أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

انتهاؤكم خيرا لكم حالا ومآلا ، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد. سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد ، ولم تكن له صاحبة ، ولم يكن ذا حاجة وله ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وحكما وتدبيرا ، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلا شاهدا عليما فحسبكم الله تعالى ربّا وإلها فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون إلى غيره ولا تطلبون سواه.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٧١) وأما الآيتان الثانية (١٧٢) والثالثة (١٧٣) فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه‌السلام لن يستنكف أبدا أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال عبد الله ورسوله ، حتى الملائكة المقربون منهم فضلا عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته ، ثم توعد تعالى كل من يستنكف عن عبادته ويستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعا ويحاسبهم على أعمالهم فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنوا بألوهيّته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهى الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعف الى سبعمائة ضعف. وأما الذين استنكفوا واستكبروا أي حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع اليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذابا أليما أي موجعا ولا يجدون لهم من دونه وليا ولا ناصرا فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الغلو في الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع (١) والضلال.

٢ ـ حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقا والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة.

٣ ـ بيان المعتقد الحق في عيسى (٢) عليه‌السلام ، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة

__________________

(١) قال مطرف بن عبيد الله : والعدل حسنة بين سيئتين ، الأولى الإفراط ، والثانية التفريط ، فالغلو إفراط ، والتقصير تفريط ، وكلاهما مذموم قال الشاعر :

وأوف ولا تستوف حقك كله

وسامح فلم يستوف قط كريم

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

(٢) ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية قصة طويلة في سبب فساد دين المسيح عليه‌السلام ، وأنّ الذي أفسده هو بولس اليهودي ولعلنا نذكرها في تفسير آية المائدة : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) إن شاء الله تعالى.

٥٨١

جبريل (١) عليه‌السلام.

٤ ـ حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله.

٥ ـ بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

شرح الكلمات :

(بُرْهانٌ) : البرهان : الحجة والمراد به هنا محمد (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(نُوراً مُبِيناً) : هو القرآن الكريم.

(وَاعْتَصَمُوا) : أي تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.

(فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) : الجنة

(صِراطاً) : طريقا يفضى بهم الى جوار ربهم في دار الكرامة.

معنى الآيتين :

(٣) ينادى الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبرا إياهم قاطعا للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ووجوب الإيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة رسوله وأنه أنزل عليه كتابه شافيا كافيا هاديا نورا مبيّنا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السّلام ، ويخرجه من الظلمات إلى النور. بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل معذرة

__________________

(١) قال أبي بن كعب رضي الله عنه : خلق الله أرواح بني آدم لمّا أخذ عليهم الميثاق ثمّ ردها إلى صلب آدم ، وأمسك عنده روح عيسى عليه‌السلام ، فلما أراد خلقه أرسل ملك الروح إلى مريم فكان منه عيسى فلذا قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) هذا الأثر أحسن ما يقال في قوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ).

(٢) هذا الذي قرّره ابن جرير ، وأنّ البرهان في هذه الآية هو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) هذا النداء وما بعده كالفذلكة لما تقدم من دعوة أهل الكتابين إلى الدخول في الإسلام لإقامة الحجة على الجميع إذ وجه تعالى نداءه العام لكل البشر وهو يتناول أهل الكتابين والمشركين وغيرهم لإقامة الحجة على الجميع.

٥٨٢

وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر

فالذين آمنوا بالله ربّا وإلها وبرسوله نبيّا ورسولا واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة (١) منه وفضل وذلك بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنان وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف وجزاءهم معلوم فلا حاجة الى ذكره : إنه الحرمان والخسران.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الدعوة الاسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.

٢ ـ إطلاق لفظ البرهان على النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشريّ أن يساميه فيه برهان على وجود الله وعلمه ورحمته.

٣ ـ القرآن نور لما يحصل به من الإهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال.

٤ ـ ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

شرح الكلمات :

(يَسْتَفْتُونَكَ) (٢) : يطلبون فتياك في كذا.

__________________

(١) الرحمة : الجنة بعد النجاة من النار ، والفضل : ما ينعم به عليهم في دار السّلام ، وأعظمه النظر إلى وجهه الكريم وقوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يهديهم إلى ما يصل بهم إلى رضاه ، وجواره ، وهو الإسلام ، وذلك بأن يثبتهم عليه حتى الموت.

(٢) روي أن هذه الآية وتسمى آية الكلالة نزلت في آخر ما نزل ، وسبب نزولها أن جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبي بكر فأغمى على عبد الله فتوضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم صب عليه من فضل وضوئه فأفاق فقال يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان له تسع أخوات فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية.

٥٨٣

(يُفْتِيكُمْ) : يبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر الكلالة.

(الْكَلالَةِ) : أن يهلك الرجل ولا يترك ولدا ولا ولد ولد وإنما يترك أخا أو أختا.

الحظ : النصيب.

(أَنْ تَضِلُّوا) : كيلا تضلوا أي تخطئوا في قسمة التركة.

معنى الآية الكريمة :

هذه الآية تسمى آية الكلالة (١) ، وآيات المواريث أربع الأولى في شأن الولد والوالد (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٢) والثانية في شأن الزوج والزوجة (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الخ .. وفي شأن الإخوة لأم (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الخ .. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء ، والثالثة هي هذه (يَسْتَفْتُونَكَ) الخ. وهى في شأن ميراث الاخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولدا ولا ولد ولد .. وهو معنى الكلالة والرابعة في آخر سورة الانفال وهي في شأن ذوى الأرحام وهى قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

وهذه الآية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة فقال تعالى يسألونك أيها الرسول عن الكلالة قل للسائلين الله يفتيكم في الكلالة وهذه فتواه : إن هلك امرؤ ذكرا كان أو أنثى وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها أيضا إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء أي ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الانثتين وبعد أن بيّن تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيّنا حكمة هذا البيان : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي كيلا (٣) تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ (٤) عَلِيمٌ) فلا

__________________

(١) وتسمى آية الصيف لأنها نزلت في زمن الصيف ، وقال عمر رضي الله عنه إني والله لا أدع شيئا أهمّ إليّ من أمر الكلالة وقد سألت رسول الله عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في جنبي أو صدري وقال : «يا عمر ألا تكفيك آية الصيف».

(٢) الجمهور ما عدا ابن عباس والظاهرية على أنّ الأخوات عصبة مع البنات فلو هلك هالك وترك أختا له وبنتا ، فإنّ المال بينهما نصفين وإن ترك ثلاثا فالمال بينهن أثلاثا وهكذا الأخوات عصبة مع البنات قضى بهذا معاذ رضي الله عنه.

(٣) بعضهم يقدّر كراهة أن تضلوا ، ولمّا كان الحذف لازما للتخفيف فتقدير كيلا أفضل من لفظ الكراهة ، وهو ما ذكرته في التفسير ولم أذكر غيره.

(٤) من جملة الأشياء العليم بها أحوالكم وما تتطلبه حياتكم في الدنيا والآخرة ، وهذا يقتضي الثقة والطمأنينة فيما شرع لكم وتنفيذه في إخلاص وحسن أداء.

٥٨٤

يجهل شيئا ولا يخفى عليه آخر وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ جواز (١) سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له.

٢ ـ اثبات وجود الله تعالى عليما قديرا سميعا بصيرا وتقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سؤال الأصحاب واجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته.

٣ ـ بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك ، والاختان لهما الثلثان ، والاخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين والاخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد ، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم تترك ولدا ولا ولد ولد.

سورة (٢) المائدة

مدنيّة

وآياتها مائة وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ

__________________

(١) بل الواجب أن يسأل كل من لا يعلم حتى يعلم لقول الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(٢) سورة المائدة من آخر ما نزل من السور في القرآن ، وأحكامها كلها محكمة ما عدا قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ...) الآية ، وهو قول الشعبي رحمه‌الله تعالى ، وفيها أحكام لم توجد في غيرها من السور ، من ذلك حكم المنخنقة وما بعدها ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، والوضوء وحكم السرقة.

٥٨٥

الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

شرح الكلمات :

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) : العقود : هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها : عدم نكثها والاخلال بمقتضاها.

(بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (١) : هي الإبل والبقرة والغنم.

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : أي محرمون بحج أو عمرة.

(شَعائِرَ اللهِ) : جمع شعيرة وهي هنا مناسك الحج والعمرة ، وسائر اعلام دين الله تعالى.

(الشَّهْرَ الْحَرامَ) : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.

(الْهَدْيَ) : ما يهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.

(الْقَلائِدَ) : جمع قلادة ما يقلد الهدى ، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.

(آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) (٢) : أي من إحرامكم.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) : أي لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.

(أَنْ صَدُّوكُمْ) : أي لأجل أن صدوكم.

(الْبِرِّ وَالتَّقْوى) : البر : كل طاعة لله ورسوله والتقوى : فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سميت البهيمة بهيمة : لابهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها ومنه باب مبهم أي مغلق ، وليل بهيم لا يميّز ما فيه من الظلام ، وقولهم في الشجاع من الرجال : بهمة لأنّه لا يدرى من أين يؤتى.

(٢) قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب ، وهذه قاعدة أصولية : كل أمر بعد حظر فهو للإباحة.

٥٨٦

(الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : الإثم : سائر الذنوب ، والعدوان : الظلم وتجاوز الحدود.

(شَدِيدُ الْعِقابِ) : أي عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.

معنى الآيتين :

ينادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول يا أيها الذين آمنوا أي يا من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدى أوفوا بالعقود (١) فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها ، فلا تتركوا واجبا ولا ترتكبوا منهيا ، ولا تحرموا حلالا ولا تحلو حراما أحللت لكم بهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم الا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ (٢) ...) فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم (٣) حرم فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (٤).

أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاما بعضها نسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به الى يوم الدين فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب ، ولا بفعل محرم ، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرما في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، ومن المنسوخ أيضا هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدى ، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ (٥) وَلَا الْقَلائِدَ (٦) وَلَا آمِّينَ

__________________

(١) قال الحسن : يعني عقود الدين ، وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ، ومزارعة ومصالحة ، وتمليك وتخيير ، وعتق وتدبير ، وكذلك ما عاهد عليه الله تعالى من نذر وسائر التكاليف الشرعية وما خرج من عقد على شريعة الله رد وحل ولا وفاء فيه.

(٢) وما حرّم بالسنة وهو كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور لثبوت ذلك في الصحاح.

(٣) أمّا إذا حلّوا من إحرامهم فالصيد حلال كما هو في غير الإحرام إلّا ما كان من صيد الحرم فإنّه حرام في الإحرام والإحلال.

(٤) هذه الجملة تقتضي تسليم الأمر لله فلا اعتراض عليه فيما يحل ويحرّم وهو كذلك.

(٥) الهدي : ما يهدى إلى الحرم ومن خصائصه أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى حتى يسيل الدم ، وبذلك يعلم أنه هدي ، وقال بالإشعار كافة الفقهاء إلّا أبا حنفية ولاموه وعنّفوا عليه لتركه السنة الصحيحة في الإشعار.

(٦) يحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلد لأنّه أصبح كالوقف لله تعالى ، ومعنى التقليد أن يوضع في عنقه قلادة يعلم بها أنه هدي وهذا يكون في الغنم لأنها لا تشعر.

٥٨٧

الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً). والمراد بالفضل الرزق بالتجارة في الحج ، والمراد يالرضوان ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.

وقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ..) خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرما وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى (.. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى ، أي على أداء الواجبات والفضائل ، وترك المحرمات والرذائل ، ونهاهم عن التعاون عن ضدها فقال عزوجل : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ (١) وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ (٢) وَالْعُدْوانِ). ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلا وتركا أمرهم بها ، فقال واتقوا الله بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك ، وحذرهم من إهمال أمره بقوله (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فاحذروه بلزوم التقوى.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافطة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.

٢ ـ إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.

٣ ـ تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر. (٣)

٤ ـ وجوب إحترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه ، وتركا لما وجب تركه.

٥ ـ حرمة الاعتداء مطلقا حتى على الكافر.

٦ ـ وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين ، وحرمة تعاونهم على المساس به.

__________________

(١) في البر وهو فعل الخير رضا الناس ، وفي التقوى رضا الله ، ومن جمع بين رضا الناس ورضا الله ، فقد جمع الخير كله وتمت سعادته في دنياه وآخرته.

(٢) أي ولا تعانوا على فعل الاثم من سائر كبائر الذنوب والفواحش ولا على الظلم والاعتداء إذ كلاهما مما حرّم الله تعالى.

(٣) لأنّ صيد البحر حلال في الإحرام وغيره لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الآية من آخر هذه السورة.

٥٨٨

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

شرح الكلمات :

(الْمَيْتَةُ) : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه أي بدون تذكية. (١)

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : أي ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى مثل المسيح ، أو الولي ، أو صنم.

(الْمُنْخَنِقَةُ) : أي بحبل ونحوه فماتت.

(الْمَوْقُوذَةُ) (٢) : أي المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.

(الْمُتَرَدِّيَةُ) : الساقطة من عال إلى أسفل مثل السطح والجدار والجبل فماتت.

(النَّطِيحَةُ) (٣) : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) : أي ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) (٤) : أي أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه (٥) بذبحة أو نحره.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) : أي ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلها أو زعيما أو عظيما ، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.

__________________

(١) ومن غيرها من مأكول اللّحم كالضباء والأرانب ، وأنواع الصيد باستثناء ما ذكر عليه اسم الله حال صيده فإنّ ما مات منه يؤكل ولو لم يذكّ ولا يقال فيه ميتة.

(٢) يقال وقذه يقذه وقذا : إذا ضربه بحجر ونحوها ، والوقذ : شدة الضرب.

(٣) فهي فعيلة بمعنى مفعولة ، فالنطيحة هي المنطوحة.

(٤) الاستثناء متصل وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة ولا التفات إلى الخلاف في هذه المسألة.

(٥) ما ذبح من قفاه لا يؤكل إجماعا واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثمّ ردّها فورا ، الصحيح أنها تؤكل ، ولا خلاف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذكي جاز أكله للحديث الصحيح.

٥٨٩

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) : أي وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنياء ، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) : أي ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.

(فَمَنِ اضْطُرَّ) : أي من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.

(فِي مَخْمَصَةٍ) : المخمصة شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.

(غَيْرَ مُتَجانِفٍ) : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.

معنى الآية الكريمة :

هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة وهو قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلى :

الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذبح على النصب. (١)

وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) (٢) يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حيا وأنه مات بالذبح. (٣)

وقوله (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) يريد ولا يحل لكم الاستسقام بالأزلام ، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لازج له ولا ريش فيه ، يضعونها في خريطة كالكيس ، وقد كتب على واحد أمرني

__________________

(١) ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به هما كشيء واحد إلا أن ما أهلّ لغير الله به غالبا يكون مذبوحا لغير الأصنام كالأنبياء ، والأولياء.

(٢) الذكاة في لغة العرب : الذبح ، فقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي ذبحتم مع ذكر اسم الله عليها ، وفي الحديث : «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ، والذكاء : سرعة الفطنة ، والتذكية مأخوذة من التطيّب ، فذكّاها : بمعنى طيّبها بالذبح ، ومنه : رائحة ذكية أي طيبة.

(٣) والذكاة تقع بكل حادا ينهر الدم ويفري الأوداج ، ما عدا العظم والسن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس السّنّ والظفر» لأنّ السنّ عظم ، والظفر مدى الحبشة.

٥٩٠

ربي وآخر نهاني ثم يجيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلما منها فإن وجده مكتوبا عليه أمرني ربي مضى في عمله سفرا أو زواجا ، أو بيعا أو شراء ، وإن وجده مكتوبا عليه نهاني ربي ترك ما عزم على فعله (١) فجاء الإسلام فحرم الاستسقام بالأزلام ، وسنّ الاستخارة وهي أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول : اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به ، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه ، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) يخبر تعالى عباده المؤمنين أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام ، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذا فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتى.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ (٢) دِيناً) فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا : إكمال الدين (٣) بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام

__________________

(١) هي ثلاثة أزلام كتب على أحدها : أمرني ربي وعلى الثاني : نهاني ربي والثالث مهمل لم يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته فإذا خرج أمرني مضى في عمله وإذا خرج نهاني ترك ما أراد فعله ، وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة ، وهناك نوعان من الاستقسام غير ما ذكرنا.

(٢) هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ..) نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجّة الوداع بعد العصر والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناقته العضباء كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه.

(٣) ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورا على الشهادتين ، والصلاة ، ولمّا هاجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يوما بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الربّ تعالى في حجّة الوداع بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ..) الخ.

٥٩١

حجة الوداع ، ولم يعش بعدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا احدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى وثانيا : إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف ، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم وأبعد الكفر والكفار عنهم ، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتممها عليهم وثالثا رضاه بالإسلام دينا لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فبين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهرا وباطنا وذلك سلم العروج الى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات فلله الحمد وله المنة.

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يريد تعالى من اضطر أي ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخصمة (١) والمسغبة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة وأنواعها متعمدا المعصية مائلا إليها غير مبال بتحريمي لها فذاك الذي عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم ، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.

٢ ـ حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.

٣ ـ حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.

٤ ـ جواز أكل ما أدركه المسلم حيا من الحيوان المأكول فذكّاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت. (٢)

__________________

(١) المخمصة لغة : الجوع ، وخلاء البطن من الطعام ، والخمص : ضمور البطن ، ومنه الحديث «إنّ الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» وفي الحديث أيضا : «خماص البطون خفاف الظهور» والخميصة : ثوب ، وجمعها خمائص : ثياب خز وصوف : وفي الحديث «تعس عبد الخميصة».

(٢) من آداب التذكية : الرّفق بالحيوان ، احداد الشفرة ، أن يوجهها إلى القبلة ، تركها حتى تبرد قبل أن يشرع في سلخها ، إحضار نيّة الإباحة قبل الشروع في الذبح بأن يقول : باسم الله والله أكبر. والاعتراف بالمنّة لله حيث سخر لنا هذا الحيوان ولو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا ، وكل هذه الآداب جاءت في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» الحديث.

٥٩٢

٥ ـ وجوب خشية الله تعالى وحرمة خشية الكفار.

٦ ـ حرمة الابتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإسلامي.

٧ ـ جواز أكل الميتة للمضطر وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون قاصدا المعصية مائلا إلى الإثم.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

شرح الكلمات :

(الطَّيِّباتُ) : ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين.

(الْجَوارِحِ) : جمع جارحة بمعنى كاسبة تجرح بمعنى تكسب.

(مُكَلِّبِينَ) (١) : أي مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارجة كلبا أو طيرا (٢)

(طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : ذبائح اليهود والنصارى.

(الْمُحْصَناتُ) : جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء.

__________________

(١) المكلّب : هو معلم الكلاب ، ومدربها على الصيد ، ويقال للصائد مكلب ، وعليه فقوله : (مُكَلِّبِينَ) يكون بمعنى صائدين.

(٢) يكتفى في الطير بأن تطيع إذا أمرت ، إذ هي دون الكلاب في الاستعداد للفهم والاستجابة ومثلها سباع الوحوش فإنها دون الكلاب أيضا إلّا أنّ الجمهور يشترط فيها ما يشترط في الكلاب.

٥٩٣

(أُجُورَهُنَ) : مهورهن وصدقاتهن.

(غَيْرَ مُسافِحِينَ) : غير مجاهرين بالزنى.

(أَخْدانٍ) : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السريّ.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) : أي يرتدعن الإيمان فالباء بمعنى عن إذ يقال ارتد عن كذا ...

(حَبِطَ عَمَلُهُ) : بطل كل ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه.

معنى الآيتين :

ورد أن جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن فأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال : (إنا لا ندخل بيتا فيه كلب) فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلاب فأنزل الله تعالى هذه الآية : (يَسْئَلُونَكَ) (١) (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه ، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور كالصقور ونحوها. مكلبين أي مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم ، (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ). أي تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به ، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت أي أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زجرت انزجرت وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (٢) وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما أولا أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول : بسم الله هاته مثلا ، والثاني (٣) أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها ، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت

__________________

(١) ذكر القرطبي أنّ الآية : (يَسْئَلُونَكَ ...) نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زيد الخير ، إذ قالا : يا رسول الله إنّا قوم نصيد بالكلاب ، والبزاة ، وإنّ الكلاب تأخذ البقر والحمر ، والظباء ، فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته ، وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا؟ فنزلت الآية : (يَسْئَلُونَكَ ..) الخ ، ولا منافاة بين ما ذكر في التفسير وبين هذا ، إذ يسأل السائل فيقرأ عليه الرسول الآية فيرى أنها نزلت فيه.

(٢) (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) على هنا بمعنى اللام ، أي مما أمسكن لكم ولأجلكم كقولهم : سجن على كذا ، وضرب الصبي على قوله كذا.

(٣) ذكر القرطبي الإجماع على أنّ الكلب إذا لم يكن أسود ، وعلّمه مسلم فيشلي إذا أشلى ، ويجيب إذا دعي وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح أو تنييب وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أنّ صيده صحيح. هذه الشروط داخلة في الشرطين اللذين ذكرتهما الآية كما في التفسير إلّا اشتراط أن لا يكون الكلب أسود. وهذا الشرط فيه خلاف.

٥٩٤

ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالاصطياد ، (١) وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها ، ومن صيد صاده غير معلّم من الجوارح ، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية. فلتتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤) أما الآية الثانية (٥) وهي قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم أي ذبائحهم حل لكم ، وطعامكم حل لهم أي لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم. وأحل لكم أيضا نكاح المحصنات أي العفائف من المؤمنات ، والمحصنات من نساء الذين أتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات ، على شرط إتيانهن أجورهن أي مهورهن حال كونكم محصنين أي عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول ، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه ، ولا متخذي أخدان أيضا بأن تنكحوهن سرا بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى فلا يحل بأجرة ولا بغير بأجرة وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ (٢) بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى الكفر ، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله أي بطل ثواب ما عمله في إسلامه ، حتى ولو راجع الإسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام ، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام فهو قطعا في الآخرة من الخاسرين بإلقائهم في نار جهنم خالدين فيها أبدا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.

٢ ـ حلية الصيد إن توفرت شروطه وهي أن يكون الجارح معلما وأن يذكر اسم الله تعالى عند

__________________

(١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل» دالّ على أنّ الصائد يتعيّن عليه أن يقصد عند إرسال الكلب والطير ، التذكية والإباحة ، إذ الأعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى.

(٢) لفظ الإيمان : مصدر آمن يؤمن إيمانا ، أطلق وأريد به الإسلام ، لأنّ الإسلام والإيمان متلازمان ، ما أسلم من لم يؤمن وما آمن من لم يسلم ومعنى الآية : ومن يرتد عن الإسلام ... الخ.

٥٩٥

إرساله وأن لا يأكل منه الجارح ، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة (١) بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتا فلم يذك.

٣ ـ إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب.

٤ ـ إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة (٢) عفيفة وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل زوجني فلانه فيقول له قد زوجتكها.

٥ ـ حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة.

٦ ـ المعاصي قد تقود إلى الكفر.

٧ ـ المرتد عن الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)

__________________

(١) لفظ : حادّة احتراز من غير الحادة كالعصا وعرض المعراض والحجر ونحوها لحديث : «إذا ضربت بالمعراض فخرق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله ، إذ المعراض سهم بلا ريش غليظ الوسط يصيب بحدّه وعرضه معا ، فإن أصاب بحدّه جاز أكل ما أصابه ، وإن أصاب بعرضه فهو كالموقوذة فلا يؤكل.»

(٢) لأنّ الأمة الكافرة لا تحل للمؤمن لقول الله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي لا الكافرات ، الآية من سورة النساء.

٥٩٦

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

شرح الكلمات :

(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون (١) أي على غير وضوء.

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) : أي بعد غسل الكفين ثلاثا والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثا ثلاثا لبيان رسول (٢) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك.

(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) : أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين ، وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيما ، أو ثلاثة أيام إن كان مسافرا بهذا جاءت السنة. (٣)

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) : الجنب من قامت به جنابة وهي شيئآن : غياب رأس الذكر في الفرج ، وخروج المنى بلذة في نوم أو يقظة.

(فَاطَّهَّرُوا) : يعني فاغتسلوا ، والغسل هو غسل سائر الجسد بالماء.

(الْغائِطِ) : كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط ، أو بول أو مذى.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) : ملامسة النساء كناية عن الجماع ، كما أن من لامس امرأة ليتلذذ بها

__________________

(١) إنّ خلافا طويلا عريضا في تأويل هذه الآية وهو يدور على هل الوضوء واجب لكل صلاة أو هو مستحب أو واجب على المحدث لا غير ومستحب لغيره ، وهل في الآية تقديم وتأخير؟ والذي عليه جمهور الأمّة أن الوضوء واجب على المحدث لا غير ومستحب لغيره وأنّ تأويل الآية هو كما في التفسير ، ومما تنبغي الإشارة إليه أن الوضوء والغسل والتيمم كلها كانت مشروعة قبل نزول هذه الآية ، إذ ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بغير وضوء ، ومشروعية التيمم نزلت في غزوة المريسيع ، وكانت سنة خمس أو ست من الهجرة ، وعليه فالآية شملت الطهارة بأنواعها مؤكدة لها لتبقى خالدة تتلى في كتاب الله يتعبّد بتلاوتها ويعمل بمضمونها علما وعملا إذ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن كما تقدّم.

(٢) ورد هذا في حديث عثمان في الصحيح إذ فيه : «ثم تمضمض ، واستنشق ، واستنثر.»

(٣) لحديث مسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال : «جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم» يعني في المسح على الخفين.

٥٩٧

أو لا مسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة لذا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ».

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) : اقصدوا ترابا أو حجرا أو رملا أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.

الحرج : المشقة والعسر والضيق.

(مِيثاقَهُ) : أي مثياق الله تعالى وهو عهده المؤكد والمراد به هنا : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إذ بها وجب الالتزام بسائر التكاليف الشرعية.

معنى الآيتين :

نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلي يناجي (١) ربه ، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء ، والكبرى وهي الغسل ، وبين لهم ما ينوب عنهما إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا عن استعماله وهو التيمم (٢) فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وحدّ الوجه طولا من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه وحده عرضا من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين فيدخل في الغسل المرفقان (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) واللفظ محتمل للكل والبعض والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه وهو أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه ، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهرا وباطنا بعد مسح الرأس (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان النائتان عند بداية الساق ، وبينت السنة رخصة المسح (٣) على الخفين بدلا من غسل الرجلين ، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ، وكون

__________________

(١) نص الحديث : «إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربّه» وفي رواية البخاري : «إذا كان أحدكم في الصلاة فإنّ ربّه بينه وبين القبلة».

(٢) وكل ما ذكر في التفسير من صفة الوضوء والغسل ، والتيمم هو ثابت في الصحاح والسنن ، وليس فيه ما هو ضعيف قط.

(٣) وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالكسر ، فمسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا غسل الرجلين أبدا ، والحامل لهم على ذلك أن رؤساءهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلّة أن يبقوا بعيدين عن الإسلام والمسلمين ليستغلوهم ماديّا ، وليعدّوهم لقتال المسلمين لإعادة دولة المجوس التي يحلمون بها ، وأمّا أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربّهم وسنّة نبيهم فغسلوا أرجلهم ، لأنّ نبيهم لم يسمح رجليه بدون خف قط ، ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا بالقراءتين معا

٥٩٨

الغسل ثلاثا ثلاثا على وجه الاستحباب ، وقول بسم الله عند الشروع أي البدء في الوضوء.

كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول ، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء. (١)

وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (٢) أي وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل أي لم يخرج منه المنىّ فقد أجنب كما أن من احتلم فخرج منه منىّ فقد أجنب بل كلّ من خرج منه منىّ بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ، وقوله (فَاطَّهَّرُوا) يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلا بسم الله ويغسل فرجيه وما حولهما ، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف ، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه ، ثم يغسل رأسه (٣) ثلاث مرات ، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله ، ثم الأيسر ، ويتعاهد الأماكن التي قد ينبو عنها الماء فلا يمسها كالسرة وتحت الإبطين ، والرفقين وهما أصل الفخذين ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك ، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء ، وقوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم ، وقوله عزوجل : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (٤) أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

__________________

(١) بعض الفقهاء يعدون النيّة فرضا من فروض الوضوء ، وبعضهم يعدها شرطا ، وما دام المشروط يتوقف على شرطه صحة وبطلانا ، والفرض إذا ترك بطل الوضوء فإنّه خلاف لفظي لا غير.

(٢) (فَاطَّهَّرُوا) أصلها فتطهروا فادغمت التاء في الطاء لاتحاد مخرجيهما ، ومعنى : اطهروا اغتسلوا ، وفي الحديث الصحيح : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ..».

(٣) مع أذنيه ظاهرا وباطنا.

(٤) أصل الغائط أنه المكان المنخفض ، ولمّا كان من يريد قضاء حاجته يأتي المكان المنخفض ليستتر عن أعين الناس ، أطلق لفظ الغائط على ما يحل فيه من بول وعذرة.

٥٩٩

ذكر في الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالا وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وهو مكان التغوط والتبول وذكر موجب الغسل وهو الجماع وكنىّ عنه بالملامسة تعليما لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم ، وقوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا ، اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيدا طيبا يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها كالتراب والرمل والسبخة والحجارة وقوله : (طَيِّباً) يريد به طاهرا من النجاسة والقذر ، وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) بين فيه كيفية التيمم ، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهرا وباطنا مرة واحدة وقوله تعالى : (مِنْهُ) أي من ذلك الصعيد وبهذا بين تعالى كيفية التيمم وهي التي علمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمار بن ياسر (١) رضي الله عنه وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء والكبرى وهي الغسل ، وما ينوب عنهما عند العجز وهو التيمم ، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت ، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب ، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضىء كما جاء بيانه في السنة (٢) وهو قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة وهو معنى قوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦) أما الآية الأخيرة (٧) وهي قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ليشكروه بالإسلام ، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما تعهد أن لا إله إلا الله وأن

__________________

(١) إذ قال له : «إنما يكفيك أن تقول هكذا ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» متفق عليه ، وورد أنّه يضرب الأرض فيمسح وجهه ثمّ يكررها مرة أخرى فيمسح كفيه. وورد عن ابن عمر مسحهما إلى المرفقين.

(٢) ورد في فضل الوضوء أحاديث صحيحة كثيرة منها : «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه» ومنها : «ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يرفع طرفه إلى السماء ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين إلّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية.

٦٠٠