البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣١

قال بعضهم : إنما حجب الله عنها تلك العلوم ؛ غيرة أن تكشف سر الربوبية ؛ فيظهر لغير أهله ، قال القشيري : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أي : أخلص قصدك إلى الله ، واحفظ عهدك معه ، وأفرد عملك ، فى سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك ، له. (حَنِيفاً) أي : مستقيما فى دينه ، مائلا عن غيره ، معرضا عن سواه. والزم (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ، ثم ذكر ما تقدم لنا. ثم قال : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ؛ راجعين إلى الله بالكلية ، من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفائه ، منحرفين بكل وجه عن خلافه ، متّقين صغير الإثم وكبيره ، وقليله وكثيره ، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها ؛ جهرا ، متحققين بمرعاة فضلها ؛ سرا.

وقال فى قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : أقاموا فى دنياهم فى دار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة ، فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وثملوا بسكر غيّهم ، وظنوا أنهم على شىء ، فإذا انكشف ضباب وقتهم ، وانقشع سحاب هجرهم ، انقلب فرحهم ترحا ، واستيقنوا أنهم كانوا فى ضلالة ، ولم يعرّجوا إلا فى أوطان الجهالة. ه.

ثم ذكر حال أهل الغفلة ، فقال :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

قلت : (إذا هم) : جواب (إن). و (إذا) ؛ الفجائية ، تخلّف الفاء ، لتآخيهما فى التعقيب.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) ؛ كمرض ، وفقر ، وشدة ، أو غير ذلك ، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ) ؛ راجعين (إِلَيْهِ) من دعاء غيره. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) ؛ خلاصا من الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) شركا جليا أو خفيا ، أي : فاجأ بعضهم الإشراك بربهم الذي عافاهم ، (لِيَكْفُرُوا) ؛ إما : لام كى ، أو : لام الأمر ؛ للوعيد والتهديد ، أي : أشركوا كى يكفروا (بِما آتَيْناهُمْ) من النعم ، التي من جملتها : نجاتهم وخلاصهم من كل شدة ، (فَتَمَتَّعُوا) بكفركم قليلا ؛ أمر تهديد ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال تمتعكم.

٣٤١

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) ؛ حجّة على عبادة أصنامهم ، (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) ، وتكلمه مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه : الشهادة ، كأنه قال : يشهد بصحة ما (كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ، فما : مصدرية ، أي : بصحة كونهم بالله يشركون ، أو : موصولة ، أي : بالأمر الذي بسببه يشركون.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي : نعمة ؛ من مطر ، أو : سعة رزق ، أو : صحة ، (فَرِحُوا بِها) فرح بطر وافتخار وغفلة. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ؛ بلاء ؛ من جدب ، أو ضيق ، أو مرض ، (بِما) ؛ بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي ، أي : بشؤمها ، (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ؛ ييأسون من رحمة الله ، وفرجه بعد عسره. يقال : قنط يقنط ، كفرح يفرح ، وكعلم.

الإشارة : الواجب على المؤمنين أن يتخلقوا بضد ما تخلق به الكافرون ؛ فإذا مسهم ضر أو شدة ، توجهوا إلى الله ، إما بالتضرع والابتهال ؛ عبودية ، منتظرين ما يفعل الله ، وإما بالصبر ، والرضا ، والسكون تحت مجارى الاقدار. فإذا جاء الفرج والنعمة ؛ شكروا الله وحمدوه ، ونسبوا الفرج إليه وحده ، فإن كان وقع منهم سبب شرعى ؛ لم يلتفتوا إليه قط ؛ إذ لا تأثير له أصلا ، وإنما الفرج عنده لا به ، فلا يقولوا : فلان ولا فلانة ، وإنما الفاعل هو الله الواحد القهار.

وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس ، علماء وصالحين ، وخصوصا منهم من يتعاطى كتب الفلسفة ، كالأطباء وغيرهم ، إذا أصابهم شىء فزعوا ، فإذا فرّج عنهم ؛ قالوا : فلان داوانا ، وفلان فرّج عنا ، والدواء الفلاني هو شفانى ، فتعالى الله عما يشركون. فليشدّ العبد يده على التوحيد ، ولا يرى فى الوجود إلا الفرد الصمد ، الفعّال لما يريد.

ومن أوصاف أهل الغفلة : أنهم ، إذا أصابتهم نعمة ، فرحوا وافتخروا بها ، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح الله ، والواجب : ألا يفرح بما هو عارض فإن ، ولا ييأس من روح الله عند الشدة ، بل ينتظر من الله الفرج ، فإنّ مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا. قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ..) (١) الآية. وبالله التوفيق.

ثم برهن على توالى النعم والمحن على العبد ، مادام فى دار الدنيا ، فقال :

__________________

(١) الآيتان : ٢٢ ـ ٢٣ من سورة الحديد.

٣٤٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء ، فينبغى للعبد أن يكون راجيا ما عند الله ، غير آيس من روح الله ؛ إذ دوام حال من قضايا المحال ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ؛ فيستدلون بها على كمال قدرته وحكمته ، ولا يقفون مع شىء دونه. قال النسفي : أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه القابض الباسط ، فما لهم يقنطون من رحمته؟ وما لهم لا يرجعون إليه ، تائبين من معاصيهم ، التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد عليهم رحمته؟

ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يحب أن يفعل وما يجب أن يترك ، يعنى : عند البسط ؛ فقال : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) ؛ أعط قريبك (حَقَّهُ) من البر والصلة مما بسط عليك. (وَ) أعط (الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) حقهما ؛ من الصدقة الواجبة أو التطوعية ، حسبما تقتضيه مكارم الأخلاق. والخطاب لمن بسط عليه ، أو : للنبى ـ عليه الصلاة والسلام ، وغيره تبع. (ذلِكَ) أي : إيتاء حقوقهم الواجبة ، والتطوعية ، (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي : ذاته المقدسة ، أي : يقصدون ، بمعروفهم ، إياه ، خالصا. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ؛ الفائزون بكل خير ، قد حصّلوا ، بما بسط لهم ، النعيم المقيم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : وما أعطيتم من مال ؛ لتأخذوا من أموال الناس أكثر منه ، كيفيّة أو كمّيّة ، (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ؛ ولا يبارك فيه ، بل يسحته ويمحقه ، ولو بعد حين. وهذه صورة الربا المحرمة ؛ إجماعا ، وقيل : وما أعطيتم من هدية ؛ لتأخذوا أكثر منها ، فلا يربو عند الله ، لأنكم لم تقصدوا به وجه الله. وهذه ؛ هدية الثواب ، جائزة ، إلا فى حقه ـ عليه الصلاة والسلام ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (١). وقرأ ابن كثير : «أتيتم» ؛ بالقصر ، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. وقرأ نافع (٣) : «لتربوا» بالخطاب ، أي : لتصيروا [ذوى] (٢) ربا ، فتزيدوا فى أموالكم.

__________________

(١) الآية ٦ من سورة المدثر.

(٢) فى الأصول [ذا].

(٣) وكذا قرأ أبو جعفر ويعقوب. وقرأ الباقون بياء الغيب وفتحها. انظر الإتحاف (٢ / ٣٥٧).

٣٤٣

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) ؛ صدقة ، (تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ؛ تبتغون به وجهه ؛ خالصا ، لا تطلبون به زيادة ، ولا مكافأة ، ولا سمعة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي : ذوو الأضعاف من الحسنات ، من سبعمائة فأكثر. ونظير المضعف : المقوي ، والموسر ، لذى القوة واليسار. والالتفات إلى الخطاب فى (أولئك ...) إلخ فى غاية الحسن ؛ لما فيه من التعظيم ، كأنه خاطب الملائكة وخواص الخلق ؛ تعريفا بحالهم ، وتنويها بقدرهم ، ولأنه يفيد التعميم ، كأنه قيل : من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين المقبول عليهم. ولا بد من ضمير يعود إلى «ما» الموصولة ، أي : المضعفون به. أو : فمؤتوه أولئك هم المضعفون. وقال الزجاج : أي : فأهلها هم المضعفون ، أي : يضاعف لهم الثواب ، من عشر إلى سبعمائة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : البسط والقبض يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار. فالواجب على العبد : الرجوع إلى الله فى السراء والضراء ، فالبسط يشهد فيه المنّة من الله ، ومقتضى الحق منك الحمد والشكر. والقبض يشهده من الله ؛ امتحانا وتصفية ، ومقتضى الحق منك الصبر والرضا ، وانتظار الفرج من الله ؛ فإن انتظار الفرج ، مع الصبر ، عبادة. قال القشيري : الإشارة إلى ألا يعلّق العبد قلبه إلا بالله ؛ لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله ، وما يسرهم ليس وجوده إلا من الله. فالبسط ، الذي يسرهم ويؤنسهم منه ، وجوده ، والقبض ، الذي يسوءهم ويوحشهم منه ، حصوله. فالواجب : لزوم [عهوده بالإسرار] (١) ، وقطع الأفكار عن الأغيار. ه.

وقال فى قوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) : القرابة على قسمين ؛ قرابة النسب وقرابة الدين ، وهى أمسّ ، وبالمواساة أحقّ. وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة ، غير متفرغ لطلب المعيشة ، فالذى له إيمان بحاله ، وإشراف على وقته ، يجب عليه أن يقوم بشأنه ، بقدر ما يمكنه ، مما يكون له عون على طاعته ، مما يشوش قلبه ، من حديث عياله ، فإن كان اشتغال الرجل بشىء من مراعاة القلب فحقّه آكد ، وتفقّده أوجب ، (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ، والمريد هو الذي يؤثر حقّ الله على حظّ نفسه. فإيثار الإخوان ، لمن يريد وجه الله ، أتمّ من مراعاة حال نفسه ، فهمّه بالإحسان لذوى القربى والمساكين يتقدم على نظره لنفسه وعيلته ، وما يهمه من نصيبه. ه.

وقال فى قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) : لا تستخدم الفقير بما تريده به من رفق ، بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح ، أي : قاطع ؛ حتى يكون إعطاؤه لله مجردا عن كل نصيب لك. فهؤلاء هم الذين يتضاعف أجرهم بمجاهدتهم [لنفوسهم] (٢) ، حيث يخالفونها ، وفوزهم بالعوض من قبل الله. ثم الزكاة هى التطهير ، فتطهير المال

__________________

(١) فى القشيري [عقوة الأسرار].

(٢) فى الأصول [لنفسهم].

٣٤٤

معلوم ببيان الشريعة ، وزكاة البدن وزكاة القلب ، وزكاة السرّ ، كلّ ذلك يجب القيام به. ه. قلت : فزكاة البدن : إتعابه فى القيام بوظائف العبودية الظاهرة ، وزكاة القلب : تطهيره من الرذائل وتحليته بالفضائل ، وزكاة السر : صيانته من الميل إلى شىء من السّوى. والله تعالى أعلم.

ثم برهن على وحدانيته ، فقال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

قلت : (الله) : مبتدأ ، و (الذي خلقكم) : خبر.

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ؛ أظهركم (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) ما تقوم به أبدانكم ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ؛ عند بعثكم ؛ ليجازيكم على فعلكم ، أي : هو المختص بالخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء. (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) ؛ أصنامكم (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : من الخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء ، (مِنْ شَيْءٍ) أي : شيئا من تلك الأفعال؟ فلم يجيبوا ، عجزا ، فقال ؛ استبعادا وتنزيها : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). و «من» ؛ الأولى ، والثانية ، والثالثة : زوائد ؛ لتأكيد عجز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم.

الإشارة : ذكر الحق تعالى أربعة أشياء متناسقة أنه هو فاعلها ، فأقر الناس بثلاثة ، وشكّوا فى الرزق ، وقالوا : لا يكون إلا بالسبب ، والسبب إنما هو ستر لسر الربوبية. فإذا تحقق وجوده فى حق العامة ارتفع فى حق الخاصة ، فيرزقهم بلا سبب ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١).

قال القشيري : حين قذفك فى بطن أمّك قد كنت غنيا عن الأكل والشراب بقدرته ، أو مفتقرا إليه ، فأجرى رزقه عليك مع الطمث ، على ما قالوا ، وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود فى الوقت المعلوم ، فيسر لك أسباب الشرب والأكل من لبن الأم ، ثم من فنون الطعام ، ثم أرزاق القلوب والسرائر ؛ من الإيمان والعرفان ، وأرزاق التوفيق ؛ من الطاعات والعبادات ، وأرزاق اللسان ؛ من الأذكار ، وغير ذلك مما جرى ذكره. (ثُمَّ

__________________

(١) الآيتان : ٢ ـ ٣ من سورة الطلاق.

٣٤٥

يُمِيتُكُمْ) بسقوط شهواتكم ، ويميتكم عن شواهدكم ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بحياة قلوبكم ، ثم بأن يحييكم بربكم. ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ، ومنها ما هو شهود الرزاق. ويقال : لا مكنة لك فى تبديل خلقك ، فكذلك لا قدرة لك على تغيير رزقك. فالموسّع عليه : رزقه بفضل ربه ، لا [بمناقب] (١) نفسه. والمقترّ عليه رزقه بحكم ربه ، لا بمعايب نفسه. ه. وبعضه بالمعنى.

وقد يضيق رزقه على العباد ؛ لما يظهر فيهم من الفساد ، كما قال تعالى :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))

يقول الحق جل جلاله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، أما الفساد فى البر ؛ فالقحط ، وقلة الأمطار ، وعدم الريع فى الزراعات والربح فى التجارات ، ووقوع الموتان فى الناس والدوابّ ، ومحق البركات من كل شىء.

وأما فى البحر ؛ فبكثرة الغرق ، وانقطاع صيده. (بِما) ؛ وذلك بسبب ما (كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) من الكفر والمعاصي ، ولو استقاموا على الطاعة لدفع الله عنهم هذه الآفات. أظهر فيهم ذلك (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي : ليذيقهم وبال بعض أعمالهم فى الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بجميعها فى الآخرة ، عن «قنبل ويعقوب» : بنون التكلم. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه من المعاصي.

(قُلْ) لكفار قومك : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) ؛ لتعاينوا ما فعلنا بهم بسبب كفرهم ومعاصيهم ؛ لأنه (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) ؛ فدمرناهم ، وخربنا ديارهم ، فانظروا : كيف كان عاقبتهم ، لعلكم ترجعون عن غيكم.

الإشارة : قال القشيري : الإشارة فى البر إلى النّفس ، وفى البحر إلى القلب ، وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات ، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة ، مثل سوء العزم ، والحسد والحقد ، وإرادة الفسوق ، وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب ، كما أنّ العزم على الخيرات ، قبل فعلها ، من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد : التأويلات بغير حقّ ، والانحطاط إلى الرّخص من غير قيام بحق ، والإغراق فى الدعاوى من غير استحياء. ه.

__________________

(١) فى الأصول [بمثاقبة] والمثبت من القشيري

٣٤٦

قال الورتجبي : إن الله غلب الإنسانية على الكون ؛ طاعة ومعصية ، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها ، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته ؛ لأن طاعته ومعصيته من تواثير (١) لطفه وقهره ، علا بنعت الاستيلاء على الوجود ، فإذا فسادها يؤثر فى برّ النفوس وبحار القلوب ، ففساد برّ النفوس : فترتها عن العبودية ، وفساد بحر القلب : احتجابه عن مشاهدة أنوار الربوبية. ه.

قلت : وقد يقال : ظهر الفساد فى بر الشريعة ؛ بذهاب حملتها ، ومن يحفظها ، ويذب عنها ، وفى بحر الحقيقة ؛ بقلة صدق من يطلبها ، وغربة أهلها ، واختفائها حتى اندرست أعلامها ، وخفى آثارها ، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدى الناس ؛ من إيثار الدنيا على الله ؛ ليذيقهم وبال القطيعة ؛ لعلهم يرجعون إليه ، إما بملاطفة الإحسان ، أو بسلاسل الامتحان.

قال فى لطائف المنن : سأل بعض العارفين عن أولياء العدد ، هل ينقصون؟ فقال : لو نقص منهم واحد ؛ ما أرسلت السماء قطرها ، ولا أنبتت الأرض نباتها ، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ، ولا بنقص أمدادهم ، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم ، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان معرضين عن الله ، مؤثرين لما سوى الله ؛ لا تنجح فيهم الموعظة ، ولا تميلهم التذكرة ، لم يكونوا أهلا لظهور أولياء الله تعالى فيهم ، ولذلك قالوا : أولياء الله عرائس ، ولا يرى العرائس المجرمون. ه.

قال القشيري : (قل سيروا) ؛ بالاعتبار ، واطلبوا الحقّ بنعت الافتكار ، وانظروا : كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال؟ وقيسوا عليها حكمكم فى جميع الأحوال ، (كان أكثرهم مشركين) : كان أكثرهم عددا ، ولكن أقل فى التحقيق ؛ وزنا وقدرا. ه.

ثم أمر بالتأهب ليوم المعاد ، وبه يندفع عن الخلق الفساد ، فقال :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

__________________

(١) هكذا فى الأصول ، وكذا فى الورتجبي. ولعلها : تآثير ، جمع تأثير.

٣٤٧

يقول الحق جل جلاله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أي : قوّمه ووجّهه (لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) ؛ البليغ فى الاستقامة ، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه ، من البديع ، جناس الاشتقاق. والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته تبع ، أو : لكل سامع. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ؛ وهو البعث ، (لا مَرَدَّ لَهُ) أي : لا يقدر أحد على رده ، و (مِنَ اللهِ) : متعلّق بيأتي ، أي : من قبل أن يأتى من الله يوم لا يردّه أحد ، أو بمرد ؛ لأنه مصدر ، أي : لا مرد له من جهة الله ، بعد أن يجىء ؛ لتعلق الإرادة به حينئذ. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) ؛ يتصدّعون ، فأدغم التاء فى الصاد. وفى الصحاح : الصدع : الشق ، يقال صدعته فانصدع ، أي : انشق. وتصدّع القوم : تفرقوا. ه. أي : يتفرقون ؛ فريق فى الجنة وفريق فى السعير.

ثم أشار إلى غناه عنهم ، فقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ؛ وبال كفره ، لا يحمله عنه غيره. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي : يسوون لأنفسهم فى قبورهم ، أو : فى الجنة ما يسوى لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه ؛ لئلا يصيبه فى مضجعه ما ينغص عليه مضجعه. وتقديم الظرف فى الموضعين ؛ للاختصاص ، أي : فلا يجاوز عمل أحد لغيره.

ثم علل ما أمر به من التأهب ، فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، أظهر فى موضع الإضمار ، أي : ليجزيهم ؛ ليدل على أنه لا ينال هذا الجزاء الجميل إلا المؤمن ؛ لصلاح عمله. أثابه ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) أي : بمحض تفضله ؛ إذ لا يجب عليه شىء ، (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ، بل يبغضهم ويمقتهم ، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين ، وهو كذلك ، ولا سيما المتوجهين.

الإشارة : أمر الحق تعالى بالتوجه إليه ، والتمسك بالطريق التي توصل إليه ، قبل قيام الساعة ؛ لأن هذه الدار هى مزرعة لتك الدار ، فمن سار إليه هنا وعرفه ؛ عرفه فى الآخرة ، ومن قعد هنا مع هواه ، حتى مات جاهلا به ؛ بعث كذلك ، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل ، سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه ، أو بعلمه ، أو بعقله ؛ انقطع لا محالة. قال القشيري : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) : أخلص قصدك ، وصدق عزمك ، بالموافقة للدين القيّم ، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. ومن لم يتأدب [بمن] (١) هو إمام وقته ، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته ؛ كان خسرانه أتمّ من ربحه ، ونقصانه أعمّ من نفعه. ه.

__________________

(١) فى الأصول الخطية [ممن].

٣٤٨

ثم ذكر دلائل القدرة على البعث وغيره ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

قلت : (وليذيقكم) : عطف على (مبشرات) ؛ على المعنى ، كأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، أو : على محذوف ، أي : ليغيثكم وليذيقكم.

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على كمال قدرته : (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) ، وهى الجنوب ، والصّبا ، والشمال ، والدّبور ، فالثلاث : رياح الرحمة ، والدبور : ريح العذاب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا» (١). وقال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» (٢) ، وهى الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأخوان : بالإفراد ، على إرادة الجنس.

ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله : (مُبَشِّراتٍ) أي : أرسلها بالبشارة بالغيب (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ؛ ولإذاقة الرحمة ، وهى نزول المطر ، وحصول الخصب الذي يتبعه ، والرّوح الذي مع هبوب الريح ، وزكاء الأرض ، أي : ربوها وزيادتها بالنبات ، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن : لو أمسك الله عن أهل الأرض الريح ساعة لماتوا ؛ غمّا.

(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) فى البحر عند هبوبها (بِأَمْرِهِ) ؛ بتدبيره ، أو بتكوينه ، لقوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ...) (٣) الآية. قيل : إنما زاد بأمره ؛ لأنها قد تهب غير مواتية ، فتغرق ، وهى عند أمره أيضا ، فهى على حسب أمره ، ولأن الإسناد وقع للفلك ؛ مجازا ، فأخبر أنه بأمره ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، يريد به تجارة البحر ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم ؛ فيزيدكم من فضله.

الإشارة : ومن آيات فتحه على أوليائه : أن يرسل رياح الهداية أولا ، ثم رياح التأييد ، ثم رياح الواردات ، تحمل هدايا التّعرّفات ، مبشرات بالفتح الكبير ، والتمكين فى شهود العلى الكبير ، وليذيقكم من رحمته ، وهى حلاوة معرفته ، ولتجري سفن الأفكار فى ميادين بحار توحيده ، ولتبتغوا من فضله ؛ هو الترقي فى الكشوفات والعلوم والأسرار ، أبدا سرمدا ، ولعلكم تشكرون ؛ بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.

__________________

(١) أخرجه الشافعي فى مسنده (ح ٥٠٢) ، وأبو يعلى فى مسنده (٤ / ٣٤١) ، والطبراني فى الكبير (١١ / ٢١٣ ـ ٢١٤ ح ١١٥٣٢) ، وابن عدى فى الكامل (٢ / ٧٦٣) من حديث ابن عباس. وانظر : مجمع الزوائد (١٠ / ١٣٥ ـ ١٣٦).

(٢) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نصرت بالصبا» ح ١٠٣٥) ومسلم فى (الاستسقاء باب فى ريح الصبا والدبور ، ٢ / ٦١٧ ، ح ٩٠٠) من حديث ابن عباس رضى الله عنه. والصبا : ريح ، ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدّبور : الريح التي تقابل الصبا ، وقال النووي : هى الريح الغربية.

(٣) الآية ٨٢ من سورة يس.

٣٤٩

قال القشيري : يرسل رياح الرجاء على قلوب العبّاد ، فتكنس قلوبهم من غبار الحسد وغثاء النفس ، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق ، فتحملهم إلى بساط الجهد ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فتطهرها من وحشة القبض ، وتنشر فيه لذاذات الوصال ، ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء ، فتطهرها من آثار الأغيار ، وتبشرها بدوام الوصال. فذلك ارتياح به ، ولكن بعد اجتناح عنك. ه. أي : بعد ذهاب عنك وزوال. والله تعالى أعلم.

ثم سلّى نبيه بمن قبله ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

قلت : (حقا) : خبر «كان» ، و (نصر) : اسمها. أو : (حقا) : خبر «كان» ، واسمها : ضمير الانتقام ، فيوقف عليه ، و (علينا نصر) : مبتدأ وخبر.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ بالمعجزات البينات الواضحات ، فكذبوهم ؛ (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالتدمير ، (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : وكان نصر المؤمنين ، بإنجائهم من العذاب ، حقا واجبا علينا بإنجاز وعدنا ؛ إحسانا. أو : وكان الانتقام من المجرمين حقا لا شك فيه ، ثم علينا ، من جهة الإحسان ، نصر المؤمنين. قال البيضاوي : فيه إشعار بأن الانتقام لهم ـ أي : من عدوهم ـ إظهار لكرامتهم ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه ، إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم» ، ثم تلا الآية (١). أي : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا ..) إلخ.

الإشارة : هكذا جرت سنّة الله تعالى ، مع خواصه ، أن ينتقم ممن آذاهم ، ولو بعد حين. وقد يكون الانتقام باطنا ؛ بنقص الإيمان وقساوة القلب ، وهو أقبح. قال القشيري : فانتقمنا من الذين أجرموا ، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا ، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا ، ونقصنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا. (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وطئهم

__________________

(١) أخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٢٧٦) وأخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٦ / ٤٥٠) ، والترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى الذّب عن عرض المسلم ، ٤ / ٢٨٨ ح ١٩٣١) ، وحسنه من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني فى الكبير (٢٤ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، ح ٤٤٢) من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية. وانظر الفتح السماوي (٢ / ٩٠٥ ـ ٩٠٨).

٣٥٠

أعداؤهم بأعقابهم ، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقّيناهم فوق رقابهم ، وخرّبنا أوطانهم ، وهدّمنا بنيانهم ، وأخمدنا نيرانهم ، وعطّلنا عليهم ديارهم ، ومحونا ، بقهر التدمير ، آثارهم ، فظّلت شموسهم كاسفة ، ومكيدة قهرنا لهم ، بأجمعهم ، خاسفة. ه.

ثم برهن على ذلك ، فقال :

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) الأربع. وقرأ المكي : بالإفراد. (فَتُثِيرُ) أي : تزعج (سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) أي : يجعله منبسطا ، متصلا بعضه ببعض فى سمت السماء ، كقوله : (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (١) ، أي : جهته. فيبسطها فى الجو (كَيْفَ يَشاءُ) ؛ سائرا أو واقفا ، مطبقا وغير مطبق ، من ناحية الشمال ، أو الجنوب ، أو الدّبور ، أو الصّبا ، (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي : قطعا متفرقة. والحاصل : أنه تارة يبسطه متصلا مطبقا ، وتارة يجعله قطعا متفرقة ، على مشيئته وحكمته. (فَتَرَى الْوَدْقَ) ؛ المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ؛ وسطه.

(فَإِذا أَصابَ بِهِ) ؛ بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، يريد إصابة بلادهم وأراضيهم ، (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ؛ يفرحون بالخصب ، (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر (مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) ؛ آيسين ، وكرر «من قبله» ؛ للتوكيد ، وفائدته : الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار ، أو : على أن عهدهم بالمطر قد تطاول ؛ فاستحكم يأسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أي : المطر (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات وأنواع الثمار (بَعْدَ مَوْتِها) ؛ يبسها ، (إِنَّ ذلِكَ) أي : القادر عليه (لَمُحْيِ الْمَوْتى) ؛ فكما أحيا الأرض بعد يبسها ، يحيى الأجساد بعد رميمها ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وهذا من جملة مقدوراته تعالى.

__________________

(١) من الآية ٢٤ من سورة إبراهيم.

٣٥١

الإشارة : الله الذي يرسل رياح الواردات الإلهية ، فتنزعج سحاب الآثار عن عين الذات العلية ، فتبقى شمس العرفان ، ليس دونها سحاب ، فيبسطه فى سماء القلوب كيف يشاء ، فيقع الاحتجاب لبعضها ، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور ، ويجعله كسفا لأهل الاستشراف ، فتارة ينجلى عنهم سحب الآثار ، فيشاهدون الأنوار ، وتارة تغطيهم سحب الآثار ، فيشاهدون الأغيار ، فترى مطر خمرة الفناء تخرج من خلاله ، فإذا أصاب به من يشاء من عباده ، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين ، آيسين ؛ حين كانت نفوسهم غالبة عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكا ثم سقط على شيخ ذى خمرة أزلية ، فسقاه حتى حيي بمعرفة الله.

قال القشيري : الله الذي يرسل رياح عطفه وجوده ، مبشرات بجوده ووصله ، ثم يمطر جود غيثه على أسرارهم ، ويطوى بساط الحشمة عن مناجاة قربه ، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه ، وينشر عليهم أزهار أنسه ، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه ، ويسقيهم بيده شراب حبّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم ؛ أصحاهم ، لا بهم ، ولكن بنفسه. والعبارات عن ذلك خرس ، والإشارات ، دونه ، طمس.

وقال فى قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ..) الآية : يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء أمطارها ، ليخرج زرعها وثمارها ، ويحيى النفوس بعد تفريقها ، ويوفقها للخيرات بعد فترتها ، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم ، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم ، وتحيى القلوب ، بعد غفلتها ، بأنواع المحاضرات ، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة ، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العصر من أهل الإرادات ، ويحيى الأرواح بعد حجبتها بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسها من برج السعادة ، ويتصل ، بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب ، ويحيى الأسرار بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وقفة فى بعض الحالات ، فتنتفى ، بالكلية ، آثار الغيريّة ، ولا يبقى فى الديار ديّار ، ولا من سكانها آثار ، وسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق ؛ هنالك الولاية لله الحق .. انتهى المراد منه ، مع زيادة بيان.

ثم ذكر الجوائح ، وما ينشأ من أهل الغفلة عند ظهورها ، فقال :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

٣٥٢

قلت : اجتمع القسم والشرط ، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط. والضمير فى (رأوه) : يعود على النبات المفهوم مما تقدم من إحياء الأرض ، أو : على السحاب.

يقول الحق جل جلاله : (وَ) الله (لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) عاصفة على ما نبت فى الأرض من الزروع وسائر الأشجار ، الذي هو أثر رحمة الله ، (فَرَأَوْهُ) أي : ما نبت فى الأرض ، (مُصْفَرًّا) يابسا (لَظَلُّوا) أي : ليظلون (مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد اصفراره (يَكْفُرُونَ) ، ويقولون : ما رأينا خيرا قط ، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة ، وأما أهل اليقظة ؛ فيشكرون فى أوقات النعم ، ويصبرون ويرضون فى أوقات النقم ، وينتظرون الفرح بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، غير [قانطين] (١) ولا ضجرين. أو : ولئن أرسلنا ريحا ؛ لتعذيبهم ، فرأوا سحابة صفراء ، لأنّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه ، لظلوا ، أي : للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم ؛ لانهماكم.

قال البيضاوي : وهذه الآية ناعية على الكفار ، لقلة تثبتهم ، وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم ؛ لعدم تفكرهم ، وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضى أن يتوكلوا على الله ، ويلتجئوا إليه ؛ بالاستغفار ، إذا احتبس القطر عنهم ، ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة ، إذا أصابهم برحمته ، ولم يبطروا بالاستبشار ، وأن يصبروا على بلائه ؛ إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ، ولم يكفروا نعمه. ه.

قال النسفي : ذمّهم الله تعالى بأنهم ، إذا حبس عنهم المطر ، قنطوا من رحمته ، وضربوا أذقانهم على صدورهم ، مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ، ورزقهم المطر ، استبشروا ، فإذا أرسل الله ريحا فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا ، وكفروا بنعمه ، وهم فى جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله ، فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، ففرحوا وبطروا ، وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا. ه.

وهذه حال من مات قلبه ، قال تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي : موتى القلوب ، وهؤلاء فى حكم الموتى ؛ فلا تطمع أن يقبلوا منك ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي : لا تقدر أن تسمع من كان كالأصم دعاءك إلى الله ، أو : لا يقدرون أن يسمعوا منك ، (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ، فإن قلت : الأصم لا يسمع ؛ مقبلا أو مدبرا ، فما فائدة التخصيص؟ قلت : هو إذا كان مقبلا يفهم بالرمز والإشارة ، فإذا ولّى فلا يفهم ، ولا يسمع ، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.

__________________

(١) فى الأصول المخطوطة [قانتين] والمناسب ما أثبته.

٣٥٣

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ) أي : عمي القلوب. وقرأ حمزة : «وما أنت تهدى العمى» ، (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي : لا تقدر أن تهدى الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه ، بالإشارة إليه ، (إِنْ) ؛ ما (تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ؛ منقادون لأوامر الله ونواهيه.

الإشارة : من أصول طريقة التصوف : الرجوع إلى الله فى السراء والضراء ، فالرجوع فى السراء : بالحمد والشكر ، وفى الضراء : بالرضا والصبر. قال القشيري : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ..) إلخ : من فقد الحياة الأصلية ؛ لم يعش بالرّقى والتمائم ، وإذا كان فى السريرة طرش عن سماء الحقائق ، فسمع الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحجّة ، وكما لم يسمع الصّم الدعاء ، فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم. ه.

ولما ذكر شيئا من دلائل الأكوان ، ذكر شيئا من دلائل الأنفس ، فقال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

قلت : «الله» : مبتدأ ، والموصول : خبره.

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ) الذي يستحق أن يعبد وحده هو (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي : ابتدأكم ضعفاء ، وجعل الضعف أساس أمركم ، أو : خلقكم من أصل ضعيف ، وهو النطفة ؛ كقوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١) ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ، يعنى : حال الشباب إلى بلوغ الأشد ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) ، يعنى : حال الشيخوخة والهرم.

وقد ورد فى الشيب ما يسلى عن روعة هجومه ، فمن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من شاب شيبة فى الإسلام ؛ كانت له نورا يوم القيامة» (٢) ، ولما رأى إبراهيم عليه‌السلام الشيب فى لحيته قال : يا رب ، ما هذا؟ قال : هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : «يا داود ، إنى لأنظر الشيخ الكبير ، مساء وصباحا ، فأقول له : عبدى ، كبر سنّك ، ورق جلدك ، ووهن عظمك ، وحان قدومك علىّ ، فاستحي منى ، فإنى أستحيى أن أعذب شيبة بالنار». ومن المستلحات ،

__________________

(١) الآية ٢٠ من سورة المرسلات.

(٢) أخرجه الترمذي فى (فضائل الجهاد ، باب ما جاء فى فضل من شاب شيبة فى سبيل الله ، ح ١٦٣٥) وأخرجه ، مطولا ، النسائي فى (الجهاد ، باب من رمى بسهم فى سبيل اله عزوجل ٦ / ٢٦) من حديث عمرو بن عبسة.

٣٥٤

مما يسلى عن روع الشيب ، ما أنشد القائل :

لا يروعك الشّيب يا بنت

عبد الله ، فالشّيب حلة ووقار

إنّما تحسن الرّياض إذا م

ا ضحكت فى خلالها الأزهار

ثم قال تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ؛ من ضعف ، وقوة ، وشباب ، وشيبة ، (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بأحوالهم ، (الْقَدِيرُ) على تدبيرهم ؛ فيصيرهم إلى ذلك. والترديد فى الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير. وفى «الضعف» : لغتان ؛ الفتح والضم (١). وهو أقوى سندا فى القراءة ، كما روى ابن عمر. قال : قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ضعف» ، فأقرأنى : «من ضعف» (٢).

الإشارة : إذا كثف الحجاب على الروح ، وكثرت همومها ، أسرع لها الضعف والهرم ، وإذا رقّ حجابها ، وقلّت همومها ؛ قويت ونشطت بعد هرمها ، ولا شك أن توالى الهموم والأحزان يهرم ، وتوالى البسط والفرح ينشط ، ويرد الشباب فى غير إبّانه ، والعارفون : فرحهم بالله دائم ، وبسطهم لازم ؛ إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان ، وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان ؛ كما قال فى الحكم.

قال القشيري (٣) : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ، أي : ضعف عن حال الخاصة ، ثم جعل من بعد ضعف قوة ؛ بالوصول إلى شهود الوجود القديم ، ثم من بعد قوة ضعفا ؛ بالرجوع إلى المسكنة ، أي : فى حال البقاء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين» (٤) ه (٥).

ثم ذكر أهوال البعث ، فقال :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ

__________________

(١) قرأ حفص : بالفتح ، عن عاصم. وقرأ الباقون : بضمها ، وهو الذي اختاره حفص ، لحديث ابن عمر. وعن حفص أنه قال : (ما خالفت عاصما إلا فى هذا الحرف). وقد صح عنه الفتح والضم. وقال فى النشر : وبالوجهين قرأت له ، وبهما آخذ. انظر الإتحاف (٢ / ٣٥٩).

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٥٨ ـ ٥٩) ، وأبو داود فى كتاب (الحروف والقراءات ، باب ١ ، ٤ / ٢٨٣ ، ح ٣٩٧٨) ، والترمذي فى (القراءات ـ سورة الروم ، ٥ / ١٧٤ ، ح ٢٩٣٦) وحسنّه من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(٣) النقل بالمعنى.

(٤) سبق تخريحه.

(٥) المسكين هو المتواضع لله باطنا وظاهرا ، والخاضع له ، الساكن لأمره ، المطمئن بربه ، وهو المخبت الخاشع لله ، وهذا حال قوة الإيمان ، فاللهم اجعلنا مساكين لك ، أعزة على عدوك.

٣٥٥

الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

قلت : «لبثوا» : جواب القسم ؛ على المعنى ، وإلا لقيل : ما لبثنا.

يقول الحق جل جلاله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، أي : القيامة. وسميت بذلك ؛ لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا ، ولأنها تقوم فى ساعة واحدة ، وصارت علما لها بالغلبة ، كالنجم للثريا ، فإذا قامت (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) ؛ يحلف الكافرون : (ما لَبِثُوا) فى قبورهم ، أو : فى الدنيا ، (غَيْرَ ساعَةٍ) ، استقلّوا مدّة لبثهم فى القبور ، أو : الدنيا ، لشدة هول المطلع ، أو : لطول مقامهم فى أهوالها ، أو : ينسون ما لبثوا ، أو : يكذبون. (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ، أي : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون فى الدنيا عن الصدق والتصديق ، أو : عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هى عليه ، ويقولون : ما هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) ، أي : حّصلّوا العلم بالله والإيمان بالبعث ، وهم الملائكة والأنبياء ، والمؤمنون : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) ؛ فى علم الله المثبت فى اللوح ، أو : فى حكم الله وقضائه ، أو : القرآن ، وهو قوله تعالى : «ومن ورائهم برزخ ..» إلخ ، أي : لقد مكثتم مدّة البرزخ (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ، ردّوا عليهم ما قالوه ، وحلّفوهم عليه ، وأطلعوهم على حقيقة الأمر ، ثم وبّخوهم على إنكار البعث بقولهم : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه ، (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فى الدنيا أنه حق ؛ لتفريطكم فى طلب الحق ، واتباعه. والفاء جواب شرط (١) مقدر ، ينساق إليه الكلام ، أي : إن كنتم منكرين للبعث ؛ فهذا يومه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ) (٢) (الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا ، (مَعْذِرَتُهُمْ) : اعتذارهم ، والمعذرة : تأنيثها مجازى ، فيجوز التذكير والتأنيث ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يقال لهم : أرضوا ربّكم بالتوبة ، ولا يدعون إلى استرضائه ، يقال : استعتبني فلان فأعتبته ، أي : استرضانى فأرضيته.

الإشارة : كل من قصر فى هذه الدار ، وصرف أيام عمره فى البطالة ، يقصر عليه الزمان عند موته ، ويرجع عنده كأنه يوم واحد ، فحينئذ يستعتب ؛ فلا يعتب ، ويطلب الرجعى ؛ فلا يجاب ، فلا تسأل عن حسرته وخسارته ، والعياذ بالله ، وهذا كله مبين فى القرآن ، كما قال تعالى :

__________________

(١) الفاء ، بذاتها ، ليست جواب شرط مقدر ، وإنما هى واقعة فى جواب شرط مقدر.

(٢) قرأ عاصم وحمزة والكسائي : «ينفع» ؛ بالياء. والباقون : بالتاء .. انظر : الإتحاف (٢ / ٣٠٦)

٣٥٦

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : بيّنا لهم فيه من كل مثل ، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد ، وصدق الرسل ، وغير ذلك ، مما يحتاجون إلى بيانه ، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من الآيات الدالة على صدقك ، أو : القرآن. (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ؛ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع ، مع أن المجيء بالحق واحد ؛ مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين ، أو : ولقد وصفنا كلّ صفة ، كأنها مثل ؛ فى غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كقصة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقولون ، وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم ؛ لقسوة قلوبهم ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور باطل. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : مثل ذلك الطبع ـ وهو الختم ـ يطبع الله على قلوب الجهلة ؛ الذين علم الله منهم اختيار الضلال ، حتى سمّوا المحققين مبطلين ، وهم أغرق خلق الله فى تلك الصفة.

(فَاصْبِرْ) على أذاهم وعداوتهم ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك ، وإظهار دين الإسلام على كل دى ، ن (حَقٌ) لا بد من إنجازه والوفاء به ، (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ؛ لا يحملنّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة فى الرد عليهم ، أو : لا يحملنّك على الخفة والقلق ؛ فزعا مما يقولون ؛ فإنهم ضلّال ، شاكّون ، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب : بسكون النون ؛ على أنه نون التوكيد الخفيفة.

الإشارة : قد بيّن الله فى القرآن ما يحتاج السائرون إليه ، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة ، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية ، من غوامض أسراره ؛ ليقول أهل الجمود : هذا إلحاد وباطل. فاصبر ؛ إن وعد الله بالنصر لأوليائه حق ، ولا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.

٣٥٧
٣٥٨

سورة لقمان

مكية ، وقيل : إلا قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ؛ لأن الزكاة فرضت بالمدينة ، وهو ضعيف ؛ لأن الحق تعالى يخبر بالشيء قبل وقوعه كما تحقق وقوعه. وآياها : أربع وثلاثون ، أو ثلاث وثلاثون. ومناسبتها لما قبلها قوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ ..) (١) مع قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ؛ إذ هو القرآن العظيم. (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) (٢) وهنا : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) (٣). قيل : وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت. قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

قلت : (هُدىً وَرَحْمَةً) : حالان من الآيات ، والعامل : معنى الإشارة. ورفعهما حمزة على الخبر لتلك بعد خبر ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هو ، أو : هى هدى. والموصول : نعت للمحسنين ؛ تفسير لإحسانهم ، و (هم) : مبتدأ ، و (يوقنون) : خبر. وتكرير الضمير ؛ للتوكيد ، ولما حيل بينه وبين خبره.

يقول الحق جل جلاله : (الم) ؛ أيها المصطفى المقرب ، (تِلْكَ) الآيات التي تتلوها هى (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي : ذى الحكمة البالغة ، أو : الذي أحكمت آياته وأتقنت ، أو : المحكم الذي لا ينسخه كتاب. أو : المصون من التغيير والتبديل. حال كونه (هُدىً وَرَحْمَةً) ؛ هاديا لظواهرهم بتبين الشرائع ، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان ، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان فى قوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) (٤) الآية. ولذلك خصه بقوله : (لِلْمُحْسِنِينَ) ، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان ؛ لأنهم هم الذي

__________________

(١) من الآية ٥٨ من سورة الروم.

(٢) من الآية ٥٨ من سورة الروم.

(٣) من الآية السابعة من سورة لقمان.

(٤) من الآية ٩٣ من سورة المائدة.

٣٥٩

يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ؛ يتقنونها ، (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) على الوجه المشروع ، ويدفعونها لمن يستحقها ، لا جزاء ولا شكورا ، ولا لجلب نفع أو دفع شر ، (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، كأنها نصب أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة ؛ لفضلها ؛ فإن الصلاة عماد الدين ، والزكاة قرينتها ؛ لأن الأولى عبادة بدنية ، والثانية مالية ، والآخرة هى دار الجزاء ، فلو لا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثا ، وتعالى الله عنه علوا كبيرا.

ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي : راكبون على متن الهداية ، متمكنون منها ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، الفائزون بكل مطلوب.

الإشارة : قال القشيري : (الم) ، الألف إشارة إلى آلائه ، واللام إلى لطفه ، والميم إلى مجده وسنائه ، فبآلائه دفع الجحد عن قلوب أوليائه ، وبلطف عطائه أثبت المحبة فى أسرار أصفيائه ، وبمجده وسنائه هو مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه. ه.

ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين ، رحمة للواصلين ؛ إذ لا تكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب ، يكلمك ويناجيك ، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري : وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد الله : دانيهم وقاصيهم ، مطيعهم وعاصيهم. ثم قال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ؛ يأتون بشرائطها فى الظاهر ـ ثم ذكرها ـ ، وفى الباطن يأتون بشروطها ؛ من طهارة السّرّ عن العلائق ، وستر عورة الباطن ، بتنقيته من العيوب ؛ لأن ما كان فيه فالله يراه. فإذا أردت ألا يرى الله عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر : هو وقوف القلب على الحدّ الذي أذن فيه ، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق ، بل رحم الله من وقف عند حدّه بالمعرفة بالوقت ، فيعلم وقت التذلّل والاستكانة ، ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط ، ويستقبل القبلة بنفسه ، ويعلق قلبه بالله ، من غير تخصيص بقطر أو مكان (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) ؛ وهم الذين اهتدوا فى الدنيا ، وسلموا ونجوا فى العقبى. ه.

ثم شفع بضدهم ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

٣٦٠