أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) : أي بالنبوة والرسالة.

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) : أي بني اسرائيل.

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : أي استعباد فرعون إياهم واضطهاده لهم

(وَنَصَرْناهُمْ) : على فرعون وجنوده.

(الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) : أي التوراة الموضحة الأحكام والشرائع.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : أي الإسلام لله ربّ العالمين.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليهما في الآخرين ثناء حسنا.

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) : أي سلام منا على موسى وهرون.

(إِنَّا كَذلِكَ) : أي كما جزيناهما نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين.

(إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) : أي جزيناهما بما جزيناهما به لإيمانهما.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله وإنعامه على من يشاء من عباده فبعد ذكر إنعامه على ابراهيم وولده إسحق ذكر من ذريّتهما المحسنين موسى وهرون فقال تعالى (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي بالنبوة والرسالة ، (١) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) أي بني اسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي هو استعباد فرعون والأقباط لهم واضطهادهم زمنا طويلا (وَنَصَرْناهُمْ) أي على فرعون وملائه (٢) (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (وَآتَيْناهُمَا) (٣) أي اعطيناهما (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) وهو التوراة الواضحة

__________________

(١) كانت النبوة والرسالة منة لأن موسى لم يكتسبها بعمل وهارون أعطيها بدعوة أخيه موسى فلم يكتسبها بأي جهد فهي إذا منة محضة.

(٢) إذ خرج فرعون في جيش عرمرم قوامه مائة ألف من الفرسان فقط ثم نجى الله تعالى بني اسرائيل وأغرق فرعون وجنده أجمعين فكان نصرا عظيما لموسى على فرعون وملائه أجمعين.

(٣) موسى أوتي الكتاب أصالة وهارون بالتبعية لأخيه موسى.

٤٢١

الأحكام البيّن الشرائع لا خفاء فيها ولا غموض. (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهو الدين الصحيح الذي هو الإسلام دين الله الذي بعث به كافة رسله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا عليهما الذكر الحسن والثناء العطر فيمن بعدهما (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١) أي كما جزيناهما لإحسانهما نجزي المحسنين (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فيه بيان لعلة ما وهبهما من الإنعام والإفضال وهو الإيمان المقتضي للإسلام والإحسان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهرون عليهما‌السلام.

٢ ـ بيان إنعام الله تعالى على بني اسرائيل بإنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم.

٣ ـ بيان أن الإسلام دين سائر الأنبياء وليس خاصا بأمة الإسلام.

٤ ـ بيان فضل الإحسان والإيمان.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

__________________

(١) (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) جملة تذييلة وإن كانت تحمل معنى التعليل والتوكيد ، والمحسنون من أحسنوا طاعة الله تعالى فأطاعوه بما يحب من أفعال وتروك على نحو ما شرعه لهم وحملة أنهما من عبادنا المؤمنين تعليلية للإنعام السابق.

٤٢٢

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : إلياس هو أحد أنبياء بني اسرائيل من سبط هرون أرسله الله تعالى إلى أهل مدينة بعلبك بالشام.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) : أي صنما يسمى بعلا.

(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) : أي وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين.

(فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) : أي في النار.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي فإنهم نجوا من النار.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه في الآخرين ذكرا حسنا.

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) : أي سلام منا على إلياس.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على بعض أنبيائه ورسله فقال تعالى (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ) (١) (الْمُرْسَلِينَ) وهو من سبط هرون عليه‌السلام أحد أنبياء بني اسرائيل أخبر تعالى أنه من المرسلين (٢) أي اذكر (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم أهل مدينة بعلبك وما حولها (أَلا تَتَّقُونَ) أي (٣) الله تعالى بعبادته وترك عبادة غيره ، وهذا دليل على أنه رسول. وقوله عليه‌السلام (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) (٤) هذا إنكار منه لهم على عبادة صنم كبير لهم يسمونه بعلا ، أي كيف تعبدون صنما بدعائه والعكوف عليه والذبح والنذر له ، وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين ، الله ربكم (٥) ورب آبائكم الأولين. قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ) أي في أنه لا إله إلا الله (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فاحضروا في جهنم فهم من المحضرين فيها ، وقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي الموحدين فإنهم ليسوا في النار بل هم في الجنة. وقوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا في الذين جاءوا من بعده من الناس. وقوله تعالى (سَلامٌ) أي منّا (عَلى إِلْ ياسِينَ) (إِنَّا كَذلِكَ) أي كما جزينا إلياس لإحسانه في طاعتنا (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي

__________________

(١) قدم تعالى ذكر نوح وابراهيم وموسى وكلهم رسل أصحاب شرائع وعقب عليهم بذكر ثلاثة آخرين ليست لهم شرائع مستقلة وهم الياس ولوط ويونس ويوسف واسم الياس في كتب بني اسرائيل «ايليا».

(٢) عد في جملة المرسلين لأن الله تعالى أمره بتبليغ ملوك بني اسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام. فإطلاق اسم الرسول عليه كإطلاقه على اسم رسل عيسى عليه‌السلام في سورة يس.

(٣) (أَلا تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري ينكر عليهم عدم تقواهم لله ، ولا نافية وحذف مفعول يتقون للعلم به. أي ألا تتقون الله تعالى أو عذابه ونقمه.

(٤) قرأ نافع آل ياسين كآل محمد ، وقرأ حفص إل بكسر الهمزة وسكون اللام. واختلف هل إل ياسين معناه إلياس ، أو معناه ذوو ياسين كآل بني فلان ، والراجح أن المراد بآل ياسين أنصاره. نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آل محمد كل تقي

(٥) قرأ نافع والأكثرون الله بالرفع على الابتداء ، وقرأ حفص (اللهَ) بالنصب على عطف البيان على (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

٤٢٣

استحق تكريمنا والجزاء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد ، والتنديد بالشرك.

٢ ـ هلاك المشركين (١) ونجاة الموحدين يوم القيامة.

٣ ـ فضل الإحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء.

٤ ـ فضل الإيمان وأنه سبب كل خير وكمال.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي وإن لوطا وهو ابن هاران أخي ابراهيم الخليل لمن جملة الرسل أيضا.

(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) : أي اذكر يا رسولنا ممن أنعمنا عليهم بالنبوة والرسالة لوطا إذ نجيناه وأهله اجمعين من عذاب مطر السوء.

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) : أي إلا امرأته الكافرة هلكت في الغابرين أي الباقين في العذاب.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) : أي أهلكنا الآخرين ممن عدا لوطا والمؤمنين معه.

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) : أي في أسفاركم إلى فلسطين وغزة ومصر بالليل والنهار.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أي يا أهل مكة ما حل بهم فتعتبرون وتتعظون فتؤمنوا وتوحدوا.

__________________

(١) سياق قصة الياس فيها تذكير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقريش أيضا إذ على الرسول أن يبلغ وليس عليه أن يأتي قومه بالعذاب ولو طالب به المدعوون فإن الياس لم يعذب الله قومه في الدنيا وترك عذابهم إلى الآخرة.

٤٢٤

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله على من اصطفى من عباده فقال تعالى (وَإِنَّ لُوطاً) وهو ابن هاران أخي إبراهيم (١) عليهما‌السلام (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي لمن جملة رسلنا (إِذْ نَجَّيْناهُ) أي اذكر إنعامنا عليه إذ نجيناه من العذاب وأهله اجمعين (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وهي امرأته إذ كانت مع الكافرين فبقيت معهم فهلكت بهلاكهم. وقوله تعالى (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي ممن عدا لوطا ومن آمن به من قومه. وقوله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ (٢) عَلَيْهِمْ (٣) مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) هذا خطاب لأهل مكة المشركين إذ كانوا يسافرون للتجارة إلى الشام وفلسطين ويمرون بالبحر الميت وهو مكان الهالكين من قوم لوط أصبح بعد الخسف بحرا ميتا لا حياة فيه البتة. وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤) توبيخ لهم وتقريع على عدم التفكر والتدبر إذ لو فكروا لعلموا أن الله تعالى أهلكهم لتكذيبهم برسولهم وكفرهم بما جاءهم به من الهدى والدين الحق ، وقد كذب هؤلاء فأي مانع يمنع من وقوع عذاب بهم كما وقع بقوم لوط من قبلهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة لوط ورسالته.

٢ ـ بيان العبرة في إنجاء لوط والمؤمنين معه وإهلاك الكافرين المكذبين به.

٣ ـ بيان أن لا شفاعة تنفع (٥) ولو كان الشافع أقرب قريب إلا بعد أن يأذن الله للشافع وبعد رضائه (٦) عن المشفوع له.

٤ ـ وجوب التفكر والتعقل في الأحداث الكونية للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة.

__________________

(١) يقال مرّ به ومر عليه بمعنى إلا أن التمكن والمباشرة بالممرور به بعلى أكثر منه بالباء ومصبحين حال منصوب على الحالية بالياء والنون لأنه جمع سلامة للمذكر.

(٢) جيء بالمضارع في لتمرون للايقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإخبار.

(٣) خرج لوط مع عمه ابراهيم عليه‌السلام بعد حادثة القاء ابراهيم في النار ونجاته منها فآمن له لوط وخرج معه مهاجرا فأرسله الله تعالى إلى أصحاب المؤتفكات وهي قرى سدوم وعمورة.

(٤) الاستفهام للإنكار والتقريع على جهالتهم وغفلتهم وعدم استعمال عقولهم للاهتداء.

(٥) أخذ هذا الحكم من كون لوط عليه‌السلام لم يشفع لزوجه في النجاة من الهلاك الذي أصاب المفسدين وذلك لكفرها وفسادها.

(٦) الرضاء : الاسم من رضي ، يرضى ، رضى فهو راض.

٤٢٥

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي وإن يونس بن متى الملقب بذي النون لمن جملة المرسلين.

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : أي إذ هرب إلى السفينة المملوءة بالركاب.

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) : أي اقترع مع ركاب السفينة فكان من المغلوبين.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) : أي ابتلعه الحوت وهو آت بما يلام عليه.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : أي لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) : أي فألقيناه من بطن الحوت بالعراء أي بوجه الأرض بالساحل.

(وَهُوَ سَقِيمٌ) : أي عليل كالفرخ المنتوف الريش.

(شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) : أي الدباء : القرع.

(إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) : أي أرسلناه إلى مائة ألف نسمة بل يزيدون بكذا ألف.

(فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) : أي فآمن قومه عند معاينة أمارات العذاب فأبقاهم الله إلى آجالهم.

٤٢٦

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام. فقال عزوجل عطفا عما سبق (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننّا عليهم بالنبوّة والرسالة. (إِذْ أَبَقَ) أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوي (١) من أرض الموصل بالعراق ، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى ربّان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلّا غرق الجميع ، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا (٢) فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته ، وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدره ولم يطق البقاء معهم. وهذا معنى قوله تعالى (إِذْ أَبَقَ (٣) إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (٤) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٥). وقوله تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) أي بطن الحوت (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبرا له أي فلو لا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» ، فإن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس ، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم ، وهو معنى قوله تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى (عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فرع تظلله بأوراقها

__________________

(١) نينوى كانت مدينة عظيمة من مدن الآشوريين وكان بها مائة ألف أسير من بني اسرائيل أسرهم الآشوريون فأرسل الله تعالى إليهم يونس من فلسطين.

(٢) اقترعوا هو معنى قوله تعالى فساهم والمساهمة مشتقة من السهام التي واحدها سهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمى الأزلام أيضا والفاء في فساهم للتفريع.

(٣) أبق يأبق إباقا العبد إذا فرّ من مالكه.

(٤) الاقتراع مشروع فقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة مواطن منها القرعة بين نسائه إذا أراد السفر بواحدة منهن وشرع الاقتراع فيما إذا تساوت الحقوق والمصالح لأجل دفع الضغائن كالاستهام على من يلي أمر كذا من خلافة أو أذان أو الصف الأول وما إلى ذلك من قسمة دار أو أرض.

(٥) المليم اسم فاعل من الآم يليم إذا فعل ما يلومه عليه الناس فهو جعلهم لائمين له بفعله فهو ألامهم على نفسه.

٤٢٧

الحريرية الناعمة والتي لا ينزل بساحتها الذباب ، وسخر له أروية «غزالة» فكانت تأتيه صباح مساء فتفشح عليه أي تفتح رجليها وتدني ضرعها منه فيرضع حتى يشبع إلى أن تماثل للشفاء وعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين لتوبة أحدثوها عند ظهور امارات العذاب فتاب الله عليهم. وقوله تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١) أي أرسلناه إلى قومه وهم أهل نينوي وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفا (فَآمَنُوا) أي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبيونس نبيا ورسولا وتابوا بترك الشرك والكفر فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم ، ومتعناهم أي أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة يونس ورسالته وضمن ذلك تقرير رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ مشروعية الركوب في السفن البحرية.

٣ ـ مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها.

٤ ـ فضل الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح (٢) وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء.

٥ ـ تقرير مبدأ «تعرف على الله في (٣) الرخاء يعرفك في الشدة».

٦ ـ بركة أكل اليقطين أي الدباء القرع إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة.

٧ ـ فضل قوم يونس إذ آمنوا كلهم ولم تؤمن أمة بكاملها إلّا هم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)

__________________

(١) (أَوْ) بمعنى بل على قول الكوفيين واستشهدوا بقول جرير :

ما ذا ترى في عيال قد برمت بهم

لم أحص عدتهم إلا بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لو لا رجاؤك قد قتلت أولادي

(٢) روى أبو داود عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال دعاء ذي النون في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له.

(٣) بعض حديث صحيح رواه مسلم وغيره.

٤٢٨

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

شرح الكلمات :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : أي استخبر كفار مكة توبيخا لهم وتقريعا.

(وَلَهُمُ الْبَنُونَ) : أي فيختصون بالأفضل الأشرف.

(لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) : أي لقولهم الملائكة بنات الله.

(أَصْطَفَى الْبَناتِ) : أي اختار البنات على البنين.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي إن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) : أي ألكم حجة واضحة على صحة ما تدعون.

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) : أي الذي تحتجون بما فيه ، ومن أين لكم ذلك.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) : إذ قالوا الملائكة بنات الله.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) : أي في العذاب.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) : أي تنزيها لله تعالى عما يصفونه به من كون الملائكة بنات له.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي فإنهم ينزهون ربهم ولا يصفونه بالنقائص كهؤلاء المشركين.

معنى الآيات :

بعد تقرير البعث والتوحيد والنبوة في السياق السابق بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة أراد تعالى إبطال فرية من أسوأ الفرى التي عرفتها ديار الجزيرة وهي قول (١) بعضهم إن الله تعالى قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وهم بنات الله ، وهذا لا شك انه من إيحاء الشيطان لإغواء الإنسان

__________________

(١) قال القرطبي في بيان من قال هذه القولة القذرة الفاسدة الباطلة قال : ذلك جهينة وخزاعة وبني مليح وبني سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله.

٤٢٩

وإضلاله فقال تعالى لرسوله استفتهم أي استخبرهم موبخا لهم مقرّعا قائلا لهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) ، أي أما تخجلون عند ما تنسبون لكم الأسنى والأشرف وهو البنون ، وتجعلون لله الآخس والأدنى وهو البناتوقوله تعالى (أَمْ (١) خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حضروا يوم خلقنا الملائكة فعرفوا بذلك أنهم إناث ، والجواب لا إنهم لم يشهدوا خلقهم إذا فلم يكذبون وقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ألا إن هؤلاء المشركين الضالين من كذبهم الذي عاشوا عليه واعتادوه يقولون ولد الله وذلك بقولهم الملائكة بنات الله ، وإنهم وربّ العزة لكاذبون في قيلهم هذا الذي هو صورة لإفكهم الذي يعيشون عليه. وقوله تعالى (أَصْطَفَى (٢) الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) هذا توبيخ لهم وتقريع أصطفى أي هل الله اختار البنات على البنين فلذا جعلهم إناثا كما تزعمون. (ما لَكُمْ كَيْفَ (٣) تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الباطل الفاسد. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٤) فتذكروا أن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي ألكم حجة قوية تثبت دعواكم والحجة القوية تكون بوحي من الله في كتاب أنزله يخبر فيه بما تقولون إذا (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي فيه ما تدعون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم. ومن أين لكم الكتاب ، وقد كفرتم بكتابكم الذي نزل لهدايتكم وهو القرآن الكريم. وهكذا أبطل الله هذه الفرية بأقوى الحجج. وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ) أي بين الله تعالى (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٥) بقولهم أصهر الله تعالى إلى الجن فتزوج سروات الجن إذ سألهم أبو بكر : من أمهات الملائكة فقالوا سروات الجن وقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٦) أي في العذاب ، فكيف يكون لهم نسب ويعذبهم الله بالنار. فالنسيب يكرم نسيبه لا يعذبه بالنار ، وبذلك بطلت هذه الفرية الممقوتة ، فنزه الله تعالى نفسه عن مثل هذه الترهات والأباطيل فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). (إِلَّا (٧) عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي فإنهم لا يصفون ربهم بمثل هذه النقائص التي هي من صفات العباد العجزة المفتقرين إلى الزوجة والولد أما ربّ كل شيء ومالكه وخالقه فلا يقبل

__________________

(١) الاستفهام للتوبيخ والتقريع والتأنيب.

(٢) (أَصْطَفَى). الهمزة للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع واصطفى بمعنى اختار البنات على البنين وقرأ الجمهور بهمزة القطع للاستفهام وقرأ بعض بهمزة الوصل دون همزة القطع إلا أنها منوية.

(٣) ما لكم ما اسم استفهام عن ذات وهي مبتدأ ولكم خبر ، والمعنى : أي شيء حصل لكم؟.

(٤) أفلا تذكرون قرأ نافع تذكرون بتشديد الدال والكاف معا إذ الأصل تتذكرون فأدغمت إحدى التائين في الذال. وقرأ حفص (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال لحذف التاء الثانية والاستفهام إنكاري.

(٥) النسب القرابة العمودية بالآباء والأمهات والأفقية كالإخوان والأعمام والمعنى ذوي النسب لله تعالى وهو نسب البنوة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(٦) المحضرون المجلوبون للحضور ، والمراد المحضرون للعقاب والعذاب.

(٧) الاستثناء منقطع وجائز أن يكون من الحضور للعقاب فإن عباد الله لا يحضرون للعقاب ولا يعاقبون وجائز أن يكون منقطع من سبحان الله عما يصفون فإن عباد الله لا يصفون الله بالنقائص كما في التفسير وهو أولى من الأول.

٤٣٠

العقل أن ينسب إليه الصاحبة والولد. فلذا عباد الله الذين استخلصهم لمعرفته والإيمان به وعبادته لا يصفون ربهم جل جلاله بصفات المحدثين من خلق الله. ولا يكونون من المحضرين في النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال فرية بني ملحان من العرب الذين زيّن لهم الشيطان فكرة الملائكة بنات الله ، ووجود نسب بين الله تعالى وبين الجن.

٢ ـ مشروعية دحض الباطل بأقوى الحجج وأصحّ البراهين.

٣ ـ الحجة الأقوى ما كانت من وحي الله في كتاب من كتبه التي أوحى بها إلى رسله.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

شرح الكلمات :

(وَما تَعْبُدُونَ) : أي من الأصنام.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) : أي مقدر له عذاب النار.

(إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : أي مكان في السماء يعبد الله تعالى فيه لا يتعداه.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) : أي أقدامنا في الصلاة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) : أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) : أي كفار مكة.

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) : أي كتابا من كتب الأمم السابقة.

(فَكَفَرُوا بِهِ) : أي بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا.

٤٣١

معنى الآيات :

ما زال السياق في إبطال باطل المشركين فقد قال لهم تعالى (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (١) من أصنام أيها المشركون. ما أنتم بمضلين أحدا إلا أحدا هو صال (٢) الجحيم حيث كتبنا عليه ذلك في كتاب المقادير فهو لا بد عامل بما يوجب له النار فهذا قد يفتتن بكم وبعبادتكم فيضل بضلالكم. وقوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا (٣) لَنَحْنُ (٤) الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) هذا قول جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره بأن الملائكة تصف في السماء للصلاة كما يصف المؤمنون من الناس في الصلاة ، وانهم من المسبحين لله الليل والنهار وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ما من موضع شبر في السماء إلا عليه ملك ساجد أو قائم وقوله تعالى (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) (٥) أي مشركو العرب (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل ، (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكنا عبادا لله تعالى نعبده ونوحده ولا نشرك به أحدا. فرد تعالى على قولهم هذا إذ هو مجرد تمن كاذب بقوله (فَكَفَرُوا بِهِ) أي فكفروا بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن الكريم. إذا فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم إن لم يتوبوا وهو هلاكهم وخسرانهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ من كتب الله عليه النار فسوف يصلاها.

٢ ـ تقرير عبودية الملائكة وطاعتهم لله وأنهم لا يتجاوزون ما حد الله تعالى لهم.

٣ ـ فضل الصفوف في الصلاة وفضل تسويتها.

٤ ـ بيان كذب المشركين إذ كانوا يدعون أنهم لو أنزل عليهم كتاب كما أنزل على من قبلهم لكانوا عباد الله المخلصين أي الذين يعبدونه ويخلصون له العبادة.

__________________

(١) جائز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي وجائز أن تكون مصدرية أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام ما تفتنون على الله عبدا من عباده بإضلاله وإفساده إلا عبدا قضى الله بعذابه فهو صال الجحيم ، وفي الآية رد على نفاة القدر ، ومن أحسن ما قيل شعرا قول لبيد بن ربيعة :

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثى والعجل

أحمد الله فلا ندّ له

بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

(٢) الأصل صالي الجحيم وحذفت الياء لعدم النطق بها لوجود همزة الوصل.

(٣) هذا من قول الملائكة. قال مقاتل هذه الآيات الثلاث نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهنا تفارقني؟ فقال ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم.

(٤) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم في المسجد فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقالوا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف.

(٥) (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) : إن مخففة من الثقيلة واللام للابتداء وهي الفارقة بين المخففة والنافية.

٤٣٢

٥ ـ تهديد الله تعالى للمشركين على كذبهم بقوله فسوف يعلمون.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

شرح الكلمات :

(سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) : هي قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي.

(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) : أي للكافرين بالحجة والنصرة.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : أي أعرض عنهم حتى تؤمر فيهم بالقتال.

(وَأَبْصِرْهُمْ) : أي أنظرهم.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) : أي العذاب.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي أعرض عنهم.

(سُبْحانَ رَبِّكَ) : أي تنزيها لربّك يا محمد.

(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي تنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد والشريك.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) : أي أمنة من الله لهم في الدنيا والآخرة.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي الثناء بالجميل خالص لله رب الثقلين الإنس والجن على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه.

معنى الآيات :

لما ختم السياق الأول بتهديد الكافرين بقوله تعالى (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أخبر تعالى

٤٣٣

رسوله بما يطمئنه على نصر الله تعالى له فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا (١) الْمُرْسَلِينَ) وهي قوله (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ).

أي بالحجة والبرهان ، وبالرمح (٢) والسنان. وقوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) يأمر رسوله أن يعرض عن المشركين من قومه حتى حين يأمره فيهم بأمر (٣) ، أو ينزل بهم بلاء أو بأسا وقوله (وَأَبْصِرْهُمْ) أي أنظرهم فسوف يبصرون لا محالة ما ينزل بهم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ، ينكر تعالى عليهم استعجالهم العذاب الدال على سفههم وخفة أحلامهم إذ ما يستعجل العذاب إلا أحمق جاهل وعذاب من استعجلوا إنه عذاب الله!! قال تعالى (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي بفناء دارهم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس صباحهم من صباح إنه صباح هلاكهم ودمارهم ثم أمر تعالى مرة أخرى رسوله أن يتول عنهم وينتظر ما يحل بهم فقال (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ (٤) فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) وفي الآية من التهديد والوعيد لهؤلاء المشركين ما لا يقادر قدره. وأخيرا نزه تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من الولد والشريك وسلّم على المرسلين ، وحمد نفسه مشيرا إلى مقتضى الحمد وموجبه وهو كونه رب العالمين فقال (سُبْحانَ (٥) رَبِّكَ) يا محمد (رَبِّ الْعِزَّةِ) ومالكها يعز بها من يشاء ويذل من يشاء (عَمَّا يَصِفُونَ) (٦) من الصاحبة والولد والشريك ، (وَسَلامٌ) منا (عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وأنت منهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على نصره أولياءه وإهلاكه أعداءه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ وعد الله تعالى لرسوله بالنصر وقد أنجزه ما وعده والحمد لله.

٣ ـ استحباب ختم الدعاء أو الكلام بقراءة جملة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ (٧) عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لورود ذلك في السنة.

__________________

(١) جائز أن يكون المراد قوله تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية.

(٢) قال الحسن : لم يقتل من أصحاب الشرائع أحد قط.

(٣) كإذن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهادهم ، وجائز أن يكون حتى يجيء أجلهم أو يأتي يوم بدر أو الفتح

(٤) كرر للتأكيد ، وكذا وتول عنهم مكرر للتأكيد.

(٥) سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (سبحان الله) فقال هو تنزيه الله عن كل سوء.

(٦) يصفون الله عزوجل بأن له صاحبة وله ولدا وشريكا.

(٧) ذكر القرطبي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يختم صلاته غير مرة بقول : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٣٤

سورة ص

مكية

وآياتها ثمان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

شرح الكلمات :

(ص) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب ص ويقرأ صاد الله أعلم بمراده به.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) : أي أقسم بالقرآن ذي الذكر إذ به يذكر الله تعالى ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون من أن النبي ساحر وشاعر وكاذب.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) : أي أهل مكة في عزة نفس وشقاق مع النبي والمؤمنين وعداوة

٤٣٥

فلذا قالوا في الرسول ما قالوا ، وإلا فهم يعلمون براءته مما قالوا فيه.

وكم أهلكنا قبلهم من قرن : أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهم.

(فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) : أي صرخوا واستغاثوا وليس الوقت وقت مهرب ولا نجاة.

(وَعَجِبُوا) : أي وما اعتبر بهم أهل مكة وعجبوا أن جاءهم منذر منهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا ساحر كذاب : أي لما يظهره من الخوارق ولما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) : أي لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ، فقالوا كيف يسع الخلائق إله واحد؟

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) : أي جعل الآلهة إلها واحدا أمر عجيب.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) : أي خرجوا من بيت أبي طالب حيث كانوا مجتمعين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعوا منه قوله لهم قولوا لا إله إلا الله.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) : أي إن هذا المذكور من التوحيد لأمر يراد منّا تنفيذه.

(فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : أي ملة عيسى عليه‌السلام.

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) : أي ما هذا إلا كذب مختلق.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) : أي كيف يكون ذلك وليس هو بأكبر منا ولا أشرف.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) : أي بل هم في شك من القرآن والوحي ولذا قالوا في الرسول ما قالوا.

(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) : أي بل لم يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوه لما كذبوا بل آمنوا ولا ينفعهم إيمان.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) : أي من النبوة وغيرها فيعطوا منها من شاءوا ويحرموا من شاءوا.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ليس لهم ذلك.

(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) : أي الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاءوا أو يمنعوا الوحي النازل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنىّ لهم ذلك.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ) : أي هم جند حقير في تكذيبهم لك مهزوم أمامك وفي بدر.

(مِنَ الْأَحْزابِ) : أي من الأمم الماضية التي تحزبت على رسلها وأهلكها الله تعالى.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ص (١) وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أمّا ص فإنه أحد حروف الهجاء ومذهب السلف فيه أن

__________________

(١) قرأ الجمهور (ص) بالسكون وقرأ الحسن وأبي بن كعب صاد بكسر الدال وبدون تنوين ، وتوجيهها أنها من صادى يصادي إذا عارض نحو (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرض والمصادات المعارضة ، والمعنى عارض القرآن بعملك وقابله به ، فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه أو اتله وتعرض لقراءته.

٤٣٦

يقال الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي يجب الإيمان به ويوكل أمر معناه إلى من أنزله ، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف قد أفادت فائدتين فليطلبهما من شاء من القراء الكرام من السور المفتتحة بمثل هذه الحروف نحو طس ، ألم. وأما قوله (وَالْقُرْآنِ) هو كتاب الله هذا المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ذِي الذِّكْرِ) (١) معناه التذكير إذ به يذكر الله تعالى والجملة قسم أقسم الله به فقال (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وجواب القسم محذوف تقديره (٢) ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون من أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وشاعر وكاذب (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي بل هم في عزة نفس وكبرياء وخلاف وعداوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فحملهم ذلك على أن يقولوا في الرسول ما قالوا ، وإلّا فهم يعلمون يقينا أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبعد الناس عن السحر والشعر والكذب والجنون. وقوله تعالى (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناها بتكذيبها لرسلها فلما جاءهم العذاب نادوا (٣) صارخين مستغيثين (وَلاتَ (٤) حِينَ مَناصٍ) أي وليست الساعة ساعة نجاة ولا هرب ، فلم لا يعتبر مشركو مكة بمثل هؤلاء. لم يعتبروا (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ينذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَقالَ الْكافِرُونَ) أي لم يعتبروا وعجبوا وقالوا فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ساحِرٌ كَذَّابٌ). (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) أي عجيب أي كيف يسع العباد إله واحد إن هذا لأمر يتعجب منه غاية العجب ، لأنهم قاسوا الغائب وهو الله تعالى على الشاهد وهو الإنسان الضعيف فوقعوا في أفحش خطأ وأقبحه.

وقوله تعالى (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) وهم يقولون لبعضهم بعضا امشوا واصبروا على آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي منا إمضاؤه وتنفيذه. قالوا هذا وما بعده من القول لما اجتمعوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزل عمه أبي طالب لمفاوضة الرسول في شأن دعوته فلما قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولوا لا إله إلا الله قاموا من المجلس وانطلقوا يمشون ويقولون ما أخبر تعالى به عنهم (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي على عبادتها فلا تتخلوا عنها (إِنَّ هذا) أي الدعوة إلى لا إله إلا الله لشيء

__________________

(١) في شرح هذه الكلمة عدة أوجه منها ذي الشرف أي من آمن به وعمل بما فيه كان شرفا له. في الدارين كما أنه شريف في نفسه لإعجازه ، وقيل ذي الذكر أي فيه ذكر ما يحتاج إليه وقيل الموعظة وقيل فيه أسماء الله وتمجيده.

(٢) وذكر لجواب القسم أمور منها ما في التفسير وهو أمثلها وقيل الجواب بل الذين كفروا وقيل الجواب إنه لمن عند الله تعالى أي القرآن المؤلف من حروف ص وغيره.

(٣) النداء رفع الصوت ومنه الحديث «ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا» القرن الأمة.

(٤) ولات هي لا النافية زيدت فيها التاء كما زيدت في ربت وثمت وهي مشبهة بليس وهي مختصة بنفي أسماء الزمان والمناص النجاء والغوث وهو مصدر ميمي من ناصه إذ فاته والمعنى فنادوا مبتهلين في حال ليس فيها وقت نجاة وغوث.

(٥) العجاب وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيرا لأن وزن فعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل طوال أو كرام.

٤٣٧

كبير يراد منا إمضاؤه وتنفيذه لصالح غيرنا. (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالتوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي الدين الأخير وهو ما جاء به عيسى بن مريم عليه‌السلام. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا الذي يدعو إليه محمد إلا كذب اختلقه لم ينزل عليه ولم يوح به إليه. وواصلوا كلامهم قائلين (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن (مِنْ بَيْنِنا) وليس هو بأكبرنا سنا ولا بأشرفنا نسبا. فكيف يكون هذا؟ وقوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي لم يكن بالقوم جهل بصدق محمد في قوله وسلامة عقله ، وإنما حملهم على ذلك هو شكهم في القرآن وما ينزل به من الحق ويدعو إليه من الهدى ، وهذا أولا وثانيا إنهم لما يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوا عذاب الله على تكذيبهم ما كذبوا ، وسوف يذوقونه ولكن لا ينفعهم يومئذ تصديق ولا إيمان. وقوله تعالى (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك يا رسولنا العزيز أي الغالب الوهاب أي الكثير العطاء من النبوة وغيرها وعندئذ لهم أن يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولكن فهل لهم من خزائن رحمة ربك شيء والجواب لا إذا فلم ينكرون هبة الله لمحمد بالنبوة والوحي والرسالة ... وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بل ألهم ملك السموات والأرض وما بينهما؟ إذا كان هذا لهم (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) سببا بعد سبب حتى ينتهوا إلى السماء السابعة ويمنعوا الوحي النازل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه سبحانه وتعالى. ومن أين لهم ذلك وهم الضعفاء الحقيرون إنهم كما قال تعالى فيهم (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ (١) مِنَ الْأَحْزابِ) أي جند حقير من جملة أحزاب الباطل والشر مهزوم هنالك ببدر ويوم الفتح بإذن الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لله تعالى أن يقسم بما يشاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربّه تعالى.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله.

٤ ـ تحدّي الرب تعالى للمشركين إظهارا لعجزهم ودعوته لهم إلى النزول إلى الحقّ وقبوله.

٥ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.

٦ ـ ذم كلمة الأحزاب ومدلولها إذ لا تأتي الأحزاب بخير.

__________________

(١) (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) (ما) مزيدة للتأكيد أي تأكيد حقارة جند إن قيل التنكير للتحقير وإن كان للتعظيم فهي لتوكيده وهنالك إشارة إلى مكان بعيد ، ومهزوم مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم وذهبت قوتهم وفي الخطاب تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى لا تحفل بهم ولا تغتم لشأنهم.

٤٣٨

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) : أي قبل هؤلاء المشركين من قريش.

(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) : أي صاحب أوتاد أربعة يشد إليها من أراد تعذيبه.

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي الغيضة وهم قوم شعيب.

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) : أي ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل ولم يصدقهم فيما دعوا إليه.

(فَحَقَّ عِقابِ) : أي وجبت عقوبتي عليهم.

(صَيْحَةً واحِدَةً) : هي نفخة اسرافيل في الصور نفخة.

(ما لَها مِنْ فَواقٍ) : أي ليس لها من فتور ولا انقطاع حتى تهلك كل شيء.

(عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) : أي صك أعمالنا لنرى ما اعددت لنا إذ القط الكتاب.

(ذَا الْأَيْدِ) : أي القوة والشدة في طاعة الله تعالى.

(إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي رجاع إلى الله في كل أموره.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) : أي بالمساء بعد العصر إلى الغروب والاشراق من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى.

٤٣٩

والطير محشورة له : أي والطيور مجموعة.

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) : أي وأعطينا داود الحكمة. وهي الإصابة في الامور والسداد فيها وفصل الخطاب. الفقه (١) في القضاء ومن ذلك البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

معنى الآيات :

السياق الكريم في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد المشركين علهم يتوبون إلى الله ويرجعون قال تعالى (كَذَّبَتْ) (٢) (قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) أي (٣) صاحب الأوتاد التي كان يشد إليها من أراد تعذيبه ويعذبه عليها كأعواد المشانق ، (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة وهي الشجر الملتف وهم قوم شعيب ، (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي الطوائف الكافرة الهالكة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل واحدة منها إلا كذبت الرسل (فَحَقَّ عِقابِ) أي وجب عقابي لهم فعاقبتهم ، (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) من قومك (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (٤) أي من فتور ولا انقطاع حتى يهلك كل شيء ولا يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام. وقوله تعالى (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا (٥) قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) قالوا هذا لما نزل (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الآيات من سورة الحاقة. قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاء ، ربنا عجل لنا قطنا أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما قالوا هذا استهزاء وعنادا أو مكابرة فلذا قال تعالى لرسوله (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (٦) أي القوة في دين (٧) الله (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع إلى الله تعالى

__________________

(١) صورة من فصل الخطاب الذي هو الفقه والبصيرة في القضاء روي أن ابن أبي ليلى جلد امرأة مجنونة قذفت رجلا فقالت له يابن الزانين جلدها وهي قائمة في المسجد فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال أخطأ ابن أبي ليلى من ستة وجوه وهي : ١ ـ المجنون لا حد عليه لأنه غير مكلّف. ٢ ـ إن كان القذف حقا لله تعالى فلا يقام على القاذف إلا حدا واحدا كما هو مذهب أبي حنيفة. ٣ ـ أقام الحد بدون مطالبة المقذوف به. ٤ ـ إنه والى بين الحدين والواجب أن يفرق بينهما. ٥ ـ أنه حدها قائمة والمرأة تحد جالسة مستورة. ٦ ـ انه أقام الحد في المسجد والإجماع أن الحدود لا تقام في المساجد.

(٢) مفعول كذبت محذوف سيدل عليه ما يأتي من قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) فالمفعول المحذوف هو الرسل والجملة بيان لسابقتها تحمل التسلية والعزاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) جائز أن يكون المراد بالأوتاد القوة والبطش أو الأهرام لأنها بناء راسخ في الأرض كالأوتاد جمع وتد بكسر التاء وهو عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به ظنب الخيمة أو حبالها قال الشاعر :

والبيت لا يبنى إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

(٤) الفواق اسم للزمن الذي بين الحلبتين والرضعتين إذ الحالب يحلب الناقة ثم يترك ولدها يرضعها حتى تدر اللبن ثم يبعده ويحلها مرة ثانية فالفواق هو ما بين الحلبتين والرضعتين.

(٥) القط : هو القسط من الشيء ويطلق كما هنا على قطعة الورق أو ما يكتب عليه العطاء لأحد ويسمى بالصك.

(٦) الأيد ليست جمع يد وإنما المراد بها القوة والشدة وهو مصدر آديئيد أيدا. إذا قوى واشتد ومنه التأييد الذي هو التقوية. قال تعالى (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ).

(٧) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله عزوجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أوابا «في الصحيحين».

٤٤٠