أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

٢ ـ بيان أن القلوب قلبان قلب قابل للهداية وآخر غير قابل لها.

٣ ـ بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.

٤ ـ فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده ، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يتلقى العذاب بوجهه لا شىء يقيه منه كمن أمن.

(سُوءَ الْعَذابِ) : أقساه وأشده.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) : أي المشركين في جهنم.

(ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) : أي جزاء كسبكم الشر والفساد.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل أهل مكة.

(فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) : أي من حيث لا يدرون أنه آتيهم منه. أو من حيث لا يخطر ببالهم

فأذاقهم الله عذاب الخزي : أي المسخ والذل والإهانة.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : أي لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا.

٤٨١

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير البعث والجزاء فقوله تعالى (أَفَمَنْ يَتَّقِي (١) بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) يوم القيامة إذ ليس له ما يتقي (٢) به العذاب لأن يديه مغلولتان إلى عنقه فهو يتلقى العذاب بوجهه وهو أشرف أعضائه أفهذا الذي يتلقى العذاب بل سوء العذاب كمن أمن العذاب ودخل الجنة؟ والجواب لا يستويان. وقوله تعالى (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) (٣) أي المشركين وهم في النار يقول لهم زبانية جهنم توبيخا لهم وتقريعا ذوقوا ما كنتم تكسبون من أعمال الشرك والمعاصي هذا جزاؤه فذوقوه عذابا أليما. وقوله تعالى (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذب قبل أهل مكة أمم وشعوب كذبوا رسلهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وذلك كالذل والمسخ والقتل والأسر والسبي ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وهم صائرون إليه لا محالة وقوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون عنه علما يقينيا ما كذبوا رسلهم ولا كفروا بربهم. فهلكوا بجهلهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر شيىء من أحوال يوم القيامة.

٢ ـ تهديد قريش على إصرارها على التكذيب للرسول وما جاءها به من الإسلام.

٣ ـ العذاب على التكذيب والمعاصي منه الدنيوي ، ومنه الأخروي.

٤ ـ لو علم الناس عذاب الآخرة علما يقينيا ما كذبوا ولا كفروا ولا ظلموا فالجهل هو سبب الهلاك والشقاء دائما.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا

__________________

(١) قال عطاء وابن زيد يرمي مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه وقال مجاهد يجر في النار على وجهه كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم والاستفهام إنكاري وفي الكلام حذف تقديره كمن هو آمن في جنات النعيم.

(٢) الاتقاء مصدر ومعناه تكلّف الوقاية وهي الصون والدفع وفعل اتقى يتعدى إلى مفعولين ويتعدى بالياء كما في قول الشاعر :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

(٣) (لِلظَّالِمِينَ) إظهار في محل إضمار إذ المفروض أن يقال وقيل لهم والنكتة التنديد بالشرك إذ هو الظلم وبيان العلة الموجبة لإلقائهم في جهنم على وجوههم وهي الظلم الذي هو الشرك.

٤٨٢

غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي جعلنا للعرب في هذا القرآن من كل مثل من الأمم السابقة.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي يتعظون فينزجرون عما هم فيه من الشرك والتكذيب إلى الإيمان والتوحيد.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : أي حال كون المثل المجعول قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف فلا عذر لهم في عدم فهمه وإدراك معناه وفهم مغزاه.

(مُتَشاكِسُونَ) : أي متنازعون لسوء أخلاقهم.

(وَرَجُلاً سَلَماً) : أي خالصا سالما لرجل لا شركة فيه لأحد.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) : الجواب لا الأول في تعب وحيرة والثاني في راحة وهدوء بال.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي على ظهور الحق وبطلان الباطل.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ) : أي مقضي عليك بالموت في وقته.

(وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) : أي كذلك محكوم عليهم به عند انقضاء آجالهم.

(عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) : أي تحتكمون إلى الله في ساحة فصل القضاء فيحكم الله بينكم.

فيما كنتم فيه تختلفون : أي من الشرك والتوحيد والإيمان والتكذيب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنا (١) لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يخبر تعالى بما

__________________

(١) ضرب المثل ذكره والمثل الصفة الحسنة وللناس جنس الناس ويدخل فيه العرب أولا لأنه بلغتهم والناس تابعون لهم في ذلك.

٤٨٣

من به على العرب لهدايتهم حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها ، وصلاحها وفسادها ونجاتها وخسرانها وكل ذلك بقرآن عربي لا عوج (١) فيه أي لا لبس ولا خفاء ولا اختلاف ، فعل ذلك لهم لعلهم يتذكرون أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون فينجون من العذاب ويسعدون. وقوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ (٢) وَرَجُلاً سَلَماً (٣) لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ) (٤) إلى آخر الآية ، هذا مثل من جملة الأمثال التي ضرب الله للناس لعلهم يتذكرون وهو مثل للمشرك الذي يعبد عدة آلهة. والموحد الذي لا يعبد إلا الله فالمشرك مثله رجل يملكه عدد من الرجال من ذوي الأخلاق الشرسة والطباع الجافة فهم يتنازعونه هذا يقول له تعال والآخر يقول له اجلس والثالث يقول له قم فهو في حيرة من أمره لا راحة بدن ولا راحة ضمير ونفس. والموحد مثله رجل سلم أي خالص وسالم لرجل واحد آمره وناهيه واحد هل يستويان أي الرجلان والجواب لا إذ بينهما كما بين الحرية والعبودية وأعظم وقوله تعالى (الْحَمْدُ (٥) لِلَّهِ) أي الثناء بالجميل لله والشكر العظيم له سبحانه وتعالى على انه رب واحد وإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه. وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين ، وذلك لجهلهم وفساد عقولهم.

وقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٦) نزلت لما استبطأ المشركوت موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا شماتة في الموت إنك ستموت يا رسولنا ويموتون. وقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي مؤمنكم وكافركم قويكم وضعيفكم تقفون بين يدي الله ويحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين والدنيا معا.

__________________

(١) (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي لا اختلاف فيه ولا تضاد ولا لحن فيه ولا شك قال الشاعر :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

(٢) (مُتَشاكِسُونَ) أي مختلفون أو متعاسرون يقال رجل شكس وشرس وضرس ويقال شاكسني فلان أي ماكنسي وشاحّني في حقي.

(٣) قرأ الجمهور (سَلَماً) وقرأ غيرهم سالما بمعنى خالصا فمعنى القراءتين واحد وهو الخلوص لمالك واحد.

(٤) الاستفهام إنكاري أي لا يستويان ، مثلا منصوب على التمييز لنسبة يستويان أي في أي شيء ميز لي.

(٥) لما سلم الخصم بأنه لا يستوي الموحد والمشرك تعين حمد الله تعالى إذ لا يعقل أن يقول المرء باستواء الرجل الذي يشترك فيه عدة رجال والآخر الذي هو خالص لرجل واحد ، فكذلك الذي يعبد إلها واحدا لا يستوي مع من يعبد آلهة متعددة.

(٦) قرأ بعضهم إنك مائت وإنهم مائتون. والميت بالتشديد من هو صائر إلى الموت والميت بسكون الياء من فارقته الحياة ، في هذه الآية نعي لكل إنسان بالموت إذ أن رجلا نعي لرجل أخاه ووجده يأكل فقال له كل فقد نعي إلي أخي من قبلك فقال وكيف وأنا أول من نعاه فقال له قد نعاه الله إلىّ فى قوله إنك ميت وإنهم ميتون.

٤٨٤

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية ضرب الأمثال للمبالغة في الإفهام والهداية لمن يراد هدايته.

٢ ـ بيان مثل المشرك والموحد ، فالمشرك في حيرة وتعب ، والموحد في راحة وهدوء بال.

٣ ـ تقرير أن كل نفس ذائقة الموت.

٤ ـ بيان أن خصومة ستكون يوم القيامة ويقضي الله تعالى فيها بالحق لأنه هو الحق.

٤٨٥

الجزء الرابع والعشرون

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ؟) : أي بأن نسب إليه ما هو برىء منه كالزوج والولد والشريك.

(وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ؟) : أي بالقرآن والنبي والتوحيد والبعث والجزاء.

(مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) : أي مأوى ، ومكان إقامة ونزول

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي صدق به أبو بكر وكل أصحاب رسول الله.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) : أي لعذاب الله بإيمانهم وتقواهم بترك الشرك والمعاصي.

(ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) : أي المذكور من نعيم الجنة جزاء المحسنين في أعمالهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) : أي ييسر الله لهم ذلك ويوفقهم إليه ليكفر عنهم ذنوبهم.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عباده منذرا محذرا بأنه لا أظلم من أحد كذب على الله. فقال عنه ما لم يقل أو حرّم ولم يحرم أو أذن ولم يأذن ، أو شرع ولم يشرع ، أو كذب بالصدق وهو القرآن والنبي وما جاء به من الهدى ودين الحق أي فلا أحد أظلم ممن كان هذا حاله كذب على الله وكذب بالصدق.

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ (١) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)؟ هذا بيان لجزاء الكاذبين والمكذبين وهم الكافرون بسبب كذبهم على الله وتكذيبهم له فيخبر تعالى مقررا أن جزاءهم الإقامة

__________________

(١) الاستفهام تقريري والمثوى مكان الإقامة وهو مصدر ثوى بالمكان يثوى ثواء وثويا مثل مضى يمضي مضاء ومضيا.

٤٨٦

الدائمة في جهنم. وقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ (١) بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) هذا إخبار بفريق الفائزين من عباد الله وهم الصادقون في كل ما يخبرون به ، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به ويدخل في هذا الفريق دخولا أوليا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٢) يشير إليهم بأنهم اتقوا كل ما يغضب الله من الشرك والمعاصي ، وبذلك استوجبوا النجاة من النار ودخول الجنة المعبر عنه بقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من نعيم بعضه لم يخطر على بال أحد ، ولم تره عين أحد ولا تسمع به أذنه.

وقوله : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٣) أي ذلك المذكور في قوله لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو جزاؤهم وجزاء المحسنين كلهم والمحسنون هم الذين أحسنوا الاعتقاد والقول والعمل وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ (٤) أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي من الذنوب والآثام والخطايا والسيئآت أي وفقهم للإحسان ويسره لهم ، ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وسيئه ويجزيهم أجرهم على إيمانهم وتقواهم وإحسانهم في ذلك بأحسن ما كانوا يعملون وحسنه أيضا وإنما يضاعف لهم الأجر فتكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فأصبح الجزاء كله على الأحسن والذي كانوا يعملون هو كل ما شرعه الله تعالى لعباده وتعبدهم به من الإيمان وسائر الطاعات والقربات.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالكذب على الله تعالى والتكذيب به ، وبما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين.

٢ ـ بيان جزاء الكاذبين على الله ورسوله والمكذبين بما جاء به رسول الله عن الله من الشرع والدين.

__________________

(١) (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) مبتدأ والخبر (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وعليه فالذي جاء بالصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن صدق به هم أبو بكر وسائر المؤمنين وفي الآية حذف الموصول وهو «من» لدلالة السياق عليه.

(٢) (أُولئِكَ) مبتدأ و (هُمُ) ضمير فصل و (الْمُتَّقُونَ) خبر ، والجملة خبر عن المبتدأ الذي هو و (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) والمعطوف عليه والموصول محذوف وهو من أو إذ لا يكون من جاء بالصدق هو المصدق به.

(٣) الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.

(٤) في الآية الإشادة بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أثبت لهم التصديق بما جاء به رسوله كما أثبت لهم التقوى والإحسان وواعدهم بالنعيم المقيم الذي ادخره لهم. وفي الحديث الصحيح «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحّبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ربي ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه».

٤٨٧

٣ ـ الترغيب في الصّدق في الاعتقادات والأقوال والأعمال.

٤ ـ فضل التقوى والإحسان وبيان جزائهما عند الله تعالى يوم القيامة.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

شرح الكلمات :

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) : بلى هو كاف عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ما يهمه.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : أي بالأصنام والأوثان أن تصيبك بما يسوءك ويضرك.

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) : بلى بل هو عزيز غالب على أمره صاحب انتقام شديد على من عاداه.

(لَيَقُولُنَّ اللهُ) : أي لوضوح البرهان وقوة الدليل وانقطاع الحجة.

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

٤٨٨

(هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) : والجواب لا لا إذا فقل حسبي الله ، ولا حاجة لي بغيره.

(اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على حالتكم التي أنتم من الكفر والعناد.

(إِنِّي عامِلٌ) : أي على حالتي التي أنا عليها من الإيمان والانقياد.

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) : أي في الدنيا بالقتل والأسر والجوع والقحط.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) : أي وينزل عليه عذاب مقيم لا يبرح وهو عذاب النار بعد الموت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الدفاع عن الرسول والرد على مناوئيه وخصومه الذين استبطأوا موته فرد الله تعالى عليهم بقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فلا شماتة إذا في الموت وقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ (١) عَبْدَهُ) دال على أن القوم حاولوا قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لم يمت بأجله وفعلا قد قرروا قتله وأعطوا الجوائز لمن يقتله ، ففي هذه الآية طمأن الله رسوله على أنهم لا يصلون إليه وأنه كافيه مؤامراتهم وتهديداتهم فقال عزوجل أليس الله بكاف عبده؟ والجواب بلى إذ الاستفهام تقريري كافيه كلّ ما يهمه ويسوءه وقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك يا رسولنا المشركون بما يعبدون من دوننا من اصنام وأوثان بأن تصيبك (٢) بقتل أو خبل فلا يهمك ذلك فإن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ولا تجلب ولا تدفع ، وقوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) ، وقد هداك ربك فليس لك من يضلك أبدا ، كما أن من أضله الله كقومك فليس له من هاد يهديه أبدا. وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣) بلى فهو إذا سينتقم من أعدائه لأوليائه ان استمروا في أذاهم وكفرهم وعنادهم ، وقد فعل سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أوجدهما من غير مثال سابق (لَيَقُولُنَّ اللهُ) فما دام اعترافهم لازما بأن الله تعالى هو الخالق فلم عبادة غيره والإصرار عليها مما أفضى بهم إلى أذية المؤمنين وشن الحرب عليهم وقوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام والأوثان أخبروني (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) ما (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) صحة وعافية وغنى ونصر (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) (٤) والجواب لا فإنها جماد لا تقدر

__________________

(١) الاستفهام للتقرير ، وحذفت ياء كاف لأنه اسم منقوص وترد في الوقف جوازا وقرأ الجمهور عبده وقرأ غيرهم عباده ليدخل المؤمنون معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) هذا شاهده قوله تعالى على لسان ابراهيم عليه‌السلام وكيف أخاف ما أشركتم فإنهم خوفوه بآلهتهم فأنكر عليهم ذلك وعابهم بعدم الخوف من الله تعالى.

(٣) الاستفهام تقريري والجملة تحمل الوعيد الشديد للمشركين الكائدين الماكرين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والانتقام المكافأة بالشر على الشر وهو مشتق من النقم الذي هو الغضب.

(٤) قال مقاتل فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكتوا وقال بعضهم لا تدفع شيئا ولكنها تشفع!!

٤٨٩

على إعطاء ولا على إمساك إذا فقل حسبي الله أعبده وأتوكل عليه إذ هو الذي يضر وينفع ويجلب الخير ويدفع السوء والشر. وقوله (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي على الله وحده يتوكل المتوكلون فيثقون في كفايته لهم فيفوضون أمورهم إليه ويتعلقون به. وينفضون أيديهم من غيره.

وقوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي لما أبيتم إلا العناد مصرين على الشرك بعد ما قامت الحجج والأدلة القاطعة على بطلانه فاعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي عليها من الشرك والعناد (إِنِّي عامِلٌ) أنا على حالتي من الإيمان والتوحيد والانقياد. والنتيجة ستظهر فيما بعد لا محالة ويعلم المحق من المبطل ، والمهتدي من الضال وهي قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ (١) يُخْزِيهِ) أي يذله ويكسر أنفه بالقتل والأسر والجوع والقحط وقد أصاب المشركين هذا في مكة وبدر. وقوله : (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) وهو عذاب النّار في الآخرة نعوذ بالله من العذابين عذاب الخزي في الحياة الدنيا وعذاب النار في الدار الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير كفاية الله وولايته لعباده المؤمنين وخاصة ساداتهم من الأنبياء والأولياء.

٢ ـ تقرير مقتضى الولاية وهو النقمة من أعدائه تعالى لأوليائه وإن طال الزمن.

٣ ـ تقرير التوحيد وإبطال التنديد.

٤ ـ مظاهر ربوبية الله الموجبة لألوهيته.

٥ ـ وجوب التوكل على الله واعتقاد كفايته لأوليائه.

٦ ـ تقرير إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي

__________________

(١) (مَنْ) استفهامية علقت فعل تعلمون عن العمل في مفعوليه.

٤٩٠

لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق : أي أنزلنا عليك يا رسولنا القرآن بالحق أي ملتبسا به.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي ليس عليك أمر هدايتهم فتجبرهم على الإيمان

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) : أي ينهى حياة العباد بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) : أي يتوفاها وقت النوم يحبسها عن التصرف كأنها شيء مقبوض.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) : أي يقبضها لحكمة بالموت عليها حال النوم.

(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي التي لم يحكم بموتها يرسلها فيعيش صاحبها إلى نهاية أجله المعدود له.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : أي في قبض الأرواح وإرسالها ، والقدرة على ذلك دلائل وبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون.

٤٩١

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) : أي أن كفار مكة لا يتفكرون ولو كانوا يتفكرون لما انكروا البعث ، ولا ما اتخذوا من دون الله شفعاء لوضوح بطلان ذلك.

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) : أي قل لهم أيشفع لكم شركاؤكم ولو كانوا لا يملكون شيئا ينكر عليهم دعواهم الشفاعة لهم وهي أصنام لا تملك ولا تعقل.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) : أي أخبرهم أن جميع الشفاعات لله وحده فشفاعة الأنبياء والشهداء والعلماء والأطفال مملوكة لله فلا يشفع أحد إلا بإذنه.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) : أي وإذا ذكر الله وحده كقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلا إلا الله نفرت نفوس المشركين وانقبضت وظهر الغضب والسخط في وجوههم.

(وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : أي الأصنام والأوثان التي يعبدونها من دون الله تعالى.

(إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي فرحون جذلون وذلك لافتتانهم بها ونسيانهم لحق الله تعالى وهو عبادته وحده مقابل خلقه ورزقه لهم.

معنى الآيات :

إن السياق الكريم كان في عرض الصراع الدائر بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه المشركين فدافع الله تعالى عن رسوله ودفع عنه كل أذى ومكروه وتوعد خصومه بالعذاب في الدنيا والآخرة وهنا يسليه ويصبره فيقول له (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) (١) أي القرآن (لِلنَّاسِ) أي لهداية الناس واصلاحهم (بِالْحَقِ) أي ملتبسا بالحق ، فمن اهتدى بالقرآن فآمن وعمل صالحا فعائد ذلك له حيث ينجو من النار ويدخل الجنة ، ومن ضل لعدم قبوله هداية القرآن فأصر على الشرك والمعاصي فإنما يضل على نفسه أي عائد ضلاله على نفسه إذ هو الذي يحرم الجنة ورضا الله تعالى ويلقى في النار خالدا فيها وعليه غضب من الله لا يفارقه أبدا.

وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لم يوكل إليك أمر هدايتهم فتجد نفسك في هم من ذلك إن عليك إلا البلاغ المبين إنك لم تكلف حفظ أعمالهم ومحاسبتهم عليها ، ولا أمر هدايتهم فتجيرهم على ذلك.

__________________

(١) في الآية مزيد بيان شرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال الكتاب عليه وتقرير رسالته ، واللام في للناس للتعليل والباء في بالحق للملابسة.

وفي الكلام محذوف تقديره لنفع الناس وهدايتهم بقرينة قوله بعد «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه».

٤٩٢

وقوله تعالى : في الآية الثانية من هذا السياق (٤٢) (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (١) أي يقبض أرواحها (حِينَ مَوْتِها) أي عند نهاية أجلها فيأمر تعالى ملك الموت فيخرج الروح بإذن الله ويقبضها ، (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي يقبضها بمعنى يحبسها عن التصرف ، حال النوم ، فإن أراد موتها قبضها ولم يردها إلى جسدها ، وإن لم يرد وفاتها أرسلها فتعود إلى الجسد ويعيش صاحبها إلى الأجل المسمى له وهي (٢) نهاية عمره إن في ذلك القبض للروح والإرسال ، والوفاة والإحياء لآيات اي دلائل وحجج كلها قاضية بأن القادر على هذا قادر على البعث والنشور الذي كذب به المشركون كما أن صاحب هذه القدرة العظيمة هو صاحب الحق المطلق في الطاعة والعبادة ولا تنبغي العبادة إلا له. وقوله (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وهم الأحياء بالإيمان أما الأموات وهم الكافرون فلا يجدون في ذلك آية ولا دليلا وذلك لموتهم بالشرك والكفر.

وقوله تعالى : في الآية الثالثة (٤٣) (أَمِ اتَّخَذُوا (٣) مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون الذين كان المفروض فيهم أن يهتدوا على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة لو كانوا يتفكرون بدل أن يهتدوا إلى توحيد الله اتخذوا من دونه أوثانا سموها شفعاء يرجون شفاعتها لدى الله في قضاء حوائجهم. وذلك لجهلهم وسخف عقولهم. قال تعالى لرسوله : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم ايشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا من أسباب الشفاعة ومقتضياتها ولو كانوا لا يعقلون معنى الشفاعة ولا يفهمونه لأنهم أصنام وأحجار والاستفهام للتبكيت والتقريع. لو كان القوم يشعرون. ثم أمر تعالى رسوله أن يعلن عن الحقيقة وإن كانت عند المشركين مرة (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي جميع أنواع الشفاعة هي ملك لله مختصة به فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، إذا فاطلبوا الشفاعة من مالكها الذي له ملك السموات والأرض ، لا ممن هو مملوك له ، ولا يعقل حتى معنى الشفاعة ولا يفهمها وقوله ثم

__________________

(١) المراد بالأنفس الناس الذين يموتون إذ لفظ النفس يطلق على الذات ويطلق على الروح قال ابن عباس وغيره من المفسرين إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ، قال علي رضي الله عنه فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.

(٢) شاهد هذا من السنة حديث الصحيحين وفيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخلة إزاره فإنه لا يدري من خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. والشاهد في إمساك الروح في المنام وإرسالها.

(٣) أم هذه هي المنقطعة وهي للإضراب الانتقالي وهو انتقال من تشنيع شركهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم.

٤٩٣

إليه ترجعون أي بعد الموت أحببتم أم كرهتم؟ فاتخذوا لكم يدا عنده بالإيمان به وتوحيده في عبادته.

وقوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هذا كشف عن حال المشركين ، وما هم عليه من الجهل والسفه إنهم إذا سمعوا لا إله إلا الله ينفرون وينقبضون ويظهر ذلك غضبا في وجوههم ، يكادون يسطون على من قال لا إله إلا الله ، وإذا ذكر الذين من دونه أي وإذا ذكر الأصنام التي يعبدونها من دون الله إذا هم يستبشرون فرحون مسرورون ، وهذا عائد إلى افتتانهم بأصنامهم ، ونسيانهم لحقوق ربهم عليهم وهي الإيمان به وعبادته وحده مقابل ما خلقهم ورزقهم ودبر حياتهم ، ولكن أنى لأهل ظلمة النفس وانتكاس القلب أن يعوا ويفهموا؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر والثبات في أصعب الظروف.

٢ ـ مظاهر قدرة الله في الموت والحياة مما يقتضي الإيمان به وبلقائه وتوحيده.

٣ ـ إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله.

٤ ـ بيان خطأ من يطلب الشفاعة من غير الله ، إذ لا يملك الشفاعة إلا هو (١).

٥ ـ بيان سفه المشركين وضلالهم في غضبهم عند سماع التوحيد ، وفرحهم عند سماع الشرك.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

__________________

(١) الشفاعة أمر معنوي فملكها معناه تحصيل إجابتها إذ الأمور المعنوية لا تملك.

٤٩٤

شرح الكلمات :

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : قل يا نبينا : يا الله يا خالق السماوات والأرض.

(عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي يا عالم الغيب وهو كل ما غاب عن الأبصار والحواس والشهادة خلاف الغيب.

(فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : أي من أمور الدين عقائد وعبادات.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي.

وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون : أي وظهر لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يظنونه.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : وأحاط بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) (١) هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله أن يفزع إليه بالدعاء والضراعة إذ استحكم الخلاف بينه وبين خصومه وضاق الصدر أي قل يا رسولنا يا الله (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقها ، (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عن الأبصار والحواس فلم يدرك ، والشهادة وهو ما رؤي بالأبصار وأدرك بالحواس (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) مؤمنهم وكافرهم (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الإيمان بك وبلقائك وصفاتك وعبادتك ووعدك ووعيدك اهدني لما اختلفوا فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أنفسهم بالشرك وهو الظلم العظيم وبغشيان المعاصي والذنوب لو أن لهم عند معاينة العذاب يوم القيامة (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من أموال ونفائسها ومثله معه وقبل منهم الفداء (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) ولما تردّدوا أبدا وهذا دالّ على شدّة العذاب وأنه لا يطاق ولا يحتمل مع حرمانهم من الجنة ونعيمها.

وقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٢) أي وظهر لهم أي لأولئك الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكرت الأصنام فرحوا بذلك واستبشروا وبدا لهم من ألوان العذاب ما لم يكونوا يظنون ولا يحتسبون. وقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ (٣) ما كَسَبُوا) أي من

__________________

(١) رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستفتح به صلاته من الليل وروي عن سعيد بن جبير أنه قال إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قوله (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ) ... الخ».

(٢) روي أن محمد ابن المنذر جزع عند موته جزعا شديدا وقيل له ما هذا الجزع؟ قال : أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

(٣) السيئات جمع سيئة وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول (ما كَسَبُوا) أي مكسوباتهم السيئات وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة القبيحة.

٤٩٥

الشرك والكفر والفسق والعصيان أي ظهر لهم وتجلى أمامهم فاشتد كربهم وعظم الأمر عندهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون أي أحاط بهم وحدق عليهم العذاب الذي كانوا إذا ذكر لهم وعيدا وتخويفا استهزأوا به وسخروا منه وممن يذكرهم به ويخوفهم منه كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» إذ ثبتت السنة به.

والآية ذكرت أصله.

٢ ـ بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لا فتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله معه.

٣ ـ التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

٤٩٦

شرح الكلمات :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) : أي أصاب الإنسان الكافر ضر أي مرض وغيره مما يضره دعانا أي سأل كشف ضره.

(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) : ثم إذا خولناه أي أعطيناه نعمة منا من صحة أو مال وغيرهما.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) : قال أي ذلك الكافر إنما أوتيت ذلك العطاء على علم من الله بأني استحقه

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) : أي تلك النعمة لم يعطها لأهليته لها ، وإنما أعطيها فتنة واختبارا له.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أن ما أعطوه من مال وصحة وعافية هو فتنة لهم وليس لرضا الله تعالى عنهم.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي قال قولتهم من كان قبلهم كقارون فلم يلبثوا أن أخذوا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ) : أي والذين ظلموا بالشرك من هؤلاء أي من كفار قريش.

(سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (١) : أي كما أصاب من قبلهم وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا في بدر.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أي فائتين الله تعالى ولا غالبين له.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) : أي أقالوا تلك المقالة ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق.

(لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) : أي يوسعه لمن يشاء امتحانا ، ويضيقه ابتلاء.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : أي إن في ذلك المذكور من التوسعة امتحانا والتضييق ابتلاء لآيات أي علامات على قدرة الله وكمال تدبيره لأمور خلقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان حيرة المشركين وفساد قلوبهم نتيجة كفرهم وجهلهم فقوله تعالى :

__________________

(١) أي أصابهم سوء كسبهم وقبحه وهو ما عملوه من سيئات الشرك والمعاصي.

٤٩٧

(فَإِذا مَسَ (١) الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) يعني ذاك الكافر الذي إذا ذكر الله وحده اشمأزّت نفسه وإذا ذكرت الأوثان سر وفرح واستبشر هذا الإنسان إذا مسّه ضر من مرض أو غيره مما يضر ولا يسر دعا ربّه منيبا إليه ولم يشرك معه في هذه الحال أحدا لعلمه أن الأوثان لا تكشف ضرا ولا تعطي خيرا ، وإذا خوله الله تعالى نعمة من فضله ابتلاء له قال إنّما أوتيت الذي أوتيت على علم من الله بأني أهل لذلك (٢) ، فأكذبه الله تعالى فقال (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر المشركين لا يعلمون أن الله تعالى إذا أعطاهم إنما أعطاهم ليفتنهم لا لحبه لهم ولا لرضا عنهم. والدليل على أن ذلك العطاء للمشركين فتنة لا غير أن قولتهم هذه (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقارون وغيره فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من أموال طائلة ، قال تعالى : فأصابهم سيئات ما كسبوا فلم يؤخذوا بدون ذنب بل أخذوا بذنوبهم وهو قوله تعالى (فَأَصابَهُمْ (٣) سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) وقوله تعالى (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفار قريش سيصيبهم أيضا سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والظلم ، وما هم بمعجزين لله فائتينه أبدا وكيف وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا وأسروا في بدر والفتح.

وقوله تعالى (أَوَلَمْ (٤) يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي أقالوا مقالتهم تلك ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ويقدر أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط فلم يكن بسطه الرزق حبا في المبسوط له ، ولا التضييق كرها للمضيق عليه ، وإنما البسط كالتضييق لحكمة التربية والتدبير ، ولكن الكافرين لا يعلمون هذا فجهلهم بالحكم جعلهم يقولون الباطل ويعتقدونه أما المؤمنون فلا يقولون مقالتهم لعلمهم ونور قلوبهم فلذا هم يجدون الآيات في مثل هذا التدبير واضحة دالة على علم الله وحكمته وقدرته فيزدادون إيمانا ونورا وبصيرة.

هداية الآيات :

١ ـ بيان تناقض أهل الكفر والجهل والضلال في كل حياتهم لأنهم يعيشون على ظلمة الجهل

__________________

(١) في هذه الآية بيان حقيقة وهي أن كفار قريش كانوا يؤمنون بالله ربا فهم أفضل من كفار البلاشفة الشيوعيين الذين لا يؤمنون بالله تعالى كما أن كفار قريش أحسن حالا من بعض جهال المسلمين اليوم إذ يخلصون الدعاء لله في الشدة وجهال المسلمين يشركون في الرخاء والشدة معا وذلك بدعائهم الأولياء والأموات والاستغاثة بهم في كل حال.

(٢) قال بعضهم على علم أي بوجوه الكسب وطرق تنمية المال وتكثيره حتى لا يحمد الله ولا يشكره ولا منافاة بين هذا وما في التفسير إذ بعضهم يقول هذا وبعض يقول ذاك.

(٣) أي جزاء سيئات كسبهم من الشرك والشر والفساد.

(٤) الاستفهام إنكاري ينكر تعالى عليهم انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم فلذا تضمن الاستفهام توبيخا لهم.

٤٩٨

والكفر.

٢ ـ تقرير ما من (١) مصيبة إلا بذنب جلي أو خفي كبير أو صغير.

٣ ـ بيان أن بسط الرزق وتضييقه على الأفراد أو الجماعات لا يعود إلى حب الله للعبد أو كرهه له ، وإنما يعود لسنن التربية الإلهية وحكم التدبير لشؤون الخلق.

٤ ـ أهل الإيمان هم الذين ينتفعون بالآيات والدلائل لأنهم أحياء يبصرون ويعقلون أما أهل الكفر فهم أموات لا يرون الآيات ولا يعقلونها.

٥ ـ تهديد الله تعالى للظالمين ووعيده الشديد بأنه سيصيبهم كما أصاب غيرهم جزاء ظلمهم وكسبهم الفاسد.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

__________________

(١) شاهذه قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الآية من الشورى وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» رواه ابن أبي حاتم. قال لما نزلت هذه الآية قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٩٩

شرح الكلمات :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي.

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) : أي لا تيأسوا من المغفرة لكم ودخول الجنة.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) : أي ذنوب من أشرك وفسق إن هو تاب توبة نصوحا

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) : أي ارجعوا إليه بالإيمان والطاعة.

(وَأَسْلِمُوا لَهُ) : أي أخلصوا له أعمالكم.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي القرآن الكريم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى) : أي نفس الكافر والمجرم يا حسرتى أي يا ندامتي.

(عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : أي في جانب حق الله فلم أطعه كما أطاعه غيري.

(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) : أي المستهزئين بدين الله تعالى وعباده المؤمنين.

(لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : أي لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون إذا من المؤمنين الذين أحسنوا القصد والعمل.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) : أي ليس الأمر كما تزعم أنك تتمنّى الهداية بل قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت.

معنى الآيات :

لقد صح أن أناسا (١) كانوا قد أشركوا وقتلوا وزنوا فكبر عليهم ذلك وقالوا نبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يسأله لنا هل لنا من توبة فإن قال : نعم ، وإلا بقينا على ما نحن عليه وقبل أن يصل رسولهم نزلت هذه الآية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي أفرطوا في ارتكاب الجرائم فكانوا بذلك مسرفين على أنفسهم (لا تَقْنَطُوا) أي لا تيأسوا (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) في أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة ، إن أنتم تبتم إليه وأنبتم (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ (٢) جَمِيعاً) لمن تاب منها فإنه تعالى لا يستعصي عليه ذنب فلا يقدر على مغفرته وعدم المؤاخذة عليه (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

__________________

(١) لقد ذكر لسبب نزول هذه الآية عدة مناسبات وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا حاجة إلى ذكرها وما في التفسير كاف وهو ما تضمنته رواية البخاري.

(٢) قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) تعليل للنهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله.

٥٠٠