أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

اذكره لتتأسى به في صبره وقوته في الحق وقوله تعالى (إِنَّا سَخَّرْنَا) الآيات بيان لإنعام الله تعالى على داود لتعظم الرغبة في الاقتداء به ، والرغبة إلى الله تعالى فيما لديه من إفضالات (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١) أي إذا سبح داود في المساء من بعد العصر إلى الغروب وفي الاشراق وهو وقت الضحى سبحت الجبال معه أي رددت تسبيحه كرامة له (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا الطير محشورة أي مجموعة تردد التسبيح معه ، وقوله (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير أواب أي رجاع يسبح الله تعالى. وقوله (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملك داود بمنحنا إياه لك أسباب القوة المادية والروحية. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) وهي النبوة والإصابة في الأمور والسداد فيها قولا كانت أو فعلا. (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي حسن القضاء والبصيرة فيه ، والبيان الشافي في كلامه. فبه اقتده يا رسولنا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها.

٢ ـ تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب بأشد أنواع العقوبات.

٣ ـ بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه.

٤ ـ مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين.

٥ ـ بيان آية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه.

٦ ـ حسن (٢) صوت داود في قراءته وتسبيحه.

٧ ـ مشروعية صلاة الإشراق والضحى.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أمر بهذه الآية بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة (الضحى) وقال يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق. وروى البخاري عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي بثلاث خصال لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر.

(٢) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي موسى الأشعرى وقد سمعه يقرأ القرآن ويرتل بحسن صوت لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود.

والمزمار والمزمور الصوت الحسن وبه سميت آلة الزمر مزمارا.

٤٤١

وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ) : الاستفهام هنا للتعجب أي حمل المخاطب على التعجب.

(نَبَأُ الْخَصْمِ) : أي خبر الخصم الغريب في بابه العجيب في واقعه.

(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : أي محراب مسجده إذ منعوا من الدخول من الباب فقصدوا سوره ونزلوا من أعلى السور.

(بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) : أي تعدّى بعضنا على بعض.

(فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) : أي احكم بالعدل ولا تجر في حكمك.

(وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) : أي أرشدنا إلى العدل في قضيتنا هذه ولا تمل بنا إلى غير الحق.

(إِنَّ هذا أَخِي) : أي على ديني في الإسلام.

(فَقالَ أَكْفِلْنِيها) : أي اجعلني كافلها بمعنى تنازل لي عنها وملكنيها.

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) : أي غلبني في الكلام الجدلي فأخذها مني.

(لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) : أي بطلبه نعجتك وضمها إلى نعاجه.

(مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ) : أي الشركاء يظلم بعضهم بعضا.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) : أي أيقن داود أنما فتنه ربه أي اختبره.

(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) : أي طلب المغفرة من ربه بقوله استغفر الله وسقط ساجدا على الأرض وأناب أي رجع تائبا إلى ربه.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) : أي وحسن مرجع عندنا وهي الجنة والدرجات العلا فيها.

٤٤٢

معنى الآيات :

ما زال السياق في تسلية الرسول وحمله على الصبر على ما يعاني من كفار قريش من تطاول وأذى فقال له ربّه تعالى (هَلْ أَتاكَ) إلى آخر الآيات. وذلك أن داود (١) عليه‌السلام ذكر مرة في نفسه ما اكرم الله تعالى به ابراهيم واسحق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس ، فتمنى مثله فقيل له إنهم امتحنوا فصبروا فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا به ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر فاختبره الله تعالى بناء على رغبته فأرسل إليه ملكين (٢) في صورة رجلين فتسورا عليه المحراب كما يأتي تفصيله في الآيات وهو قوله تعالى (وَهَلْ أَتاكَ) يا رسولنا نبأ الخصم (٣) وهما ملكان في صورة رجلين ، ولفظ الخصم يطلق على الواحد والأكثر كالعدو فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي ، وهذا عدوي ، وهؤلاء عدوّ لي. وقوله (إِذْ تَسَوَّرُوا (٤) الْمِحْرابَ) أي طلعوا على سور المنزل الذي هو المحراب في عرف بني اسرائيل ولم يدخلوا من الباب لأن الحرس منعهم من ذلك ، لأن لداود وقتا ينقطع فيه للعبادة فلا يسمح بمقابلة أحد وقوله (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) وهو في محرابه (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي ارتاع واضطرب نفسا (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) أي نحن خصمان (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي اعتدى بعضنا على بعض جئنا نتحاكم إليك (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكم (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي إلى وسط (٥) الطريق فلا تمل بنا عن الحق. ثم عرضا عليه القضية فقال أحدهما وهو المظلوم عارضا مظلمته (إِنَّ هذا أَخِي) أي في الإسلام (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي ملكنيها أضمها إلى نعاجي ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي وغلبني في الكلام والجدال وأخذها مني. فقال داود على الفور وبدون أن يسمع من الخصم الثاني (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وعلل لذلك بقوله (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء في زرع أو ماشية أو تجارة (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم أهل الإيمان والتقوى فإنهم يسلمون من

__________________

(١) ذكر المفسرون هنا نقلا عن كتب بني اسرائيل عجائب وغرائب في قصة داود هذه من أبشعها أنه نظر من كوة المحراب فرأى امرأة تغتسل فأحبها وطلبها بأن أرسل زوجها إلى الجهاد ليموت قتيلا حتى يتزوج داود امرأته بعد موته أعرضنا عن هذه الأباطيل منزهين نبي الله عن هذه الأكاذيب الممجوجة التي لا يرتكبها أقل الناس إيمانا وشأنا كما نسبوا إلى يوسف ما نسبوا ، رواية عن اليهود وهم أكذب خلق الله تعالى بعد أن لعنوا بظلمهم.

(٢) لا خلاف بين المفسرين ان الخصمين كانا ملكين. انتهى.

(٣) شاهده قول الشاعر :

وخصم غضاب ينفضون لحاهم

كنفض البراذين العراب المخاليا

(٤) إذ طرف للزمان الماضي متعلق بمحذوف تقديره : تحاكم الخصم إذ تسوروا الخ.

(٥) سواء الصراط أي وسط الطريق وهذا كناية عن الحكم بالعدل وعدم الجور عن الحق أي الميل كمن يميل إلى جانب الطريق.

٤٤٣

مثل هذه الاعتداءات ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وهم قليل جدا ، وهنا طار الملكان من بين يدي داود وعرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنة ربّه كما رغب إليه وأنه لم يصبر حيث قضى بدون أن يسمع من الخصم الثاني فكانت زلة صغيرة أرته أن ما ناله إبراهيم واسحق ويعقوب من الكمال كان نتيجة ابتلاء عظيم ، وهنا استغفر داود ربّه (وَخَرَّ (١) راكِعاً) يبكي ويطلب العفو وأناب إلى ربّه في أمره كله ، وذكر تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لقربة عندنا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع وهو الدرجات العلا في دار الأبرار ، جعلنا الله تعالى من أهلها بفضله ورحمته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فائدة عرض مثل هذا القصص تقوية قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت فؤاده وحمله على الصبر.

٢ ـ تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذا القصص لا يتأتّى له قصه إلا بوحي إلهي.

٣ ـ تقرير جواز تشكل الملائكة في صورة (٢) بني آدم.

٤ ـ حرمة إصدار القاضي أو الحاكم الحكم قبل أن يسمع الدعوى من الخصمين معا إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه‌السلام.

٥ ـ وجوب التوبة عند الوقوع في الذنب

٦ ـ مشروعية السجود (٣) عند قراءة هذه الآية (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ

__________________

(١) أطلق الركوع وأريد به السجود وهو شائع كما في قول الشاعر :

فخر على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

(٢) وكثيرا ما كان جبريل يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية بن خليقة الكلبي.

(٣) في البخاري قال ابن عباس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست من عزائم القرآن وقد رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجود الشكر. ولما بشر بقتل أبي جهل قام فصلى ركعتين شكرا لله تعالى.

٤٤٤

عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) : أي خلفت من سبقك تدبر أمر الناس بإذننا.

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) : أي هوى النفس وهو ما تميل إليه مما تشتهيه.

(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الطريق الموصل إلى رضوانه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي يخطئون الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإيمان والتقوى.

(بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) : أي بنسيانهم يوم القيامة فلم يتقوا الله تعالى.

(باطِلاً) : أي عبثا لغير حكمة مقصودة من ذلك الخلق.

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ظنّ أن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثا لا لحكمة مقصودة منها ظن الذين كفروا.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) : أي من واد في النار بعيد غوره كريه ريحه لا يطاق.

(مُبارَكٌ) : أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه.

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي ليتعظ به أصحاب العقول الراجحة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر قصة داود للعظة والاعتبار وتثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (يا داوُدُ) (١) أي

__________________

(١) افتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعي المخاطب ليهتم بما سيقال له.

٤٤٥

وقلنا له أي بعد توبته وقبولها يا داود (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (١) خلفت من قبلك من الأنبياء تدبر أمر الناس (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي بالعدل الموافق لشرع الله ورضاه ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) وهو ما تهواه نفسك دون ما هو شرع الله ، (فَيُضِلَّكَ) (٢) أي اتباع الهوى يضلك عن سبيل الله المفضي بالعباد إلى الإسعاد والكمال وذلك أنّ الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الإلهية انتظمت بها مصالح العباد ونفعت العامة والخاصة أما إذا كانت على وفق الهوى وتحصيل مقاصد النفس للحاكم لا غير أفضت إلى تخريب العالم بوقوع الهرج والمرج بين الناس وفي ذلك هلاك الحاكم والمحكومين ، وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) القائم على الإيمان والتقوى وإقامة الشرع والعدل هؤلاء (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا والآخرة (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٣) أي بسبب نسيانهم ليوم القيامة فتركوا العمل له وهو الإيمان والتقوى التقوى التي هي فعل الأوامر الإلهية واجتناب النواهي في العقيدة والقول والعمل. ، وقوله تعالى في الآية (٢٧) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ينفي تعالى ما يظنه المشركون وهو أن خلق الكون لم يكن لحكمة اقتضت خلقه وإيجاده وهي أن يعبد الله تعالى بذكره وشكره المتمثل في الإيمان والتقوى. وقوله (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظن أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما لا لحكمة مقصودة وهي عبادة الله تعالى بما يشرع لعباده من العبادات القلبية والقولية والفعلية ظن الذين كفروا من كفار مكة وغيرهم. ثم توعدهم تعالى على كفرهم وظنهم الخاطىء الذي نتج عنه كفرهم وعصيانهم فقال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي ويل للذين كفروا من واد في جهنم بعيد الغور كريه الريح. وقوله تعالى في الآية (٢٨) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) هذا أولا ردّ لما زعمه المشركون من أنهم يعطون في الآخرة من النعيم مثل ما يعطى المؤمنون ، وثانيا ينفي تعالى أن يسوى بين من آمن به واتبع هداه فأطاعه في الأمر والنهي ، وبين من أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي كما نفى أن يجعل المتقين الذين آمنوا واتقوا فتركوا الشرك والمعاصي كالفجار الذين فجروا أي خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا فعاشوا كفارا فجارا وماتوا على ذلك. أي

__________________

(١) لا يقال يا خليفة الله إلا لرسوله أما من عدا الرسل فإن الخليفة منهم هو خليفة لمن قبله وليس خليفة لله تعالى والصحابة قالوا لأبي بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) الفاء هى السببية والمضارع بعدها منصوب وفي الآية تحريم اتباع هوى النفس المسبب الخروج عن دائرة العدل والحق. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الحكم بعلم الحاكم بل بالبينة والشهود وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترى فرسا فجحده البائع فلم يحكم عليه بعلمه وقال من يشهد لي؟ فقام خزيمة فشهد فحكم عليه.

(٣) سمي يوم القيامة يوم الحساب لما يجري فيه من حساب الناس بما كسبوا من خير وشر وسمي يوم الدين للمجازاة التي تتم بعد الحساب ، وسمي يوم الفصل للفصل بين الناس والحكم لهم فيما بينهم.

٤٤٦

فحاشا لله ربّ العالمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين أن يسوي بين أهل الإيمان والتقوى وبين أهل الشرك والمعاصي بل ينعم الأولين في دار النعيم ، ويعذب الآخرين في سواء الجحيم وقوله تعالى في الآية (٢٩) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا ليدبروا (١) آياته بمعنى يتأملوها ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا. وليذكّر أولوا (٢) الألباب أي وليتعظ بمواعظة وينزجر بزواجره أولو الألباب أي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبرا عرف الهدى ومن قرأه تقربا حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكما عدل في حكمه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الحكم بالعدل على كل من حكم ولا عدل في غير الشرع الإلهي.

٢ ـ حرمة اتباع الهوى لما يفضي بالعبد إلى الهلاك والخسار.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء.

٤ ـ إبطال ظن من يظن أن الحياة الدنيا خلقت عبثا وباطلا.

٥ ـ تنزيه الربّ تعالى عن العبث والظلم.

٦ ـ فضيلة العقول لمن استعملها في التدبر والتذكر.

٧ ـ بركة (٣) القرآن لا تفارقه ابدا وما طلبها أحد إلا وجدها.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

__________________

(١) ليدبروا أصلها ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما.

(٢) الألباب العقول والواحد لب ويجمع على ألبّ كما جمع بؤس على أبؤس قال أبو طالب قلبي إليه مشرف الألب ، والتذكر هو استحضار الذهن ما كان يعلمه كاستحضار ما هو منسي أيضا.

(٣) بركة القرآن تتجلى في صرفها النفس عن السوء ودفعها إلى الخير وذلك لمن يقرأ القرآن موقنا به متدبرا له فإن له في كل حرف عشر حسنات مع ما يفيضه على روحه من نور المعرفة وحب الآخرة.

٤٤٧

شرح الكلمات :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) : أي ومن جملة هباتنا لداود الأواب أن وهبنا له سليمان ابنه.

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي سليمان أي رجاع إلى ربّه بالتوبة والإنابة.

(الصَّافِناتُ الْجِيادُ) : أي الخيل الصافنات أي القائمة على ثلاث الجياد أي السوابق.

(حُبَّ الْخَيْرِ) : أي حب الخيل عن ذكر ربي وهي صلاة العصر لإنشغاله باستعراض الخيل للجهاد.

(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) : أي استترت الشمس في الأفق وتغطت عن أعين الناظرين.

(رُدُّوها عَلَيَ) : أي ردوا الخيل التي استعرضتها آنفا فشغلتني عن ذكر ربّي.

(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) : أي فأخذ يمسح بسوق تلك الخيل واعناقها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله على داود (١) حيث قال (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) فذكر تعالى أنه وهبه سليمان وأثنى على سليمان بأنه نعم العبد لله ، وعلل لتلك الأفضليّة بقوله (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢) أي كثير الأوبة إلى الله تعالى ، وهي الرجوع إلى الله بذكره واستغفاره عند الغفلة والنسيان العارض للعبد ، وأشار تعالى إلى ذلك بقوله (إِذْ عُرِضَ (٣) عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٤) أي الخيل القوية على السير التي إذا وقفت تأبى أن تقف على أربع كالحمير بل تقف على ثلاث وترفع الرابعة ، والجياد هي السريعة العدو ، وهذا العرض كان استعراضا منه لها إعدادا لغزو أراده فاستعرض خيله فانشغل بذلك عن صلاة العصر فلم يشعر إلا وقد غربت الشمس وهو معنى قوله تعالى

(حَتَّى تَوارَتْ) أي استترت الشمس (بِالْحِجابِ) أي بالأفق الذي حجبها عن أعين الناظرين. فندم لذلك وقال (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) وصلى العصر ، ثم عاد إلى إكمال الاستعراض فردها رجاله عليه فجعل يمسح بيده سوقها (٥) وأعناقها حتى أكمل استعراضها هذا وجه الأوبة التي وصف بها سليمان عليه‌السلام في قوله تعالى (إِنَّهُ أَوَّابٌ).

__________________

(١) جملة (نِعْمَ الْعَبْدُ) في محل نصب على الحال والمخصوص بالمدح محذوف أي سليمان.

(٢) الجملة تعليلية لما سبقها.

(٣) العارض هم سوّاس خيله. والعرض هو الإمرار والإحضار أمام الرائي والجياد جمع جواد وهو الفرس الشديد الحضر ، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها. والجواد يجمع على أجواد وأجاود.

(٤) (الصَّافِناتُ) صفة لموصوف محذوف وهو الخيل أو الأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم والواحدة صافنة.

(٥) ذكر كثير من المفسرين أن قوله فطفق مسحا بالسوق والأعناق أنه ذبحها وأطعمها الفقراء لأنها ألهته عن الصلاة وما في التفسير هو اختيار ابن جرير وهو الحق والصواب.

٤٤٨

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الولد الصالح هبة إلهيّة لوالده فليشكر الله تعالى من وهب ذلك.

٢ ـ الثناء على العبد بالتوبة الفوريّة التي تعقب الذنب مباشرة.

٣ ـ جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقدا لها لما قد يحدثه فيها.

٤ ـ اطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح «الخيل لثلاث .....».

٥ ـ ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) : أي ابتليناه.

(وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) : أي شق ولد ميت لا روح فيه.

(ثُمَّ أَنابَ) : أي رجع إلى ربه وتاب إليه من عدم استثنائه في يمينه.

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) : أي أعطني ملكا لا يكون لسواي من الناس.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) : أي استجبنا له فسخرنا له الريح تجري بأمره.

٤٤٩

(رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) : أي لينة حيث أراد.

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) : أي وسخرنا له الشياطين من الجن منهم البناء ومنهم الغواص في البحر.

(مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) : أي مشدودين في الأصفاد أيديهم إلى أعناقهم في السجون المظلمة وذلك إذا تمردوا وعصوا أمرا من أوامره.

(هذا عَطاؤُنا) : أي وقلنا له هذا عطاؤنا.

(فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) : أي أعط من شئت وما شئت وامنع كذلك.

(بِغَيْرِ حِسابٍ) : أي منّا لك.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) : أي وإن لسليمان عندنا لقربة يوم القيامة.

(وَحُسْنَ مَآبٍ) : أي مرجع في الجنة في الدرجات العلا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إنعام الله على آل داود فقد أخبر تعالى هنا عما منّ به على سليمان فأخبر تعالى انه ابتلاه كما ابتلى أباه داود وتاب سليمان كما تاب داود ولم يسقط ذلك من علو منزلتهما وشرف مقامهما قال تعالى في الآية (٣٤) (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) (١) أي ابتليناه ، وذلك انه كما اخبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح أنه قال لأطأن الليلة مائة (٢) جارية تلد كل جارية ولدا يصبح فارسا يقاتل في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله أي لم يستثن ووطىء نساءه في تلك الليلة فعوقب لعدم استثنائه فلم يلدن إلا واحدة جاءت بولد مشلول بالشلل النصفي فلما وضعته أمه أتوا به إلى سليمان ووضعوه على كرسيه. وهو قوله تعالى (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) سليمان إلى ربه فاستغفر وتاب فتاب الله عليه وقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي (٣) لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي لا يكون مثله لسواي من الناس وتوسل إلى الله في قبول دعائه بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ

__________________

(١) ذكر المفسرون لهذه الفتنة عدة أمور وهي قصص أشبه بالخرافات الاسرائيلية أمثلها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم ثم قضى بينهما بالحق فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى وما في التفسير أصح وأقرب إلى تفسير الآيات.

(٢) نص الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون.

(٣) روى البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن عفريت من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع على صلاتي فحماني الله تبارك وتعالى منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه‌السلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فرددته خاسئا.

٤٥٠

الْوَهَّابُ) فاستجاب الله تعالى له فسخر له الريح تجري بأمره حيث يريد لأنها تحمل بساطه أو سفينته الهوائية التي غدوها شهر ورواحها رخاء أي ليّنة حيث أصاب أي أراد ، كما سخر له شياطين الجن منهم البناء الذي يقوم بالبناء للدور والمصانع ومنهم الغواص في أعماق البحر لاستخراج اللآلي ، ومنهم من إذا عصاه وتمرد عليه جمع يديه إلى عنقه بصفد ووضعه تحت الأرض. هذا ما جاء في قول الله تعالى (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (١) وقوله تعالى (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي اعطيناه ما طلب منا وقلنا له هذا اعطاؤنا لك فامنن أي أعط ما شئت لمن شئت وامنع ما شئت عمن شئت بغير حساب منا عليك. وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع وهو قوله تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قول بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إذ عدم الاستثناء في قوله لأطأن الليلة مائة جارية الحديث عوقب به فلم تلد امرأة من المائة إلا واحدة وولدت طفلا مشلولا ، وعوقب به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانقطع عنه الوحي نصف شهر وأكربه ذلك لأنه لم يستثن عند ما سئل عن ثلاث مسائل وقال غدا أجيبكم.

٢ ـ مشروعية التوبة من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا.

٣ ـ مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى.

٤ ـ بيان إنعام الله تعالى على عبده سليمان.

٥ ـ بيان تسخير الله تعالى لسليمان الريح والجن وهذا لم يكن لأحد غيره من الناس.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

__________________

(١) (الْأَصْفادِ) جمع صفد بفتح الصاد والفاء القيد من حديد.

٤٥١

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) : أي اذكر يا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبدنا أيوب بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم.

(بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) : أي بضرّ وألم شديد نسب هذا للشيطان لكونه سببا وتأدّبا مع الله تعالى.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) : أي اضرب برجلك الأرض تنبع عين ماء.

(هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) : أي وقلنا له هذا ماء بارد تغتسل منه ، وتشرب فتشفى.

(ضِغْثاً) : أي حزمة من حشيش يابس.

(وَلا تَحْنَثْ) : بترك ضربها.

(نِعْمَ الْعَبْدُ) : أي أيوب عليه‌السلام.

(إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أي رجاع إلى الله تعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر قصص الأنبياء ليثبت به فؤاد نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى له (وَاذْكُرْ عَبْدَنا (١) أَيُّوبَ) وهو أيوب بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهم‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعاه قائلا (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٢) أي ألم شديد ، وذلك بعد مرض شديد دام مدة تزيد على كذا سنة ، وقال في ضراعة أخرى ذكرت في سورة الأنبياء (رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) قال تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وقوله (ارْكُضْ (٣) بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي لما أراد الله كشف الضر عنه قال له اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض ينبع منها ماء فاشرب (٤) منه واغتسل تشف ففعل فشفي كأن لم

__________________

(١) قال القرطبي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره.

(٢) قرأ الجمهور بنصب بضم النون وتسكين الصاد وقرىء بنصب بفتحها كحزن وحزن فالنصب الشر والبلاء الشديد والنصب بالتحريك التعب والإعياء.

(٣) الباء في بنصب سببية أي مسني نصب وعذاب بسبب وسوسة الشيطان لي فنسب النصب والعذاب إلى الشيطان لأنهما كانا بسبب وسواسه.

(٤) الركض التحريك يقال ركب الدابة إذا حركها برجليه فركضت أي تحركت بسرعة وجملة اركض مقولة لقول محذوف أي قلنا له أركض برجلك.

(٥) أي ماء فيه شفاء ومغتسل اسم مفعول أي مغتسل به هو من باب الحذف والايصال مثل تمرون الديار ولا تعرجوا : فكلامكم إذا عليّ حرام. أي تمرون بالديار فحذف الباء.

٤٥٢

يكن به ضرّ البتة. وقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ (١) أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي عوضه الله تعالى عما فقد من أهل وولد ، وقوله (رَحْمَةً مِنَّا) أي كان ذلك التعويض لأيوب (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي عبرة لأولي القلوب الحيّة الواعية يعلمون بها أن الله قد يبتلي أحب عباده إليه ليرفعه بذلك درجات عالية ما كان ليصل إليها دون الابتلاء في ذات الله والصبر عليه. وقوله (وَخُذْ بِيَدِكَ (٢) ضِغْثاً) أي قلنا له خذ بيدك ضغثا أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من أيام حياتهما ، فأفتاه ربّه تعالى بما ذكر في هذه الآية. وقوله تعالى (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) (٣) أي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابرا ، وبذلك أثنى عليه بقوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجاع إلى ربّه في كل امره لا يعرف إلا الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بالوحي الإلهي.

٢ ـ قد يبتلي الله تعالى من يحبه من عباده ليزيد في علوّ مقامه ورفعة شأنه.

٣ ـ فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.

٤ ـ مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم.

٥ ـ وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ

__________________

(١) لم تشر الآيات إلى أن أيوب رزىء بموت أهله ولا بفقد ماله وسياق الآيات لا يدل على أن أيوب مات أهله من بنين وأحفاد وما يذكر هنا من كونه فقد أهله بموتهم ثم أحياهم الله تعالى له هو من أحاديث بني اسرائيل ، والظاهر أن الله تعالى حفظ لأيوب أهله ووهبه مثلهم أي أعطاه أهله وزاده ضعفهم ولو أراد ما تقوله الناس لقال وأحيينا له أهله ووهبنا له مثلهم والله أعلم.

(٢) هذه الفتيا مما خص الله تعالى بها عبده أيوب فلا تتعداه إلى غيره والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفّرت عن يمني وفعلت الذي هو خير وما روى أبو داود من أن رجلا مريضا وجب عليه حد فأفتاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضربه بعثكول نخل به مائة عود فضربوه به ضربة واحدة فإن الخبر إن صح فالعلة هي مرضه الشديد وعلته القائمة به.

(٣) الجملة تعليلية لما تقدم من إنعام الله تعالى على أيوب أي وهبه الله ذلك الانعام لصبره على ما ابتلاه به وكذا جملة إنه أواب.

٤٥٣

إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا) : أي اذكر صبرهم على ما أصابهم فإن لك فيهم أسوة.

(أُولِي الْأَيْدِي) : أي أصحاب القوى في العبادة.

(وَالْأَبْصارِ) : أي البصائر في الدين بمعرفة الأسرار والحكم.

(بِخالِصَةٍ) : أي هي ذكر الدار الآخرة والعمل لها.

(لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) : أي من المختارين الأخيار جمع خيّر.

(هذا ذِكْرٌ) : أي لهم بالثناء الحسن الجميل هنا في الدنيا.

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي هم وغيرهم من سائر المؤمنين والمؤمنات.

(لَحُسْنَ مَآبٍ) : أي مرجع أي عند ما يرجعون إلى ربهم بالوفاة.

(مُتَّكِئِينَ فِيها) : أي على الأرائك.

(يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ) : أي يطالبون فيها بفاكهة وذكر الفاكهة دون الطعام والشراب إيذانا بأن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ لا للتغذية كما في الدنيا.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي حابسات العيون على الأزواج فلا ينظرن إلى غيرهم.

(أَتْرابٌ) : أي أسنانهن متساوية وهي ثلاث وثلاثون سنة.

(ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) : أي ليس له انقطاع أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر الأنبياء وما أكرموا به على صبرهم ليكون ذلك مثبتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعوته والصبر عليها والتحمل في سبيل الوصول بها إلى غاياتها فقال تعالى له (وَاذْكُرْ) أي يا نبيّنا

٤٥٤

(عِبادَنا) لتتأسى بهم وهم (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) (١) وولده (يَعْقُوبَ) حفيده (أُولِي) أي أصحاب (الْأَيْدِي) (٢) أي القوى في العبادة والطاعة (وَالْأَبْصارِ) أي أبصار القلوب وذلك بالفقه في الدين ومعرفة أسرار التشريع ، وقوله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي خصصناهم (بِخالِصَةٍ) (٣) أي بخاصة امتازوا بها هي ذكر الدار أي ذكر الدار الآخرة بالعمل لها والدعوة إليها بالإيمان والتقوى ، وقوله (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي المختارين (الْأَخْيارِ) جمع خيّر (٤) وهو المطبوع على الخير وقوله (وَاذْكُرْ) أي يا نبيّنا للائتساء (إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) وقوله (وَكُلٌ) أي من داود ومن ذكر بعده من الأنبياء كانوا من الأخيار ، وقوله (هذا ذِكْرٌ) أي لهم بالثناء الحسن لهم في الدنيا ، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (٥) هم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات (لَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع وهو الجنة حيث يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت ، وفسر ذلك المرجع بقوله تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة (مُفَتَّحَةً (٦) لَهُمُ الْأَبْوابُ) (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي على الأرائك الأسرة بالحجلة ، (يَدْعُونَ فِيها) أي يطالبون فيها (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) ولم يذكر الطعام إشارة إلى أن مآكلهم ومشاربهم لمجرد التلذذ لا للتغذي بها كما في الدنيا ، وقوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يخبر تعالى أن لأولئك المتقين في الجنة قاصرات الطرف أي نساء قاصرات الطرف أي حابسات له على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم من الأزواج وقوله (أَتْرابٌ) أي في سن واحدة وهي ثلاث وثلاثون سنة. وقوله تعالى (هذا ما تُوعَدُونَ) أي يقال لهم هذا ما توعدون (لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا المذكور من النعيم هو ما يعدكم به ربكم يوم القيامة. وقوله (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي ليس له انقطاع ولا فناء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين وفي الحديث (٧) «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير».

٢ ـ فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائما لأنها تساعد (٨) على الطاعة.

__________________

(١) أما إبراهيم فقد ذكر الله تعالى ما ابتلاه به من إلقائه في النار وكذا يعقوب من فقده ليوسف عليهم‌السلام وأما اسحاق فلم يذكر له في القرآن ابتلاء ولعله ذكر بين مبتلين وهما أصله وفرعه فكان ذلك ابتلاء له أيضا.

(٢) جمع يد والمراد بها القوة لا الجارحة نحو والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون.

(٣) قرأ نافع بخالصة ذكر الدار بإضافة خالصة إلى الدار وقرأ حفص بتنوين (بِخالِصَةٍ) فتكون ذكر الدار عطف بيان على خالصة.

(٤) جائز أن يكون الأخيار جمع خير بإسكان الياء وجمع خير بتشديدها مكسورة نحو أموات جمع ميت وميت.

(٥) اللام للاختصاص ليست للملك ولا للتعليل بل للاختصاص إذ هي مختصة بالمتقين دون غيرهم.

(٦) مفتحة منصوب على الحال والأبواب مرفوع بمفتحة لأنه نائب فاعل.

(٧) أخرجه مسلم في صحيحه.

(٨) شاهده حديث كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة «حديث صحيح».

٤٥٥

٣ ـ فضل التقوى وأهلها وبيان ما أعد لهم يوم الحساب.

٤ ـ نعيم الآخرة لا ينفد كأهلها لا يموتون ولا يهرمون.

٥ ـ فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم وهم اولوا القوة في العبادة والبصيرة في الدين.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

شرح الكلمات :

(هذا) : أي المذكور للمتقين.

(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) : أي الذين طغوا في الكفر والشر والفساد.

(لَشَرَّ مَآبٍ) : أي جهنم يصلونها.

(فَبِئْسَ الْمِهادُ) : أي الفراش الذي مهدوه لأنفسهم في الدنيا بالشرك والمعاصي.

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) : أي العذاب المفهوم مما بعده فليذوقوه.

(حَمِيمٌ) : أي ماء حار محرق.

(وَغَسَّاقٌ) : أي قيح وصديد يسيل من لحوم وفروج الزناة في النار.

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) : أي وعذاب آخر كالحميم والغساق أصناف.

٤٥٦

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) : أي يقال لهم عند دخولهم النار هذا فوج مقتحم معكم.

(لا مَرْحَباً بِهِمْ) : أي لا سعة عليهم ولا راحة لهم إنهم صالو النار.

(قالُوا) أي الاتباع للطاغين : بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) : أي الأتباع أي من كان سببا في عذابنا هذا في جهنم فزده عذابا.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً) : أي قال الطاغون وهم في النار مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) : أي كنا نسخر منهم في الدنيا.

(أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) : أي امفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ فلم نرهم.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) : أي إن ذلك المذكور لأهل النار لحق ثابت وهو تخاصم أهل النار.

معنى الآيات :

بعد ذكر نعيم أهل الإيمان والتقوى ناسب ذكر شقاء أهل الكفر والفجور وهو اسلوب الترهيب والترغيب الذي امتاز به القرآن الكريم في هداية العباد. فقال تعالى (هذا) (١) أي ما تقدم ذكره من نعيم أهل السعادة (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) وهم المشركون الظلمة كأبي جهل وعتبة بن معيط والعاص بن وائل (لَشَرَّ مَآبٍ) أي لأسوأ مرجع وأقبحه وهو (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ (٢) الْمِهادُ) هي يمهدها الظالمون لأنفسهم. وقوله تعالى (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم وغساق (٣) فليذوقوه والحميم الماء الحار المحرق والغساق ما سال من جلود ولحوم وفروج الزناة من أهل النار كالقيح والصديد وقوله (وَآخَرُ مِنْ (٤) شَكْلِهِ) أي وعذاب آخر من شكل الأول (أَزْواجٌ) أي أصناف عديدة وقوله تعالى (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي يقال (٥) عند دخولهم النار هذا فوج أي فريق مقتحم معكم النار ، فيقول الطاغون (لا مَرْحَباً (٦) بِهِمْ) أي لا سعة ولا راحة لهم (إِنَّهُمْ صالُوا

__________________

(١) هذا مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تثنية للغرض الذي قبله شبيهة بكلمة وبعد.

(٢) الفاء في فبئس المهاد للترتيب والسبب.

(٣) الغساق سائل في جهنم يقال غسق الجرح إذا سال منه ماء أصفر. قرأ الجمهور «غساق بالتخفيف وقرأه حفص وبعض بالتشديد فهما لغتان فيه والتشديد للمبالغة فى غاسق وهو أقرب.

(٤) وآخر صفة لموصوف محذوف أي وعذاب آخر من شكله أي من مثله أزواج أي أصناف متعددة.

(٥) يبدو أن القائل هم الزبانية يخاطبون الطغاة وهم يعذبونهم هذا فوج.

(٦) لا مرحبا نفي للكلمة التي يقولها المزور لمن زاره وهي انشاء دعاء للوافد. وهي مصدر بوزن مفعل ، والعامل فيه محذوف تقديره أتيت رحبا أي مكانا ذا رحب ، فإذا أرادوا نفيه قالوا لا مرحبا بكم. قال الشاعر :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إذا كان تفريق الأحبة في غد

٤٥٧

النَّارِ) أي داخلوها محترقون بحرها ولهبها ، فيرد الأتباع عليهم قائلين (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً (١) بِكُمْ) أي لا سعة ولا راحة (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) إذ كنتم تأمروننا بالشرك والكفر والفجور قال تعالى (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي الذي انتهى إليه الطاغون وأتباعهم في النار ، وقالوا أيضا ما اخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي العذاب (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي يا ربنا ضاعف لهم العذاب مرتين لأنهم هم الذين قدموه لنا يوم كانوا يدعوننا إلى الشرك والباطل ويحضوننا عليه. وقوله تعالى (وَقالُوا) أي الطغاة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) (٢) بيننا (أَتَّخَذْناهُمْ) (٣) في الدنيا (سِخْرِيًّا) (٤) نسخر منهم يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمّار وصهيب وخبيب ، أمفقودون هم (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ) أبصارنا فلم نرهم ، قال تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن ذلك الكلام الذي دار بين أهل النار حق وصدق هو تخاصم أهل النار فاسمعوه أيها المشركون اليوم آيات تتلى وغدا يوم الحساب حقائق تشاهدوه وغصص تتجرع وحسرات تمزق الأكباد والقلوب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر وبيان جزاء أهله يوم القيامة.

٢ ـ بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار.

٣ ـ شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم.

٤ ـ تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم.

__________________

(١) (بَلْ) للاضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم ، وأنهم هم أولى به منه ، والباء في بهم للبيان فهي بمعنى اللام أي لا مرحبا لهم يستحقونه عندنا.

(٢) جمع شر بمعنى أشر كالأخيار جمع خير بمعنى أخير.

(٣) قرأ نافع وحفص والجمهور (أَتَّخَذْناهُمْ) بهمزة الاستفهام وحذفت همزة الوصل والجملة بدل من جملة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً.). (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، و (أَمْ) بمعنى بل أي بل زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وزاغت بمعنى مالت.

(٤) قرأ نافع سخريا بضم السين وقرأ حفص بكسرها كما في سورة المؤمنون والسخرة الاستهزاء.

٤٥٨

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ) : أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفا من عذاب الله.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار.

(الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) : أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتائبين من عباده.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) : أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم.

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) : لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه.

(بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) : أي بالملائكة عند ما شووروا في خلق آدم.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) : أي اذكر لهم تدليلا على انه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة.

(خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) : أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدوّ بشرته.

(مِنْ رُوحِي) : الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك.

(إِلَّا إِبْلِيسَ) : أي لم يسجد.

(اسْتَكْبَرَ) : عن السجود لآدم كبرا وحسدا له.

٤٥٩

معنى الآيات :

بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) (١) أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقاه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه ، كما أخبركم مقررا انه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك. العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي (٢) القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإيمان به والاهتداء بهديه. بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية. كيف يكون ما اتلوه عليكم من القرآن افتراء منّي عليكم وعلى الله ربي وربكم. وانه (ما كانَ لِي (٣) مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤) عند ما قال الله للملائكة (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) وقال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقال الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحيا من الله أوحاه إليّ. يا قوم إنه ما يوحى إليّ إلا انما أنا نذير مبين أي

__________________

(١) في هذه الآيات الثلاث الترهيب والترغيب ببيان قدرة الله وجبروته وبيان ربوبيته الموجبة للألوهية المستلزمة لمغفرته ورحمته لمن تاب إليه بتوحيده وطاعته بعد الإيمان به وبرسوله ولقائه.

(٢) كون النّبأ هو القرآن هذا ما ذهب إليه ابن جرير رحمه‌الله تعالى ، ومن فسره بما سبق ذكره من الانذار وما عرض من أحوال أهل الجنة وأهل النار فإن ما في التفسير شامل لكل ذلك وهاد إليه ودال عليه والحمد لله.

(٣) قوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ) الخ استئناف لأجل الاستدلال على صدق القرآن بأنه وحي من الله تعالى ولو لا أنه وحي لما كان للرسول علم به لا إجمالا ولا تفصيلا ولهذا الاستدلال نظائر نحو (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا).

(٤) قال بعض المفسرين تخاصم الملأ الأعلى هو اشراف قريش فيما بينهم سرا وقال آخرون هو تخاصم أهل النار وقيل والصواب ما في التفسير وهو أن الملأ الأعلى الملائكة وما جرى بينهم في شأن السجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك وفي الآية بعد تفسير هذا الاختصام وأما حديث السنن فلم يرد به ما في هذه الآيات ونصه «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عزوجل في أحسن صورة فقال يا محمد ا تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثا ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات. قال وما الكفارات؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات قال وما الدرجات؟ قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام. قال سل قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك هذا «حديث المنام».

٤٦٠