أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

شرح الكلمات :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا) : أي مثل ذلك الانزال أنزلنا قرآنا عربيا أي بلغة العرب ليفهموه.

(وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) : أي من أنواع الوعيد ، وفنون العذاب الدنيوي والأخروى.

(أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) : أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) : أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) : أي بقراءته.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) : أي من قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.

(عَهِدْنا إِلى آدَمَ) : أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.

(فَنَسِيَ) : أي عهدنا وتركه.

(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) : أي حزما وصبرا عما نهيناه عنه.

معنى الآيات :

يقول تعالى (وَكَذلِكَ (١) أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق إذ الغرض واحد وهو التنويه بشأن القرآن وتقرير الوحي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٨١

على الوعد والوعيد أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به (وَصَرَّفْنا فِيهِ (١) مِنَ الْوَعِيدِ) أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي والأخروى لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في اهلاك الأمم السابقة وهو الشرك والتكذيب والمعاصي (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ (٢) ذِكْراً) أي يوجد لهم ذكرا في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١٣).

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) فإن الله تعالى يخبر عن علوه عن سائر خلقه وملكه لهم وتصرفه فيهم وقهره لهم ، ومن ثمّ فهو منزّه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به المفترون الكذابون.

وقوله : (وَلا تَعْجَلْ (٣) بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) يعلّم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليه‌السلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ، وفيه إشعار بأنه دائما في حاجة إلى المزيد ، ولذا فلا يستعجل ولكن يتريث ويتمهل ، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالاستعجال في الفتيا وفي إصدار الحكم كثيرا ما يخطىء صاحبهما.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ (٤) عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ (٥) وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٦) يقول تعالى مخبرا رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه ابليس وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسيا لها غير مبال بها

__________________

(١) التصريف : التنويع والتفنين ، والوعيد هنا للتهديد.

(٢) لعله يحدث لهم ذكرا : فيه بيان أنهم قبل نزول القرآن وسماعه لم يكونوا يذكرون الله في توحيده ولا في وعده ووعيده ولا في شرعه وأحكامه.

(٣) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي حرصا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحفظ وشفقة على القرآن مخافة النسيان فنهاه تعالى عن ذلك فأنزل : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) وقال الحسن نزلت هذه الآية في رجل لطم وجه امرأته فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطلب القصاص فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها القصاص فنزل : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) وأبى الله ذلك. ولهذا قال له : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أن حرصه في حفظ القرآن محمود.

(٤) قال ابن زيد : نسي ما عهد الله إليه في ذلك ، ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه إبليس.

(٥) العهد المنسي هو ما جاء في قوله تعالى : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) من هذه السورة.

(٦) فسر العزم بالصبر والثبات أمام الإغراء.

٣٨٢

وأطاع عدوه وأكل من الشجرة ، ولم نجد له عزما بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم يصبر على الطاعة ، فكيف إذا بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا تحزن على عدم ايمان قومك بك واستجابتهم لدعوتك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحكمة من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.

٢ ـ اثبات علو الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به المبطلون.

٣ ـ استحباب التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.

٤ ـ الترغيب في طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.

٥ ـ التسلية بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

٣٨٣

شرح الكلمات :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) : أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.

(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) : أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.

(عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) : أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما الشر.

(فَتَشْقى) : أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى.

(لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) : أي لا تعطش ولا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.

(شَجَرَةِ الْخُلْدِ) : أي التي يخلد من أكل منها.

(وَمُلْكٍ لا يَبْلى) : أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.

(فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) : أي ظهر لكل منهما قبل صاحبه ودبره فاستاءا لذلك.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ) : أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما سترا لسوءاتهما

(فَغَوى) : أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.

(اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) : أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبدا صالحا.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ضعف آدم عليه‌السلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه من الجنة ، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون موعظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت الملائكة أمر الله (فَسَجَدُوا) كلهم أجمعون (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن إلا أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١٦).

وقوله تعالى (فَقُلْنا يا آدَمُ) أي بعد أن تكبّر إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له (إِنَّ هذا) أي إبليس (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي فلا تطيعانه

٣٨٤

فإن (١) طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما ، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى : فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة (٢) زوجته فهو الذي يشقى دونها ، وقوله تعالى لآدم (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) أي في الجنة (وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) أي لا تعطش (وَلا تَضْحى) (٣) أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته ، ومن الأدب خطاب الرجل دون امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) أي ناداه من طريق الوسوسة. (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ (٤) وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فقبل منه ذلك آدم واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولا ثم أكل آدم وهو قوله تعالى (فَأَكَلا مِنْها) فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما سترا لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة ، فبذلك (٥) غوى ، إلا أن ربه تعالى اجتباه اي نبيا وقربه وليا (فَتابَ (٦) عَلَيْهِ وَهَدى) وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد لله ذي الإنعام والإفضال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلا بالوحي الإلهي.

__________________

(١) هذا مبدأ : أنّ نفقة الزوجة على زوجها. وأن النفقة الواجبة محصورة في الطعام والشراب والكسوة والسكن.

(٢) قال الحسن : المراد بالشقاء : شقاء الدنيا لا يرى ابن آدم فيها إلّا ناصبا.

(٣) يقال : ضحيت للشمس ضحاء : برزت ، وضحيت بفتح الحاء مثله والمضارع أضحى ، والأمر إضح ، ومنه قول عمر في عرفة لرجل لازم الخيمة إضح لمن جئت له.

(٤) روى أبو داود وأحمد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد).

(٥) كان هذا قبل النبوة ، ومن أذنب مرّة واحدة لا يقال له مذنب ولا غاو ولا سيّما بعد التوبة.

(٦) ثبت في الصحيح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (حاجّ موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحجّ آدم موسى).

٣٨٥

٢ ـ تقرير عداوة إبليس لبني آدم.

٣ ـ بيان أن الجنة لا نصب فيها ولا تعب ، وإنما ذلك في الأرض.

٤ ـ التحذير من أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تردى صاحبها.

٥ ـ ضعف المرأة وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.

٦ ـ كون المرأة تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.

٧ ـ حرمة كشف العورات ووجوب سترها.

٨ ـ إثبات نبوة آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

شرح الكلمات :

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) : أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته ، وإبليس وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) : أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) : أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.

٣٨٦

(فَلا يَضِلُ) : أي في الدنيا

(وَلا يَشْقى) : في الآخرة

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) : أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.

(مَعِيشَةً ضَنْكاً) : أي ضيّقة تضيق بها نفسه ولم يسعد بها ولو كانت واسعة.

(أَعْمى) : أي أعمى البصر لا يبصر.

(وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) : أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.

(قالَ كَذلِكَ) : أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في جهنم.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) : أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد ، ولم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.

(أَشَدُّ وَأَبْقى) : أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وعاتبهما ربهما بقوله في آية غير هذه (أَلَمْ أَنْهَكُما (١) عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ). وأنزل على آدم كلمة (٢) التوبة فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال (اهْبِطا) (٣) (مِنْها) أي من الجنة (جَمِيعاً) إذ ابليس العدو قد ابلس من قبل وطرد من الجنة فهبطوا جميعا. وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي ، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) فآمن به وعمل بما فيه (فَلا يَضِلُ) في حياته (وَلا يَشْقى) (٤) في آخرته

__________________

(١) هي قوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) من سورة الأعراف وأخبر تعالى عنها في سورة البقرة في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(٢) الآية من سورة الأعراف.

(٣) الخطاب لآدم وإبليس وحواء تابعة لزوجها بقرينة : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

(٤) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألّا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وتلا هذه الآية.

٣٨٧

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه (فَإِنَّ لَهُ) أي جزاء منا له (مَعِيشَةً (١) ضَنْكاً) أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ) في الدنيا وفي البعث (بَصِيراً) فيجيبه ربه تعالى بقوله : (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك كنت بصيرا وأصبحت أعمى لأنك (أَتَتْكَ آياتُنا) تحملها كتبنا وتبينها رسلنا (فَنَسِيتَها) أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضا عنها فاليوم تترك في جهنم منسيا كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة (١٢٧) (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له معيشة ضنكا في حياته الدنيا وفي البرزخ (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) (٢) من عذاب الدنيا (وَأَبْقى) أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عداوة الشيطان للإنسان.

٢ ـ عدة الله تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.

٣ ـ بيان جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة.

٤ ـ التنديد بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله ، وبيان جزاء ذلك.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا

__________________

(١) (ضَنْكاً) أي : ضيّقا ، يقال : منزل ضنك وعيش ضنك ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال عنترة.

إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا

أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل

(٢) أي : من المعيشة الضنك.

٣٨٨

تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))

شرح الكلمات :

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : أي أفلم يبيّن لهم.

(مِنَ الْقُرُونِ) : أي من أهل القرون.

(لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) : أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) : أي بتأخير العذاب عنهم.

(لَكانَ لِزاماً) : أي العذاب لازما لا يتأخر عنهم بحال.

(ما يَقُولُونَ) : من كلمات الكفر ، ومن مطالبتهم بالآيات.

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) : أي ساعات الليل واحدها إني أو إنو.

(لَعَلَّكَ تَرْضى) : أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.

(إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي رجالا منهم (١) من الكافرين.

(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما تذبل وتذوى.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) : أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.

(وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) : العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.

معنى الآيات :

بعد ذكر قصة آدم عليه‌السلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى (أَفَلَمْ يَهْدِ) لأهل مكة المكذبين المشركين أي أغفلوا فلم يهد لهم أي يتبين (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي اهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في مساكنهم ذاهبين جائين

__________________

(١) (أَزْواجاً) : رجالا ونساء لأنّ الرجل زوج والمرأة زوج والتعبير بلفظ أزواج لأجل الدلالة على العائلات والبيوت أي : إلى ما متّعناهم به من مال وبنين.

٣٨٩

كثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من الإهلاك للقرون الأولى (لَآياتٍ) أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما ، (لِأُولِي النُّهى) أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ (١) مِنْ رَبِّكَ) بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها ، وأجل مسمّى عند الله في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازما لهم لما هم عليه من الكفر والشرك والعصيان. وعليه (فَاصْبِرْ) يا رسولنا (عَلى ما يَقُولُونَ) من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر ، واستعن على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهو صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) وهو صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) (٢) أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول ونصفه الثاني (٣) وذلك عند زوال الشمس ، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى لك.

وقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تتطلع ناظرا (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أشكالا في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم (زَهْرَةَ (٤) الْحَياةِ الدُّنْيا) أي من زينة الحياة الدنيا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا وقوله تعالى : (وَرِزْقُ رَبِّكَ) أي ما لك عند الله من أجر ومثوبة (خَيْرٌ وَأَبْقى) خيرا في نوعه وأبقى في مدته ، واختيار الباقي على الفاني مطلب العقلاء.

وقوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ (٥) بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي من أزواجك وبناتك وأتباعك

__________________

(١) فيه تقديم وتأخير ، الأصل : ولو لا كلمة سبقت وأجل مسمّى لكان لزاما. أي لكان العذاب لازما لهم.

(٢) العتمة. واحد الآناء : أني وإنى وأنى.

(٣) قال مجاهد : الأغنياء منهم ، وبهذا يشمل النساء والرجال إذ كل منهما زوج فرجح هذا أنّ أزواجا : مفعول به ، ولا يتنافى هذا مع ما في التفسير لأنّ قولنا : أشكالا في عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم يعني : منطقا الرجال الأزواج.

(٤) (زَهْرَةَ) منصوب على الحال من الموصول. والزهرة : واحدة الزهور وهو نور الشجر والمراد هنا : الزينة المعجبة المبهرة في النساء والبنين والأنعام والبساتين والجنان.

(٥) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع أمّته تابعة له في ذلك فكلّ مؤمن يجب عليه أن يقيم الصلاة وأن يأمر أهله بذلك ويصبر. روي أنه لما نزلت هذه الآية كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يذهب إلى بنته فاطمة كل صباح وقت الصلاة) وكان عمر رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثّل بالآية : وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ..) الآية.

٣٩٠

المؤمنين بالصلاة ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على الصبر على إقامتها. وقوله (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) أي لا نكلفك ما لا تعطيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل وجوهها. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) أي رزقك علينا ، (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في الآخرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ العاقل من اعتبر بغيره.

٢ ـ بيان فضيلة العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.

٣ ـ وجوب الصبر على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.

٤ ـ بيان أوقات الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.

٥ ـ وجوب عدم تعلق النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.

٦ ـ وجوب الرضا بما قسم الله للعبد من رزق إنتظارا لرزق الآخرة الخالد الباقي.

٧ ـ وجوب الأمر بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.

٨ ـ فضل التقوى وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.

٩ ـ إقام الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق وتوسعته عليهم.

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

٣٩١

شرح الكلمات :

(لَوْ لا) (١) : أي هلا فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.

(بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.

(بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) : أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.

(مِنْ قَبْلِهِ) : من قبل ارسالنا رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانزالنا كتابنا القرآن.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) : أي من قبل أن يصيبنا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.

(مُتَرَبِّصٌ) : أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.

(فَسَتَعْلَمُونَ) : أي يوم القيامة.

(الصِّراطِ السَّوِيِ) : أي الدين الصحيح وهو الإسلام.

(وَمَنِ اهْتَدى) : أي ممن ضل نحن أم أنتم.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع المشركين طلبا لهدايتهم فقال تعالى مخبرا عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالا منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب (وَقالُوا لَوْ لا (٢) يَأْتِينا بِآيَةٍ) أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى رادا عليهم قولتهم الباطلة : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي (٣) الصُّحُفِ الْأُولى؟) أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات كذبوا بها فأهلكهم الله بتكذيبهم (٤) فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم ما آمنوا بها فأهلكوا كما

__________________

(١) (لَوْ لا) : أداة تحضيض وجملة : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) حالية أي : قالوا ذلك ، والحال أنها أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى ، فالاستفهام إنكاري ، والبيّنة : الحجة ، والصحف : كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

(٢) أي : لو لا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري أو بآية ظاهرة كناقة صالح وعصا موسى أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها كتحويل جبال مكة.

(٣) هذه البيّنة هي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه القرآن الكريم ، محمد أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وقد جاء بما لم يأت به غيره من العلوم والمعارف والقرآن الكريم حوى علوم الأولين وقصصهم ، وكل علم نافع في الحياتين فأيّة آية أعظم من هذه الآية ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)؟!

(٤) قال القرطبي : فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم كحال أولائك.

٣٩٢

أهلك المكذبين من قبلهم.

وقوله تعالى في الآية الثانية (١٣٤) (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ (١) بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل ارسالنا محمد وانزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب تعالى إذا وقفوا بين يديه : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) (٢) أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر (فَتَرَبَّصُوا) ، فستعلمون في نهاية الأمر وعند ما توقفون في عرصات القيامة (مَنْ) هم (أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) (٣) الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق ، (وَمَنِ اهْتَدى) إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ المطالبة بالآيات سنة متبعة للأمم والشعوب عند ما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.

٢ ـ الذلة والخزي تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.

٣ ـ في الآية إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه : «يحتج به على الله يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة ، والمغلوب على عقله ، والصبي الصغير ، فيقول المغلوب على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به ، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك ، وقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) ويقول الصبي الصغير كنت صغيرا لا أعقل. قال فترفع لهم نار ويقال لهم : ردوها قال فيردها من كان في علم الله أنه سعيد ، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم». رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً).

__________________

(١) هذه الآية دليل على أنّ الإيمان بوحدانية الله تعالى مما يقتضيه العقل وتوجبه الفطرة لو لا حجب الضلالات وإغواء الشياطين للناس.

(٢) هذا جواب عن قولهم : (لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وما بينهما اعتراض والتربّص : الانتظار.

(٣) بمعنى المستوي وهو مأخوذ من التسوية.

٣٩٣

الجزء السابع عشر

سورة الأنبياء

مكية وآياتها مائة واثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

شرح الكلمات :

(اقْتَرَبَ (١) لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) : أي قرب زمن حسابهم وهو يوم القيامة.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) : أي عما هم صائرون إليه

(مُعْرِضُونَ) : أي عن التأهب ليوم الحساب بصالح الأعمال بعد ترك

__________________

(١) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادي : يريد من أوّل ما حفظ كالمال التليد.

٣٩٤

الشرك والمعاصي

(مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) : أي من قرآن نازل من ربهم محدث جديد النزول.

(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) : أي ساخرين مستهزئين.

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) : مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) : أي أخفوا مناجاتهم بينهم.

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أي أخلاط رآها في المنام.

(بَلِ افْتَراهُ) : أي اختلقه وكذبه ولم يوح إليه.

(أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) : أي لا يؤمنون فالاستفهام للنفي.

معنى الآيات :

يخبر تعالى فيقول وقوله الحق : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ (١) حِسابُهُمْ) أي دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها (وَهُمْ فِي (٢) غَفْلَةٍ) عما ينتظرهم من حساب وجزاء (مُعْرِضُونَ) عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي والتزود بالإيمان وصالح الأعمال. وقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ (٣) مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (٤) أي ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي استمعوه وهم هازئون ساخرون لاعبون غير متدبرين له ولا متفكرين فيه. وقوله تعالى : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي مشغولة عنه منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من هدى ونور ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٥) وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما محمد إلا إنسان مثلكم فكيف تؤمنون به وتتابعونه على ما جاء به ،

__________________

(١) لفظ الناس : عام وإن أريد به أهل مكة بدليل السياق في الآيات بعد.

(٢) الجملة حالية أي : اقترب للناس حسابهم والحال أنّهم في غفلة معرضون.

(٣) محدث : أي : في نزوله وقراءة جبريل له على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان ينزل آية آية وسورة سورة وجائز أن يكون الذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقرينة الآيات كقوله : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وقوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ..) فرسول بدلا من قوله : (ذِكْراً) وقوله (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) أي : الرسول وهم يلعبون. قاله الحسن بن الفضل.

(٤) (لاهِيَةً) : ساهية معرضة عن ذكر الله تعالى. يقال : لهيت عن الشيء إذا تركته وسهوت عنه ، وهو نعت تقدّم عن الاسم فنصب على الحال نحو : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ، (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) وكقول كثير عزّة :

لعزة موحشا طلل

يلوح كأنه خلل

(٥) (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو الجماعة في : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

٣٩٥

إنه ما هو إلا ساحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) مالكم أين ذهبت عقولكم؟ قال تعالى لرسوله : (قالَ رَبِّي (١) يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ ...) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأعمالهم فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب عليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه.

وقوله تعالى : (بَلْ قالُوا) أي أولئك المتناجون الظالمون (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم ؛ ليهتدوا به قالوا فيه أضغاث أي أخلاط رؤيا منامية وليس بكلام الله ووحيه ، (بَلِ افْتَراهُ) انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي هو ذكر أشياء لا واقع لها ولا حقيقة. وقوله تعالى عنه : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان رسولا كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر فليأتنا بآية أي معجزة كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون. قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ (٢) قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (أَهْلَكْناها) بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت أفهم (٣) يؤمنون أي لا يؤمنون إذ شأنهم شأن غيرهم ، فلذا لا معنى لإعطائهم الآية من أجل الإيمان ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قرب الساعة.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض ، والناس اليوم أكثر منهم في ذلك.

٣ ـ بيان حيرة المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ المعجزات لم تكن يوما سببا في هداية الناس بل كانت سبب اهلاكهم إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد الإيمان والهداية فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور : قل ربي بصيغة الأمر ، وقرأ حفص ومن وافقه (قالَ) بصيغة الماضي.

(٢) (مِنْ) : زائدة لتقوية الكلام وتوكيد النفي المستفاد من حرف (ما).

(٣) الاستفهام للإنكار أي : انكار إيمانهم لو جاءتهم الآية أي : فهم لا يؤمنون.

٣٩٦

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

شرح الكلمات :

(قَبْلَكَ) : يا محمد.

(أَهْلَ الذِّكْرِ) : أي الكتاب الأول وهم أهل الكتاب.

(جَسَداً) : أي أجسادا آدمية.

(الْوَعْدَ) : أي الذي واعدناهم.

(الْمُسْرِفِينَ) : أي في الظلم والشرك والمعاصي.

(كِتاباً) : هو القرآن العظيم.

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ) : أي ما تذكرون به ربكم وما تذكرون به من الشرف بين الناس.

معنى الآيات :

كانت مطالب قريش من اعتراضاتهم تدور حول لم يكون الرسول بشرا ، ولم يكون رسولا ويأكل الطعام لم لا يكون له كنز أو جنة يأكل منها ، لم لا يأتينا بآية كما أرسل بها الأولون ، وهكذا. قال قتادة قال أهل مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإذا كان ما تقوله حقا ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا «أي ينزل بهم العذاب فورا» وإن شئت استأنيت بقومك ، قال بل استأني بقومي فأنزل الله (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).

٣٩٧

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) (١) يا رسولنا (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ما نريد إبلاغه عبادنا من أمرنا ونهينا. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (٢) إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فليسأل قومك أهل الكتاب من قبلهم وهم أحبار اليهود ورهبان النصارى إن كانوا لا يعلمون فإنهم يعلمون أن الرسل من قبلهم لم يكونوا إلا بشرا. وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ) أي الرسل (جَسَداً) (٣) أي أجسادا ملائكية أو بشرية لا يأكل أصحابها الطعام بل جعلناهم أجسادا آدمية تفتقر في بقاء حياتها إلى الطعام والشراب (٤) فلم يعترض هؤلاء المشركون على كون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ) أي أولئك الرسل (الْوَعْدَ) (٥) الذى وعدناهم وهو أنا إذا آتينا أقوامهم ما طالبوا به من المعجزات ثم كذبوا ولم يؤمنوا أهلكناهم (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي أنجينا رسلنا ومن آمن بهم واتبعهم ، وأهلكنا المكذبين المسرفين في الكفر والعناد والشرك والشر والباطل.

وقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) يقول تعالى لأولئك المشركين المطالبين بالآيات التي قد تكون سبب هلاكهم ودمارهم (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) لهدايتكم وإصلاحكم ثم إسعادكم (كِتاباً) عظيم الشأن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (٦) أي ما تذكرون به وتتعظون فتهتدون إلى سبيل سلامتكم وسعادتكم ، فيه ذكركم بين الأمم والشعوب لأنه نزل بلغتكم الناس لكم فيه تبع وهو شرف أي شرف لكم. أتشتطون في المكايدة والعناد فلا تعقلون ، ما هو خير لكم مما هو شر لكم.

__________________

(١) هذا ردّ على المشركين إذ قالوا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وتأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يضيق بما يقولون.

(٢) جائز أن يكون أهل الذكر أي : الكتاب الأوّل هم اليهود والنصارى إذ كان أهل مكة يسألون يهود المدينة وجائز أن يكون القرآن وهم المؤمنون ولذا قال عليّ وهو صادق : نحن أهل الذكر. أي : فليناظروا المؤمنين كعلي وأبي بكر الصديق وبلال. وفي الآية دليل على وجوب تقليد العامة العلماء إذ هم أهل الذكر ووجوب العمل بما يفتونهم به ويعلمونهم به.

(٣) الجسد : الجسم لا حياة فيه كالجثة. وفي العبارة تهكم بالمشركين لسخف عقولهم إذ أنكروا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل الطعام فقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) وهل يعقل وجود أجسام بشرية تستغني عن الأكل والشرب؟

(٤) ولذا هم يموتون ولا يخلدون وهذه حقيقة الآدمي.

(٥) الوعد : منصوب على نزع الخافض أي : صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم ، وهو وعدهم بنصرهم وإهلاك أعدائهم.

(٦) (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) : أي : فيه ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وبيان ما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب وفيه ذكر مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم.

٣٩٨

هداية الأيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ أن الرسل لا يكونون إلا بشرا ذكورا لا إناثا.

٢ ـ تعين سؤال أهل العلم في كل ما لا يعلم إلا من طريقهم ، من أمور الدين والآخرة.

٣ ـ ذم الإسراف في كل شيء وهو كالغلو في الشرك والظلم.

٤ ـ القرآن ذكر يذكر به الله تعالى لما فيه من دلائل التوحيد وموعظة لما فيه من قصص الأولين وشرف أي شرف لمن آمن به وعمل بما فيه من شرائع وآداب وأخلاق.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

شرح الكلمات :

(وَكَمْ قَصَمْنا) : أي وكثيرا من أهل القرى قصمناهم بإهلاكهم وتفتيت أجسامهم.

(كانَتْ ظالِمَةً) : أي كان أهلها ظالمين.

(يَرْكُضُونَ) : أي فارين هاربين.

(إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) : أي من وافر الطعام والشراب والمسكن والمركب.

(تُسْئَلُونَ) : أي عن شيء من دنياكم على عادتكم.

(تِلْكَ دَعْواهُمْ) : أي دعوتهم التي يرددونها وهي : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

(حَصِيداً خامِدِينَ) : أي لم يبق منهم قائم فهم كالزرع المحصود خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أخمدت.

٣٩٩

معنى الآيات :

يقول تعالى منذرا قريشا أن يحل بها ما حل بغيرها ممن أصروا على التكذيب والعناد (وَكَمْ قَصَمْنا) أي أهلكنا وأبدنا إبادة كاملة (مِنْ قَرْيَةٍ) (١) أي أهل قرية (كانَتْ ظالِمَةً) أي كان أهلها ظالمين بالشرك والمعاصي والمكابرة والعناد ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) هم خير من أولئك الهالكين. وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا (٢) بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما أحسّ أولئك الظالمون (بَأْسَنا) أي شعروا به وادركوه بحواسهم بأسماعهم وأبصارهم (إِذا هُمْ مِنْها) من تلك القرية يركضون هاربين فرارا من الموت. والملائكة تقول لهم توبيخا لهم وتقريعا : (لا تَرْكُضُوا) هاربين (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) نعمتم فيه من وافر الطعام والشراب والكساء والمسكن والمركب (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) على العادة عن شيء من أموركم وأمور دنياكم ، (٣) فكان جوابهم ما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا أحضر هذا أو آن حضورك إنا كنا ظالمين أنفسنا بالشرك والمعاصي والتكذيب والعناد. قال تعالى : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي ما زال قولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) تلك دعوتهم (٤) التي يرددونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ (٥) حَصِيداً خامِدِينَ) أي مجتثين من أصولهم ساقطين في الأرض خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أخمدت فلم يبق لها لهيب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالظلم وأعلى درجاته الشرك بالله.

٢ ـ جواز الاستهزاء بالمشرك الظالم إذا حل به العذاب تقريعا له وتوبيخا.

٣ ـ لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لو طلبها الهالكون.

٤ ـ شدة الهول ورؤية العذاب قد تفقد صاحبها رشده وصوابه فيهذر ولا يدري ما يقول.

__________________

(١) قيل : هذه القرى هي مدائن كانت باليمن ، والعموم ظاهر في السياق ولا داعي إلى حصره في مدائن اليمن بل هو شامل عادا وثمود وأهل مدين والمؤتفكات ، والقصم : الكسر يقال : قصم ظهر فلان : إذا كسره.

(٢) الإحساس : الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.

(٣) وهذا استهزاء بهم وتهكم وتقريع وتوبيخ لهم.

(٤) أي : الكلمة التي يكررونها وهي : يا ويلنا إنا كنا ظالمين حتى هلكوا عن آخرهم.

(٥) الحصد : جزّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد ، وشاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود ، والخامد الذي لا حراك له من خمدت النار إذا زال لهيبها.

٤٠٠