أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج ، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

٢ ـ وجوب الإيمان بكافة الرسل وحرمة الإيمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بالله تعالى.

٣ ـ وجوب طاعة الله ورسوله والتسليم والرضا بما شرع الله ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك.

٤ ـ رفع الحرج (١) عن هذه الأمة رحمة بها.

٥ ـ عدم المؤاخذة بالنسيان (٢) أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فلا إثم عليه أو أخطأ فقتل فلا إثم عليه.

٦ ـ العفو عن حديث النفس (٣) لنزول الآية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل.

٧ ـ تعليم هذا الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقد ورد من قرأ هاتين الآيتين (٤) عند النوم كفتاه (آمَنَ الرَّسُولُ ....) السورة.

سورة آل (٥) عمران

مدنية

وآياتها مائتا آية بلا خلاف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ

__________________

(١) شاهده قوله تعالى من سورة الحج : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

(٢) حديث : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أي رفع اثمه. أما أحكامه ففيها تفصيل : فالغرامات لا تسقط فمن كسر آنية خطأ أو نسيانا يغرمها لصاحبها ، ومن نسي صلاة مفروضة قضاها ، ومن قتل خطأ دفع الدية ويسقط القصاص بالخطأ كما يسقط الكفر بالنطق خطأ وسهوا.

(٣) شاهده حديث : «إنّ الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» رواه الجماعة.

(٤) لحديث مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» أي من قيام الليل لحديث : «من قرأها بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل ، وكفتاه من شرّ الشيطان فلا يكون له عليه سلطان».

(٥) صدر هذه السورة إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نجران سنة تسع من الهجرة.

٢٨١

بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

شرح الكلمات :

(الم) : تقدم الكلام على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك.

(اللهُ) : المعبود بحق (١).

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق سواه.

(الْحَيُ) : ذو الحياة المستلزمة للارادة والعلم والسمع والبصر والقدرة.

(الْقَيُّومُ) : القيّم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.

(الْكِتابَ) : القرآن.

(بِالْحَقِ) : متلبّسا به إذ كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) (٢) : من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها لأن مصدر الجميع واحد هو الله تعالى.

(التَّوْراةَ) (٣) : كتاب موسى عليه‌السلام ومعناه بالعبرية الشريعة. (٤)

__________________

(١) الله : اسم علم على ذات الربّ تبارك وتعالى ومعناه : الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه ولذا فسّرناه في التفسير بأنه المعبود الحق لكونه الإله الحق الذي لا يعبد بحق غيره.

(٢) معنى (بَيْنَ يَدَيْهِ) أنها تقدمته في النزول فكانت كأنها أمامه وهو وراءها وهو معنى بين يديه.

(٣) اختلف في لفظ التوراة هل هو مشتق من ورى الزند إذا أوقد به النار فهي لنور الهداية فيها سميت التوراة أو هي معربة عن كلمة (طورا) العبرية ومعنى طورا ، الهدى ، وعلى كل حال فهذا علم لا ينفع وجهالة لا تضر.

(٤) وهي عند اليهود : خمسة أسفار : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر اللاويين ، وسفر العدد ، وسفر تثنية الاشتراع.

٢٨٢

(الْإِنْجِيلَ) (١) : كتاب عيسى عليه‌السلام ومعناه باليونانية : التعليم الجديد. (٢)

(الْفُرْقانَ) (٣) : ما فرق الله به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات الإلهية والعقول النيّرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى.

(يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) : التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل ، والأرحام جمع رحم : مستودع الجنين.

معنى الآيات :

أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد (٤) نجران والمكون من ستين راكبا فيهم أشرافهم وأهل الحلّ والعقد منهم ، وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحاجّونه في أمر المسيح عليه‌السلام ويريدون أن يثبتوا الهيّته بالادعاء الباطل فأنزل الله تعالى نيّفا وثمانين آية من فاتحة السورة آلم إلى ما يقارب الثمانين. وذلك ردا لباطلهم ، وإقامة للحجة عليهم ، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحا جليّا في السياق القرآنى في هذه الآيات.

فقد قال تعالى (الم ، اللهُ لا (٥) إِلهَ إِلَّا هُوَ) فأخبر أنه تعالى لا معبود بحق إلا هو ، فأبطل عبادة المسيح عليه‌السلام وعبادة كل معبود سوى الله تعالى من سائر المعبودات ، وقال الحيّ القيوم فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره وهو كونه تعالى حيّا أزلا وأبدا وكل حيّ غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء ، فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عزوجل والمسيح عليه‌السلام مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء فكيف يكون إلها؟ وقال تعالى القيوم أى القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية والحفظ والتدبير والرزق ، وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلها مع الله؟ ودليل ذلك أنه نزل عليك الكتاب : القرآن بالحق مصحوبا به ليس فيه

__________________

(١) الانجيل قيل معناه الأصل إذ هو أصل العلوم والحكم وجمعه أناجيل وجمع التوراة : توار.

(٢) ويطلق الإنجيل على أربعة كتب : انجيل يوحنا ، ومرقس ، ولوقا ، وبرنابا.

(٣) وفسّر الفرقان بالقرآن وهو حق لقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) وسمي فرقانا لأنه فرّق بين الحق والباطل.

(٤) كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة من الهجرة التي هي عام الوفود ولذا كان آخر السورة متقدما في النزول عن أولها إذ آخرها كان في غزوة أحد ، وكانت في السنة الثالثة.

(٥) قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هذه الجملة مع جملة : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) قيل ان فيهما اسم الله الأعظم.

٢٨٣

من الباطل شيء فآياته كلها مثبتة للألوهية لله نافية لها عما سواه ، فكيف يكون المسيح إلها مع الله أو يكون هو الله ، أو ابن الله كما يزعم نصارى نجران وغيرهم من نصارى اليونان والرومان وغيرهم نزله مصدقا لما بين يديه من الكتب التى سبقته لا يخالفها ولا يتناقض معها فدل ذلك أنه وحى الله ، وأنزل من قبله التوراة والإنجيل هدى للناس وأنزل الفرقان (١) ففرق به بين الحق والباطل في كل ما يلبس أمره على الناس فتبين أن الرب الخالق الرازق المدبر للحياة المحييى المميت الحى الذى لا يموت هو الإله الحق وما عداه مربوب مخلوق لا حق له في الألوهية والعبادة وإن شفى مريضا أو أنطق أبكم أو أحيا ميتا بإذن الله تعالى فإن ذلك لا يؤهله لأن يكون إلها مع الله كعيسى بن مريم عليه‌السلام فإن ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء بعض الموتى كان بقدرة الله وإذنه بذلك لعيسى وإلا لما قدر على شيء من ذلك شأنه شأن كل عباد الله تعالى ، ولما رد الوفد ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكد بذلك كفرهم فتوعدهم الرب تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ (٢) شَدِيدٌ ، وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) وهذا وعيد شديد لكل من كذب بآيات الله وجحد بالحق الذى تحمّله من توحيد الله تعالى ووجوب طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فلو كان هناك من يستحق الألوهية معه لعلمه وأخبر عنه ، كما قرر بهذه الجملة أن عزته تعالى لا ترام وأنه على الانتقام من أهل الكفر به لقدير. وذكر دليلا آخر على بطلان ألوهية المسيح فقال : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) (٣) وعيسى عليه‌السلام قد صوّر في رحم مريم فهو قطعا ممن صور الله تعالى فكيف يكون إذا إلها مع الله أو إبنا لله كما يزعم النصارى؟ وهنا قرر الحقيقة فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالعزّة التى لا ترام والحكمة التى لا تخطىء هما مقتضيات ألوهيته الحقة التى لا يجادل فيها إلا مكابر ولا يجاحد فيها إلا معاند كوفد نصارى نجران ومن على شاكلتهم من أهل الكفر والعناد.

__________________

(١) الفرقان وإن أطلق على القرآن لكونه فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد فإنه يطلق على كل ما يفرق بين الهدى والضلال كالمعجزات ، وما يحصل للمؤمن المتقي من نور يفرّق بين الضار والنافع ، والخطأ والصواب.

(٢) التنوين في عذاب : للتفخيم ، والشديد هو الذي لا يقادر قدره.

(٣) أي من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر ، وعاهة وسلامة وسعادة وشقاء.

٢٨٤

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ألوهية الله تعالى بالبراهين ونفي الألوهية (١) عن غيره من سائر خلقه.

٢ ـ ثبوت رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال الله تعالى الكتاب عليه.

٣ ـ إقامة الله تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها ببيان الحق والباطل في كل شؤون الحياة.

٤ ـ بطلان ألوهية المسيح لأنه مخلوق مصور في الأرحام كغيره صوره الله تعالى على ما شاء فكيف يكون بعد ذلك إلها مع الله (٢) أو ابنا له تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ (٣) عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

__________________

(١) أي بالبراهين كذلك.

(٢) ضلال النصارى أعظم ضلال وأسوأه ، إذ كيف يعقل أن يكون عيسى إلها وقد قتل وصلب في اعتقادهم ، وكيف يكون إلها وهو ابن امرأة اسمها مريم وهم يعترفون بذلك فسبحان الله أين تذهب عقول العقلاء؟

(٣) أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) إلى (أُولُوا الْأَلْبابِ) ثم قال : «إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم.

٢٨٥

شرح الكلمات :

(مُحْكَماتٌ) (١) : الظاهرة الدلالة البيّنة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحدا ، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود ، وعبادات ، وعبر وعظات.

(مُتَشابِهاتٌ) : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخين في العلم القول فيها وهي كفواتح السور ، وكأمور الغيب (٢). ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه‌السلام : (..... وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ (٣) وَرُوحٌ مِنْهُ ..) وكقوله تعالى : (.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، (٤) ..).

(فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : الزيغ : الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.

(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) : أي طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.

(ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) : طلبا لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.

(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٥) : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلّون ولا يشتطّون في شبهة أو باطل.

(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعا.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) (٦) : أي لا تمل قلوبنا عن الحق بعد ما هديتنا إليه وعرّفتنا به فعرفناه.

(هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) : أعطنا من عندك رحمة.

__________________

(١) قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما المحكمات أي في القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه.

(٢) قال بعضهم وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٣) سورة النساء (١٧١).

(٤) سورة الأنعام (٥٧).

(٥) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال : «هو من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه».

(٦) سئلت أم سلمة رضي الله عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها فقالت : «كان أكثر دعائه : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك».

٢٨٦

معنى الآيات :

ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوّة رسوله ويبطل دعوى نصارى نجران في ألوهية المسيح عليه‌السلام فيقول : هو أي الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب ، أي القرآن ، منه آيات محكمات ، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمّه وأصله ، ومنه آيات أخر متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار كالامتحان بالحلال والحرام ، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته ، ويزيغ في إيمانه ويضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ..) أي ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة لأنه يقول نخلق ونحيي ، ونميت وهذا كلام جماعة فأكثر ، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى : (.. وَرُوحٌ مِنْهُ (١) ..) أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى (.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ (٢) ..) فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا عليّا وخرجوا (٣) عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى. وأن الراسخين (٤) في العلم يفوّضون أمره إلى الله منزله فيقولون : (.. آمَنَّا (٥) بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٦) ، ويسألون ربهم الثبات

__________________

(١) سورة النساء (١٧١).

(٢) سورة الأنعام (٥٧).

(٣) روي أن أبا أمامة رضي الله عنه مرّ برؤوس منصوبة عند باب مسجد دمشق فسأل عنها فقيل إنها رؤوس خوارج جيىء بها من العراق فقال : أولئك كلاب النار ثلاثا شر قتلى تحت ظل السماء طوبى لمن قتلهم ثلاثا ثم بكى ، فقيل ما يبكيك فقال رحمة بهم ، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ثم قرأ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) إلى (أُولُوا الْأَلْبابِ).

(٤) روي أن ابن عباس رضي الله عنه قال : التفسير على أربعة أنحاء : تفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله. كما يروى هذا عن عائشة وغيرها.

(٥) الجمهور على أنّ الوقف على قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ومن هنا قالوا : لا يعلم المتشابه إلّا الله ، وهو مما استأثر به دون عباده ، ومن قال : إنّ قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوف على قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) قالوا : إنّ الراسخين في العلم قد يعلمون بعض المتشابه دون البعض ويدلّ عليه قولهم (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي ما علمناه وما لم نعلمه ، ورووا أنّ ابن عباس قال أنا ممن يعلم تأويله.

(٦) هذه الجملة ليست من كلام الراسخين ولكنها من كلام الله تعالى فهي تذييل للكلام السابق سيقت للثناء عليهم.

٢٨٧

على الحق فيقولون : (.. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ..) ترحمنا بها في دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب ، لا إله غيرك ولا ربّ سواك ، ويقررون مبدأ المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ حيث آمنا بك وبرسولك وبكتابك محكم آيه ومتشابهه ، إنك لا تخلف الميعاد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ في كتاب الله المحكم والمتشابه ، فالمحكم يجب الإيمان به والعمل بمقتضاه ، والمتشابه يجب الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال : (.. آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ..).

٢ ـ أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه (١) يجب هجرانهم والإعراض عنهم لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.

٣ ـ استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزّيغ ورؤية الفتن (٢) والضلال.

٤ ـ تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ

__________________

(١) قال أهل العلم : التشابه يكون حقيقيا وإضافيا فالحقيقي لا سبيل إلى فهم معناه وهو المراد من الآية (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) والإضافي : ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى طلب دليل آخر ، فإذا طلبه العالم وجده وهو كثير. منه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فهذا يبين معناه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ).

(٢) روي أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام حروب الردّة كان يصلي المغرب فيقرأ بالفاتحة وسورة من قصار المفصل وفي الركعة الثالثة يقرأ بأم القرآن ويقرأ قوله تعالى سرّا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) يقنت بها. كما روي عن عائشة أنها قالت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال : «لا إله إلّا أنت سبحانك استغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب».

٢٨٨

وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ (١) رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) : لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب الله إذا حلّ بهم.

(وَقُودُ النَّارِ) : الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) : كعادتهم وسنتهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في الدنيا والآخرة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) : هم يهود المدينة بنو قينقاع.

(آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) (٣) : علامة واضحة والفئتان : المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.

(يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) : يقوّى.

(لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) : العبرة العظة وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو.

معنى الآيات :

لما أصرّ وفد نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من اي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل من الحق والخروج عنه. توعّد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب وعجم فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة لا لبس فيها ولا

__________________

(١) الضمير عائد على المسلمين على أسلوب الالتفات ، والأصل ترونهم مثليكم ، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على المشركين ، ولكن الصواب أنّه عائد على المؤمنين ، لأنّ الله تعالى قلّل المشركين في أعين المؤمنين ليقدموا على قتالهم.

(٢) استئناف ابتدائي للانتقال من النذارة إلى التهديد حيث تطلب المقام ذلك إذ تبجّح اليهود وتطاولوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخوفين له بكلامهم السخيف.

(٣) الفئة : الجماعة من الناس وسميت فئة لأنه يفاء إليها أي يرجع إليها في وقت اشتداد الحرب.

٢٨٩

غموض ولكن منعهم من قبوله الحفاظ على المناصب والمنافع هؤلاء جميعهم سيعذبهم الله تعالى في نار جهنم ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا ، واعلم أنهم وقود النار ، التي مهدوا لها بكفرهم وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم. ثم أخبر تعالى أنهم في كفرهم وعنادهم حتى يأتيهم العذاب كدأب وعادة آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح حتى أخذهم الله بالعذاب في الدنيا بالهلاك والدمار ، وفي الآخرة بعذاب النار وبئس المهاد ، وكان ذلك بذنوبهم لا بظلم الله تعالى ثم أمر الله تعالى رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول لا يغرنك أنك قاتلت من لا يحسن الحرب فانتصرت عليهم يريدون قريشا في موقعة بدر ، إنك إن قابلتنا ستعلم أنا نحن الناس ، لما قالوا قولتهم هذه يهددون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين أمره أن يقول لهم (١) (سَتُغْلَبُونَ) يريد في المعركة وتنهزمون وتموتون ، وبعد موتكم تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها لأنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته. وفتح أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما تورطوا في حرب الرسول حتى هزمهم وقتل من قتل منهم وأجلى من أجلاهم. وهي أن المسلمين الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم كانوا أقلّ عدد وأنقص عدة ، ومع ذلك انتصروا لأنهم يقاتلون في سبيل الله والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان ونصر الله الفئة القليلة المسلمة (٢) وهزم الفئة الكافرة الكثيرة فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة لما تورطوا في حرب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وهي البصائر. فقال تعالى لهم : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) ـ في بدر ـ فئة ـ جماعة ـ تقاتل في سبيل الله ـ إعلاء لكلمته ـ وأخرى فئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت (يَرَوْنَهُمْ (٣) مِثْلَيْهِمْ

__________________

(١) فعلا فقد جمعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لهم : «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم وقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم».

(٢) إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وكان عدد المشركين رابيا على التسعمائة مقاتل.

(٣) رأى المسلمون الكافرين مثليهم أي مثلي عدد المسلمين وهذا معنى التقليل إذ الكافرون تسعمائة فرأوهم ستمائة وهو التقليل المذكور.

٢٩٠

رَأْيَ الْعَيْنِ) لقربهم منهم. ومع هذا نصر الله الأقلية المسلمة وهزم الأكثرية الكافرة ، وذلك لأن الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء ، فأيد أولياءه وهزم أعداءه ، وإن في هذه الحادثة لعبرة وعظة ومتفكر ولكن لمن كان ذا بصيرة ، أما من لا بصيرة له فإنه لا يرى شيئا حتى يقع في الهاوية قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور لهم : (.. لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الكفر مورّث لعذاب يوم القيامة والكافر معذّب قطعا.

٢ ـ الأموال والأولاد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس الله شيئا إذا أراده بالكافرين في الدنيا والآخرة.

٣ ـ الذنوب بريد العذاب (١) العاجل والآجل.

٤ ـ ذم الفخر والتعالي وسوء عاقبتهما.

٥ ـ العاقل من اعتبر بغيره ، ولا عبرة لغير أولى الأبصار أى البصائر.

٦ ـ صدق خبر القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم ، فكان هذا دليل صدق على أن القرآن وحى الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الاسلام دين الله الحق.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

شرح الكلمات :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ (٢) حُبُّ الشَّهَواتِ) : جعل حبها مستحسنا في نفوسهم لا يرون فيه قبحا ولا دمامة.

__________________

(١) شاهده من كتاب الله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ، يُجْزَ بِهِ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

(٢) روى البخاري أن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ...) الخ قال : الآن يا رب حين زينتها لنا فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ...) الآية.

٢٩١

(الشَّهَواتِ) (١) : جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعا وغريزة كالطعام والشراب اللذيذين.

(الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) : القنطار الف ومائة أوقية فضة والمقنطرة الكثيرة بعضها فوق بعض.

(الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) (٢) : ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.

(الْأَنْعامِ) : الابل والبقر والغنم وهى الماشية.

(الْحَرْثِ) (٣) : الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي ذلك المذكور من النساء والبنين الخ متاع الحياة الدنيا يريد يستمتع به فيها ويموت صاحبها ويتركها.

معنى الآية الكريمة :

لما ذكر تعالى عناد من كفر من النصارى ، واليهود ، والمشركين ، وجحودهم ، وكفرهم ، ذكر علة الكفر وبيّن سببه ألا وهو ما زينه تعالى لبنى البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب الشهوات أى المشتهيات بالطبع البشرى من النساء (٤) والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات الغذائية والعطرية وغيرها. هذا الذى جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه لأنه يحول بينهم وبين هذه المشتهيات غالبا فلا يحصلون عليها ، ولم يعلموا انها مجرد متاع زائل فلا يبيعوا بها الجنة دار الخلد والسّلام ولذا قال تعالى ذلك اى ما ذكر من أصناف المحبوبات متاع الحياة الدنيا لا غير اما الآخرة فلا ينفع فيها شىء من ذلك بل لا ينفع فيها الا الزهد فيه والإعراض عنه إلا ما لا بد منه للبلغة به إلى عمل الدار الآخرة وهو الإيمان وصالح الأعمال ، والتخلى عن الكفر والشرك وسائر الذنوب والمعاصى.

__________________

(١) في صحيح مسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» ومعناه أن الجنة لا تنال إلا بقطع مغاور المكاره والصبر عليها ، وأنّ النار لا ينجي منها إلّا ترك الشهوات وفطام النفس عنها.

(٢) ما ذكرناه مأخوذ من السومة وهي السمة أي العلامة وقد تكون المسومة مأخوذ من السوم وهي الرعي في المرعى يقال أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى. والخيل مؤنثة.

(٣) الحرث مصدر أطلق علي المحروثات نفسها من المزارع والحدائق.

(٤) روى الشيخان عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء» وفي حديث آخر : «اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإنّ أول فتنة بني اسرائيل كانت في النساء» رواه مسلم.

٢٩٢

وختم تعالى الآية بقوله مرغبا في العمل للدار الآخرة داعيا عباده الى الزهد في المتاع الفانى لتتعلق قلوبهم بالنعيم الباقى فقال : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، أي المرجع الحسن ، والنزل الكريم والجوار الطيب السعيد.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ يزين الله تعالى بمعنى يجعل الشىء زينا محبوبا للناس للابتلاء والاختبار قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١) ويزين الشيطان للاضلال والاغواء ، فالله يزين الزين ويقبح القبيح ، والشيطان يزين القبيح ، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.

٢ ـ المزينات في هذه الآية من تزيين الله تعالى للابتلاء ، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إلا إذا طلبت من غير حلّها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.

٣ ـ كل ما في الدنيا مجرد متاع والمتاع دائما قليل وزائل فعلى العاقل ان ينظر اليه كما هو فلا يطلبه بما يحرمه حسن (٢) المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن يا رحيم.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

__________________

(١) سورة الكهف (٧).

(٢) المآب : المرجع يقال : آب يؤوب أوبا ، ومآبا ، وإيابا إذا رجع ومنه قول امرىء القيس :

وقد طوفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

والمراد بالمآب : ما أعده الله تعالى لأوليائه من النعيم المقيم في دار السّلام.

٢٩٣

شرح الكلمات :

(أَأُنَبِّئُكُمْ) (١) : أخبركم بنبأ عظيم لأن النبأ لا يكون إلا بالأمر العظيم.

(بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) : أى المذكور في الآية السابقة من النساء والبنين الخ.

(اتَّقَوْا) : خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله.

(مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : من خلال قصورها وأشجارها أنهار (٢) الماء ، وأنهار اللبن وأنهار العسل وأنهار الخمر.

خالدين فيها أبدا : مقيمين فيها اقامة لا يرحلون بعدها أبدا.

(أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : زوجات هى الحور العين نقيات من دم الحيض والبول وكلّ أذى وقذر.

(الصَّابِرِينَ) : على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون ، وعن المعاصى لا يقارفونها.

(الصَّادِقِينَ) : فى إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.

(الْقانِتِينَ) : العابدين المحسنين الداعين الضارعين.

(وَالْمُنْفِقِينَ) : المؤدين الزكاة والمتصدقين بفضول أموالهم.

(الْمُسْتَغْفِرِينَ (٣) بِالْأَسْحارِ) : السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.

معنى الآيات :

لما بيّن تعالى ما زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى آخر ما ذكر تعالى ، وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه بالايمان والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة اؤنبئكم بخير من ذلكم المذكور لكم. وبينه بقوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها

__________________

(١) يصح أن يكون منتهى الاستفهام قوله تعالى : (مِنْ ذلِكُمْ) و (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) خبر مقدم ، وجنات : المبتدأ ، ويصح أن يكون منتهى الاستفهام (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وجنات : خبر ، والمبتدأ محذوف.

(٢) شاهد هذا في قوله تعالى من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).

(٣) المختار من ألفاظ الاستغفار ما رواه البخاري : «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت» وقول العبد : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت ونفسى فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

٢٩٤

وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ...) وهو رضاه (١) عزوجل عنهم وهو أكبر من النعيم المذكور قبله قال تعالى في آية أخرى (٢) : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ...)

ثم أخبر تعالى أنه بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب ، والعامل المحسن والعامل المسيىء وسيجزى كلا بعدله وفضله ، ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم فقال : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فذكر صفة الايمان والخشية والضراعة والدعاء لهم ثم ذكر باقى الصفات الكمالية فقال : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) ، يتهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الاستغفار وهو طلب المغفرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان.

٢ ـ نعيم الآخرة خاصّ بالمتقين الأبرار ، ونعيم الدنيا غالبا ما يكون للفجّار.

٣ ـ التقوى وهى ترك الشرك والمعاصى هى العامل الوراثي لدار السّلام.

٤ ـ استحباب الضراعة والدعاء والاستغفار (٣) فى آخر الليل.

٥ ـ الصفات المذكورة لأهل التقوى هنا كلها واجبة في الجملة لا يحلّ ان لا يتصف بها مؤمن ولا مؤمنة في الحياة.

(شَهِدَ (٤) اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا (٥) الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ

__________________

(١) هي قوله تعالى من سورة التوبة : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(٢) أخرج مسلم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انّ أهل الجنة إذا دخلوها يقول الله تعالى لهم : تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول : رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

(٣) شاهده ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ينزل الله عزوجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأوّل فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» رواه مسلم.

(٤) روى الكلبي ونقل ذلك القرطبي فقال : «لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه. ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلّما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد؟ قال نعم قالا وأنت أحمد؟ قال نعم. قالا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدّقناك فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسألاني فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله تعالى على نبيه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية.

(٥) في عطف شهادة أولي العلم على شهادة الله تعالى شرف كبير لأولي العلم ، وفي الحديث : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء» ، «العلماء أمناء الله على خلقه».

٢٩٥

لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ (١) عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

شرح الكلمات :

(شَهِدَ) : أخبر عن علم بحضوره الأمر المشهود به.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله تبارك وتعالى.

(أُولُوا الْعِلْمِ) : أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم الأنبياء والعلماء.

(بِالْقِسْطِ) : العدل في الحكم والقول والعمل.

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : الغالب ذو العزة التي لا تغلب ، الحكيم في كل خلقه وفعله وسائر تصرفاته.

(الدِّينَ) : ما يدان لله تعالى به أي يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات.

(الْإِسْلامُ) (٢) : الإنقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك والمراد به هنا ملة الإسلام.

(بَغْياً) : ظلما وحسدا.

(حَاجُّوكَ) : جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية.

__________________

(١) (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) صيغة حصر أي حصر المسند إليه الذي هو الدين في المسند الذي هو الإسلام أي لا دين إلّا الإسلام وقد أكّد هذا الحصر أيضا بحرف التوكيد إنّ ، والمعنى : إنّ الدين الصحيح هو الإسلام لا غيره.

(٢) حقيقة الإسلام الشرعية : أنه اعتقاد الحق والنطق به ، والعمل بموجبه عبادة وخلقا وحكما حتى تكون حياة المسلم كلها وفق مراد الله تعالى منه وما دعاه إليه وخلقه من أجله.

٢٩٦

(أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) : أخلصت كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده لا شريك له.

(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) : كذلك اخلصوا لله كل أعمالهم له وحده لا شريك له.

(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.

(الْأُمِّيِّينَ) : العرب المشركين سمّوا بالأميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم.

(أَأَسْلَمْتُمْ) : الهمزة الأولى للإستفهام والمراد به الأمر أي أسلموا خيرا لكم لظهور الحق وانبلاج نوره بينكم بواسطة كتاب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا) : فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) : أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عنه بعد معرفته فلا يضرك أمرهم إذ ما عليك الا البلاغ وقد بلّغت.

معنى الآيات :

يخبر الجبار عزوجل أنه (١) شهد أنه لا إله إلا هو وأن الملائكة وأولى العلم يشهدون كذلك شهادة علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتى والفعلى وأنه تعالى قائم في الملكوت كله ، علويّه وسفليّه ، بالعدل ، فلا رب غيره ولا إله سواه ، العزيز في ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه فلا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به. فرد بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران ، ومكر اليهود ، وشرك العرب ، وأبطل كلّ باطلهم سبحانه وتعالى ، ثم أخبر أيضا أن الدين الحق الذي لا يقبل تعالى دينا سواه ، هو الاسلام ، القائم على مبدأ الانقياد الكامل لله تعالى بالطاعة ، والخلوص التامّ من سائر أنواع الشرك فقال : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ) في حكمه وقضائه الإسلام ، وما عداه فلا يقبله (٢) ولا يرضاه. ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران ، المجادلين لرسوله ، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته (٣) ولكن كان عن علم حقيقى وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن

__________________

(١) ورد أن من قال عند تلاوة هذه الآية : (شَهِدَ اللهُ) الخ وأنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ـ يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول عزوجل : عبدي عهد إلّي وأنا أحق من وفّى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة».

(٢) روى مسلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بما أرسلت به إلّا كان من أهل النار».

(٣) يشهد لهذه الحقيقة ما رواه البخاري «إن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضوءه ويناوله نعله فمرض فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليه وأبوه قائم عند رأسه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا فلان قل لا إله إلّا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه : أطع أبا القاسم فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أخرجه بي من النار».

٢٩٧

والحروب وضياع الدين البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها دون غيرها ، وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا ، وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون (١) بعد القرون المفضلة أيضا ، والتاريخ شاهد. ثم قال تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يتوعد تعالى ويهدد كل من يكفر بآياته الحاملة لشرائعه فيجحدها ويعرض عنها فإنه تعالى يحصي عليه ذنوب كفره وسيآت عصيانه ويحاسبه بها ويجزيه وإنه لسريع الحساب لأنه لا يشغله شيء عن آخر ولا يعييه إحصاء ولا عدد ثم يلتفت بالخطاب إلى رسوله قائلا له فإن حاجوك يريد وفد نجران النصراني فاختصر الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم داعيا إياهم إلى الإسلام الذي عرفوه وأنكروه حفاظا على الرئاسة والمنافع بينهم فقل لهم : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أيضا أسلم وجهه لله فليس فينا شيء لغير الله وقلوبنا وأعمالنا وحياتنا كلها لله فأسلموا (٢) أنتم يا أهل الكتاب ويا أميّون (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) وإن تولوا وأعرضوا فلا يضرك إعراضهم ، إذ ما كلفت إلا البلاغ وقد بلغت ، أما الحساب والجزاء فهو إلى الله تعالى البصير بأعمال عباده العليم بنياتهم وسوف يجزيهم بعلمه ويقضى بينهم بحكمه وهو العزيز الحكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلا لذلك بأن كان مسلما عدلا.

٢ ـ شهادة الله أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.

٣ ـ بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله : (.. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية (٨٥) من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله تعالى.

٤ ـ الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عند ما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في

__________________

(١) وما زال المسلمون متفرّقين إلى اليوم بل تفرقهم اليوم أسوأ من الأوّل ودولهم دويلات وشريعتهم التي يسوسون بها الأمة المسلمة شرائع.

(٢) روى محمد بن اسحق أن وفد نجران لما دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلم منهم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلما» قالا : قد أسلمنا قبلك فرد عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب».

٢٩٨

المطاعم والمشارب ، ويتشوقون إلى الكراسى والمناصب ، ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون بغيا بينهم وحسدا لبعضهم بعضا.

٥ ـ من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفا في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسّلام.

٦ ـ من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(يَكْفُرُونَ) : يجحدون ويكذّبون.

(النَّبِيِّينَ) : جمع نبي وهو ذكر من بني آدم أوحي إليه الله تعالى.

(بِالْقِسْطِ) : العدل والحق والخير والمعروف.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) : أخبرهم إخبارا يظهر أثره على بشرة وجوههم ألما وحسرة.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : بطلت وذهبت ، لم يجنوا منها شيئا ينفعهم ، ويهلكون بذلك ويعدمون الناصر لهم لأن الله خذلهم وأراد إهلاكم وعذابهم في جهنم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في هتك أستار الكفرة من أهل الكتابين اليهود والنصارى فذكر تعالى هنا ان الذين يكفرون (١) بآيات الله وهي حججه وأعلام دينه ، وما بعث بها رسله ، ويقتلون مع

__________________

(١) جيىء بالأفعال المضارعة في صلات الذين يكفرون يقتلون النبييين ويقتلون الخ لاجل استحضار الحالة الفظيعة من جهة ، ومن جهة أخرى كشف عن نيات اليهود فإنهم ما زالوا مصرّين على قتل الأنبياء ، وكيف وقد حاولوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرّة.

٢٩٩

ذلك النبيين بغير حق (١) ولا موجب للقتل ، ويقتلون الذين يأمرونهم (٢) بالعدل من أتباع الأنبياء المؤمنين الصالحين ، هذه جرائم بعض أهل الكتاب فبشرهم بعذاب أليم ، ثم أخبر أن أولئك البعداء في مهاوي الشر والفساد والظلم والعناد حبطت أعمالهم في الدنيا فلا يجنون منها عاقبة حسنة ولا مدحا ولا ثناء بل سجلت لهم بها عليهم لعنات في الحياة والممات ، والآخرة كذلك وليس لهم فيها من ناصرين ينصرونهم فيخلصونهم من عذاب الله وهيهات هيهات أن يوجد من دون الله ولي أو نصير.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.

٢ ـ قتل الآمرين بالمعروف (٣) والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الجرم.

٣ ـ الشرك محبط للأعمال مفسد لها في الدنيا والآخرة.

٤ ـ من خذله الله تعالى لا ينصره أحد ، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ

__________________

(١) بغير حق : حال مؤكدة إذ لا يقع قتل نبي إلّا بغير حق فقتلهم الأنبياء متأكد وهو قبيح وكونه بغير حق هو أشد قبحا ، والآية تشنيع لأفعالهم القبيحة.

(٢) روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه «قال : قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟

قال : رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثمّ قرأ الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) الخ ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو اسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا أوّل النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلا من عبّاد بنى اسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى».

(٣) ذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية : كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء إمام عادل لا يظلم ، وعالم على سبيل الهدى ، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرصون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرّجن تبرج الجاهلية الأولى وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال : الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم الرذالة كالحثالة ومعناه فيمن لا خير فيهم.

٣٠٠