أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وجد عالم بهما.

٢ ـ وجوب الكفر بالطاغوت أيا كان نوعه.

٣ ـ وجوب الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.

٤ ـ استحباب الإعراض عن ذوي الجهالات ، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

شرح الكلمات :

(بِإِذْنِ اللهِ) : إذن الله : إعلامه بالشىء وأمره به.

(ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم التحاكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) : طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا ، أو استغفروا الله.

(يُحَكِّمُوكَ) : يجعلونك حكما بينهم ويفوضون الأمر إليك.

(فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (١) : أي اختلفوا فيه لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل.

(حَرَجاً) : ضيقا وتحرّجا.

(مِمَّا قَضَيْتَ) : حكمت فيه.

(وَيُسَلِّمُوا) : أي يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليما تاما.

__________________

(١) شجر : اختلط واختلف ، ومنه سمي الشجر شجرا لاختلاط أغصانه قال طرفة :

وهم الحكام أرباب الهدى

وسعاة الناس في الأمر الشجر

٥٠١

معنى الآيتين :

بعد تقرير خطأ وضلال من أرادا أن يتحاكما إلى الطاغوت كعب بن الأشرف اليهودي وهما اليهودي والمنافق في الآيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل (١) رسولا من رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم (٢) إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول أي سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عزوجل (تَوَّاباً رَحِيماً). هذا معنى الآية (٦٤) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً.)

وأما الآية الثانية (٦٥) (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٣) حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فإن الله تعالى يقول (فَلا) أي ليس الأمر كما يزعمون ، ثم يقسم تعالى فيقول (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أيها الرسول أي يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدورهم أدنى شك في صحة حكمك وعدالته ، وفي التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله ، (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأمر به وينهى عنه.

٢ ـ بطلان من يزعم أن في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار (٤) من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن

__________________

(١) من في الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) مزيدة لتقوية الكلام وإفادة العموم.

(٢) تقدم أن الخطاب بصيغة الجمع وإن كان المتحاكمان اثنين فقط فإنّ الحكم عام فيهم وفي غيرهم فكل من يصدر عنه هذا النوع من الذنب فتوبته هي ما ذكر تعالى في هذه الآية.

(٣) قيل إن هذه الآية : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) نزلت في الزبير والأنصاري في قضية سقي البستان إذ اختلفا وأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : «اسق يا زبير أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك» أي الأوّل فقال الأنصاري : أراك تحابي ابن عمتك ، فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال للزبير : «اسق ثمّ احبس الماء حتى يبلغ الجدر» فنزلت الآية. والحديث في صحيح البخاري.

(٤) وذلك أنه لو كان كل مذنب لا يغفر له إلّا إذا أتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفر له لما تاب أحد وللزم أن يبقى الرسول حيا ليستغفر للمذنبين بمثل هذا الذنب ، ولا قائل بها ولا يعقل ولم يشرع أبدا وكل حكاية ذكرت في هذه المسألة فهي باطلة.

٥٠٢

قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية نزلت في الرجلين اللّذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفارهما الله تعالى ، واستغفار الرسول لهما ، وبذلك تقبل توبتهما ، وإلا فلا توبة لهما أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.

٣ ـ كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلما للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال.

٤ ـ وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.

٥ ـ وجوب الرضا (١) بحكم الله ورسوله والتسليم به.

(وَلَوْ (٢) أَنَّا كَتَبْنا (٣) عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ (٤) أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

__________________

(١) قضى أهل العلم أنّ السيل إذا كان بسبب مطر فإنّ الأعلى يقدّم على الأسفل ، فيسقى من وصل إليه السيل حتى يبلغ الماء الكعبين في أرضه ثم يرسل السيل كلّه إلى من تحته فيسقي ثم يرسل إلى من تحته وهكذا وهو قول المالكية مأخوذ من حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضية الزبير والانصاري وهو الحق.

(٢) لو : حرف امتناع لامتناع أي امتناع شىء لامتناع غيره ، إذ امتنع القتل لامتناع الكتب به.

(٣) روي أنه لما نزلت هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) .. قال أبو بكر الصديق : لو أمرنا لفعلنا فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي».

(٤) (حسن) مضمّن معنى التعجب فهو كنعم للمدح ، أي مدح الحسن فيهم ، وأولئك : فاعله ، ورفيقا : منصوب على التمييز.

٥٠٣

شرح الكلمات :

(كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) : فرضنا عليهم وأوجبنا

(أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي قتل أنفسهم

(ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) : أي ما فعل القتل إلا قليل (١) منهم.

(ما يُوعَظُونَ بِهِ) : أي ما يؤمرون به وينهون عنه

(وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) : أي للإيمان في قلوبهم

(الصِّدِّيقِينَ) : جمع صديق : وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق.

(وَالشُّهَداءِ) : جمع شهيد : من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإسلام بالحجة والبرهان.

والصالحون : جمع صالح : من أدى حقوق الله تعالى وأدى حقوق العباد ، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على فساده.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي بقتل بعضكم بعضا كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم. ثم قال تعالى داعيا لهم مرغبا لهم في الهداية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يذكرون به ترغيبا وترهيبا من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيرا في الحال والمآل ، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم ، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والحسنة تنتج حسنة ، والسيئة تتولد عنها سيئة. ويقول تعالى : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرناهم به من الطاعات ، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجرا عظيما يوم يلقوننا ولهديناهم في الدنيا (صِراطاً مُسْتَقِيماً) ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه

__________________

(١) قرىء : إلّا قليلا بالنصب ، وإلّا قليل بالرفع ، وقراءة الرفع مراعى فيها اللّفظ وهو أولى ، لذا هي أكثر وأشهر.

٥٠٤

وعدم الخروج عنه. هذا ما دلت عليه الآيات (٦٦ ـ ٦٧ ـ ٦٨).

أما الآية (٦٩) وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) (١) (وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) فقد روى ابن جرير في تفسيره أنها نزلت حين قال بعض (٢) الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ) الآية. وما أنعم الله تعالى عليه هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته عزوجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا ، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار النعيم. والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر به والشهداء جمع شهيد وهو من قتل في سبيل الله والصالحون جمع صالح وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة وقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٣) يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم ، لأنهم ينزلون إليهم ، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة. وقوله تعالى : (ذلِكَ (٤) الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) يريد أن ذلك الالتقاء مع من ذكر تم لهم بفضل الله تعالى ، لا بطاعتهم. وقوله (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) أي بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين ، ولذلك يتم الجزاء عادلا رحيما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قد يكلف الله تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا يطاق.

٢ ـ الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات.

__________________

(١) في هذه الآية إشارة أصرح من عبارة على خلافة أبي بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ ذكر تعالى الأنبياء ثم ثنى بالصديقين ، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بالصديق كما أجمعوا على تسمية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبي ، فدلّ على تعيين خلافة أبي بكر إذا لم يقدّم عليه أحد في الذكر سوى الأنبياء.

(٢) من بين القائلين ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبد الله بن زيد بن عبد ربّه الذي أري الأذان في المنام.

(٣) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من نبيّ يمرض إلّا خير بين الدنيا والآخرة» ولما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول : «مع الذين أنعم الله عليهم» الآية فعلمت أنّه خيّر وكان يقول : «اللهم الرفيق الأعلى» وهو يعاني سكرات الموت فصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) في قوله تعالى : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) ردّ على المعتزلة إذ قالوا : إنما ينال العبد ما يناله بعمله ، والله قد ردّ ذلك الإكرام والإنعام لفضله وهو كذلك عقلا وشرعا ويلزم اعتقادا.

٥٠٥

٣ ـ الطاعات تثمر قوة الإيمان وتؤهل لدخول الجنان.

٤ ـ مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

شرح الكلمات :

(خُذُوا حِذْرَكُمْ) : الحذر والحذر : الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.

(فَانْفِرُوا ثُباتٍ) (١) : النفور : الخروج في اندفاع وانزعاج ، والثبات : جمع ثبة وهي الجماعة.

(لَيُبَطِّئَنَ) (٢) : أي يتباطأ في الخروج فلا يخرج.

(مُصِيبَةٌ) : قتل أو جراحات وهزيمة.

(شَهِيداً) : أي حاضرا الغزوة معهم.

(فَضْلٌ) : نصر وغنيمة.

(مَوَدَّةٌ) : صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة. (٣)

(فَوْزاً عَظِيماً) : نجاة من معرة التخلف عن الجهاد ، والظفر بالسلامة والغنيمة.

__________________

(١) أصل ثبة : ثبية أو ثبوة بالباء والواو ، وقد تصغر على ثبية ، وهل اشتقاقها من ثبة الحوض أي محل اجتماع الماء فيه ، لأن الثبة : الجماعة ، وثاب الماء يثوب إذا اجتمع.

(٢) حمل مجاهد وقتادة وابن جريج الآية على المنافقين وحملها بعضهم على ضعفة الإيمان ، وحملها على الجميع أقرب إلى الصحة والصواب ، والله أعلم.

(٣) إن كان الصاحب من ضعفة الإيمان فهو كذلك ، وإن كان منافقا فإنّ المودّة هنا بمعنى مجرّد الصحبة لا غير ، لأنّ المافق لا يحب المؤمن إلّا نادرا.

٥٠٦

معنى الآيات :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا (١) حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا (٢)جَمِيعاً) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخالها في حضيرة الإسلام خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء ، قوته أشد من قوتكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه (٣) القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم أي من عدادهم وأفراد مواطينهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معا لأنه لا يريد لكم نصرا لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ) أيها المؤمنون الصادقون (مُصِيبَةٌ) قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه : لقد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم حاضرا فيصبني ما أصابهم ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وغنيمة (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي معرفة ولا صلة يا ليتني متمنيا حاسدا ـ كنت معهم في الغزاة (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.

٢ ـ وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة.

٣ ـ وجود منهزمين روحيا مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم.

__________________

(١) أخذ الحذر : هو توقي المكروه بالأسباب الممكنة المشروعية وجملة : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) الخ تفريع بذكر بعض أسباب توقي المحذور.

(٢) أخذ الحذر واجب لأنه سبب شرعه الله تعالى لتوقي المكروه ولكنه لا يمنع المقدور ، وأخطأت القدرية إذا قالوا : الحذر يردّ القدر ، ولو لا أنه كذلك ما أمروا به ، وهو خطأ اعتقادي فالأسباب تؤتى طاعة لله تعالى وأمّا دفع المقدور أي ما قدره الله على الإنسان فلا بد من وقوعه ، وفائدة الأخذ بالأسباب إبعاد الخوف عن النفس وحصول شعور بالفوز والنجاة.

(٣) هل هذه الآية ، وهي متقدمة في النزول على آية التوبة : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) منسوخة بها؟ والجواب أن فرض الجهاد على الكفاية ولذا فلا نسخ ، وإنّما هذه في حال وتلك في أخرى وهي : أن يرى الإمام النفير العام لا غير.

٥٠٧

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

شرح الكلمات :

(سَبِيلِ اللهِ) : الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده ، ولا يضطهد مسلم في دينه ، ولا من أجل دينه.

(يَشْرُونَ) : يبيعون ، إذ يطلق الشراء على البيع أيضا.

(الْمُسْتَضْعَفِينَ) : المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.

(الْقَرْيَةِ) : القرية في عرف القرآن المدينة الكبيرة والجامعة والمراد بها هنا مكة المكرمة.

(فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) : أي في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ، ونشر الفساد.

معنى الآيتين :

بعد ما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقا فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلبا للفوز بالدار الآخرة مقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه ، ثم أخبرهم

٥٠٨

أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيقتل أي يستشهد أو يغلب العدو وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه (١) الله تعالى أجرا عظيما وهو النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٤).

أما الآية الثانية (٧٥) فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة بقوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ (٢) فِي سَبِيلِ اللهِ) ليعبد وحده ويعز أولياؤه (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ (٣) مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجأروا بالدعاء إلى ربهم قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا ويكفينا ما أهمنا ، (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على أعدائنا أي شىء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله ، ليعبد وحده ، وليتخلص (٤) المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟

ثم في الآية الثالثة (٧٦) اخبر تعالى عباده المؤمنين حاضا لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) وهو الكفر (٥) والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم ، ولا بما لديه من عذاب ونكال (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وهم الكفار ، ولا ترهبوهم (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ) وما زال (ضَعِيفاً) ، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة ، أمام جيش الإيمان أولياء الرحمن.

__________________

(١) ظاهر الآية التسوية بين من قتل شهيدا وبين من انتصر ورجع بنفسه وهناك حديثان أحدهما يقتضي التسوية وآخر ينفيها فالأول حديث أبي هريرة : «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلّا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة» رواه مسلم. والثاني : «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلّا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث ، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم» والجمع بينهما أنّ من غزى ناويا الأجر والغنيمة ثم غنم وسلم نقص آجره في الآخرة ، فلم تكن درجته كالذي استشهد ولم يغنم ولا كالذي نوى الأجر دون الغنيمة أيضا ، والسبب الفارق هو اشتراك النية وعدم خلوصها.

(٢) الاستفهام انكاري أي ينكر عليهم قعودهم عن القتال في سبيل الله أي لا نقاذ المؤمنين من فتنة المشركين وانقاذ أولادهم من أن يشبوا ويكبروا على أحوال الكفر جاهلين بالإيمان والإسلام.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين ، وفي رواية البخاري قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله أنا من الولدان وأمي من النساء وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقنت لهم فيقول : «اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين».

(٤) الإجماع على وجوب تخليص الأسرى من المسلمين بالقتال أو بالمال ، ولا يحل تركهم تحت الكافر يضطهدهم ويعذبهم من أجل دينهم ، وفي الحديث الصحيح : «فكوا العاني» وهو الأسير ، وسمي العاني : لما يعانيه من آلام وأتعاب ، والمسلمون اليوم أسرى تحت اليهود في فلسطين والمسلمون تاركون لهم غير مهتمين بهم وهو ذنب عظيم.

(٥) يطلق الطاغوت على ما عبد من دون الله ، ويطلق على من دعا إلى عبادة غير الله كالشيطان وغيره من الجنّ والإنس الذين يدعون إلى عبادة الأصنام والأشخاص وغيرها ، وفي هذه الآية يناسب أن يكون الطاغوت هو الشيطان لقوله بعد أولياء الشيطان .. وإطلاقنا الطاغوت على الكفر والظلم مراعاة لحال الناس فإنّ أكثرهم يقاتل نصرة للكفر الذي هو عليه أو لإبقاء ظلمه واستعلائه في الأرض.

٥٠٩

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فرضية القتال في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالا للباطل.

٢ ـ المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة ، ولنعم البيع.

٣ ـ المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل ، أو انتصر وغلب وهي الجنة.

٤ ـ لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم ، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

شرح الكلمات :

(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) : أي عن القتال وذلك قبل أن يفرض.

(كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) : فرض عليهم

٥١٠

(يَخْشَوْنَ) : يخافون

(لَوْ لا أَخَّرْتَنا) : هلّا أخرتنا. (١)

(فَتِيلاً) : الفتيل خيط يكون في وسط النواة.

(بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) : حصون مشيدة بالشيد وهو الجص.

(مِنْ حَسَنَةٍ) : الحسنة ما سرّ ، والسيئة ما ضرّ.

معنى الآيات :

روى أن بعضا من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طالبوا بالإذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما يأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) متعللين (٢) بعلل واهية فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين (٧٧) و (٧٨) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي عن القتال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته ، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) جبنوا ولم يخرجوا للقتال ، وقالوا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدوا خورا وجبنا فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم : (مَتاعُ الدُّنْيا) (٣) (قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله ، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة هذا ما تضمنته الآية الأولى.

أما الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) إذ الموت طالبكم ولا بد أن يدرككم كما قال تعالى لأمثالهم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) ، ولو دخلتم حصونا (٤) ما فيها كوة ولا نافذة

__________________

(١) المراد من التأخير إلى أجل قريب هو أن يتم استعدادهم للقتال بتوفر المال والرجال ، والعتاد لا إلى أجل الموت فإنّه غير وارد في قولهم هذا ولا معنى له ، وهل قولهم كان في أنفسهم أو صرحوا به؟ كلاهما وارد وجائز الوقوع.

(٢) اختلف هل هذه الآية نزلت في المؤمنين أو المنافقين والصواب ؛ أنها نزلت في بعض المؤمنين ممن ضعف إيمانهم ، أما كونها نزلت في اليهود فلا معنى له ، وكونها شملت المنافقين فهذا حق بدليل سياق الآيات.

(٣) يبيّن قلة متاع الدنيا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها».

(٤) تفسير لقوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) إذ البرج البناء المرتفع ، والقصر العظيم ، قال طرفة يصف ناقة :

كأنها برج رومي يكففها

بان بشيد وآجر وأحجار

وفي الآية ردّ على القدرية القائلين المقتول لو لم يقتله القاتل عاش.

٥١١

فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أو خصب ورخاء قالوا هذه من عند الله لا شكرا لله وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئا من خير كان ببركته وحسن قيادته ، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون هذه من عندك (١) أي أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله قل لهم (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الحسنة والسيئة هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها. ثم عابهم في نفسياتهم الهابطة فقال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) هذا ما دلت عليه الآية الثانية.

أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق وهي قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ) (٢) (مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٣) الآية فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها والموفق للحصول عليها ، أما السيئة فمن النفس إذ هي التي تأمر بها ، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه ، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى. وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يسلى به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم كالذين ينسبون إليه السيئة تطيرا به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بالله شهيدا.

هداية الآية :

من هداية الآيات :

١ ـ قبح الاستعجال والجبن وسوء عاقبتهما.

٢ ـ الآخرة خير لمن اتقى من الدنيا. (٤)

__________________

(١) لقد شارك يهود في هذا القول فقد روى أنهم لما نزل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة مهاجرا قالوا : مازلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه!!

(٢) إنّ الخطاب وإن كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو عام في كل إنسان لا سيما المؤمن أو هو من باب إيّاك أعني. واسمعي يا جارة ، وكون لفظه خاصا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه عام هو الصحيح.

(٣) زاد بعضهم جملة : وأنا كتبتها عليك وهي ليست قرآنا إجماعا ، وإنما هي تفسير من بعض الصحابة ولا التفات لمن طعن في القرآن بمثل هذه الزيادة التفسيرية.

(٤) وما أحسن ما قيل في معنى الآية شعرا :

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له

من الله في دار المقام نصيب

فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها

متاع قليل والزوال قريب

٥١٢

٣ ـ لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال (١) من الأحوال.

٤ ـ الخير والشر كلاهما بتقدير الله تعالى.

٥ ـ الحسنة من الله والسيئة من النفس إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها ، وأبعد الموانع عنها والسيئة من النفس لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها ، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها فهى من النفس (٢) لا من الله تعالى.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

شرح الكلمات :

(حَفِيظاً) : تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها.

(طاعَةٌ) : أي أمرنا طاعة لك.

(بَرَزُوا) : خرجوا.

__________________

(١) قال زهير بن أبي سلمى :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام اسباب السماء بسلّم

(٢) قال قتادة رواية : لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر. وفي الحديث الصحيح : «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا حزن ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلّا كفر الله عنه بها من خطاياه» فهو دال على حديث قتادة الضعيف.

٥١٣

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) : تدبر القرآن قراءة الآية أو الآيات وإعادتها المرة بعد المرة ليفقه مراد الله تعالى منها.

(أَذاعُوا بِهِ) : افشوه معلنينه للناس

(يَسْتَنْبِطُونَهُ) : يستخرجون معناه الصحيح.

معنى الآيات :

في قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) (١) إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أطاع الله تعالى ، إن أمر الرسول من أمر الله ونهيه من نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (وَمَنْ تَوَلَّى) أي عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه فدعه ولا تلتفت إليه إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها إن عليك إلا البلاغ وقد بلغت فأعذرت. وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السّيئو الفهم لما تقول : طاعة أي أمرنا طاعة لك أي ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت فنحن مطيعون لك (فَإِذا بَرَزُوا) أي خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك وفي مجلسك والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه (٢) من الشر والباطل. وعليه (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تبال بهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.

وقوله تعالى في الآية الثانية (٨٢) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ (٣) الْقُرْآنَ) يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم إذ لو تدبروا القرآن وهو يتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم ، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم ، إن تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق

__________________

(١) مصداقه في صحيح مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني».

(٢) بيتوا زوروا وبدلوا إن التبييت هو تدبر الأمر بالليل حيث اتساع الوقت والفراغ من العمل وقلة العيون وبيتوا العدو آتوه ليلا قال الشاعر :

أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

(٣) في هذه الآية : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) مع آية سورة القتال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) دليل على وجوب تدبر القرآن لفهم معانيه ، لاعتقاد الحق والعمل به ، وفيه ردّ على من زعم أنه لا يأخذ من القرآن إلّا ما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفسيره ، ودليل على وجوب النظر والاستدلال وابطال التقليد.

٥١٤

من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر ، إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والإختلاف والتضاد ، ولكنه كلام خالق البشر ، فلذا هو متسق الكلم متآلف الألفاظ والمعاني محكم الآى هاد إلى الإسعاد والكمال ، فهو بذلك كلام الله حقا ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبدا للكفر بعد هذا والإصرار عليه ، ومنافقة المسلمين فيه. هذا معنى قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) وهي الآية الرابعة (٨٣) فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعيا عليهم ارجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) أي إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا بإفشائه وإذاعته ، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسدا أو طمعا ، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعا وخوفا لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم ، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب. (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) القائد الأعلى ، (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم أمراء السرايا المجاهدة (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) أي لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعا أذاعوه ، وإن كان ضارا أخوفه. ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أيها المؤمنون (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) (٢) في قبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة (إِلَّا قَلِيلاً) منكم من ذوى الآراء الصائبة والحصافة العقلية إذ مثلهم لاتثيرهم الدعاوي ، ولا تغيرهم الأراجيف ، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عزوجل.

__________________

(١) الاستنباط مأخوذ من استنبط الماء : إذا استخرجه من الأرض ، والنبط : الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر أول ما يحفر ، وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض ، والاستنباط لغة : الاستخراج ، وفي هذه الآية دليل على الاجتهاد.

(٢) ما فسرنا به الآية أصح مما فسرت به ولا التفات إلى ما أورد القرطبي من آراء عدّة لا طائل تحتها.

٥١٥

٢ ـ وجوب تدبر القرآن لتقوية الإيمان. (١)

٣ ـ آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.

٤ ـ تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.

٥ ـ أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))

شرح الكلمات :

(حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.

(بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : قوتهم الحربية.

(وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) : أقوى تنكيلا والتنكيل : ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن الظلم.

الشفاعة (٢) : الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة.

__________________

(١) واستنباط الأحكام واستخراج أنواع الهدايات فيه إذ هو كتاب هداية للمؤمنين به يهتدون إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.

(٢) الشفاعة من الشفع وهو الزوج ضد الفرد ، وسميت شفاعة لأنّ الشفيع يصير مع المشفوع له شفعا أي ، زوجا ، والشفعة ضم ملك إلى ملك.

٥١٦

(كِفْلٌ مِنْها) : نصيب منها.

(مُقِيتاً) (١) : مقتدرا عليه وشاهدا عليه حافظا له.

(بِتَحِيَّةٍ) : تحية الإسلام هي السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(أَوْ رُدُّوها) : أي يقول وعليكم السّلام.

(حَسِيباً) : محاسبا على العمل مجازيا به خيرا كان أو شرا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في السياسة الحربية ففي هذه الآية (فَقاتِلْ (٢) فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) يأمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده وينتهي إضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) (٣) أي لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها ، أما من عداك فليس عليك تكليفه بالقتال ، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه. وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهذا وعد من الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل (٤) وله الحمد والمنة وهو تعالى (أَشَدُّ بَأْساً) من كل ذي بأس (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) من غيره بالظالمين من أعدائه.

هذا ما دلت عليه الآية (٨٤) أما الآية (٨٥) وهي قوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سريّة تقاتل في سبيل الله ، أو يتوسط لأحد في قضاء حاجته فإن للشافع

__________________

(١) شاهده قول الزبير بن عبد المطلب :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

أي : مقتدرا.

(٢) هذه الفاء هي الفصيحة والتقدير : إذا كان الأمر كما علمت من وجود المثبطين والخائفين والمرجفين ، فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلّا نفسك.

(٣) في الآية دليل على شجاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخارقة للعادة إذ كلّفه الله به على انفراد وأمره بتحريض المؤمنين على القتال ، ومعنى هذا أنّه أمره بالجهاد ولو كان وحده ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» أي : حتى أموت ، وتحريض المؤمنين هو أمرهم بالقتال وحثهم عليه لا على سبيل الإلزام كما ألزم به هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) فلم يقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام ، ولم يمض أكثر من ربع قرن حتى دخلت دولتا الفرس والروم في الإسلام لأنّ (عسى) من الله تعالى تفيد وجوب الوقوع.

٥١٧

قسطا من الأجر والمثوبة كما أن (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) بأن يؤيد باطلا أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر ، لأن الله تعالى على كل شىء مقتدر وحفيظ عليم. هذا ما دلت عليه الآية المذكورة.

أما الآية الأخيرة (٨٦) فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن لم يكن بأحسن فبالمثل ، فمن قال : السّلام عليكم فليقل الراد وعليكم السّلام ورحمة الله ، ومن قال السّلام عليكم ورحمة الله فليرد عليه وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (١) فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شجاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل.

٢ ـ ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيدا إجباريا ، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.

٣ ـ فضل الشفاعة في الخير ، وقبح الشفاعة في الشر. (٢)

٤ ـ تأكيد سنة التحية ، ووجوب ردّها بأحسن أو بمثل. (٣)

٥ ـ تقرير ما جاء في السنة بأن السّلام عليكم : يعطى عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله : عشر حسنات. وبركاته : عشر كذلك.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ

__________________

(١) حسيب هنا : بمعنى محاسب وحفيظ فلا يضيع حسنات العبد.

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشفعوا تؤجروا» وليقض الله على لسان نبيه ما أحب.

(٣) في الآية سنية إلقاء السّلام ووجوب ردّه وقد بينت السنة أنّ القليل يسلم على الكثير ، والقائم على القاعد ، والراكب على الماشي ، وأنّ الردّ يكون بزيادة ورحمة الله وبركاته ، وأنه لا يسلم على المرأة الصغيرة خشية الفتنة ، وأنّ المصلي إن سلّم عليه رد السّلام بالإشارة إن شاء.

٥١٨

أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

شرح الكلمات :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١) : لا معبود بحق إلا هو.

(فِئَتَيْنِ) (٢) : جماعتين الواحدة فئة أي جماعة.

(أَرْكَسَهُمْ) : الارتكاس : التحول من حال حسنة إلى حال سيئة كالكفر بعد الإيمان أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا.

(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى هدايتهم.

__________________

(١) اسم الجلالة (اللهُ) مبتدأ و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة معترضة ، وجملة القسم واقعة موقع الخبر.

(٢) الفئة : الطائفة ، اشتق لفظها من الفيء الذي هو الرجوع ، إذ أفرادها يرجع بعضهم إلى بعض وأصلها فيء فحذفت الياء من وسطها لكثرة الاستعمال فصارت : فئة بعد زيادة هاء التأنيث عوضا عن الياء المحذوفة.

٥١٩

(وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) : الولي : من يلي أمرك ، والنصير : من ينصرك على عدوك.

(يَصِلُونَ) : أي يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.

(مِيثاقٌ) : عهد.

(حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) : ضاقت.

(السَّلَمَ) : الاستسلام والانقياد.

(الْفِتْنَةِ) : الشرك.

(ثَقِفْتُمُوهُمْ) : وجدتموهم متمكنين منهم.

(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة بينة على جواز قتالهم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب أي القادر على الحساب والجزاء أخبر عزوجل أنه الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه إذ الإله الحق ما كان ربا خالقا رازقا مدبرا بيده كل شىء وإليه مصير كل شيء وأنه جامع (١) الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.

هذا ما دلت عليه الآية الكريمة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ولما كان هذا خبرا يتضمن وعدا ووعيدا أكد تعالى إنجازه فقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) اللهم إنه لا أحد أصدق منك.

أما الآيات الأربع الباقية وهي (٨٨) و (٨٩) و (٩٠) و (٩١) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية معنية أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهو ضليعون في موالاة الكافرين ، وقد يكونون في مكة ، (٢) وقد يكونون في المدينة فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم ، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ماداموا يدعون الإيمان لعلهم

__________________

(١) قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب قسم ، وهذا الجمع دلالة اللفظ أنه في القبور تحت الأرض ليبعثهم يوم القيامة وقد تكون (إلى) صلة ويكون الجمع هو جمع يوم القيامة.

(٢) السياق الكريم صالح لأن تكون الفئتان المختلف فيهما من مكة أو من المدينة وقد ورد في الصحيح اختلاف المؤمنين في ابن أبي ومن وافقه ورجع من أحد دون قتال حتى قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» كما ورد في غير الصحيح أنّ جماعة في مكة تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين وأبوا أن يهاجروا ، فاختلف في شأنهم المؤمنون ، ولا مانع من أن تعنى الآيات منافقي المدينة ، ومنافقي مكة ، إذ الخلاف وقع في كلّ من منافقي مكة ومنافقي المدينة ، ويرجح هذا الرأي صحة الخبر الأول وذكر الهجرة في الثاني.

٥٢٠