أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

محمدا رسول الله. وأما قوله : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة. وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدبا وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ الأمر بالطهارة و (١) بيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل ، وكيفية التيمم (٢).

٢ ـ بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.

٣ ـ بيان موجبات الوضوء والغسل.

٤ ـ الشكر هو علة الإنعام.

٥ ـ ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ

__________________

(١) في الحديث الصحيح : «الطهور شطر الإيمان» رواه مسلم.

(٢) وكيفية المسح على الخفين هي أن يبلّ يده بالماء ثمّ يمسح ظاهر رجله اليمنى ثمّ يمسح ظاهر اليسرى ، دون باطنها لحديث علي : «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه» ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة.

٦٠١

الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(قَوَّامِينَ لِلَّهِ) : جمع قوام وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى ، وبحقوق الغير أيضا لا يفرط في شيء من ذلك.

(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) : جمع شهيد بمعنى شاهد والقسط العدل.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) : أي لا يحملنكم.

(شَنَآنُ) : بغض وعداوة.

العدل : خلاف الجور ، وهو المساواة بلا حيف ولا جور.

(هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) : أي العدل أقرب للتقوى من الجور.

(هَمَّ قَوْمٌ) : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير.

(يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : أي ليقتلوا نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ) : لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم (١) ففي الآية (٨) أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات ، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواء كان المشهود عليه وليا أو عدوا ، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به ، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى (٢) ، لأن من كانت ملكة العدل

__________________

(١) لمّا ذكرهم تعالى في الآيات السابقة بنعمه العظيمة طلب إليهم في هذه الآية أن يشكروا تلك النعم وذلك بالوفاء له بالعهد فقال لهم : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ).

(٢) المراد من التقوى : التقوى الكاملة التامة التي هي ملاك الأمر إذ بها تتحقق لهم ولاية ربّهم ما داموا مؤمنين متقين.

٦٠٢

صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات ، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات ثم أمرهم بالتقوى مؤكدا شأنها لأنها ملاك الأمر ، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معا هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨) أما الآية (٩) فقد تضمنت بشرى سارة (١) لهم وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة ، وقلت بشرى سارة لهم ، لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وارضاهم ، أما الآية الثالثة (١٠) فقد تضمنت وعيدا شديدا للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها ، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم (٢) الذين لا يفارقونها أبدا ، وأما الآية الرابعة (١١) فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه ، هي نجاة نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته :

أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما جاءوا يطالبون بدية قتيليهم فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين خرجوا إلى بني النظير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة إذ من جملة موادها تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكانا لائقا تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود ، وقد خلوا ببعضهم وتآمروا على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبدا وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقتله ، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمآمرة الدنيئة فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلاءهم من المدينة ، وقصتهم في سورة الحشر ، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(١) لقوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

(٢) في الآية قصر ادعائي وهو قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي لا غيرهم كأنهم المتأهلون للعذاب والخلود فيه ، دون غيرهم ، وذلك لعظم جرمهم بالكفر والتكذيب.

٦٠٣

آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا (١) إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أي بالقتل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا وهو معنى (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ (٢) عَنْكُمْ).

ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله (وَعَلَى (٣) اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد وهو ذكره وشكره بطاعته.

٢ ـ وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.

٣ ـ تأكيد الأمر بتقوى الله عزوجل.

٤ ـ الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين (٩) و (١٠).

٥ ـ وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.

٦ ـ وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ

__________________

(١) ولهذا الحادثة نظيراتها فقد تعددت مؤامرات اليهود ، والمشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ففي الحديبية حصل مثل هذا وحادثة غورث ودعثور كذلك إذ الكل همّوا فيها ببسط ايديهم بالأذى ولكنّ الله كفّ أيديهم فله الحمد وله المنّة.

(٢) كف اليد : كناية عن عدم القتل ، والقتال ، وبسطها كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.

(٣) في الآية قصر حقيقي ، وهو أنّ التوكل لا يكون إلّا على الله إذ لا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.

٦٠٤

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

شرح الكلمات :

الميثاق : العهد المؤكد بالأيمان.

بنو إسرائيل : اليهود.

(نَقِيباً) (١) : نقيب القوم : من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.

(وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) (٢) : أي نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.

(وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ) : أي أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : أسترها ولم أو آخذكم بها.

(فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) : أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب.

معنى الآية الكريمة :

لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو قوله إني معكم الأتي ، (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ..) (٣) أي من كل قبيلة من قبائلهم الاثني عشرة قبيلة نقيبا يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم ، وهم الذين بعثهم موسى عليه

__________________

(١) النقب والنّقب بفتح القاف وضمها : الطريق في الجبل ، والنقيب : الأمين على القوم ، وجمعه نقباء ، وهو من ينقب عن أمور القوم ومصالحهم ليرعاها لهم ، وقالوا : النقيب أكبر من العريف ، وفي البخاري : «ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم».

(٢) التعزير : التعظيم ، والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزّر. والتعزير في الشرع : الضرب دون الحدّ لردّ المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد.

(٣) من بين النقباء الاثنى عشر : يوشع ، وكالب ، وهما رجلان صالحان ، والباقون هلكوا فلا خير فيهم.

٦٠٥

السّلام إلى فلسطين ليتعرفوا على أحوال الكنعانيين (١) قبل قتالهم. وقال الله تعالى (إِنِّي مَعَكُمْ) وهذا بند الميثاق (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) أي وعزتي وجلالي (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) صدقتموهم فيما جاءوكم به (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) بنصرتهم وتعظيمهم ، (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإنفاق وفي تزكية النفس بالإيمان وصالح الأعمال (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ (٢) سَيِّئاتِكُمْ) بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) بعد ذلك التطهير (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) هذا جزاء الوفاء بالميثاق (فَمَنْ كَفَرَ) فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، أي خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة.

هداية الآية

من هداية الآية

١ ـ الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية.

٢ ـ إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.

٣ ـ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله (٣) بها من قبل هذه الأمة.

٤ ـ وجوب تعظيم (٤) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصرته في أمته ودينه.

__________________

(١) في الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يحتاج إليه من الاطلاع على حاجة من الحاجات الدينية والدنيوية ، وفيها دليل على اتخاذ العين : أي الجاسوس ، وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبسبة عينا في غزوة بدر بعثه لتقصي أخبار أبي سفيان. رواه مسلم.

(٢) هذا جواب القسم في قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ...) الخ وأمّا قوله تعالى : (إِنِّي مَعَكُمْ) فهو اخبار بوعد الله تعالى لبني اسرائيل ، وهي معيّة نصرة ، وتأييد إن هم وفّوا لله بما أخذ عليهم من عهد وميثاق وجملة : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) جملة مستأنفة ، ولا علاقة لها بجملة الوعد : (إِنِّي مَعَكُمْ).

(٣) ليس هذا من خصائص أمة الإسلام لأنّ هذه العبادات شرعت لإسعاد ، وإكمال الإنسان فلذا هي مشروعة لكل الأمم ، لتوقف الكمال والسعادة على مثلها من مزكيات النفوس ومهذبات الأخلاق.

(٤) لأنّ مقام الرسل شريف ، وكيف وهم رسل الله تعالى ، ثمّ لو لا وجوب ذلك لهم مع وجوب محبّتهم لما أطاعهم من بعثوا فيهم ، وأرسلوا إليهم.

٦٠٦

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

نقض الميثاق : حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.

(لَعَنَّاهُمْ) : طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) : يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة ، والكلم من الكلام.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا) : تركوا قسطا كبيرا مما ذكرهم الله تعالى به أي أمرهم به في كتابهم.

(خائِنَةٍ) : خيانة أو طائفة خائنة منهم.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) : أي لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسنا إليهم بذلك.

(إِنَّا نَصارى) : أي ابتدعوا بدعة النصرانية فقالوا إنا نصارى.

(فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) : الإغراء : التحريش والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبدا.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة

٦٠٧

(١٣) أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه‌السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثني عشر نقيبا قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم ، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) (١) أي فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم (لَعَنَّاهُمْ) أي أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسّلام (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٢) شديدة غليظة لا ترق لموعظة ، ولا تلين لقبول هدى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) فيقدمون ويأخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم ، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم في التوراة (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وتركوا كثيرا مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها ، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة ، ولا تزال يا رسولنا (تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) (٣) أي على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فإنهم لا يخونون كعبد الله بن سلام وغيره ، وبناء على هذا (فَاعْفُ) (٤) (عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم بالقتل ، (وَاصْفَحْ) عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٣) أما الآية الثانية (١٤) في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى (٥) وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيرا عنهم فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيرا مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه ، فكان أن أغرينا بينهم (٦) العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت

__________________

(١) الميم في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ) زائدة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولفت النظر إليه ليتأمل وتفهم معانيه.

(٢) قرئت : «قسيّة» يقال عام قسيّ : أي شديد لا مطر فيه ، فالمادة مأخوذة من الشدة والقساوة.

(٣) لفظ خائنة : صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة ، كما في التفسير ، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة كقولهم في القيلولة قائلة ، والخيانة هى المعصية يحدثونها كالكذب ، والفجور ، وأصل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد.

(٤) هذا حمل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكارم الأخلاق لأنّ أذاهم كان منصبا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بعدم مقابلة الأذى بالأذى بل بالعفو والصفح ليعظم مقامه أمامهم ويكبر في أعينهم.

(٥) التعبير بلفظ النصارى فيه إشارتان مهمتان. الأولى : أنّ النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى فهو ينفي عنهم ذلك ، والثانية : بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذا من قول عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) فقال الحواريون : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) إذا لم لا تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله وهم المسلمون؟.

(٦) من الجائز أن يقال : أغرينا بينهم العداوة والبغضاء هو عائد على اليهود والنصارى لأنّ العداوة بينهم ثابتة إلّا أنّ السياق هو في النصاري فطوائفهم متعددة ومتعادية متباغضة كما أخبر تعالى. والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ العداوة من العدوان فقد ينتج عنها أذى بالضرب أو القتل. وأمّا البغضاء فهي من البغض القلبي فلا يتوقع من صحابها أذىّ.

٦٠٨

بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما ما كان بين العبد وربه.

٢ ـ الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.

٣ ـ استحباب العفو عند القدرة ، وهو من خلال الصالحين.

٤ ـ حال النصارى (١) لا تختلف كثيرا عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد. وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر فهم في عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥))

شرح الكلمات :

(أَهْلَ الْكِتابِ) (٢) : هنا هم اليهود والنصارى معا.

__________________

(١) جائز أن يكون النصارى : جمع نصراني منسوب إلى النصر كما قالوا شعراني ، ولحياني منسوب إلى الشعر ، واللّحية.

(٢) الكتاب اسم جنس يصدق على الواحد والاثنين والأكثر ، والمراد بأهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، ونداؤه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وانحرافهم الخطير حيث بعدوا عن كلّ خير.

٦٠٩

(قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) : الكتاب التوراة والإنجيل ، وما يخفونه صفات النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الأحكام ، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة كالرجم مثلا.

(وَيَعْفُوا (١) عَنْ كَثِيرٍ) : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.

(نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) : النور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكتاب القرآن الكريم.

(إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : الإسلام وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به. والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم وهو ربهم وأرحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإيمان برسوله وكتابه ذلك الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزى والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقي ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) بوحينا (كَثِيراً) من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق جحدتموه وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس ، وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك. (وَيَعْفُوا) يترك كثيرا لم يذكر لعدم الداعى إلى ذكره يا أهل الكتاب (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ) ربكم (نُورٌ) هو رسولنا محمد (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكِتابٌ مُبِينٌ) وهو القرآن إذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما تتوقف سعادة الإنسان وكماله عليه دنيا وأخرى (يَهْدِي بِهِ اللهُ) تعالى (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عزوجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه به (سُبُلَ السَّلامِ) أي طرق السعادة والكمال ، (وَيُخْرِجُهُمْ) أي المتبعين رضوان الله (مِنَ الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الكفر والشرك والشك ، إلى نور الإيمان الصحيح والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم أي أولئك الراغبين حقا في رضا الله (يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ

__________________

(١) (يَعْفُوا) معناه يعرض ولا يظهر ، يقال : عفا الرسم إذا لم يظهر فعفا عن كذا : أعرض عنه ولم يظهره.

(٢) واللّفظ صالح لأن يكون المراد بالنور الإسلام ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نور والإسلام نور إذ كل منهما يهدي إلى دار السّلام في الآخرة وإلى الطهر والصفاء والسعادة والكمال في دار الدنيا.

٦١٠

مُسْتَقِيمٍ) لا يضلون معه ولا يشقون أبدا وهو دينه الحق الإسلام الذي لا يقبل دينا غيره ، (١) والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ نصح الله تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السّلام بالدخول في الإسلام.

٢ ـ بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكرا وحسدا حتى لا يؤمن الناس بالإسلام ويدخلوا فيه.

٣ ـ اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه الى سعادته وكماله.

٤ ـ القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.

٥ ـ طالب رضا (٢) الله بصدق يفوز بكل خير وينجو من كل ضير.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ

__________________

(١) شاهده قوله تعالى من سورة آل عمران : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

(٢) لأنّه يطلبه من طريق الإسلام ، والإسلام قائد أهله إلى النجاة من كلّ مرهوب وإلى الفوز بكلّ محبوب مرغوب.

٦١١

رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ) : لأنهم جحدوا الحق وقالوا كذبا الله هو المسيح بن مريم.

(الْمَسِيحُ) : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه‌السلام.

(مَرْيَمَ) : بنت عمران من صلحاء بني إسرائيل والدة عيسى عليه‌السلام.

(يُهْلِكَ) : يميت ويبيد.

(قَدِيرٌ) : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.

الأحباء : واحده حبيب كما أن الأبناء واحده ابن.

(عَلى فَتْرَةٍ) : الفترة زمن انقطاع الوحى لعدم إرسال الله تعالى رسولا.

(بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) : البشير : المبشر بالخير ، والنذير : المنذر من الشر وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب ففي الآية الأولى (١٧) أخبر تعالى مؤكدا الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم فقال : (لَقَدْ كَفَرَ (١) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ (٢) الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوق المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء وهو كفر من أقبح أنواع الكفر ، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به ، لأن الرضا بالكفر كفر.

__________________

(١) المراد من ذكر هذا الخبر : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) هو بيان كفرهم بهذه المقالة ، لا أنّه تقرير لضلالهم ونقضهم الميثاق.

(٢) هذا عائد إلى قول بعضهم : إن المسيح لاهوت ناسوت أي : إله وإنسان ، وهو خلط وخبط لا نظير لهما ، وأشهر طوائفهم وهم اليعقوبية والملكائية ، والنسطورية ينكرون أن يكون الله هو المسيح ، ولكن يقولون : إنّ عيسى ابن الله ، وإنّه إله وهو كذب صراح وكفر بواح.

٦١٢

وقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ (١) يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) يعلم رسوله كيف يحتج على أهل هذا الباطل فيقول له : قل لهم فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما‌السلام (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) والجواب قطعا لا أحد ، إذا فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلها مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) خلقا وتصرفا ، وأنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) خلقه بلا حجر عليه ولا حظر وهو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم ، وخلق حواء من آدم ، وخلق عيسى من مريم بلا أب ، ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه‌السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلا ولا شرعا أن يكون هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة مع الله كما هي عقيدة أكثر النصارى ، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (١٨) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معا وهو دعواهم أنهم (أَبْناءُ اللهِ (٢) وَأَحِبَّاؤُهُ) إذ قال تعالى عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ (٣) أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وهو تبجح وسفه وضلال فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله : قل لهم يا رسولنا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فهل الأب يعذب أبناءه والحبيب يعذب محبيه ، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوما بسبب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوما كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) والحقيقة أن هذا القول منكم من حملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها ، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحا غفر له وأكرمه ، ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه كما هي سنته في سائر عباده ، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه ، واليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١٩) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل

__________________

(١) الفاء : للعطف على جملة محذوفة متضمنة كذبهم في قولهم ، والتقدير : قل كذبتم فمن يملك ... الخ.

(٢) التعبير بالأبوة والبنوة المنسوبة إلى الله تعالى تفيض بها التوراة والانجيل وهو من التحريف الذي حصل لكتابيهم ، وأمّا قول من قال : هذه الأبوة والبنوة كانت تعني التشريف فاغتر بها المتأخرون واعتقدوا حقيقتها ، هذا القول فيه مجازفة لا تقبل.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما خوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما من اليهود بالعقاب فقالوا : لا نخاف فإننا أبناء الله وأحبّاؤه فنزلت هذه الآية.

٦١٣

الكتاب فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله يا أهل الكتاب وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة (١) من الرسل إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) (٢) فها هو ذا البشير محمد (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءكم (٤) فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا ، وإلا فالعذاب لازم لكم والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.

٢ ـ بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.

٣ ـ نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.

٤ ـ قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حين فترة من الرسل.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ

__________________

(١) الفترة مشتقة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن ، والأصل فيها الانقطاع عمّا كان عليه من الجد في العمل ، والمراد بها في الشرع : هي انقطاع ما بين الرسولين.

(٢) (مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) من زائدة ، وزيادتها لغرض المبالغة في نفي المجيء ، وتنكير بشير ونذير للتقليل أي : ما جاءنا أقل بشير وأقلّ نذير.

(٣) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب قالوا لليهود : يا معشر يهود اتقوا الله فإنكم والله لتعلمون أن محمدا رسول الله ، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه بصفته فقالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعد من بشير ولا نذير فنزلت هذه الآية.

(٤) قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ ...) الآية الفاء هي الفاء الفصيحة ، فقد أفصحت عن محذوف ما بعدها يكون علّة له ، وتقديره هنا : لا تعتذروا فقد جاءكم ... الخ.

٦١٤

فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(١) (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : منها نجاتهم من فرعون وملائه.

(إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) (٢) : منهم موسى وهرون عليهما‌السلام.

(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) : أي مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.

(الْعالَمِينَ) : المعاصرين لهم والسابقين لهم.

(الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ) : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها.

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) : أي ترجعوا منهزمين إلى الوراء.

(قَوْماً جَبَّارِينَ) : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا.

(يَخافُونَ) : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.

(أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) : أي بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها ، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ قال الله تعالى لرسوله محمد

__________________

(١) النعمة : اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فهو دال على العدد الذي لا يحصى.

(٢) أنبياء : جمع نبي ولم يصرف لأنّ فيه ألف التأنيث الممدودة.

٦١٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر (١) (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) كموسى وهرون عليهما‌السلام (وَجَعَلَكُمْ (٢) مُلُوكاً) تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عزوجل (٣) (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) للسّكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين ، لا أمر الله بالجهاد أطعتم ، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم ، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك ، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير فيهم ، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه‌السلام : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) (٤) (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)!! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول اللهم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوحنا وهما اللذان قال تعالى عنهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي أمر الله تعالى (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) فعصمهما من إفشاء سر ما رأو من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه‌السلام قالا للقوم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب المدينة (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) وذلك لعنصر المباغتة وهو عنصر مهم في الحروب ، (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها ، لأنها أرض (٥) القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع ، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية.

__________________

(١) في هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقي من عنت وعناد يهود المدينة لذا أعلمه بما لاقى موسى منهم من غلظة وجفاء وتعنت وعناد.

(٢) روي عن الحسن وزيد بن أسلم : أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم : إذ سأله رجل قائلا : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم ، قال ألك منزل تسكنه؟ قال نعم قال : فأنت من الأغنياء قال : فإنّ لي خادما قال : فأنت ملك.

(٣) سقطت هذه الآية من التفسير : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وهو قول موسى لقومه ، وما آتاهم منه : المنّ والسلوى والغمام وكون الأنبياء في بني اسرائيل في هذا المذكور تبدو الخصوصية المذكورة في قوله : (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

(٤) (جَبَّارِينَ) : أي عظام الأجسام طوالها والجبّار من الناس : المتعظم الممتنع من الذل والفقر أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم ، وذكر القرطبي هنا حديثا مسهبا عن عوج بن عناق وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.

(٥) هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت ، فتنتهي إلى حماة شمالا وغزة وحرون جنوبا (نقلا عن التنوير).

٦١٦

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم.

٢ ـ فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.

٣ ـ بيان الأثر السيء الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة ، وقد استعملت ألمانيا النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحا كبيرا حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جدا.

٤ ـ بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.

٥ ـ فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

شرح الكلمات :

(لَنْ نَدْخُلَها) : أي المدينة (١) التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها.

(الْفاسِقِينَ) : أي عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبنا وخوفا.

(مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) : أي تحريما كونيا قضائيا لا شرعيا تعبديا.

(يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي في أرض سينا متحيرين فيها لا يدرون أين يذهبون مدة أربعين سنة.

(فَلا تَأْسَ) : أي لا تحزن ولا تأسف.

__________________

(١) إليا أو أريحا لا تعدو واحدة منهما عند أكثر المفسرين والمؤرخين.

٦١٧

معنى الآيات :

هذا هو جواب القوم على طلب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو ، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء وخسة : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها ..) أي المدينة (... أَبَداً ما دامُوا فِيها ..) أي ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم (١) يدافعوا ، (.. فَاذْهَبْ أَنْتَ (٢) وَرَبُّكَ فَقاتِلا ..) أهل المدينة أما نحن فهاهنا قاعدون. أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئا من القوم الفاسقين : رب أي يا رب (إِنِّي لا أَمْلِكُ (٣) إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ..) يريد هارون (.. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) فطلب بهذا البراءة (٤) منهم ومن صنيعهم ، إذ قد استوجبوا العذاب قطعا ، فأجابه ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة (٢٦) (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ..) أي الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلا ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة (أربعين سنة) وكيف كانوا فيها؟ يتيهون (٥) في أرض سينا متحيرين في سيرهم لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون ، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين إذ هذا جزاؤهم من العذاب عجّل لهم فليذوقوه!!.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان جبن اليهود ، وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.

٢ ـ وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.

٣ ـ حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم.

__________________

(١) هذا الجبن والخور الذي أصاب القوم سببه : ما أذاعه النقباء فيهم ما عدا يوشع وكالب من أنّ العمالقة قوم جبّارون أجسامهم كذا وكذا في طولها وعرضها وقوتهم كذا وكذا ...

(٢) هذه العبارة تدّل على جهل القوم بالله تعالى وبما يجب له من التعظيم والوقار وهي كلمة كفر إن لم يعذر صاحبها بجهل بالله تعالى وصفاته.

(٣) ليس معنى الملك أنّه يملكه كعبد لا! إنه أخوه فكيف يملكه وإنّما مراده : إني لا أملك إلّا نفسي وأخي لا يملك إلّا نفسه أيضا لا قدرة لي ولا له على بني اسرائيل.

(٤) أراد مفاصلتهم لما ظهر منهم من التمرّد ، والعصيان والبعد عنهم حتى لا يصيبهما ما يصيبهم من العقاب.

(٥) التيه في اللغة : الحيرة يقال : تاه يتيه تيها : إذا تحيّر ، والأرض التيهاء : التي لا يهتدي فيها وتاه المرء في الأرض ذهب فيها متحيّرا لا يدري أين يذهب أو يجيء.

٦١٨

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) : وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك.

(نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) : خبر ابني آدم هابيل وقابيل.

(قُرْباناً) : القربان ما يتقرب (١) به الى الله تعالى كالصلاة والصدقات.

(بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) : مددت إلّي يدك.

(أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك في معاصيك.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) : شجعته على القتل وزينته له حتى فعله.

(غُراباً) : طائرا أسود معروف يضرب به المثل في السواد. (٢)

__________________

(١) قيل كان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنّه صاحب زرع واختارها من أردأ زرعه حيث إنّه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها ، وأمّا قربان هابيل فكان كبشا لأنّه صاحب غنم واختاره من أجود غنمه.

(٢) يقال : أسود غريب وقال الشاعر :

حتى إذا شاب الغراب أتيت أهلي

.

٦١٩

(يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) : يستر بالتراب جسد أخيه ، وقيل فيه سوءة ، لأن النظر إلى الميت تكرهه النفوس ، والسوءة : ما يكره النظر إليها.

معنى الآيات :

ما زال السياق القراني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فالله تعالى يقول لرسوله واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به ، توبيخا لهم ، وإظهارا لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم ، وكنت معهم كخير ابني آدم ، (.. إِذْ قَرَّبا قُرْباناً (١) ..) ، أي قرب كل منهما قربانا لله تعالى فتقبل الله قربان (٢) أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة ، (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل لأنه كان من أردأ ماله ، ونفسه به متعلقة ، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسدا له ـ كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك ـ فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عايد إلى نفسك لا إلى غيرك إنما يتقبل الله من المتقين (٣) للشرك فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصا له ، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك ، فلم يتقبل منك. ووالله قسما به (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ، وعلل ذلك بقوله : (.. إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، أي أن ألقاه بدم أرقته ظلما. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك الذي قارفته في حياتك كلها ، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبدا قال تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أي شجعته عليه وزينته له فقتله (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤) النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به

__________________

(١) القربان : اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد ، إذ لكلّ منهما قربان وليس قربانا واحدا اشتركا فيه.

(٢) إن قيل كيف عرف القبول من عدمه؟ فالجواب : إنّ سنّة الله تعالى فيمن سبق أنّ من قرّب لله تعالى قربانا فقبله أرسل عليه نارا من السماء فأحرقته ومن لم يتقبله لم يفعل به ذلك ، ويشهد له حديث الصحيح في غنائم بني اسرائيل إذ كانت محرّمة عليهم ولم تحل إلّا لأمة الإسلام ، إذ أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ نارا تنزل من السماء على الغنائم فتحرقها.

(٣) فيه دلالة على أن قابيل لم يكن تقيا ، وقابيل في لغة بني اسرائيل بالنون : قابين وكذا هابيل وقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ ..) الخ مسبوق بكلام دلّ عليه السياق وهو مثل قوله : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني وكونه تقبل مني لا يستوجب قتلي إنّما يتقبل الله من المتقين.

(٤) لما كان أول من سن القتل فإنه لا تقتل نفس ظلما إلّا وعليه كفل منها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنّه أول من سن القتل» وفي الحديث الآخر : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

٦٢٠