ، أو مقاما ، ما لم يتحقق به ، وليس هو له ، أو : ينسب حكمة أو علما رفيعا لنفسه ، وهو لغيره ، (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ). وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ..) : إخوان الدين أولى ، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري : وقرابة الدين ، فى الشكلية ، أولى من قرابة النّسب ، وأنشدوا :

وقالوا : قريب من أب وعمومة

فقلت : وإخوان الصّفاء الأقارب

مناسبهم شكلا وعلما وألفة

وإن باعدتنا فى الأصول التّناسب (١)

__________________

(١) فى القشيري : (وإن باعدتهم فى الأصول المناسب) والبيتان لأبى تمام ، يرثى غالب بن السعدي. انظر ديوانه (٤ / ٤١) ونهاية الأرب (٥ / ٢٠٢).

٤٠٧

ثم ذكر أبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمومة أزواجه لجميع أمته ، فقال :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

يقول الحق جل جلاله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : أحق بهم فى كل شىء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فإنه لا يأمرهم ، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم ، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء : يعنى : (إذا دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شىء ، ودعتهم أنفسهم إلى شىء ، كانت طاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى) (١). أو : هو أولى بهم ، أي : أرأف ، وأعطف عليهم ، وأنفع لهم ، كقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) وفى الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فأيّما مؤمن هلك ، وترك مالا ؛ فلورثته ما كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى ، فإنى أنا مولاه». (٣).

وفى قراءة ابن مسعود «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم». وقال مجاهد : كل نبى أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبوهم فى الدين ، وأزواجه أمهاتهم ، فى تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن ، وهن فيما وراء ذلك ـ كالإرث وغيره ـ كالأجنبيات ، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي : ذوو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فى المواريث. وكان المسلمون فى صدر الإسلام يتوارثون بالولاية فى الدين وبالهجرة ، لا بالقرابة ، ثم نسخ ، وجعل التوارث بالقرابة. وذلك (فِي كِتابِ اللهِ) أي : فى حكم الله وقضائه ، أو : فى اللوح المحفوظ ، أو : فيما فرض الله ، فهم أولى بالميراث ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بحق الولاية فى الدين ، (وَ) من (الْمُهاجِرِينَ) بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة : كان المسلمون

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ٣١٨).

(٢) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

(٣) أخرجه البخاري فى (الاستقراض ، باب الصلاة على ترك دينا ، ح ٢٣٩٩) ، ومسلم فى (الفرائض ، باب من ترك مالا فلورثته ، ٣ / ١٢٣٨ ، ح ١٦١٩) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٤٠٨

يتوارثون بالهجرة ، ولا يرث الأعرابى المسلم من المهاجر شيئا ، فنزلت. وقال الكلبي : آخى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الناس ، فكان يواخى بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر ، دون عصبته ، حتى نزلت : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) ؛ فى حكمه ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ). ويجوز أن يكون (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : بيانا لأولى الأرحام ، أي : وأولو الأرحام ، من هؤلاء ، بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا ، وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشىء ، فيكون له ذلك بالوصية ، لا بالميراث ؛ فالاستثناء منقطع. وعدّى (تفعلوا) بإلى ؛ لأنه فى معنى تسندوا ، والمراد بالأولياء : المؤمنون ، والمهاجرون : المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. (كانَ ذلِكَ) أي : التوارث بالأرحام (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي : اللوح المحفوظ ، أو : القرآن. وقيل : فى التوراة.

الإشارة : متابعته ـ عليه الصلاة والسلام ، والاقتباس من أنواره ، والاهتداء بهديه ، وإيثار محبته ، وأمره على غيره ؛ لا ينقطع عن المريد أبدا ، بداية ونهاية ؛ إذ هو الواسطة العظمى ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم. فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى يده ، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك فى تربية المريدين ، فهو جزء من الذي جاء به. وهم فى ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهى معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه : اعلم أن كل ولىّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بواسطة روحانية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمنهم من يعرف ذلك ، ومنهم من لا يعرفه ، ويقول : قال لى الله ، وليس إلا تلك الروحانية. ه. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه ، حيث قال : الولىّ إنما يكاشف بالمثال ، كما يرى مثلا البدر فى الماء بواسطته ، وكذلك الحقائق الغيبية ، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة فى بصيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله عيانا لا مثالا. والولىّ لقربه منه ومناسبته له ؛ لهديه بهديه ، ومتابعته له يكاشف بمثال ذلك فيه ، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدى «عبد الرحمن العارف».

قال القشيري : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الإشارة : تقديم سنّته على هواك ، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلق به مناك ، وإيثار من تتوسل به نسبا وسببا على أعزّتك ومن والاك ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ ..) الآية. ليكن

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٦٨).

٤٠٩

الأجانب منك على جانب ، ولتكن صلتك للأقارب وصلة الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار ، وليكن بموافقة القلوب ، والمساعدة فى حالتى المكروه والمحبوب.

أرواحنا فى مكان واحد ، وإن كانت

أشباحنا بشآم أو خراسان (١). ه.

ولمّا كان كل نبى أبا لأمته ، أخذ عليهم العهد فى إرشادهم ، ونصحهم ، كما ينصح الأب ابنه ، فقال :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذْنا) ؛ حين أخذنا (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) بتبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الدين القيم ، وإرشاد العباد ونصحهم. قيل : أخذه عليهم فى عالم الذر. قال أبىّ بن كعب : لما أخرج الله الذرية ، كانت الأنبياء فيهم مثل السرج ، عليهم النور ، فخصوا بميثاق وأخذ الرسالة والنبوة. وقال القشيري : أخذ الميثاق الأول وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، عوند بعثة كل رسول ، ونبوّة كل نبىّ ، أخذ ميثاقه ، وذلك على لسان جبريل عليه‌السلام ، ومن اختصه بإسماعه كلامه بلا واسطة ملك ـ كنبينا ليلة المعراج ، وموسى ـ عليهما‌السلام ـ فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة ، وكان لنبينا ـ عليه الصلاة السلام ـ زيادة حال ؛ بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. ه.

قال فى الحاشية : والذي يظهر : أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي ، وذلك فى الغيب ، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه النور الأول قبل آدم ، ثم انتقل إلى ظهره ، وحينئذ ، فأخذ الميثاق هنا غيبى ، ولذلك قدّمه. وفى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ...) (٢) ؛ فى عالم الظهور ، فلذلك قدّم نوحا ، وثنّى بنبينا ؛ لأن نوحا أول أولى العزم ، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. ه. والحاصل : أن أخذ الميثاق كان مرتين ؛ فى عالم الغيب وفى عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني؟ قولان.

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، يمدح سليمان بن وهب. انظر ديوان أبى تمام (٣ / ٣٣٥) ، وتاريخ بغداد (١٠ / ٩٧) وفيهما : أرواحنا فى مكان واحد ، وغدت ... إلخ.

(٢) الآية ١٣ من سورة الشورى.

٤١٠

(وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، قال النسفي : وقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نوح ومن بعده ؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء ؛ لأنهم أولو العزم ، وأصحاب الشرائع ، فلمّا كان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل هؤلاء قدّم عليهم ، ولو لا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه. ه. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ؛ وثيقا. وأعاد ذكر الميثاق ؛ لانضمام الوصف إليه.

وإنما فعلنا ذلك (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ) أي : الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) ؛ عما قالوه لقومهم ، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار ، كقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (١) ، أو : ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم : هل كان بإخلاص أم لا؟ ؛ لأن من قال للصادق : صدقت ؛ كان صادقا فى قوله. أو : ليسأل الأنبياء : ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٢) ، (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) بالرسل (عَذاباً أَلِيماً) ، وهو عطف على «أخذنا» ؛ لأن المعنى : أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه ؛ لأجل إثابة المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما. أو : على ما دلّ عليه : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما.

الإشارة : كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل ؛ أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أما العلماء ؛ فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر ، وألا تأخذهم فى الله لومة لائم ، وأما أخذه على الأولياء ؛ فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله ، وتربية من تعلق بهم ، وسياسة الخلق ، ودلالتهم على الحق ، فمن قصر من الفريقين استحق العتاب. قال القشيري : فلكلّ من الأولياء والأكابر حال ، على ما يؤهلهم له ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد كان فى الأمم محدّثون ، وإن يكن فى أمتى فعمر» ، وغير عمر مشارك لعمر فى خواص كثيرة ، وذلك سر بينهم وبين ربّهم.

ثم قال : قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) ؛ سؤال تشريف لا تعنيف ، وإيجاب لا عتاب. والصدق : ألا يكون فى أحوالك شوب ، ولا فى اعتقادك ريب ، ولا فى عملك عيب ، ويقال : من أمارات الصدق فى المعاملة : وجود الإخلاص من غير ملاحظة ، وفى الأحوال : تصفيتها [من غير مداخلة الحجاب] (٣) ، وفى القول : سلامته من المعاريض ، [فيما بينك وبين نفسك] (٤). وفيما بينك وبين الناس : تباعد من التلبيس والتدليس ، وفيما

__________________

(١) الآية ٦ من سورة الأعراف.

(٢) متفق عليه ، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة ، باب : مناقب عمر ، ح ٣٦٨٩) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب : من فضائل عمر ٤ / ٨١٦٤ ، ح ٢٣٩٨).

(٣) فى القشيري [من غير مداخلة إعجاب].

(٤) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من القشيري ، وهو ضرورى يقتضيه السياق.

٤١١

بينك وبين الله : إدامة التبرّى من الحول والقوة ، ومواصلة الاستقامة ، وحفظ العهود معه على الدوام. وفى التوكل : عدم الانزعاج عند الفقد ، وزوال البشر [بالوجد] (١) ، وفى الأمر بالمعروف : التحرّز من تخلل المداهنة ، قليلها وكثيرها ، وألّا يترك ذلك لفزع ولا طمع ، ولكن تشرب مما تسقى ، وتتصف بما تأمر ، وتنتهى عما تزجر. ويقال : الصدق : أن يهتدى إليك كلّ أحد ، ويكون عليك ، فيما تقول وتضمر ، اعتماد. ويقال : الصدق : ألا تجنح إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.

ثم شرع فى غزوة الأحزاب ، التي هى المقصودة من السورة ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، أي : ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق ، وكان بعد حرب أحد بسنة. (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) أي : الأحزاب ، وهم : قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة والنضير ، وهم السبب فى إتيانهم ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي : الصّبا ، قال عليه الصلاة والسلام : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» (٢). قيل : كانت هذه الريح معجزة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها ، ولم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق ، وكانوا فى عافية منها. (وَ) لا شعور لهم بها. وأرسلنا عليهم (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة ، وكانوا ألفا ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور.

وكان سبب غزوة الأحزاب : أن نفرا من اليهود ، منهم ابن أبى الحقيق ، وحيى بن أخطب ، فى نفر من بنى النضير ، لمّا أجلاهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلدهم ، قدموا مكة فحرّضوا قريشا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خرجوا إلى غطفان ، وأشجع ، وفزارة ، وقبائل من العرب ، يحرضونهم على ذلك ، على أن يعطوهم نصف تمر خيبر كل

__________________

(١) فى القشيري [بالوجود].

(٢) سبق تخريج الحديث عن تفسير الآية ٤٦ من سورة الروم. فراجعه إن شئت ، أكرمك الله.

٤١٢

سنة. فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف فى مرة ، وسعد بن رخيلة (١) فى أشجع ، وعامر بن الطفيل فى هوازن.

فلما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، ضرب الخندق على المدينة ، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يومئذ حر. وقال : يا رسول الله : إنا كنّا بفارس ؛ إذا حوصرنا : خندقنا علينا ، فحفر الخندق ، وباشر الحفر معهم بيده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجرف والغابة ، فى عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نقمى ، إلى جانب أحد. فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، فى ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا فى الآطام (٢).

واشتد الخوف ، فأقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام المشركون ، بضعا وعشرين ليلة ، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما ، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد ، فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فقال سعد بن معاذ : أشيء أمرك الله به ، لا بدّ لنا من العمل به ، أم شىء تحبه فنصنعه ، أم شىء تصنعه لنا؟ قال : «لا ، بل شىء أصنعه لكم ، أردت أن أكسر عنكم شوكتهم». فقال سعد : يا رسول الله ؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة ، إلا قرى ، أو شراء ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزّنا بك ، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال ـ عليه الصلاة والسلام : «فأنت وذاك» ، فمحا سعد ما فى الكتاب ، وقال : ليجهدوا علينا (٣).

ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحا باردة ، فى ليلة شاتية ، فأحصرتهم ، وأحثت التراب فى وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأكفأت القدور ، وأطفأت النيران ، وجالت الخيل بعضها فى بعض. وأرسل الله تعالى عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بنى فلان ، هلمّوا ، فإذا اجتمعوا إليه قال : النّجا ، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ، أي : بصيرا بعملكم ، من حفر الخندق ، ومعاونة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثبات معه ، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو : بالغيب ، أي : بما يعمل الكفار ؛ من البغي ، والسعى فى إطفاء نور الله ، (إِذْ

__________________

(١) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة].

(٢) الآطام : الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم ١ / ٩٣).

(٣) انظر : السيرة لابن هشام (٣ / ٢٢٥).

٤١٣

جاؤُكُمْ) هو بدل من : (إذ جاءتكم) ، (مِنْ فَوْقِكُمْ) ؛ من أعلى الوادي ، من قبل المشرق. وهم بنو غطفان. (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ؛ من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وهم قريش. (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) ؛ مالت عن مستوى نظرها ؛ حيرة وشخوصا. أو : مالت إلى عدوها ؛ لشدة الخوف ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ؛ رعبا. والحنجرة : رأس الغلصمة ، وهى منتهى الحلقوم ، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا : إذا انتفخت الرئة ، من شدة الفزع والغضب ، ربت ، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل : هو مثل فى اضطراب القلوب ، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.

روى أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل من شىء نقوله ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا» (١).

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ؛ الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف ؛ منهم الأقوياء ، ومنهم الضعفاء ، ومنهم المنافقون. فظن الأقوياء ، المخلصون ، الثبت القلوب ؛ أن ينجز الله وعده فى إعلاء دينه ، ويمتحنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأما الآخرون ؛ فظنوا ما حكى عنهم ، وهم الذين زاغت أبصارهم ، وبلغت قلوبهم الحناجر ، دون الأقوياء رضى الله عنهم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة : الظنون ؛ بغير ألف ، وهو القياس. وبالألف فيهما : نافع ، والشامي ، وشعبة ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكىّ ، وعلىّ ، وحفص : بالألف فى الوقف. ومثله : (الرَّسُولَا) (٢) و (السبيلا) (٣) ، زادوها فى الفاصلة ، كما زادوها فى القافية ، كقوله :

«أقلّى اللّوم ، عاذل ؛ والعتابا» (٤)

وهو فى الإمام : بالألف.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي : اختبروا ، فظهر المخلص من المنافق ، والثابت من المزلزل ، (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) ؛ وحركوا ، بالخوف ، تحريكا شديدا.

الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ اذكروا نعمة الله عليكم بالتأييد والنصر ، فحين توجّهتم إلىّ ، ودخلتم فى طريق ولايتي ، رفضتكم الناس ، ونكرتكم ، ورمتكم عن قوس واحدة ، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣) عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.

(٢) من الآية ٦٦ من سورة الأحزاب.

(٣) من الآية ٦٧ من سورة الأحزاب. وانظر الحجة لأبى على الفارسي (٥ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩).

(٤) صدر بيت لجرير ، وعجزه : وقولى ـ إن أصبت ـ لقد أصابا. انظر : معانى القرآن للزجاج (٤ / ٢١٨).

٤١٤

من كل جانب ، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار : مالت عن قصدها ؛ بالاهتمام بالرجوع ، وبلغت القلوب الحناجر ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين ، وتظنون بالله الظنونا ، فمنهم من يظن الامتكان بعد الامتحان ، فيفرحون بالبلاء ، ومنهم من يظن أنه عقوبة ... إلى غير ذلك ، هنالك ابتلى المؤمنون المتوجهون ؛ ليظهر الصادق ، فى الطلب ، من الكاذب فيه ، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان ، ويظهر الخوّافون من الشجعان ، وزلزلوا زلزالا شديدا ؛ ليتخلصوا ويتمحصوا ، كما يتخلص الذهب والفضة من النحاس ، ومن عرف ما قصد ؛ هان عليه ما ترك.

قال القشيري : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ..) يعنى : بمقابلتها بالشكر ، وتذكّر ما سلف من الذي دفع عنك ، يهون عليك مقاساة البلاء فى الحال. وبذكرك لما أولاك فى الماضي ؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمّله فى الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله : (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) الآية : كم بلاء صرفه عن العبد وهو لا يشعر ، وكم شغل كنت بصدده ، فصده عنك ولم تعلم ، وكم أمر صرفه ، والعبد يضج ، وهو ـ سبحانه ـ يعلم أن فى تيسيره هلاكه ، فيمنعه منه ؛ رحمة عليه ، والعبد يتهمه ويضيق به صدره!. ه.

ثم ذكر سبحانه نتيجة الابتلاء ، فقال :

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : عطف تفسير ؛ إذ هو وصف المنافقين ، كقول الشاعر :

إلى الملك القرم ، وابن الهمام

وليث الكتيبة فى المزدحم

فابن الهمام هو القرم ، والقرم ـ بالراء ـ : السيد. وقيل : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، هم الذين لا بصيرة بهم فى الدين من المسلمين ، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم ، قالوا ، عند شدة الخوف : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).

٤١٥

روى أن معتّب بن قشير ، المنافق ، حين رأى الأحزاب قال : إن محمدا يعدنا فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز ، خوفا ، ما هذا إلا وعد غرور. ه.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) ؛ من المنافقين ، وهم عبد الله بن أبىّ وأصحابه : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) ، وهم أهل المدينة ، (لا مُقامَ لَكُمْ) (١) أي : لا قرار لكم هنا ، ولا مكان تقيمون فيه ـ وقرأ حفص : بضم الميم ـ اسم مكان ، أو مصدر ، (فَارْجِعُوا) من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ؛ هاربين ، أو : إلى الكفر ، فيمكنكم المقام بها ، أو : لا مقام لكم على دين محمد ، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا ، (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي : بنو حارثة ، (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : ذات عورة ، أي : خالية غير حصينة ، وهى مما يلى العدو. وأصلها : الخلل. وقرأ ابن عباس ؛ بكسر الواو : (عورة) ، يعنى : قصيرة الجدران ، فيها خلل. تقول العرب : دار فلان عورة ؛ إذا لم تكن حصينة ، وعور المكان : إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق ، ويجوز أن يكون عورة : تخفيف عورة.

اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق ؛ لأنها غير محصنة ، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله تعالى بقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) ، بل هى حصينة ، (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من القتل.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) مدينتهم ، أو : بيوتهم. من قولك : دخلت على فلان داره. (مِنْ أَقْطارِها) ؛ من جوانبها ، أي : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة ـ التي يفرون ؛ خوفا منها ـ مدينتهم ، أو بيوتهم ، من نواحيها كلها ؛ ناهبين سارقين ، (ثُمَّ سُئِلُوا) ؛ عند ذلك الفزع ، (الْفِتْنَةَ) أي : الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، أو : القتال فى العصبية ، وهو أحسن ؛ لأنهم مسلمون ، (لَآتَوْها) (٢) ؛ لجاءوها وفعلوا. ومن قرأ بالمد فمعناه : لأعطوها من أنفسهم ، (وَما تَلَبَّثُوا بِها) ؛ بإجابتها وإعطائها ، أي : ما احتبسوا عنها (إِلَّا يَسِيراً) ، أو : ما لبثوا بالمدينة ، بعد ارتدادهم ، إلا زمانا يسيرا ، ثم يهلكهم الله ؛ لأن المدينة كالكير ؛ تنفى خبثها ، وينصع طيبها ، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ؛ ليفروا عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رعبا ، وهؤلاء الأحزاب كما هم ؛ لو سألوهم أن يقاتلوا ؛ فتنة وعصبية ؛ لأجابوهم ، وما تعللوا بشىء ، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم ، والعياذ بالله.

الإشارة : وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء : لا مقام تقفون معه ؛ إذ قد قطعتم المقامات ، حين تحققتم بمقام الفناء ، فارجعوا إلى البقاء ؛ لتقوموا بآداب العبودية ، وتنزلون فى المقامات ثم ترحلون عنها ، كما

__________________

(١) أثبت المفسر ـ رحمة الله ـ قراءة (مقام) بفتح الميم ، وهى قراءة الجمهور. وقرأ حفص (مقام) بضم الميم. انظر : الحجة للفارسى (٥ / ٤٧١).

(٢) قرأ نافع وابن كثير : (لأتوها) بالقصر ، وقرأ الباقون : بالمد .. انظر : الإتحاف (٢ / ٣٧٢).

٤١٦

تنزل الشمس فى بروجها ، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضى النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضى التوبة ، وتارة ما يقتضى الخوف والهيبة ، أي : خوف القطيعة ، وتارة ما يقتضى الرجاء والبسط ، وتارة ما يقتضى الشكر ، وتارة الصبر ، وتارة ما يقتضى الرضا والتسليم ، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل فى المقامات ويرحل عنها ، ولا يقيم فى شىء منها. ويستأذن بعض المريدين فى الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام ، أو شىء من أمور البدايات ، يقولون : إن بيوت تلك المقامات لم نتقنها ، بل فيها عورة وخلل ، وما هى بعورة ، ما يريدون إلا فرارا من ثقل أعباء الحضرة. ولو دخلت بيوت قلوبهم من أقطارها ، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها ؛ لأنها قريبة عهد بتركها ، وما تلبثوا بها إلا زمانا يسيرا ، بل يبغتهم الموت ، ويندمون ، قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى.

وقد كانوا عاهدوا الله ألّا يرجعوا إليها ، كما قال تعالى :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل غزوة الخندق ، وهو يوم أحد. والضمير فى «كانوا» : لبنى حارثة ، عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، حين فشلوا ، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله ، وقالوا : (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) ؛ منهزمين أبدا ، (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به ، مجازى عليه ، أو : مطلوبا مقتضى حتى يوفى به. (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) ، فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنفه ، أو : قتل فى وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم ، (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إن حضر أجلكم له ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر ، وفررتم ، لن تمتعوا فى الدنيا إلا زمانا قليلا ، وهو مدة أعماركم ، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي : يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم ؛ (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) فى أنفسكم ؛ من قتل أو غيره ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي : أراد بكم إطالة عمر فى عافية وسلامة. أو : من يمنع الله

٤١٧

من أن يرحمكم ، إن أراد بكم رحمة ، فحذف ؛ بعدا واختصارا ، لما فى العصمة من معنى المنع ، أو : من ذا الذي يعصمكم ؛ إن أراد بكم سوءا ، أو يصيبكم بسوء ، إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم ، (وَلا نَصِيراً) يدفع العذاب عنهم.

الإشارة : ولقد كان عاهد الله ؛ من دخل فى طريق القوم ، ألّا يولى الأدبار ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتر عن السير ، وكان عهد الله مسئولا ، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرادة ، ولما ذا حرم نفسه من لذيذ المشاهدة؟ قل ـ لمن رجع ، ولم يقدر على مجاهدة نفسه : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم ، أو القتل ؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها ، وتحميلها ما يثقل عليها ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا ، ثم ترحلون إلى الله ، فى غم الحجاب وسوء الحساب. قل : من ذا الذي يعصمكم من الله ، إن أراد بكم سوءا؟ ، وهو البعد والطرد ، أو : من يمنعكم من رحمته ، إن أراد بكم رحمة؟ ، وهى التقريب إلى حضرته ، فلا أحد يعصمكم من إبعاده ، ولا أحد يمنعكم من إحسانه ؛ إذ لا ولىّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين ، وارحمنا برحمتك الخاصة ، حتى تقرّبنا إلى حضرتك ، بفضل منك وجودك ، يا أرحم الراحمين.

ثم ذكر نعوت أهل البعد ، فقال :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

يقول الحق جل جلاله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي : يعلم من يعوّق عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمنع ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو ، (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) فى الظاهر ؛ من ساكنى المدينة من المسلمين : (هَلُمَّ إِلَيْنا) ؛ تعالوا إلينا ، ودعوا محمدا. ولغة أهل الحجاز فى «هلم» : أنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال .. وهكذا. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) ؛ الحرب

٤١٨

(إِلَّا قَلِيلاً) ؛ إلا إتيانا قليلا ، أو يحضرون ساعة ؛ رياء ، ويقفون قليلا ، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) ؛ جمع شحيح ، وهو البخيل ، نصب على الحال من ضمير (يَأْتُونَ) أي : لا يأتون الحرب ؛ بخلا عليكم بالمعاونة أو بالنفقة فى سبيل الله ، أو : فى الظفر والغنيمة ، أي : عند الظفر وقسم الغنيمة. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) من قبل العدو ، أو : منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ؛ فى تلك الحالة ، (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) يمينا وشمالا (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ؛ كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت ؛ حذرا وخوفا ولواذا بك.

(فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) أي : زال ذلك الخوف وأمنوا ، وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة ، وآذوكم بالكلام ، يقال : خطيب سلق : فصيح ، ورجل مسلق وسلّاق : مبالغ فى الكلام. يعنى : بسطوا ألسنتهم فيكم ، وقت قسم الغنيمة ، ويقولون : أعطنا ، أعطنا ؛ فإنا قد شهدنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي : خاطبوكم ؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم ، فهم أشح القوم عند القسم ، وأجبنهم عند الحرب ، (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) فى الحقيقة ، بل بالألسنة فقط ، (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) ؛ أبطلها ، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة ، (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) ؛ هينا.

الإشارة : هذه صفة منافقى الصوفية ، يدخلون معهم على تذبذب ، فإذا رأوا قوما توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم ، أو : أرادوا الخروج عن دنياهم ؛ عوّقوهم عن ذلك ، وثبطوهم ، وكذلك إذا توجهوا فى سفر لشقة بعيدة ؛ عوقوهم ؛ ليستتروا بهم ، وقالوا لإخوانهم فى الطريق : هلم إلينا ، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلا. أشحة بأنفسهم عليكم ، فإذا جاء الخوف ، وتجلى لهم الحق تعالى باسمه الجليل ؛ بأن نزلت بالفقراء محنة ، رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم ، نظر المغشى عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف ، وجاء النصر والعز ؛ سلقوكم بألسنة حداد ، وقالوا : إنا كنا معكم ، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.

ثم تمم وصفهم ، فقال :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

٤١٩

يقول الحق جل جلاله : (يَحْسَبُونَ) أي : هؤلاء المنافقون (الْأَحْزابَ) ، يعنى : قريشا وغطفان ، الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : اجتمعوا ، أنهم (لَمْ يَذْهَبُوا) ولم ينصرفوا ؛ لشدة جبنهم ، مع أنهم انصرفوا. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية ؛ (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) ، والبادون : جمع باد ، أي : يتمنى المنافقون ـ لجبنهم ـ أنهم خارجون من المدينة إلى البادية ، حاصلون بين الأعراب ؛ ليأمنوا على أنفسهم ، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب ، (يَسْئَلُونَ) كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ يساءلون (١) ، بالشد. أي : يتساءلون ، بعضهم بعضا (عَنْ أَنْبائِكُمْ) ؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم ، (وَلَوْ كانُوا) أي : هؤلاء المنافقون (فِيكُمْ) أي : حاضرون فى عسكركم ، وحضر قتال ، (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ؛ رياء وسمعة ، ولو كان الله ؛ لكان كثيرا ؛ إذ لا يقل عمل لله.

الإشارة : الجبان يخاف والناس آمنون ، والشجاع يأمن والناس خائفون ، ولا ينال من طريق القوم شيئا جبان ولا مستحى ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء : أنهم ، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة ـ كما امتحن الجنيد وأصحابه ـ يتمنون أنهم خارجون عنهم ، وربما خرجوا بالفعل ، وإن ذهبت شوكتهم ؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا ؛ لشدة جزعهم. ومن أوصافهم : أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم ، والبحث عما جرى بهم ؛ خوفا وجزعا ؛ ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئا. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر ضدهم من أهل القوة ، فقال :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤))

__________________

(١) وهى قراءة رويس ، ورويت عن زيد بن على ، وقتادة ، وغيرهما. انظر الإتحاف (٢ / ٣٧٣).

٤٢٠