أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

شرح الكلمات :

(وَيَقُولُونَ) : أي المنافقون.

(آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) : أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) : أي يعرض.

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) : أي عن المجىء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مُذْعِنِينَ) : أي مسرعين منقادين مطيعين.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي كفر ونفاق وشرك.

(أَمِ ارْتابُوا) : أي بل شكوا في نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) : أي في الحكم فيظلموا فيه.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) : هو قولهم سمعنا وأطعنا أي سمعا وطاعة.

(الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.

معنى الآيات :

بعد عرض تلك المظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان بالله ورسوله ، وما عند الله من نعيم مقيم ، وما لديه من عذاب مهين فاهتدى عليها من شاء الله هدايته وأعرض عنها من كتب الله شقاوته من المنافقين الذين أخبر تعالى عنهم بقوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) أي صدقنا بالله ربّا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا ، وأطعناهما (١) (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة يقولون معرضين بقلوبهم عن الإيمان بالله وآياته ورسوله ، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فأكذبهم الله في دعوة إيمانهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٧) وقوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ (٢) لِيَحْكُمَ (٣) بَيْنَهُمْ) أي في قضية من قضايا دنياهم ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فاجأك فريق منهم بالإعراض عن التحاكم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي وإن يكن لهم في الخصومة التي بينهم وبين غيرهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى رسول الله (مُذْعِنِينَ) أي منقادين طائعين أي لعلمهم أن الرسول يقضي بينهم بالحق وسوف يأخذون حقهم وافيا وقوله تعالى : (أَفِي

__________________

(١) قولهم ، هذا قول باطل إنهم ما آمنوا ولا أطاعوا وإنما هو قول المنافقين والله شهد إنهم لكاذبون.

(٢) قيل : إنّ هذه الآية نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي كانت بينهما أرض فقال اليهودي : هيا نتحاكم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال بشر المنافق لا إن محمدا يحيف علينا فلنحتكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فنزلت.

(٣) لم يقل ليحكما لأن الذي يحكم بينهما هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما قدم اسم الله تعظيما ولأن مادة الحكم من الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبيّن ومنفّذ لا غير.

٥٨١

قُلُوبِهِمْ (١) مَرَضٌ) أي بل في قلوبهم مرض الكفر والنفاق. (أَمِ ارْتابُوا) أي بل ارتابوا أي شكوا في نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) لا ، لا ، (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، ولما كانوا ظالمين يخافون حكم الله ورسوله فيهم لأنه عادل فيأخذ منهم ما ليس لهم ويعطيه لمن هو لهم من خصومهم وقوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الصادقين في إيمانهم (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي لم يكن للمؤمنين الصادقين من قول يقولونه إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم إلا قولهم : سمعنا وأطعنا فيجيبون الدعوة ويسلمون بالحق قال تعالى في الثناء عليهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الناجحون في دنياهم وآخرتهم دون غيرهم من أهل النفاق. وقوله تعالى : في الآية الكريمة الأخيرة (٥٢) (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٢) أي فيما يأمران به وينهيان عنه ، (وَيَخْشَ اللهَ) أي يخافه في السر والعلن ، (وَيَتَّقْهِ) أي يتق مخالفته فلا يقصر في واجب ولا يغشى محرما ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) فقصر الفوز عليهم أي هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة المنعمون في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم إنك ربنا وربهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة.

٢ ـ من دعي إلى الكتاب والسنة فأعرض فهو منافق معلوم النفاق.

٣ ـ اتخاذ قوانين وضعية للتحاكم إليها دون كتاب الله وسنة رسوله آية الكفر والنفاق.

٤ ـ فضل طاعة الله ورسوله وتقوى الله عزوجل وأن أهلها هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنان.

__________________

(١) الاستفهام للتوبيخ والذم وهو أبلغ في التوبيخ وأشد في الذم من مجرّد الإخبار كما في المدح أيضا أبلغ وأشد فيه ، وشاهده قول جرير في المدح :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

(٢) حكي أنّ رجلا من دهاقين الروم أسلم فقيل له هل لإسلامك سبب؟ قال : نعم إني قد قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما كتب في الكتب المتقدمة فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. وقيل له ما هي؟ قال : قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) في الفرائض (وَرَسُولَهُ) في السنن (وَيَخْشَ اللهَ) فيما مضى من عمره (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(أوتيت جوامع الكلم).

٥٨٢

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

شرح الكلمات :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي حلفوا بالله بالغين غاية الجهد في حلفهم.

(لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) : أي بالخروج إلى الجهاد.

(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) : أي طاعة معروفة للنبي فيما يأمركم وينهاكم خير من إقسامكم بالله.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي فإن تتولوا أي تعرضوا عن الطاعة.

(عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) : أي من ابلاغ الرسالة وبيانها بالقول والعمل.

(وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) : أي من وجوب قبول الشرع والعمل به عقيدة وعبادة وحكما.

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) : أي وإن تطيعوا الرسول في أمره ونهيه وإرشاده تهتدوا إلى خيركم.

(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) : أي يجعلهم خلفاء لغيرهم فيها بأن يديل لهم من أهلها فيسودون فيها ويحكمون.

٥٨٣

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) : أي بأن يظهر الإسلام على سائر الأديان ويحفظه من الزوال.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر أحوال المنافقين فأخبر تعالى عنهم بقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ (١) جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أقسموا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبالغين في ذلك حتى بلغوا غاية الجهد قائلين لئن أمرتنا بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم : (لا تُقْسِمُوا) (٢) أي ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده ، وإنما هي طاعة منكم معروفة لنا تغنيكم عن الأيمان وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ (٣) بِما تَعْمَلُونَ) تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في كل ما يأمران به وينهيان عنه ، (فَإِنْ (٤) تَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن الطاعة وترفضوها ، فإنما على الرسول ما حمل من البلاغ والبيان ، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة ، ومن أخل بواجبه الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافيا عند ربه وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن أن يحلف بالله ولا يحنث على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبدا ولن يشقى فالهداية إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس على الرسول هداية القلوب ، وإنما عليه البلاغ المبين لا غير فلا تلحق الرسول تبعة من عصى فضلّ وهلك.

وقوله تعالى في الآية (٥٥) (وَعَدَ (٥) اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي صدقوا الله والرسول (وعملوا الصالحات) فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض أي يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها سائدين سكانها استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من بني إسرائيل حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس وورثها بني إسرائيل وقول : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام

__________________

(١) (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : طاقة ما قدروا أن يحلفوا. والجهد : بفتح الهاء : منتهى الطاقة وهو : منصوب إمّا على الحال من أقسموا. أو على المفعول المطلق أي : جهدوا أيمانهم جهدا.

(٢) هنا تم الكلام ، ثم استئنف على تقدير : طاعة معروفة أولى من أيمانكم هذه المبالغين فيها.

(٣) جملة تذيلية تحمل التهديد لهم إذ هم كاذبون في أيمانهم وغير صادقين في أقوالهم وأعمالهم.

(٤) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أصله : تتولوا حذفت التاء الأولى تخفيفا. وهو حذف شائع وسائغ.

(٥) قال مالك : هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقيل : هذه الآية تضمنت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وهو كذلك وصدق ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) وفي الآية دليل نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة دينه ، إذ تضمنت الآية إخبارا بالغيب فكان كما أخبر تعالى به.

٥٨٤

فيظهره على الدين كله ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة وقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ (١) مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة لا يقدر أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين وتألب الأحزاب عليهم ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم فاستخلفهم وأمكن لهم وبدلهم بعد خوفهم أمنا فلله الحمد والمنة.

وقوله : (يَعْبُدُونَنِي (٢) لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) هذا ثناء عليهم ، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم يعبدونه لا يشركون به شيئا وقد فعلوا وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئا اللهم اجعلنا منهم. وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ (٣) هُمُ الْفاسِقُونَ) وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء الجزيل فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله الخارجون عن طاعته المستوجبون لعذاب الله ونقمته. عياذا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الإقسام بالله تعالى وحرمة الحلف بغيره تعالى.

٢ ـ عدم الثقة في المنافقين لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل وهو الإيمان.

٣ ـ طاعة رسول الله موجبة للهداية لما فيه من سعادة الدارين ومعصيته موجبة للضلال والخسران.

٤ ـ صدق وعد الله تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ وجوب الشكر على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات.

٦ ـ الوعيد الشديد لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء وسيادة وكرامة فكفر تلك النعم ولم يشكرها فعّرضها للزوال.

__________________

(١) فإن قيل : وأين الأمن وقد قتل عمر وعثمان وعلي غيلة؟ فالجواب : ليس الأمن مانعا من الموت فالموت حتم مع الأمن ومع الخوف لأنها آجال محدودة لا تزيد ولا تنقص :

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

وأخرج مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).

(٢) الجملة يصح أن تكون حالا أي : في حال عبادتهم الله تعالى بالإخلاص والعلم. وجائز أن تكون مستأنفة تحمل الثناء عليهم بعبادة ربهم تعالى وحده.

(٣) المراد بالكفر : كفران النعم ، وقد حصل هذا بعد القرون المفضلة حيث فسدت العقائد وتمزقت الروابط ، وأهمل الدين ، وسلب الله ما أعطى ، وفي هذا دليل آخر على صحة القرآن والنبوة والإسلام إذ هذه أخبار غيب تمت كما أعلنت.

٥٨٥

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

شرح الكلمات :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي أدوها أداءا كاملا تاما مراعين فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها حتى تثمر الزكاة والطهر في نفوسكم.

(وَآتُوا الزَّكاةَ) : أي المفروضة من المال الصامت كالذهب والفضة والحرث والناطق كالأنعام من إبل وبقر وغنم.

(وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) : أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمره ونهيه والأخذ بإرشاده وتوجيهه.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) : أي رجاء أن يرحمكم ربكم في دنياكم وآخرتكم فلا يعذبكم فيهما (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي معجزين الله تعالى بحيث لا يدركهم ولا ينزل بهم نقمته وعذابه.

(وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : أي النار إذ هي المأوى الذي يأوون إليه ويصيرون إليه.

معنى الايتين :

يأمر تعالى عباده المؤمنين من أصحاب الرسول الكريم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمره ونهيه وإرشاده وتوجيهه وذلك رجاء أن يرحموا في الدارين ، ولا يعذبوا فيهما. وهذا وإن كان موجها ابتداء إلى أصحاب الرسول فإنه عام بعد ذلك فيشمل كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وقوله (لا تَحْسَبَنَ (١) الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ (٢) فِي الْأَرْضِ) هذا خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهاه ربه تعالى أن يظن أن الذين كفروا مهما كانت قوتهم سيفوتون الله تعالى ويهربون مما أراد بهم من خزي وعذاب ، لا ، لابل سيخزيهم ويذلهم ويسلط عليهم ، وقد فعل (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) يوم القيامة (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) نار جهنم يصيرون إليها.

__________________

(١) الآية تحمل تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرئت بالتاء : (تَحْسَبَنَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل ذي أهلية من أصحابه والمؤمنين والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وقرئت الآية : (ولا يحسبن) بالياء وهي قراءة ضعيفة إذ حسب هنا بمعنى ظن ولم يذكر لها إلا مفعولا واحدا وهي تنصب مفعولين.

(٢) المعجز : الذي يعجز غيره أي : يجعله عاجزا عن غلبه ، والأرض في الآية هي أرض الدنيا هذه.

٥٨٦

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والتمكين والأمن والسيادة وفي الآخرة بدخول الجنة.

٢ ـ تقرير عجز الكافرين وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت قوتهم وسينزل بهم نقمته ويحل عليهم عذابه.

٣ ـ بيان مصير أهل الكفر وأنه النار والعياذ بالله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

٥٨٧

شرح الكلمات :

(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) : أي ليطلب الاذن منكم في الدخول عليكم.

(مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : من عبيد وإماء.

(لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) : أي سن التكليف وهو وقت الاحتلام خمسة عشر سنة فما فوق.

(تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) : أي وقت القيلولة للإستراحة والنوم.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) : العورة ما يستحي من كشفه ، وهذه الأوقات الثلاثة ينكشف فيها الإنسان في فراشه فكانت بذلك ثلاث عورات.

(بَعْدَهُنَ) : أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة.

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) : أي للخدمة.

(بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي بعضكم طائف على بعض.

(فَلْيَسْتَأْذِنُوا) : أي في جميع الأوقات لأنهم أصبحوا رجالا مكلفين.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) : أي اللاتي قعدن عن الحيض والولادة لكبر سنهن.

(أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) : كالجلباب والعباءة والقناع والخمار.

(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) : أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال.

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) : بأن لا يضعن ثيابهن خير لهن من الأخذ بالرخصة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) روى في نزول هذه الآية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب يدعوه له فوجده نائما في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شىء فقال عندها عمر وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعة إلا بإذن ، ثم انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجدا شكرا لله تعالى.

فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو نداء لكل المؤمنين في كل عصورهم وديارهم. وقوله (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (٢) وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي علموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في هذه الأوقات الثلاثة وأمروهم بذلك. وقوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) هي المبينة في قوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ

__________________

(١) قيل : إنّ الآية منسوخة وقيل : هي للندب أو هي واجبة إذ كانوا لا أبواب لغرفهم والصحيح أنها محكمة وأن الاستئذان من هؤلاء المذكورين واجب وسواء كان العبد وغدا أو ذا منظر حسن.

(٢) (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) هم العبيد والذكر والأنثى في هذا سواء.

٥٨٨

الْفَجْرِ) وهي ساعات النوم من الليل ، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وهي القيلولة ، (وَمِنْ بَعْدِ) (١) (صَلاةِ الْعِشاءِ) وهي بداية نوم الليل. وقوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) (٢) أي هي منطقة انكشاف العورة فيها فاطلق عليها اسم العورة والعورة ما يستحي من كشفه وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) أي ولا على الأطفال والخدم (جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي بعد المرات الثلاث وقوله : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعضكم يدخل على بعض للخدمة فلا غنى عنه فلذا فلا حرج عليكم في غير الأوقات الثلاثة.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي كهذا التبيين الذي بين لكم حكم الاستئذان يبين الله لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب فله الحمد وله المنه وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم (حَكِيمٌ) فيما يشرع لهم ويفرض عليهم.

وقوله تعالى في الآية الثانية (٥٩) (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي إذا بلغ الطفل سن الاحتلام وهو البلوغ واحتلم فعليه أن لا يدخل على غير محارمه إلا بعد الإستئذان كما يفعل ذلك الرجال من قبله إذ قد أصبح بالبلوغ الذي علامته الإحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة فأكثر أصبح رجلا تماما فعليه أن لا يدخل بيت أحد إلا بعد أن يستأذن هذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم الرجال وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي المتضمنة لأحكامه وشرائعه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه وما يصلح لهم (حَكِيمٌ) في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما يأمر به وينهى عنه وقوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ (٣) مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا (٤) يَرْجُونَ نِكاحاً) (٥) أي والتي قعدت عن الحيض والولادة لكبر سنها بحيث أصبحت لا ترجو نكاحا ولا يرجى منها ذلك فهذه ليس عليها إثم ولا حرج في أن تضع خمارها من فوق رأسها ، أو عباءتها من فوق ثيابها التي على

__________________

(١) يكره تسمية العشاء بالعتمة. روى مسلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم معتّمون بالإبل وفي رواية فإنها في كتاب الله العشاء وإنها أي الأعراب تعتم بحلاب الإبل وفي الصحيح (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل).

(٢) العورة : في الأصل الخلل والنقص ثم أطلقت على ما يكره انكشافه والنظر إليه.

(٣) المراد أنّ الأطفال إذا بلغوا الحلم تغيّر حكمهم في الاستئذان فأصبحوا كالرجال في الاستئذان على دخول بيوت الغير كما تقدم في آية الاستئذان (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ...) الآية.

(٤) القواعد : جمع قاعد بدون تاء وهي : الآيسة من الحيض والحمل.

(٥) هذه الجملة متضمنة وصفا كاشفا للقواعد وليس قيدا.

٥٨٩

جسمها حال كونها غير متبرجة (١) أي مظهرة زينة لها كخضاب اليدين والأساور في المعصمين والخلاخل في الرجلين ، أو أحمر الشفتين ، وما إلى ذلك مما هو زينة يجب ستره وقوله تعالى : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي ومن لازمت خمارها وعجارها ولم تظهر للأجانب كاشفة وجهها ومحاسنها خير لها حالا ومآلا ، وحسبها أن يختار الله لها فما اختاره لها لن يكون إلا خيرا في الدنيا والآخرة فعلى المؤمنات أن يخترن ما اختار الله لهن. وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لأقوال عباده عليم بأعمالهم وأحوالهم فليتق فيطاع ولا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تعليم الآباء والسادة والأطفال والخدم الإستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة والمعبر عنها بالعورات.

٢ ـ وجوب استئذان الأولاد إذا احتلموا الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته لأنهم أصبحوا رجالا مكلفين.

٣ ـ بيان رخصة كشف الوجه لمن بلغت سنا لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب ولو أبقت على سترها واحتجابها لكان خيرا لها كما قال تعالى : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ).

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا

__________________

(١) ورد وعيد شديد للمتبرجات فقد روى مسلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ..).

٥٩٠

جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

شرح الكلمات :

الحرج : الضيق والمراد به هنا الإثم أي لا إثم على المذكورين في مؤاكلة غيرهم.

(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) : أي مما هو تحت تصرفكم بالأصالة أو بالوكالة كوكالة على بستان أو ماشية.

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) : أي من صدقكم الود وصدقتموه.

(جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : أي مجتمعين على الطعام أو متفرقين.

(مِنْ عِنْدِ اللهِ) : لأنه هو الذي شرعها وأمر بها ، وما كان من عند الله فهو خير عظيم.

(طَيِّبَةً) : أي تطيب بها نفس المسلم عليه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في هداية المؤمنين وبيان ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية الكريمة. رفع تعالى عنهم حرجا عظيما كانوا قد شعروا به فآلمهم وهو أنهم قد رأوا أن الأكل مع ذوي العاهات وهم العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة قد يترتب عليه أن يأكلوا ما لا يحل لهم أكله لأن أصحاب هذه العاهات لا يأكلون كما يأكل الأصحاء كما وكيفا والله يقول : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ). كما أن أصحاب العاهات قد تحرجوا أيضا من مؤاكلة الأصحاء معهم خوفا أن يكونوا يتقذرونهم فآلمهم ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فرفع الحرج عن الجميع الأصحاء وأصحاب العاهات فقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (١) أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ

__________________

(١) لم تذكر بيوت الأبناء لأن بيوتهم داخلة في بيوت الآباء للحديث (أنت ومالك لأبيك) والحديث وإن ضعف فما هو إلا شاهد فقط وإلا فمعلوم بالضرورة أنّ الأولاد عادة وعرفا يكونون في بيوت آبائهم ولذا لم يذكروا.

٥٩١

أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) بوكالة وغيرها ، (أَوْ صَدِيقِكُمْ) (١) وهو من صدقكم المودة وصدقتموه فيها ما دام الرضا حاصلا ، وإن لم يحضروا ولا استئذان (٢) وإن حضروا.

ورفع تعالى عنهم حرجا آخر وهو أن منهم من كان يتحرج في الأكل وحده ، ويرى أنه لا يأكل إلا مع غيره وقد يوجد من يتحرج أيضا في الأكل الجماعي خشية أن يؤذي الآكل معه فرفع تعالى ذلك كله بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين (٣) على قطعة واحدة (٤) (أَوْ أَشْتاتاً) أي متفرقين كل يأكل وحده متى بدا له ذلك وهذا كله ناجم عن تقواهم لله تعالى وخوفهم من معاصيه إذ قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

وقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ (٥) بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) فأرشدهم إلى ما يجلب محبتهم وصفاء نفوسهم ويدخل السرور عليهم وهو أن من دخل بيتا من البيوت بيته كان أو بيت غيره عليه أن يسلم على أهل البيت قائلا السّلام عليكم ، وإن كان البيت ما به أحد أو كان مسجدا قال : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) إذ هو تعالى الذي أمر بها وأرشد إليها وقوله (مُبارَكَةً) أي ذات بركة تعود على الجميع وكونها طيبة أن نفوس المسلّم عليهم تطيب بها.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي كذلك البيان الذي بين لكم من الأحكام والآداب يبين الله لكم الآيات الحاملة للشرائع والأحكام رجاء أن تفهموا عن الله تعالى شرائعه وأحكامه فتعملوا بها فتكملوا وتسعدوا عليها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الإذن العام فى الأكل مع ذوي العاهات بلا تحرج من الفريقين.

__________________

(١) روي عن ابن عباس أنه قال : الصديق أوكد من القرابة أي : أقوى صلة وقال : ألا ترى استغاثة الجهنميين : (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم).

(٢) قال ابن العربي رحمه‌الله تعالى قولا حسنا في هذا الحكم قال : أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا ، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار. ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محرز عنهم إلّا بإذنهم.

(٣) لا ينبغي أن يفهم من كلمة مجتمعين أنهم رجال أجانب مع نساء أجنبيات بل هم محارم لبعضهم بعضا.

(٤) هذا يشمل النهد ووليمة العرس وغيرها والنهد هو أن يكون القوم في سفر فيجمعون الطعام من بعضهم بعضا ويخلطونه ويأكلونه مجتمعين فهو جائز مباح.

(٥) ورد كيفية الدخول إلى المنزل وهو أن يقول : (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ، ثم يسلّم على أهله) (في صحيح مسلم).

٥٩٢

٢ ـ الإذن في الأكل من بيوت من ذكر في الآية من الأقارب والأصدقاء.

٣ ـ جواز الأكل الجماعي والإنفرادي بلا تحرج.

٤ ـ مشروعية التحية عند الدخول على البيوت وأن فيها خيرا وفضلا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

شرح الكلمات :

(أَمْرٍ جامِعٍ) : كخطبة الجمعة ونحوها مما يجب حضوره كاجتماع لأمر هام كحرب ونحوها.

(يَسْتَأْذِنُوهُ) : أي يطلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإذن.

(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) : أي لبعض أمورهم الخاصة بهم.

(دُعاءَ الرَّسُولِ) : أي نداءه فلا ينادي بيا محمد ولكن بيا نبي الله ورسول الله.

(كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) : أي كما ينادي بعضكم بعضا بيا عمر ويا سعيد مثلا.

(يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) : أي ينسلون واحدا بعد واحد يستر بعضهم بعضا حتى يخرجوا خفية.

٥٩٣

(أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) : أي زيغ في قلوبهم فيكفروا.

(قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) : أي من الإيمان والنفاق ، وإرادة الخير أو إرادة الشر. وقد هنا للتأكيد عوملت معاملة رب إذ هي للتقليل وتكون للتكثير أحيانا.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أن المؤمنين الكاملين في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر جامع يتطلب حضورهم كالجمعة واجتماعات الحروب ، لم يذهبوا حتى يستأذنوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأذن لهم هذا معنى قوله تعالى : (إِنَّمَا (١) الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذا تعليم للرسول والمؤمنين وتعريض بالمنافقين. فقد أخبر تعالى أن الذين يستأذنون النبي هم المؤمنون بالله ورسوله ، ومقابله أن الذين لا يستأذنون ويخرجون بدون إذن هم لا يؤمنون بالله ورسوله وهم المنافقون حقا ، وأمر رسول الله إذا استأذنه المؤمنون لبعض شأنهم أن يأذن لمن شاء منهم ممن لا أهمية لحضوره كما أمره أن يستغفر الله لهم لما قد يكون غير عذر شرعي يبيح لهم الاستئذان وطمعهم في المغفرة بقوله إن الله غفور رحيم.

وقوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ (٢) بَعْضاً) هذا يحتمل أمورا كلها حق الأول أن يحاذر المؤمنون إغضاب رسول الله بمخالفته فإنه إن دعا عليهم هلكوا لأن دعاء الرسول لا يرد فليس هو كدعاء غيره ، والثاني أن لا يدعوا الرسول باسمه يا محمد ويا أحمد بل عليهم أن يقولوا يا نبي الله ويا رسول الله ، والثالث أن لا يغلظوا في العبارة بل عليهم أن يلينوا اللفظ ويرققوا العبارة إكبارا وتعظيما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ما تضمنه قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)

وقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أعلمهم تعالى أنه يعلم قطعا أولئك المنافقين الذين يكونون في أمر جامع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتسللون واحدا بعد آخر بدون أن يستأذنوا متلاوذين في هروبهم من المجلس يستر بعضهم بعضا ، وفي هذا تهديد بالغ

__________________

(١) إنما : أداة حصر ، وهي هنا كذلك ، فالمعنى أنه لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسوله إلّا إذا كان من الرسول سامعا غير معنّت ، فلا يناقض للرسول في قول ولا عمل أبدا.

(٢) يريد : لا يصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم ، بل يعظّموه ، شاهده من سورة الحجرات : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

٥٩٤

الخطورة لأولئك المنافقين. وقوله : (فَلْيَحْذَرِ (١) الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٢) أي أمر رسول الله وهذا عام للمؤمنين والمنافقين وإلى يوم القيامة فليحذروا أن تصيبهم فتنة وهي زيغ في قلوبهم فيموتوا كافرين ، أو يصيبهم عذاب أليم في الدنيا والعذاب ألوان وصنوف.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد ألا فليتقّ الله عزوجل في رسوله فلا يخالف أمره ولا يعصي في نهيه فإن الله لم يرسل رسولا إلا ليطاع بإذنه.

وقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إخبار يحمل التهديد والوعيد أيضا فما عليه الناس من أقوال ظاهرة وباطنة معلومة لله تعالى ، ويوم يرجعون إلى الله بعد موتهم فينبئهم بما عملوا من خير وشر ويجزيهم به الجزاء الأوفى ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فليحذر أن يخالف رسوله أو يعصي وليتق في أمره ونهيه فإن نقمته صعبة وعذابه شديد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الاستئذان من إمام المسلمين إذا كان الأمر جامعا. وللإمام أن يأذن لمن شاء ويترك من يشاء حسب المصلحة العامة.

٢ ـ وجوب تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحرمة إساءة الأدب معه حيا وميتا.

٣ ـ وجوب طاعة رسول الله وحرمة مخالفة أمره ونهيه.

٤ ـ المتجرىء على الاستهانة بسنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله.

__________________

(١) دلت الآية على أنّ الأمر للوجوب ، وتوجيهه أنّ الله تعالى قد حذّر من مخالفة أمره وتوعّد بالعقاب عليها بقوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(٢) قيل : إن (عَنْ) في قوله : (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) زائدة ، والتقدير : يخالفون أمره ، وقيل : ليست زائدة إذ المعنى : يخالفون بعد أمره فعن بمعنى : عند وهذا كقوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي : بعد أمر ربّه إيّاه بأن يسجد لآدم.

٥٩٥

سورة الفرقان

مكية وآياتها سبع (١) وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

شرح الكلمات :

(تَبارَكَ) : أي تكاثرت بركته وعمت الخلائق كلها.

(الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) : أي الله الذي نزل القرآن فارقا بين الحق والباطل.

(عَلى عَبْدِهِ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) : أي ليكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذيرا للعالمين من الإنس والجن أي مخوفا لهم من عقاب الله وعذابه إن كفروا به ولم يعبدوه ويوحدوه.

(فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) : أي سواه تسوية قائمة على أساس لا اعوجاج فيه ولا زيادة ولا نقص عما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

(ضَرًّا وَلا نَفْعاً) : أي لا دفع ضر ولا جلب نفع.

(مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) : أي لا يقدرون على إماتة أحد ولا إحيائه ولا بعثا للأموات.

__________________

(١) من الجائز أن يكون فيها بعض الآيات مدنيا إلا أن أسلوبها ومحتواها ظاهر في أنه مكيّ وهو الصحيح ، وسميت بالفرقان لذكر لفظ الفرقان فيها ثلاث مرات.

٥٩٦

معنى الآيات :

يثني الرب تبارك (١) وتعالى على نفسه بأنه عظم خيره وعمت بركته المخلوقات كلها الذي نزل الفرقان الكتاب العظيم الذي فرق به بين الحق والباطل والتوحيد والشرك والعدل والظلم أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون (٢) للعالمين الإنس والجن نذيرا ينذرهم عواقب الكفر والشرك والظلم والشر والفساد وهي عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة وقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا وهو ثناء بعد ثناء وقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ (٣) فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) وهو ثناء آخر عظيم أثنى تبارك وتعالى فيه على نفسه بالملك والقدرة والخلق والعلم والحكمة وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ (٤) دُونِهِ آلِهَةً) أصناما (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن غيرهم من عابديهم (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي دفع ضر ولا جلب نفع ، ولا يملكون موتا لأحد ولا حياة لآخر ولا نشورا (٥) للناس يوم القيامة. أليس هذا موضع تعجب واستغراب أمع الله الذي عمت بركته الأكوان وأنزل الفرقان ملك ما في السموات والأرض تنزه عن الولد والشريك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا يتخذون من دونه آلهة أصناما لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تجلب لها نفعا ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا فسبحان الله أين يذهب بعقول الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته وهو إفاضة الخير على الخلق والملك والقدرة والعلم والحكمة.

٢ ـ التنديد بالشرك والمشركين.

__________________

(١) للفظ تبارك دلالات كلها حق ، منها : تقدس ، وتعالى ، ودام وثبت إنعامه. قال الثعلبي : لا يقال : متبارك ولا مبارك لأنه يوقف في أسمائه تعالى وصفاته على ما ورد عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الطّرمّاح :

تباركت لا معط لشيء منعته

وليس لما أعطيت يا ربّ مانع

(٢) (لِيَكُونَ) أي : من نزل عليه القرآن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعالمين نذيرا في الآية دليل على عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن هذا لغيره إلا نوحا بعد الطوفان ، فقد عمّت رسالته الإنس.

(٣) فيه ردّ على المجوس والثنوية القائلين : هناك خالقان خالق للظلمة وخالق للنور أو خالق للخير وخالق للشر ، وهو رأي عفن وجهل مظلم.

(٤) في هذه الجملة تعجب من اتخاذ المشركين آلهة دونه تعالى وهي جمادات لا حياة فيها ولا تملك نفعا ولا ضرا.

(٥) النشور : الإحياء بعد الموت قال الأعشى :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميّت الناشر

٥٩٧

٣ ـ تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

شرح الكلمات :

(إِفْكٌ افْتَراهُ) : أي ما القرآن إلا كذبا افتراه محمد وليس هو بكلام الله تعالى هكذا قالوا.

(ظُلْماً وَزُوراً) : أي فرد الله عليهم قولهم بقوله فقد جاءوا ظلما حيث جعلوا الكلام المعجز الهادي إلى الإسعاد والكمال البشري إفكا مختلقا وزورا بنسبة ما هو برىء منه إليه.

(اكْتَتَبَها) : أي طلب كتابتها له فكتبت له.

٥٩٨

(يَعْلَمُ السِّرَّ) : أي ما يسره أهل السماء والأرض وما يخفونه في نفوسهم.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) : أي من السماء فينفق منه ولا يحتاج معه إلى الضرب في الأسواق.

(جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) : بستان فيه ما يغنيه من أنواع الحبوب والثمار.

(رَجُلاً مَسْحُوراً) : مخدوعا مغلوبا على عقله.

(ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) : أي بالسحر والجنون والشعر والكهانة والكذب وما إلى ذلك (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) : فضلوا الطريق الحق وهو أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فلا يهتدون.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن أولئك المشركين الحمقى الذين اتخذوا من دون الله رب العالمين آلهة أصناما لا تضر ولا تنفع أنهم زيادة على سفههم في اتخاذ الأحجار آلهة يعبدونها قالوا في القرآن الكريم والفرقان العظيم ما هو إلا إفك أي كذب اختلقه محمد وأعانه عليه قوم (١) آخرون يعنون اليهود ساعدوه على الإتيان بالقرآن. فقد جاءوا بهذا القول الكذب الممقوت ظلما وزورا ظلما لأنهم جعلوا القرآن المعجز الحامل للهدى والنور جعلوه كذبا وجعلوا البريء من الكذب والذي لم يكذب قط كاذبا فكان قولهم فيه زورا وباطلا. وقوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ (٢) الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) هذه الآية نزلت ردا على شيطان قريش النضر بن الحارث إذ كان يأتي الحيرة ويتعلم أخبار ملوك فارس ورستم. وإذا حدث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه محذرا إياهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فإذا قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المجلس جاء هو فجلس وقال تعالوا أقص عليكم إني أحسن حديثا من محمد ، ويقول إن ما يقوله محمد هو من أكاذيب القصاص وأساطيرهم التي سطروها في كتبهم فهو يحدث بها وهي تملى عليه أي يمليها عليه غيره صباحا ومساءا فرد تعالى هذه الفرية بقوله لرسوله : (قُلْ (٣) أَنْزَلَهُ) أي القرآن

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : (قَوْمٌ آخَرُونَ) هم : أبو فكيهة مولى بن الحضرمي وعدّاس وجبر ، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب.

(٢) هذه الجملة ردّ على من زعم من المشركين أنّ محمدا يتلقى القرآن من أهل الكتاب وذكر السرّ دون الجهر لأنّ من علم السر فهو بالجهر أعلم وأمر آخر : لو كان القرآن مأخوذا عن أهل الكتاب لما كان فيه زيادة عمّا عندهم في حين أنّ فيه من العلوم والمعارف ما لا يخطر حتى على البال ولو لم يكن كذلك لقدروا على الإتيان بسورة من مثله.

(٣) الأساطير : جمع أسطورة كأحاديث جمع أحدوثة. وقال بعضهم إنها جمع أسطار كأقوال وأقاويل : (تُمْلى) أصلها : تملل فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف.

٥٩٩

(الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي سر ما يسره أهل السموات وأهل الأرض فهو علام الغيب المطلع على الضمائر العالم بالسرائر ، ولو لا أن رحمته سبقت غضبه لأهلك من كفر به وأشرك به سواه (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يستر زلات من تاب إليه ويرحمه مهما كانت ذنوبه.

وقوله تعالى : (وَقالُوا : ما لِهذَا (١) الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا (٢) أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) هذه كلمات رؤوساء قريش وزعمائها لما عرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك دعوته إلى ربه مقابل ما يشاء من ملك أو مال أو نساء أو جاه فرفض كل ذلك فقالوا له إذا فخذ لنفسك لماذا وأنت رسول الله تأكل الطعام وتمشي في الأسواق (٣) تطلب العيش مثلنا فسل ربك ينزل إليك ملكا فيكون معك نذيرا أو يلقي إليك بكنز من ذهب وفضة تعيش بهما أغنى الناس ، أو يجعل لك جنة من نخيل وعنب ، أو يجعل لك قصورا من ذهب تتميز بها عن الناس وتمتاز فيعرف قدرك وتسود قومك وقوله تعالى : (وَقالَ الظَّالِمُونَ) (٤) أي للمؤمنين من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي انكم باتباعكم محمدا فيما جاء به ويدعو إليه ما تتبعون إلا رجلا مسحورا ، أي مخدوعا مغلوبا على عقله لا يدري ما يقول ولا ما يفعل أي فاتركوه ولا تفارقوا ما عليه آباؤكم وقومكم. وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا (٥) لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي انظر يا رسولنا إلى هؤلاء المشركين المفتونين كيف شبهوا لك الأشباه وضربوا لك الأمثال الباطلة فقالوا فيك مرة هو ساحر ، وشاعر وكاهن ومجنون فضاعوا في هذه التخرصات وضلوا طريق الحق فلا يرجى لهم هداية بعد ، وذلك لبعد ضلالهم فلا يقدرون على الرجوع إلى الحق وهو معنى قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).

__________________

(١) الاستفهام للتعجب ، وجملة : (يَأْكُلُ الطَّعامَ) جملة حالية ، وقولهم : (لِهذَا الرَّسُولِ) من باب المجاراة وإلّا فهم مكذّبون برسالته.

(٢) (لَوْ لا) : حرف تحضيض استعملت هنا في التعجيز أي : لو لا أنزل عليه ملك لاتبعناه وإنهم كاذبون.

(٣) (الْأَسْواقِ) جمع سوق ، وسميت السوق سوقا لقيام الناس فيها على ساق للبيع والشراء وورد ذكرها في الكتاب والسنة والعمل فيها مباح وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيها يدعو أهلها إلى الإسلام وورد أنها شرّ البقاع والمساجد خيرها وهي مقابلة ، وورد أنه من قال فيها رافعا بها صوته : (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وإليه المصير وهو على كل شيء قدير) كتب له ألف ألف حسنة.

(٤) هذا القائل هو : عبد الله بن الزبعري أيّام جاهليته إذ أسلم فيما بعد وحسن إسلامه.

(٥) هذه الجملة تعجبيّة وهي إخبار منه تعالى عن حال المشركين إذ ضلوا في تلفيق المطاعن والبحث عن التهم لدفع الحق وإبطاله فعجزوا وتاهوا في طرق طلبهم ما يبطلون به دعوة الله تعالى.

٦٠٠