الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
المبحث الرابع :
في مفهوم المخالفة
قد سبق الخلاف في أنّ ربط الحكم باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ، كقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : في الغنم السائمة زكاة ، هل يدلّ على نفيها عن غير السائمة أم لا؟ وذكرنا الحجج من الطّرفين ، وكذا البحث قد سبق في مفهوم الشرط ، والغاية ، وإنّما ، والأوصاف الطارئة ، ومفهوم اللقب ، والاسم المشتقّ ، لقربه من مفهوم اللّقب ، والعدد الخاصّ ، ومفهوم الاستثناء ، إذ حاصله راجع إلى أنّ الاستثناء من النّفي إثبات ، فإنّ بعضهم قال في قولنا : لا عالم إلّا زيد ، لا يقتضي ثبوت العلم له ، بل إخراجه عن نفي العلم ، وقد سلف تحقيقه.
وأمّا مفهوم حصر الخبر في المبتدأ ، كقولنا : العالم زيد ، وصديقي عمرو ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّما الأعمال بالنّيات ، (١) فذهب جماعة من المتكلّمين والحنفيّة والقاضي أبو بكر (٢) إلى أنّه لا يدلّ على الحصر ، وقال الغزّالي (٣) وجماعة من الفقهاء : إنّه يدلّ.
__________________
(١) تقدم تخريج الحديث ص ٤١١.
(٢) التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٦٠ ـ ٣٦٢.
(٣) المستصفى : ٢ / ٢١٢.
واختلف مثبتو الدلالة ، فقال بعضهم : إنّه منطوق ، وقال آخرون : إنّه مفهوم.
احتجّ الأولون : بأنّه لو أفاد الحصر لأفاده العكس ، لأنّه فيهما ليس للجنس ، ولا لمعهود معيّن ، لعدم القرينة.
ولأنّه لو كان ، لكان التقديم بغير مدلول الكلمة ، وليس كذلك ، إذ ليس فيه سوى تغيير الجزء الصوري.
احتجّ الآخرون : بأنّه لو لم يكن دالّا على حصر الأعمال في المنويّة ، والعالم في زيد ، والصداقة في عمرو ، لكان المبتدأ أعمّ من خبره ، فيكون كذبا ، كما لو قال : الحيوان إنسان ، لتعذّر الجنس والعهد ، فوجب جعله لمعهود ذهنيّ بمعنى الكامل والمنتهى.
واعترض : بأنّ الكذب إنّما يلزم لو كان الالف واللام للعموم ، حتّى يصير التقدير : كلّ عمل بنيّة ، وهو ممنوع ، بل هي ظاهرة في البعض ، والتقدير : بعض الأعمال بالنية ، وبعض العالم زيد ، وبعض صديقي عمرو ، فإذن هو لمعهود ذهنيّ ، مثل : أكلت الخبز.
وأيضا ، يلزمه (١) : زيد العالم بعين ما ذكر.
فإن زعم أنّه مخبر بالأعمّ عن الأخصّ ، فغلط ، لأنّ شرط جعل الأعمّ مخبرا به ، التنكير (٢) ، لما عرف من قواعدهم أنّ الألف واللام في المحمول يدلّ على المساواة.
__________________
(١) أي يلزم الكذب.
(٢) أي بأن يقال : زيد عالم.
وإن جعل اللام في قولنا : «زيد العالم» لزيد (١) ، لقرينة تقدّمه ، كان خطأ أيضا (٢) :
[أ] لاستقلال اللّام بالتعريف وإن لم يذكر زيد ، لكونه خبر المبتدأ.
[ب] ووجوب استقلال الخبر بالتعريف عند كونه معرفة.
[ج] واستلزام ذلك وجوب استقلال اللام بالتعريف منقطعا عن زيد ، وهذا الاستقلال يمنع كون اللّام لزيد ، لتوقف تعريفه حينئذ على تقدّم قرينة زيد.
__________________
(١) إنّ جعل اللّام في قولنا : «زيد العالم» لزيد يخرجه عن كونها لام التعريف ، وتكون موصولة ، ومع غضّ النظر عمّا ذكرنا ، فقد أورد عليه المصنّف بوجوه :
١. قد ثبت في محلّه استقلال اللّام في إفادة التعريف دون حاجة إلى قرينة متقدّمة.
٢. إذا كان الخبر معرفة فهو يكون مستقلّا في إفادة التعريف غير معتمد على ما قبله ، ولازم ذلك أن تكون اللام منقطعا عمّا قبله (زيد).
٣. انّ استقلاله يمنع عن تعلّق اللّام لما قبله (زيد).
(٢) بوجوه مذكورة في المتن وقد اوضحناها في الهامش.
المقصد السابع : في الأفعال
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في عصمة الأنبياء عليهمالسلام
أمّا قبل البعثة ، فذهب الإماميّة كافّة إلى وجوب عصمتهم من كلّ ذنب صغير أو كبير على سبيل العمد ، أو السهو ، أو التأويل ، لأنّه لو وقع منهم شيء من ذلك لسقط محلّهم من النّفوس وانحطّت درجتهم ، وأوجب ذلك هضمهم والاحتقار بهم ، والنفرة عن اتّباعهم ، وعدم الانقياد إلى أوامرهم ونواهيهم ، وذلك ينافي الغرض من البعثة ، ويخالف مقتضى الحكمة.
وخالفهم في ذلك جميع الفرق.
أمّا أكثر المعتزلة ، فقد جوّزوا وقوع الصغائر منهم ، أمّا الكبائر فقد وافقوا الشيعة على امتناعها منهم.
وأمّا الاشاعرة ، فقال أكثرهم وجماعة من المعتزلة : إنّه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة ، بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم عن كفر (١) ، لانتفاء دليل سمعيّ على عصمتهم عن ذلك ، ودليل العقل مبنيّ على التحسين والتقبيح ، ووجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى.
وأمّا بعد النبوّة ، فعند الإماميّة أنّهم معصومون عن كلّ ذنب صغير أو كبير ، وقع عن عمد ، أو سهو ، أو تأويل ، لوجوب ذلك قبلها ، فبعدها أولى.
وأمّا الجمهور فقد اختلفوا ، وحاصل الاختلاف يرجع إلى أقسام أربعة :
الأوّل : ما يقع في باب الاعتقاد ، وقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز منهم الكفر إلّا الفضليّة (٢) من الخوارج ، فإنّهم قالوا : قد وقع منهم ذنوب ، وكلّ ذنب عندهم كفر وشرك ، وأمّا الاعتقاد الخطأ الّذي لا يبلغ الكفر كاعتقاد عدم بقاء الأعراض ، فمنهم من منعه ، لكونه منفّرا ومنهم من جوّزه.
الثاني : ما يرجع إلى التبليغ ، واتّفقوا على امتناع التغيير عليهم ، وإلّا لزال الوثوق بما يقولونه ، وجوّز بعضهم ذلك على جهة السّهو لا العمد.
الثالث : ما يتعلّق بالفتوى ، واتّفقوا على امتناع الخطأ فيه ، وجوّزه قوم على سبيل السهو.
__________________
(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ١١٩.
(٢) هم فرقة من الخوارج ، أتباع فضل بن عبد الله ، ومن عقائدهم : انّ من قال : لا إله الّا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الدهرية أو اليهودية أو النصرانيّة ، فهو مسلم عند الله مؤمن ، ولا يضرّه إذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه. لاحظ معجم الفرق الإسلامية : ١٨٦.
الرابع : ما يتعلق بأفعالهم ، واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
الأوّل : قول من جوّز عليهم الكبائر عمدا ، ومنهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية.
وقال القاضي أبو بكر : إنّه جائز عقلا غير واقع سمعا.
الثاني : قال الجبائيّ : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا ، لكن يجوز أن يأتوا به على سبيل التأويل.
الثالث : قال بعضهم لا يجوز ذلك ، لا عمدا ولا من جهة التأويل ، لكن على سبيل السهو ، وهم مؤاخذون بما يقع منهم على وجه السهو وإن كان موضوعا عن أمّتهم ، لقوّة معرفتهم ، وتمكّنهم من التحفظ بخلاف اتباعهم ...
الرابع : قول أكثر المعتزلة : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ، وقد وقعت منهم صغائر عمدا وخطأ وسهوا وتأويلا ، إلّا ما ينفّر ، كالكذب والتطفيف ، وسرقة قدر بذر. (١)
وهنا قول (٢) آخر : أنّه لم يقع منهم ذنب صغير ولا كبير عمدا ، وأمّا سهوا فقد وقع ، لكن بشرط أن يتذكّروه في الحال ، ويعرّفوا غيرهم أنّه سهو.
والحقّ ما قلناه عن الإماميّة ، والاستقصاء مذكور في كتبنا الكلاميّة.
__________________
(١) أي سرقة حبّة تدلّ على خسّة فاعلها ودناءة همّته.
(٢) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٥٠٢.
المبحث الثاني :
في معنى التأسّي والموافقة والمخالفة
لمّا دل الإجماع والنصّ على وجوب التأسي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجملة ، وجب معرفة التأسّي ، والموافقة ، والمخالفة.
فالتأسي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قد يكون في فعله وفي تركه ، أمّا في الفعل فبأن نفعل صورة ما فعل ، على الوجه الّذي فعل ، لأجل أنّه فعل.
وأمّا في الترك ، فبأن نترك مثل الّذي ترك ، على الوجه الّذي ترك ، لأجل أنّه ترك ، فاتّحاد الصّورة لا بدّ منه لتحقّق التأسّي معه ، فانّه لو صلّى ، وصمنا ، لم نكن متأسّين به.
وأمّا الوجه ، فهو الغرض ، والنيّة بذلك الفعل ، ولا بدّ من اتّحاده ، فكلّما هو غرض في الفعل وجب اعتباره ، ويدخل في ذلك نيّة الوجوب والندب ، فإنّه لو صام على وجه الوجوب ، وصمنا على وجه الندب ، لم يتحقّق التأسّي به ، وكذا بالعكس.
ولو انتفى الغرض المخصوص في الفعل ، لم يجب اعتباره ، فإنّه لو أزال النجاسة لا لأجل الصلاة ، لم يجب إذا تأسينا به من إزالتها أن ننوي ذلك.
وإذا عرف أنّ للمكان أو الزمان مدخلا في الغرض ، وجب اعتبارهما ،
كالوقوف بعرفة ، وصوم شهر رمضان ، وصلاة الجمعة ، وإلّا فلا ، كما لو تصدّق صلىاللهعليهوآلهوسلم واتّفق (١) ذلك في زمان ما ، فإنّه يتحقّق التأسّي به وإن تصدّقنا في غير ذلك المكان أو الزمان ، إذا علمنا انتفاء تعلّق الغرض بهما.
وقولنا : «لأجل أنّه فعل» لانتفاء التأسّي بدونه ، فإنّه لو اتّفق شخصان في فعل واحد ، ولم يفعل أحدهما لأجل فعل الآخر ، لم يكن أحدهما متأسّيا بصاحبه.
ولو صلّى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فصلّى مثل صلاته رجلان من أمّته لأجل أنّه صلّى ، لوصف كلّ منهما أنّه متأسّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا يوصف كلّ واحد منهما بأنّه متأسّ بالآخر.
ولا يشترط في التأسّي استفادة المتأسّي صورة الفعل ووجوبه ممن يتأسّى به ، فإنّا موصوفون بالتأسّي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الصّبر على الشدائد ، والشكر على النّعم ، إذا فعلنا ذلك لأجل فعله ، وإن لم نستفد صورة ذلك منه ، ولا وجوبه.
ولا يمتنع أن نفعل ذلك لأجل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فعله ، ولعلمنا بوجوبه أو حسنه عقلا.
وقال أبو علي بن خلّاد (٢) : إنّ الفعل الّذي وقع التأسّي فيه ، يجوز أن يكون حسنا من الثاني ، قبيحا من الأوّل ، كالنصراني لو مشى إلى بيعة للتعبّد
__________________
(١) في «أ» : وأنفق.
(٢) هو الحسن بن عبد الرحمن بن الخلاد الرامهرمزي الفارسي ، محدث في زمانه من أدباء القضاة ، توفي سنة ٣٦٠ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٩٤ وكنيته فيها «أبو محمد» لا «أبو علي».
بدينه ، فتبعه مسلم ليردّ وديعة كانت عنده ، في البيعة ، كان متأسّيا به ، والمشي حسن من المسلم ، قبيح من النصرانيّ (١).
واعترضه أبو الحسين بانتفاء التأسّي مع اختلاف الأغراض. (٢)
وقال أبو عبد الله البصري (٣) : ينبغي اعتبار المكان الّذي وقع الفعل فيه ، إلّا أن يدلّ دليل على عدم اعتباره. (٤)
ولا بأس به عندي.
وقال قاضي القضاة : إنّ اعتبار الزّمان والمكان يمنع من التأسّي لفوات الزمان ، واستحالة اجتماع شخصين في مكان واحد في زمان واحد. (٥)
اعترضه أبو الحسين : بأنّ هذا إنّما يمنع من اعتبار زمان معيّن ، ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان ، كما في وقت صلاة الجمعة ، ولا يمنع من اعتبار [ذلك] المكان في زمان آخر ، ولا من اعتباره إذا كان [المكان] متّسعا ، كعرفة ، والواجب اعتبار الزمان والمكان بحسب الإمكان ، إذا علم دخولهما في الأغراض. (٦)
وفيه نظر ، فإنّ الغرض إن تعلّق بالزمان ومماثله ، لم يكن للزمان المخصوص مدخل في الغرض ، وكذا المكان المتّسع.
__________________
(١) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.
(٢) المعتمد : ١ / ٣٤٤.
(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
(٤) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.
(٥) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.
(٦) المعتمد : ١ / ٣٤٤.
وقال قاضي القضاة : لا اعتبار بطول الفعل وقصره ، لعدم إمكان ضبطه. (١)
اعترضه أبو الحسين : بوجوب اعتباره بحسب الإمكان ، إذا علم دخول ذلك في الأغراض (٢).
وأمّا اتّباع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد يكون في القول ، بأن يصير إلى مقتضاه من وجوب ، أو ندب ، أو حظر ، لأجله.
وفي الفعل وفي الترك ، بأن يتأسّى به.
ويمكن أن يقال : اتّباع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو المصير إلى ما تعبّدنا به على الوجه الّذي تعبّدنا به ، لأنّه تعبّدنا به ، ويدخل فيه القول ، والفعل ، والترك.
وإنّما شرطنا في الاتّباع ما شرطناه في التأسّي ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لو صلّى فصمنا ، أو صام فرضا ، فصمنا ندبا ، أو صمنا لا لأنّه صام ، لم نكن متّبعين.
وأمّا الموافقة : فقد تكون في المذهب ، بأن يتشاركا فيما نسبت الموافقة إليه ، فإذا قيل: وافق فلان فلانا في الرؤية ، جاز أن يختلفا في السبب ، بأن يعتقد أحدهما أنّه يرى بهذه الحاسّة ، والآخر أنّه يرى بحاسّة سادسة ، بعد أن يتّفقا في مطلق الرؤية ، لأنّ النسبة وقعت فيها.
أمّا لو وافقه في أنّه يرى بهذه الحاسّة ، أفاد الاشتراك في الرؤية بهذا الحدّ.
ولا يشترط في الموافقة في المذهب أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.
وقد تكون في الفعل ، بأن يتشاركا في صورته ووجهه ، فإنّ المصلّي لا
__________________
(١) نقله في المعتمد : ١ / ٣٤٤.
(٢) المعتمد : ١ / ٣٤٤.
يوافق الصائم ، وكذا المصلّي نفلا لا يوافق المصلّي فرضا. (١)
وفيه نظر ، فإنّ الموافقة من الأمور الإضافيّة ، فتصدق وإن اختلفا في الوجه ، للتشارك في الصورة ، كما لو قيّدت الموافقة فقيل : قد وافقه في صورة الفعل ، فإنّه لا يقتضي التشارك في الوجه ، فكذا في المطلق ، إلّا أن يعني بالموافقة المطلقة الموافقة الكلّية بجميع الاعتبارات ، لكن تلك أحد أنواع مطلق الموافقة.
ولا يشترط في الموافقة هنا أيضا أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.
وأمّا المخالفة ، فقد يكون في القول ، وهي العدول عمّا اقتضاه القول من إقدام أو إحجام ، وفي الفعل ، وهي العدول عن امتثال مثله ، إذا وجب امتثال مثله ، وإذا لم يجب لم يقل للتارك : إنّه قد خالف ، ولهذا لا يصدق في حقّ الحائض بترك الصلاة : أنّها مخالفة.
لا يقال : فيجب أن يكون ترك ذلك الفعل مخالفة للدليل الدالّ على وجوب المشاركة له في الفعل ، ولا يكون مخالفة في الفعل.
لأنّا نقول : نمنع الوجوب ، لأنّ الدليل إذا دلّ على وجوب مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم في فعله ، فأيّ فعل فعله كان دليلا على وجوب مثله علينا ، فصحّ أن يوصف من لم يفعله بأنّه مخالف.
__________________
(١) الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٥.
المبحث الثالث :
في أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل يدلّ على حكم في حقّنا أم لا؟
أمّا ما كان من أفعال الجبليّة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، ونحوه ، فلا خلاف في أنّه على الإباحة بالنّسبة إليه وإلى أمّته.
وأمّا ما هو من خواصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يدلّ فعله على التشريك بيننا وبينه إجماعا ، كاختصاصه بوجوب الوتر ، والتهجد بالليل ، والمشاورة ، والتخيير لنسائه ، وإباحة الوصال ، والاصطفاء (١) ودخول مكة بغير إحرام ، والزيادة في النكاح على أربع ، إلى غير ذلك ممّا ثبت أنّه من خواصّه.
وأمّا ما وقع بيانا لنا ، فهو دليل إجماعا ، وذلك إمّا تصريح كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : صلّوا كما رأيتموني اصلّي ، وخذوا عنّي مناسككم.
وإمّا بقرائن الأحوال ، كما إذا ورد لفظ مجمل ، أو عامّ أريد به الخصوص ، أو مطلق أريد منه المقيّد ، ولم يبيّنه ، قبل الحاجة إليه ، ثم فعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان ، فإنّه يكون بيانا لئلّا يكون مؤخّرا للبيان عن وقت الحاجة إليه ، كقطع يد السّارق بيانا لقوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(٢) والبيان
__________________
(١) المراد : صفايا المغنم.
(٢) المائدة : ٣٨.
تابع للمبيّن في وجوبه ، وندبه ، وإباحته.
وأمّا ما عدا ذلك من أفعاله ، فإمّا أن يظهر فيه قصد القربة أو لا.
والأوّل اختلفوا فيه ، فذهب قوم إلى أنّه محمول على الوجوب في حقّه وفي حقّنا ، وبه قال ابن سريج (١) وابو سعيد الاصطخري (٢) وابن أبي هريرة (٣) وأبو علي بن خيران (٤) ، والحنابلة ، وجماعة ، من المعتزلة ، ونقله المرتضى (٥) عن مالك.
وقال إمام الحرمين : إنّها للندب (٦) وهو محكيّ عن الشافعي.
وقال آخرون : إنّه للإباحة ، وهو منقول عن مالك.
وقال الصيرفي (٧) وأكثر المعتزلة والسيد المرتضى (٨) بالوقف.
وأمّا ما لم يظهر فيه قصد القربة ، فقد اختلفوا فيه على نحو اختلافهم فيما
__________________
(١) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥٩.
(٢) الحسن بن أحمد بن يزيد ، أحد شيوخ فقهاء الشافعية ، ولي قضاة قم ثم حسبة بغداد ، واصطخر من بلاد فارس ، توفّي سنة ٣٢٨ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٧٩ ؛ وطبقات الفقهاء : ٤ / ١٣٣ برقم ١٣٥١.
(٣) الحسن بن الحسين بن أبي هريرة ، القاضي أبو علي البغدادي ، وكان من أكابر الشافعيّة ، توفّي سنة ٣٤٥ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٨٨ ؛ وطبقات الفقهاء : ٤ / ١٣٦ برقم ١٣٥٤.
(٤) الحسين بن صالح بن خيران ، الفقيه الشافعي البغدادي ، توفّي سنة ٣٢٠ ه. لاحظ طبقات الفقهاء : ٤ / ١٦٩ برقم ١٣٨٢.
(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٧٨.
(٦) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٣٢٤.
(٧) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٤٠.
(٨) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٧٨.
ظهر فيه قصد القربة ، إلّا أنّ القول بالوجوب والندب فيه أبعد ، والوقف والإباحة أقرب ، وبعض من جوّز المعاصي على الأنبياء قال : إنّها على الخطر.
فالحقّ عندي : أنّ ما ظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بين الواجب والندب ، وهو مطلق الترجيح في حقّه وحقّنا ، وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بينهما وبين الإباحة ، وهو رفع الحرج عن الفعل.
أمّا مع ظهور القربة ، فلأنّها لا ينفكّ عن أحد قيدي الوجوب أو الندب ، و [القدر] المشترك بينهما هو مطلق الترجيح ، ولا دلالة للأعمّ على الأخصّ ، وكلّ واحد من القيدين مشكوك فيه ، وليس أحدهما أولى من الآخر.
وأمّا إذا لم يظهر قصد القربة ، فلأنّه لا ينفكّ عن أحد القيود الثلاثة : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والمشترك هو مجرد رفع الحرج ، ولا دلالة على الخصوصيّات ، فالمتيقّن هو المشترك ، وكلّ واحد من الخصوصيّات مشكوك فيه.
هذا في حقه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمّا في حقّنا ، فلأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن كان قد اختصّ بأمور ، لكنّها بالنسبة إلى الأحكام نادرة ، وحمل المجهول على الأغلب أولى من حمله على النادر ، فكانت المشاركة أظهر.
احتج القائلون بالوجوب بوجوه :
الأوّل : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) وقد تقدّم
__________________
(١) النور : ٦٣.
أنّ الأمر حقيقة في الفعل ، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.
الثاني : قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(١) ويلزمه بعكس النقيض من لم يتأس به لم يكن راجيا لله واليوم الآخر ، وهذا توعّد وزجر.
الثالث : قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ)(٢) أمر بالمتابعة ، والأمر للوجوب ، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله.
الرابع : قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)(٣) دلّت [الآية] على أنّ الاتّباع لازم للمحبّة ، والمحبّة واجبة بالإجماع ، ولازم الواجب واجب.
الخامس : قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(٤) فإذا فعل فقد آتانا بالفعل ، فيجب أخذه إلى العمل بمثله.
السادس : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٥) أوجب طاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والإتيان بمثل فعله ، لأجل أنّه فعله ، طاعة له ، فكان واجبا.
السابع : قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) إلى قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
__________________
(١) الأحزاب : ٢١.
(٢) الأعراف : ١٥٨.
(٣) آل عمران : ٣١.
(٤) الحشر : ٧.
(٥) المائدة : ٩٢.
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)(١) بيّن إنّما زوّجه بها ليكون حكم أمّته مساويا له وهو المطلوب.
الثامن : روي عن الصحابة أنّهم خلعوا نعالهم لما خلع نعله ، فهموا وجوب المتابعة له في فعله ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أقرّهم على ذلك ، ثمّ بيّن لهم علّة انفراده بذلك.
التاسع : روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة ، ولم يفسخ ، فقالوا له : ما بالك أمرتنا بفسخ الحجّ إلى العمرة ولم تفسخ؟ (٢) ففهموا أنّ حكمهم حكمه ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينكر عليهم ، ولم يقل : «إنّ حكمي مخالف لحكمهم» بل بيّن عذرا يختصّ به.
العاشر : روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل ، فقالوا : نهيتنا عن الوصال ، وواصلت ، فقال : «لست كأحدكم إنّي أظلّ عند ربّي يطعمني ويسقيني» (٣) فأقرّهم على ما فهموه من مشاركته في الحكم ، واعتذر بعذر ، يختصّ به.
الحادي عشر : روي عن أمّ سلمة أنّها سألته عن قبلة الصائم ، فقال لها : «لم لم تقولي لهم : إنّي أقبّل وأنا صائم» (٤) ولو لم يجب اتّباعه في أفعاله ، لم يكن لذلك معنى.
__________________
(١) الأحزاب : ٣٧.
(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ٣٥٠.
(٣) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، باب بركة السحور من غير ايجاب برقم ١٩٢٢.
(٤) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، باب القبلة للصائم برقم ١٩٢٩.
الثاني عشر : سألته أمّ سلمة عن بلّ الشعر في الاغتسال ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمّا أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء» (١) ولو لا وجوب متابعته ، لما حسن هذا الجواب.
الثالث عشر : روي أنّه أمر الصحابة بالتحلّل بالحلق والذبح ، فتوقّفوا ، فشكا ذلك إلى أمّ سلمة فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق ، ففعل ذلك ، فذبحوا وحلقوا ، (٢) ولو لا أنّ فعله متّبع ، لما كان كذلك.
الرابع عشر : الإجماع على وجوب متابعته ، فإنّ الصحابة اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فقالت عائشة : «فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» (٣) فرجعوا إلى ذلك ، فإجماعهم إنّما كان لفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد اجمعوا هنا على أنّ مجرّد الفعل للوجوب ، وخلع خاتمه فخلعوا.
وكان عمر يقبّل الحجر الأسود ، ويقول : إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقبّلك لما قبّلتك. (٤)
الخامس عشر : الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه ، لأنّه يتضمّن رفع ضرر الخوف عن النفس بالكليّة ، ودفع الخوف واجب ،
__________________
(١) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الغسل ، باب من أفاض على رأسه ثلاثا برقم ٢٥٤.
(٢) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب برقم ٢٧٣٢.
(٣) لاحظ صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين برقم ٣٧٣.
(٤) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب ما ذكر في الحجر الأسود برقم ١٥٩٧.
واعظم مراتب فعل الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكون واجبا عليه وعلى أمّته ، فوجب حمله عليه.
السادس عشر : يجب تعظيم الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجملة ، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له ، بدليل العرف ، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة ، فيجمع بينهما بالقدر المشترك ، فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمّة الاتيان بمثل فعله.
السابع عشر : أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم تقوم مقام أقواله في بيان المجمل ، وتخصيص العموم ، وتقييد المطلق من الكتاب والسنّة ، فكان أفعاله محمولا على الوجوب كالقول.
الثامن عشر : ما فعله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حقّ وصواب ، وترك الحقّ والصواب يكون خطأ وباطلا ، وهو ممتنع.
التاسع عشر : فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم يحتمل أن يكون واجبا ، وأن لا يكون واجبا ، واحتمال وجوبه أظهر من احتمال عدمه ، لأنّ الظاهر من حاله أنّه لا يختار إلّا الأكمل ، والواجب أكمل ، وإذا كان واجبا وجب اعتقاد مشاركة الأمّة له.
العشرون : كونه نبيّا يقتضي وجوب الاتّباع ، والّا نفّر عنه. (١)
الحادي والعشرون : الفعل آكد من القول في الدلالة عن صفة
__________________
(١) يقول السيّد المرتضى في تقرير الدّليل : إنّ كونه نبيّا ومتّبعا يقتضي نفي ما ينفّر عنه ، ومخالفته في أفعاله تنفّر عن القبول عنه. الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٨١.
الفعل ، ولهذا كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يحقّق أمره بفعله ، كما فعله في الحج والصّلاة ، فاذا أفاد الأمر الوجوب ، كان في الفعل أولى بذلك.
والاعتراض على الأوّل : بالمنع من كون الأمر حقيقة في الفعل ، وقد تقدّم.
سلّمنا ، لكنّه حقيقة في القول إجماعا ، فليس حمله على الفعل أولى من حمله على القول.
سلّمنا ، لكن لا يمكن حمله على الفعل ، لتقدّم ذكر الدعاء والمخالفة يمنع من حمله عليه ، فإنّ القائل لو قال لغيره : «لا تجعل دعائي كدعاء غيري ، واحذر مخالفة أمري» فهم القول دون الفعل.
ولأنّه قد يراد به القول إجماعا ، فلا يجوز حمله على الفعل ، لامتناع حمل المشترك على معانيه جميعا.
سلّمنا ، لكن الضمير في أمره عائد إلى الله تعالى ، لأنّه أقرب.
اعترضه (١) أبو الحسين : بأنّ القصد الحثّ على اتّباع الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(٢).
حثّ على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ، ثمّ عقب بقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(٣) ، فعلم أنّ المراد أمر الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
(١) الاستدلال والاعتراض مذكوران في المعتمد : ١ / ٣٤٩.
(٢) النور : ٦٣.
(٣) النور : ٦٣.