أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

حسب سنته في الإضلال ويهدي من يشاء كذلك (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده (الْحَكِيمُ) (١) الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره ، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى ، وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه ويحبه ويحب أهله ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) أي موسى نبي بني إسرائيل (بِآياتِنا) أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢) أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد ، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (٣) أي وقلنا له : ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى ، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر ، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر (٤) والشكر ، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم ، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم وحم ، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله ..

٢ ـ بيان أن الكفر ظلام والإيمان نور.

٣ ـ بيان الحكمة في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.

__________________

(١) من مظاهر حكمته أنه ختم الرسالة برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وواجب على البشرية كلها الإيمان به وبما جاء به ومن أبى دخل النار ، فقد روى مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). فوحد بذلك البشرية توحيدا روحيا واجتماعيا وسياسيا لو أنها آمنت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذت بهدايته لحصل لها من الكمال والإسعاد ما لم يخطر على بال.

(٢) أن : تفسيرية فسرت الارسال لأنه فيه معنى القول.

(٣) التذكير إزالة نسيان شيء ، ويكون بتعليم مجهول كان شأنه أن يعلم ، ولما ضمّن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء أي : ذكّرهم تذكير عظة بأيام الله.

(٤) الصبر مع البلاء ، والشكر مع الرخاء ، وخير الناس من إذا ابتلى صبر وإذا أعطي شكر ولا يكون كذلك إلّا ذو علم وبصيرة.

٤١

٤ ـ تقرير أن الذي يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب.

٥ ـ فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.

٦ ـ فضيلة الصبر والشكر.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ قالَ مُوسى) : أي اذكر إذ قال موسى.

(يَسُومُونَكُمْ) : يذيقونكم.

(وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : أي يستبقونهنّ.

٤٢

(بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) : أي ابتلاء واختبار ، ويكون بالخير والشر.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) : أي أعلم ربكم.

(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الآخر.

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) : أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.

(مُرِيبٍ) : موقع في الريبة.

معنى الآيات :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي لتشكروها بتوحيده وطاعته ، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد ، فقال : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده ، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) أي الأطفال المولودين ، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا لفرعون : لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل فأمر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر ، وفي كونه نجاة منه ، بلاء بالخير ، وقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ (١) رَبُّكُمْ) هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسما لكم (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) (٢) نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في الإنعام والإسعاد (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم (إِنَّ عَذابِي

__________________

(١) أي : تكلم تكلما علنا وهو يناجي موسى عليه‌السلام بجبل الطور وأذّن وتأذن أعلم ، ومنه الأذان للصلاة ، قال الشاعر :

فلم نشعر بضوء الصبح حتى

سمعنا في مجالسنا الأذينا

(٢) سئل بعض الصالحين عن الشكر لله تعالى فقال : ألّا تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي أن داود عليه‌السلام أنه قال : أي ربي كيف أشكرك وشكري لك نعمة متجددة منك عليّ؟ قال : «يا داود : الآن شكرتني» ، وعليه فالشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم ولا يصرفها في غير طاعته.

٤٣

لَشَدِيدٌ) فاحذروه واخشوني فيه ، وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى) أي لبني إسرائيل (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) نعم الله فلم تشكروها بطاعته (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وكفرها من في الأرض جميعا (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم (١) (حَمِيدٌ) أي محمود بنعمه على سائر خلقه ، وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ (٢) نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ) أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم (٣) (إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا ، وقوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظا على أنبيائهم وحنقا ، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم ردا لدعوة الحق التي جاؤوا بها ، وقالوا لهم : (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي بما جئتم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه ، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها ، هذا وما زال السياق طويلا وينتهي بقوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.

٢ ـ وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.

٣ ـ كفر النعم سبب زوالها.

٤ ـ بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس ان شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.

٥ ـ التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.

__________________

(١) أي : لا يلحقه نقص بكفر الناس ولو كفروا أجمعون.

(٢) صالح لأن يكون من قول موسى عليه‌السلام ، ومن قول الله تعالى تعليما لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) ولا يعرف أنسابهم كذلك إلّا الله وفي الحديث : (كذب النسابون إن الله يقول لا يعلمهم إلا الله) قاله لمّا زاد النسابون على معد بن عدنان ، وقال : (لا ترفعوني فوق عدنان).

٤٤

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤))

شرح الكلمات :

(أَفِي اللهِ شَكٌ) : أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده ، إذ الاستفهام إنكاري.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى أجل الموت.

(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.

٤٥

(يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) : أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.

(وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) : أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.

(لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) : أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.

(لِمَنْ خافَ مَقامِي) : أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب والجزاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ ...) فقوله تعالى : (قالَتْ رُسُلُهُمْ) أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة (أَفِي اللهِ شَكٌ) (١)؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات (٢) والأرض ، فخالق السموات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له شريك في عبادته ، انه لا إله إلا هو وقوله : (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ (٣) ذُنُوبِكُمْ) وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم ، وقوله : (قالُوا) أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي (٤) ما أنتم إلا بشر مثلنا ، (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) أي تصرفونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدّعون أنها آلهة ، وقولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما نحن إلا بشر مثلكم فما لا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ (٥) يَشاءُ) أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة

__________________

(١) الاستفهام إنكاري أي : لا شك في الله ، أي في وجوده ، وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته ، وهي عبادته وحده لا شريك له.

(٢) هذا الوصف الكامل لله وهو مقتضى وجوده وألوهيته عزوجل.

(٣) على ما في التفسير (من) للتبعيض ، ويصح أن تكون زائدة ، والمغفرة لكل الذنوب لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله من سائر الذنوب.

(٤) أي : في الهيئة تأكلون كما نأكل وتشربون كما نشرب ، وتمرضون ، وتصحون مثلنا ولستم ملائكة.

(٥) ومما منّ الله به عليهم ، الحكمة والمعرفة والهداية إلى ما يوجب رضاه ومحبّته؟ وقيل : إنّ أعظم ما يمن به الله تعالى على عبده ذكره بأسمائه وصفاته.

٤٦

فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه ، (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يكفيهم كل ما يهمهم ، ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها بما تقدم : (وَما لَنا أَلَّا) (١) (نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه وحده دون سواه ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها : قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي ديننا الذي نحن عليه وهنا أوحى الله تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين (٢) جزاء (لِمَنْ خافَ مَقامِي) (٣) أي الوقوف بين يدي يوم القيامة (وَخافَ وَعِيدِ) على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إلىّ من كفره وشركه وظلمه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة

__________________

(١) (وَما) : اسم استفهام مبتدأ ، وما بعدها في موضع الحال ، والتقدير : أي شيء لنا في ترك التوكل على الله؟ والاستفهام انكاري.

(٢) وإسكان الصالحين الأرض بعد إهلاك الظالمين.

(٣) المقام : مصدر ميمي وقوله (مَقامِي) : أي قيامه بين يديّ للحساب ، والوعيد هو عذاب النار ، وقيل : مقامي : أي قيامي عليه ، ومراقبتي له والمعنى إذا خافني وراقبني ، وهو معنى صحيح ، والخوف من الله ومراقبته موجبة للصلاح المورث للأرض والدولة لقوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).

٤٧

الأدلة وقوة الحجج ، وسطوع البراهين.

٢ ـ بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم.

٣ ـ وجوب التوكل على الله تعالى ، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.

٤ ـ وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.

٥ ـ عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩))

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَاسْتَفْتَحُوا) : أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.

(وَخابَ) : أي خسر وهلك.

٤٨

(كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) : أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.

(مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) : أي هو ما يخرج سائلا من أجواف أهل النار مختلطا من قيح ودم وعرق.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) : أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته.

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت.

(أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) : أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد.

(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) : أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل لأنها باطلة بالشرك.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) : أي بصعب ممتنع عليه.

معنى الآيات :

هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بنى اسرائيل ، قال تعالى في الإخبار عنهم : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم (١) بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٢) أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله ، وقوله (١) : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) (٣) أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء

__________________

(١) كقولهم : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) قالها شعيب والمؤمنون معه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو طالبا نصره وهزيمة أعدائه.

(٢) العنيد : المعاند للحق ، والجبار : المتعاظم الشديد التكبر ، وقيل هو من يجبر الناس على مراده ، وهو وصف مذموم لغير الله تعالى.

(٣) لفظ وراء يطلق على ما كان خلفا وما كان أماما ، لأنّ كل ما ووري أي : استتر فهو وراء. وقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) : صفة لجبار عنيد ، والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد ، قال الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

أي بعده.

٤٩

فتسقيه الزبانية (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١) أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق ، (يَتَجَرَّعُهُ) أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته (٢) (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يدخله جوفه الملتهب عطشا لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته ، وقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) وقال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ومن وراء ذلك العذاب الذى هو فيه (عَذابٌ) أي لون آخر من العذاب (غَلِيظٌ) أي شديد لا يطاق ،

وقوله تعالى : (مَثَلُ (٣) الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ (٤) اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي شديد هبوب الريح فيه (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا) أي من أعمال في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) أي من الثواب والجزاء الحسن عليها ، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجون نفعه ، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به ، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه.

وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الذى دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين.

وقوله تعالى : (أَلَمْ (٥) تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السموات والأرض بالحق أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم

__________________

(١) الصديد : المهلة ، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه والتجرّع : تكلّف الجرع والجرع : بلع الماء.

(٢) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قوله تعالى (يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ..) قال : (يقرّب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره ..) الخ رواه الترمذي واستغربه.

(٣) المثل : الحال العجيبة أي حال أعمالهم كرماد.

(٤) الرماد : ما يبقى من احتراق الحطب والفحم ، ضرب الله في هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف.

(٥) الرؤية هنا : رؤية القلب وهي العلمية.

٥٠

وصفه في هذا السياق لأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثا وباطلا بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه ، وقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) غيركم يعبدونه ويوحدونه (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إنجاز وعد الله لرسله في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الآية.

٢ ـ خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم.

٣ ـ عظم عذاب يوم القيامة وشدته.

٤ ـ بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.

٥ ـ عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذابا أبديا.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا

__________________

(١) أي : أفضل منكم وأطوع وما في التفسير أدل على المقصود.

٥١

بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (١) : أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.

(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) : أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) : أي دافعون عنا بعض العذاب.

(ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : أي من ملجأ ومهرب أو منجا.

(لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) : بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) : أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة : الماء واللبن والخمر والعسل.

معنى الآيات :

في هذه الآيات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد ، قال تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها (فَقالَ الضُّعَفاءُ) أي الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) (٢) أي أتباعا في عقائدكم وما تدينون به ، (فَهَلْ

__________________

(١) البروز : الظهور ، وهو هنا الخروج من القبور والظهور خارجها للحشر حيث فصل القضاء ، ومن هذا قولهم : امرأة برزة أي تظهر للناس.

(٢) (تَبَعاً) : يصح أن يكون مصدرا أي : ذوي تبع ، ويجوز أن يكون جمع تابع مثل : حرس وحارس ، وخدم وخادم.

٥٢

أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) (١) اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك ، ولكنا ضللنا فأضللناكم (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا) اليوم (أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢) أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب ، وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم (٣) بما أخبر تعالى عنه بقوله : (وَقالَ الشَّيْطانُ) أي إبليس عدو بنى آدم (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) (٤) بأن من آمن وعمل صالحا مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه فى جواره ، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار (وَوَعَدْتُكُمْ) بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع (فَأَخْلَفْتُكُمْ) فيما وعدتكم به ، وكنت في ذلك كاذبا عليكم مغررا بكم ، (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أي لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) إذا (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب (وَما أَنْتُمْ) أيضا (بِمُصْرِخِيَ) (٥) ، أي بمغيثيّ (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ (٦) مِنْ قَبْلُ) إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه ، و (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي المشركين لهم عذاب أليم موجع ، وقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ (٧) الَّذِينَ آمَنُوا) أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهي العبادات التي تعبّد الله بها عباده فشرعها

__________________

(١) أي : لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه أو لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها.

(٢) المحيص : مصدر ميمي كالمغيث والمشيب من غاب وشاب ، وكذلك حاص يحيص حيصا عن كذا : هرب ونجا ، ويجوز أن يكون المحيص هنا اسم مكان أي : ما لنا من مكان نلجأ إليه وننجو فيه.

(٣) أي : على منبر من نار.

(٤) (وَعْدَ الْحَقِ) : يعني البعث والجنة والنار ، وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده ، ووعدتكم ألا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. فأخلفتكم.

(٥) (الصارخ) : والمستصرخ هو الذي يطلب النصر والمعاونة ، المصرخ هو المغيث قال الشاعر :

ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ

وليس لكم عندي غناء ولا نصر

(٦) (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : الميم مصدرية والتقدير كفرت بإشراككم إيّاي مع الله تعالى.

(٧) لمّا أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة وهو أسلوب الترغيب والترهيب الذي امتاز به القرآن الكريم لأنّه كتاب هداية وإصلاح.

٥٣

في كتابه وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (جَنَّاتٍ) (١) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل (خالِدِينَ فِيها) لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولا ، وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) (٢) أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبدا ، وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي السّلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيي بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن التقليد والتبعية لا تكون عذرا لصاحبها عند الله تعالى.

٢ ـ بيان أن الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها للناس.

٣ ـ تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.

٤ ـ وعيد الظالمين بأليم العذاب.

٥ ـ العمل لا يدخل الجنة إلا بوصفه سببا لا غير ، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤)

__________________

(١) (جَنَّاتٍ) : جمع جنة ، وجنّات : منصوب على نزع الخافض أي : في جنات لأنّ دخل كخرج لا يتعدى إلا بحرف الجر.

(٢) أي : بمشيئته وتيسيره.

٥٤

تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

شرح الكلمات :

(كَلِمَةً طَيِّبَةً) : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : هي النخلة.

(كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) : هي كلمة الكفر.

(كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) : هي الحنظل.

(اجْتُثَّتْ) : أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.

(بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) : هو لا إله إلا الله.

(وَفِي الْآخِرَةِ) : أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسألانه عن ربه ودينه ونبيه.

(بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) : أي بدلوا التوحيد والاسلام بالجحود والشرك.

(دارَ الْبَوارِ) : أي جهنم.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : أي شركاء.

٥٥

معنى الآيات :

الآيات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء ، قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أيها الرسول أي ألم تعلم (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) (١) هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة (٢) (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها) عال (فِي السَّماءِ) ، (تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسرا ومنصّفا ورطبا وتمرا وفي الصباح والمساء (بِإِذْنِ رَبِّها) أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله تثمر للعبد أعمالا صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله ، وقوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر في قلب الكافر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظل مرّة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء (اجْتُثَّتْ) أي اقتلعت واستؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي لا ثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان (وَفِي الْآخِرَةِ) أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عند ما يسألهم (٣) الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا على الكفر فيهلكوا ويخسروا ، وذلك

__________________

(١) الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله ، والشجرة الطيبة هي المؤمن ، والشجرة المضروب بها المثل هي النخلة ، وفي الحديث الصحيح : (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي؟ قال : هي النخلة) وورد : (مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك ، وإن جالسته نفعك ، وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به).

(٢) وورد أكرموا عمتكم النخلة ، ومن وجه شبهها بالمؤمن أنها برأسها تبقى وبقلبها تحيا وفي اللقاح ورائحة طلع ذكرها كرائحة المني ، وقيل : إنها خلقت من فضلة طينة آدم التي خلق منها ، فهي لذا عمة بني آدم.

(٣) روى النسائي عن البراء قال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) نزلت في عذاب القبر ، يقال : من ربك فيقول ربي الله وديني دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٦

لإصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم ، وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) تقرير لإرادته الحرة فهو عزوجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلا.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) التي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم (١) (دارَ الْبَوارِ) (٢) فهلك من هلك في بدر كافرا الى جهنم ، ودار البوار هي جهنم يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه ، وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا وهم كفار مكة لله أندادا أي شركاء عبدوها وهي اللّات والعزّى وهبل ومناة وغيرها من آلهتهم الباطلة ، جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم ، وقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا) (٣) أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) أي نهاية أمركم (إِلَى النَّارِ) حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.

٢ ـ المقارنة بين الإيمان والكفر ، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر.

__________________

(١) هذه الآية نزلت في قريش ، وقيل : في هلكى بدر ، وقيل : في متنصّرة العرب : جبلة بن الأيهم وأصحابه ، والظاهر أنها عامة في كل من كفر بالله ورسوله وحاد عن سبيلهما ، وقال الحسن : إنها عامة في جميع المشركين.

(٢) (الْبَوارِ) : الهلاك.

(٣) الأمر للتهديد والوعيد ، وفي اللفظ إشارة إلى قلّة ما في الدنيا من ملاذ مع سرعة زوالها ولزوم انقطاعها.

٥٧

٣ ـ بشرى المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمنا وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكرا ونكيرا على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.

٤ ـ الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

شرح الكلمات :

(لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) : هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة.

(الْفُلْكَ) : أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكّر ويؤنث.

(دائِبَيْنِ) : جاريين في فلكهما لا يفتران أبدا حتى نهاية الحياة الدنيا.

(لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) : كثير الظلم لنفسه ولغيره ، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.

معنى الآيات :

لما أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَ

٥٨

مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أمر رسوله أيضا أن يقول للمؤمنين يقيموا الصلاة وينفقوا من أموالهم سرا وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم (وَيُنْفِقُوا) (٢) ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان (سِرًّا وَعَلانِيَةً ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣) لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع ، ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.

وقوله تعالى : (اللهُ (٤) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي انشأهما وابتدأ خلقهما (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو ماء الأمطار (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ) والحبوب (رِزْقاً لَكُمْ) (٥) تعيشون به وتتم حياتكم عليه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) (٦) أي السفن (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) (٧) لا يفتران أبدا في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا أرزاقكم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (٨) مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم ، هذا هو الله المستحق لعبادتكم

__________________

(١) هي الصلوات الخمس : الصبح ، والظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء.

(٢) هي الزكاة ويدخل معها صدقة التطوع ، إذ الكلّ انفاق ، والسرية غالبا هي صدقة التطوع والعلانية هي الزكاة المفروضة

(٣) الخلال جمع خلة كقلة وقلال ، وهي المودة والصداقة والمنفي هنا هو آثارها بالنفع بالإرفاد والاسعاف بالثواب.

(٤) هذا استئناف واقع موقع الاستدلال على بطلان الشرك ووجوب التوحيد وما يترتب على ذلك من سعادة الموحدين وشقاء المشركين.

(٥) الرزق : القوت ، وهو كل ما يقتات به من أنواع الحبوب والخضر والفواكه واللحوم.

(٦) التسخير هو التذليل والتطويع ، وهو كناية عن كون الشيء قابلا للتصرف فيه.

(٧) الدّؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية لا تختلف وفعله : دأب يدأب دؤوبا على الشر : إذا استمر عليه ولم يقطعه.

(٨) (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : من كل مسؤول سألتموه شيئا فحذف مسؤول لدلالة الكلام عليه ، والمقابل محذوف أي : ومن كل ما لم تسألوه ، فإنّ هناك أشياء لم يسألها الإنسان ، وأعطاه الله تعالى إيّاها ، وهذا الحذف كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ..) وسرابيل تقيكم البرد : فحذف.

٥٩

رغبة فيه ورهبة منه ، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عدا بحال من الأحوال ، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية (لَظَلُومٌ) أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه ، والعياذ بالله تعالى من ذلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.

٢ ـ جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.

٣ ـ التعريف بالله عزوجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.

٤ ـ وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.

٥ ـ وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ

__________________

(١) الإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحصا إسما للعدد ، وهو منقول من الحصى وهي صغار الحجارة إذ كانوا يعدون الأعداد الكبيرة بها.

٦٠