مقاتل بن عطيّة
المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الاستفاضة ، فرواها الشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي المتوفى سنة ٣٦٨ ه بلفظ آخر ، قال :
حدثني أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسين العسكري ومحمد بن الحسن جميعا عن الحسن بن علي بن مهزيار ، عن أبيه علي بن مهزيار ، عن محمد بن أبي عمير ، عن محمّد بن مروان ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال الإمام الصادق عليهالسلام :
إذا أردت المسير إلى قبر الحسين عليهالسلام فصم يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر ، واغتسل قبل خروجك ...
إلى أن قال :
ثم ادخل الحائر وقل حين تدخل : السلام على ملائكة الله المقربين .. السلام مني إليك والتحية مع عظم الرّزيّة ، كنت نورا في الأصلاب الشامخة ، ونورا في ظلمات الأرض ونورا في الهواء ونورا في السماوات العلى ، كنت فيها نورا ساطعا لا يطفى وأنت الناطق بالهدى ..
أشهد أنك طهر طاهر مطهّر ، من طهر طاهر مطهّر ، طهرت وطهرت أرض أنت بها ، وطهر حرمك (١).
وفي زيارة أخرى :
أشهد أنك طهر طاهر من طهر طاهر ، قد طهرت بك البلاد وطهرت أرض أنت فيها(٢).
وفي زيارة ثالثة :
__________________
(١) كامل الزيارات ص ٤١٠.
(٢) نفس المصدر ص ٣٨٨.
أشهد أنكم كلمة التقوى وباب الهدى ، والعروة الوثقى ، والحجة على من يبقى ومن تحت الثرى ، أشهد أن ذلك لكم سابق فيما مضى ، وذلك لكم فاتح فيما بقى ، أشهد أن أرواحكم وطينتكم طينة طيّبة طابت وطهرت هي بعضها من بعض ، منّا من الله ومن رحمته (١).
وما ينبغي الإشارة إليه :
إن مقاطيع هذه الزيارات حجة قاطعة على طهارة الطينة التي خلق منها الجسد الحسيني عليه أفضل التحية والسلام ، فطينته كانت نورا يتقلب في الأصلاب الشامخة ـ أي الموحّدة والخاشعة ـ والأرحام المطهّرة ـ المقدّسة التي لم تعرف السفاح والدنس ـ فكل ما فيه فهو طاهر مطهر ، بل ما حلّ جسده الشريف في بلاد إلا وطهّرها وقدّسها ، فهو «طاهر» بالطهارة المطلقة ، و «مطهر» لا ينجسه شيء على الإطلاق ، فهو طاهر من النجاسات المادية والمعنوية «لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها».
فالجاهلية سواء كانت مادية مصدرها فعل الجاهلية العمياء قبل عصر الإسلام من زنا وغيره ، أو مصدرها الجهل الأعمى من شرك وغيره ، فإن كل ذلك منفي عن مولى الأحرار الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام. وعليه فإن كل شيء في الإمام الحسين عليهالسلام هو طاهر مطهّر ، فما ثبت له روحي فداه ثبت لأمه الصدّيقة الطاهرة وجده وأبيه والتسعة المعصومين من ذريته وبنيهعليهمالسلام لوحدة الملاك.
وزبدة المخض :
أن الإطلاقات والعمومات دلت على طهارة كل ما يتعلق بالرسول محمّد وعترته الطاهرة وليس في المقام أي مخصص أو مقيد لتلك الاطلاقات والعمومات.
__________________
(١) نفس المصدر ص ٣٦٩.
هذا مضافا إلى أنه لم يثبت من الناحية الفقهية نجاسة كل دم ، من هنا أفتى عامة فقهاء الشيعة الإمامية بطهارة دم السمك وبعض الحشرات ، وكذا الدم المتبقي في الذبيحة ، حيث إن الكل دماء ولكنها دماء طاهرة.
وكذا أفتى الفقهاء طبقا لما جاء في الأحاديث الصحيحة أن أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه من ذي النفس السائلة نجس وحرام شربه إلا الحيوانات مأكولة اللحم فقد ورد بالصحيح والموثق طهارة أبوالها وأرواثها وجواز شرب أبوالها لا سيّما الإبل منها.
وعليه : لم يفت الفقهاء بنجاسة كل الدماء ، بل استثنوا بعض الدماء ، ولم يفتوا بنجاسة كل الأبوال بل استثنوا بعض الأبوال. كما لم يقل أحد منهم بنجاسة كل الفضلات بل استثنوا بعض الفضلات.
وإذا كان كذلك فكيف نجعل المعصومين عليهمالسلام داخلين في المستثنى منه ولا نخرجهم من المستثنى ، بل يجب إخراجهم واستثنائهم لآية التطهير على الأقل ، وما أعظمها من دليل ، فضلا على ما مر سابقا من الأدلة النقلية الواردة في المقام.
وزبدة المقال :
إن طهارتهم عليهمالسلام بكلا قسميها مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فقيه جاس خلال الديار بردّ الفروع إلى الأصول والقواعد الواردة عن مشكاة النبوة والولاية ، والشاك بما قلنا لا أظنه يحصل على يقين بأمثالها لوضوحها عند من تجرد عن العلائق النفسانية والعصبيّة بالتحزّب للكبراء من أعاظم العلماء ، لأنّ من كان همه الحق المتعال لا يشغله عنه القيل والقال (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١).
__________________
(١) سورة الكهف : ٢٩.
المفردة الثالثة : أهل البيت عليهمالسلام.
في هذه المفردة نبحث في عدة نقاط :
النقطة الأولى :
مفهوم أهل البيت لغة : فقد اتفقت كلمات اللغويين على أن مفهوم أهل البيت هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت ، وأهل الرجل : من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.
قال الراغب الأصفهاني :
«أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد ، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ، ثم تجوّز به ، فقيل : أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب ، وتعورف في أسرة النبيّ عليه الصلاة والسلام مطلقا إذا قيل أهل البيت لقوله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) وعبّر بأهل الرجل عن امرأته» (٢).
وقال الطريحي (قدسسره) :
«أهل البيت : سكانه ، وكذا أهل الماء ، وأهل الرجل : آله ، وهم أشياعه وأتباعه وأهل ملّته ، ثم كثر استعمال الأهل والآل حتى سمّي بهما أهل بيت الرجل لأنهم أكثر من يتبعه ..»(٣).
وآل أصله أهل ، قلبت الهاء همزة بدليل أهيل فإن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها (٤).
__________________
(١) سورة الأحزاب : ٣٣.
(٢) مفردات القرآن الكريم ص ٢٩.
(٣) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٤.
(٤) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٣.
والآل أعم من الأهل ، فإن آل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كل من يئول إليه ، وهم قسمان :
الأول : من يئول إليه مآلا صوريا جسمانيا كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين الذين يحرم عليهم الصدقة في الشريعة المحمّدية.
والثاني : من يئول إليه مآلا معنويا روحانيا وهم أولاده الروحانيون من العلماء الراسخين والأولياء الكاملين والحكماء المتألهين المقتبسين من مشكاة أنواره ، ولا شك أن النسبة الثانية آكد من الأولى. وإذا اجتمعت النسبتان كان نورا على نور كما في الأئمة من العترة الطاهرة. وكما حرم على الأولاد الصوريين الصدقة الصورية كذلك حرم على الأولاد المعنويين الصدقة المعنوية أي تقليد الغير في العلوم والمعارف.
سئل مولانا الإمام الصادق عليهالسلام : من الآل؟
قال عليهالسلام : ذريّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقيل له من الأهل؟
قال عليهالسلام : الأئمة عليهمالسلام (١)
وفي معاني الأخبار : سئل عن آل محمّد؟ قال عليهالسلام : ذريته ، فقيل : ومن أهل بيته؟
قال : الأئمة عليهمالسلام. قيل : ومن عترته؟
قال عليهالسلام : أصحاب العباء (٢).
وقال ابن منظور :
«أهل الرجل : عشيرته وذوو قرباه ، والجمع : أهلون وآهال وآهال وأهلات .. وأهل البيت سكّانه ، وأهل الرجل : أخص الناس به ، وأهل بيت النبي :
__________________
(١) مجمع البحرين ج ٥ / ٣١٣.
(٢) نفس المصدر ج ٥ / ٣١٣.
أزواجه وبناته وصهره أعني عليّا عليهالسلام ، وقيل : نساء النبيّ والرجال الذين هم آله ..» (١).
وقال في موضع آخر :
«آل الرجل : أهله ، وآل الله وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها : أهل ثم أبدلت الهاء همزة فصار في التقدير أأل ، فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفا كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل : آمن وآزر» (٢).
إذن مفهوم «أهل البيت» عام له مصاديق متعددة ، وتخصيصه بالزوجة إجحاف في حق هذا المفهوم ، كما أن تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن الكريم كما في قصة موسى وزوجته بقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) (٣).
فقد أشار سبحانه هنا إلى أن الأهل هي زوجة النبيّ موسى عليهالسلام.
وكذا ورد في قصة زوجة إبراهيم خليل الرحمن عليهالسلام بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٤).
وعند إطلاق كلمة «أهل» تحمل على جميع مصاديق مفهوم «لأهل» إلا إذا قامت القرائن على أن المراد صنف خاص من الأهل.
وهنا السؤال :
__________________
(١) لسان العرب ج ١١ / ٢٩.
(٢) لسان العرب ج ١١ / ٣٠.
(٣) سورة القصص : ٢٩.
(٤) سورة هود : ٧١ ـ ٧٣.
هل قامت القرائن المعيّنة على إرادة صنف خاص من هذا المفهوم؟
والجواب : نعم ، فإن لكلمة «أهل البيت» اصطلاح خاص عند المشرّع والمتشرعة ، وإليك البيان في النقطة الثانية.
النقطة الثانية : في المعنى الاصطلاحي لمفهوم أهل البيت.
لمفهوم أهل البيت اصطلاحان :
١ ـ أن المراد به بنت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أعني الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليهاالسلام وزوجها أمير المؤمنين وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهمالسلام ، وهو ما يصطلح عليه ب «أصحاب أهل الكساء أو العباء» أو «الأشباح الخمسة» أو «الأنوار الخمسة» وأولادهم المعصومين المطهرينعليهمالسلام ويصطلح على الجميع ب «الأنوار الأربعة عشر».
٢ ـ المراد به نساء النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهنا نسأل : أي واحد من هذين الاصطلاحين أراد الله تعالى ورسوله؟
والجواب :
لقد قامت الأدلة والقرائن والشواهد اللغوية والأدبية والقرآنية والنبوية على أن المراد ب «أهل البيت» هم العترة الطاهرة ، وإليك تلك القرائن :
القرينة الأولى :
إنّ اللام في أهل البيت للعهد أي معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب بمعنى أنه سبحانه وتعالى تكلّم بالآية عن جماعة ، خصهم بالخطاب المعيّن بإذهاب الرّجس ، وهؤلاء الجماعة هم أهل بيت خاص معهود بين المتكلم والمخاطب ، قد طهّرهم الله تعالى واصطفاهم على العالمين ، فالآية في مقام الإخبار عن جماعة أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وليست في مقام الإنشاء والطلب.
وعليه فإن الآية لا يمكن أن تشمل نساء النبيّ وأقرباءه ولا أعمامه ولا أي مصداق آخر غير العترة خاصة ، لأن جميع فرق المسلمين تتفق على عدم عصمة اولئك ، فيختص التطهير بجماعة معينين جمعهم الرسول الأكرم تحت الكساء هم الأربعة المطهرين : عليّ أمير المؤمنين والصدّيقة سيّدة نساء العالمين فاطمة والإمامان الحسن والحسين عليهمالسلام ، والنبيّ الكريم خامسهم صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو كانت الآية تنطوي على الاطلاق بحيث تشمل نساء النبيّ وأقرباءه لكان منهم من ادّعى هذا الفخر ، وهو وسام عظيم لا يمكن لإنسان أن يزهد فيه ، وعند العودة إلى التاريخ لا تجد أحدا ادّعى هذا الفخر لنفسه سوى من ذكرنا من أهل الكساء.
ومن ناحية أخرى تشير الوقائع التاريخية إلى أن أعمام النبيّ وأقرباءه ونساءه إلا النادر منهم ، كانوا على الشرك والوثنية ثم صاروا مسلمين ، وحتّى بعد أن أسلموا صدرت منهم أخطاء وهفوات وانحرافات ، وهذا يخالف مبدأ العصمة التي من المفروض أن الآية نصت بها عليهم.
هذا مضافا إلى أن آية التطهير لا يمكن أن تكون شاملة ومطلقة في نفسها لكي تحتاج إلى مخصص من الخارج ، وإنما هي خاصة بطائفة معيّنة أو بأشخاص معينين ، وهؤلاء المعيّنون هم الذين أشار إليهم حديث الثّقلين ، فعدم شمولية الآية المباركة لغير هؤلاء المطهّرين لا يستتبع إنكار شمولية مفهوم أهل البيت الوارد في القرآن كما مر آنفا.
وبعبارة أخرى :
صحيح أن مفهوم «أهل البيت» عام له مصاديق متعددة إلا أنّ آية التطهير صرفت المعنى العام إلى المعنى الخاص لجماعة مخصوصين.
القرينة الثانية :
تذكير الضمائر في آية التطهير في حين أن الله عزوجل أنّثها في الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير ، فلو كان المراد من «أهل البيت» نساءه لكان الأجدر تأنيث الضمائر في مفردات الآيات الحافة بآية التطهير ، وهذا ما لم يحصل.
القرينة الثالثة :
إنّ الآيات المرتبطة بأزواج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تبتدئ من الآية ٢٨ وتنتهي بالآية ٣٤ وهي تخاطبهنّ تارة بلفظ «الأزواج» ومرتين بلفظ «نساء النبي» الصريحين في زوجاته ، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ «أهل البيت» أو ليس العدول قرينة على أن المخاطبين الحقيقيين ـ أعني أهل الكساء ـ غير اللاتي توجه الخطاب لهنّ في الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير.
ويشهد لما قلنا إن اختلاف لحن الخطاب في آيات النساء كقوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ... وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... لَسْتُنَّ .. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ .. وَقُلْنَ .. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ .. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ .. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ..) يختلف عن المقطع المرتبط ب (أهل البيت) فإن المقاطع الأولى تصرّح بأن بلوغ نساء النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم لمرتبة الأجر المضاعف أو نيل العقوبة المضاعفة ، منوط بهنّ وبإرادتهن الخاصة ، كقوله تعالى (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ... وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ..) وهكذا البواقي ، وهذا بخلاف المقطع المرتبط بأهل البيت ، فإنه يحكي تعلق الإرادة الإلهية ، لا إرادتهم ، بإذهاب الرجس وتطهيرهم تطهيرا.
وكيف يمكن لإرادة الله تعالى المحتومة أن تتعلق بنزاهة أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وطهارتهنّ من كل الخبائث والأرجاس ، والآيات السابقة يلوح منها احتمال
انصرافهنّ إلى الدنيا ، وسقوطهنّ في حبائلها وزينتها؟! ومن الواضح عدم انسجامه مع الإرادة الحتمية بالطهارة. وهذا ما يقرّب ما نرمي إليه من أن آية التطهير منفردة في النزول والموضوع ، بل لو ثبت نزولها مع الآيات الأخرى فإنها تختلف عنها في شأن النزول ، إذ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في نوع الضمائر من جهة ، والاتحاد في لحن الخطاب من جهة أخرى ، وهذا ما لا نجده في هذه الآيات الكريمة.
القرينة الرابعة :
النصوص النبوية المتواترة عند الفريقين الدالة على أن أهل البيت هم من كانوا تحت الكساء ، الثابتة عصمتهم بالآية المباركة ، بل ثبت بالنصوص الصحيحة الأسانيد والمعتبرة والموثقة أن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم مكث مدة يأتي باب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام عند وقت الصلاة ، ويخاطب من فيه ـ وفيه الإمام عليّ والصدّيقة الطاهرة فاطمة والإمامان الحسنان عليهمالسلام جميعا ـ : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
والروايات وإن اختلفت في المدة التي مكث فيها النبيّ يفعل ذلك ، إلّا أن القاسم المشترك بينها ، أنها كانت كافية لتعزيز هذه الثقافة وإشاعتها بين المسلمين.
هذا وللشعراء والبلغاء والأدباء طوال قرون عناية بارزة ببيان فضائل أهل البيت والتعريف بهم ، والتنويه والتصريح بأسمائهم المباركة حيث بات متسالما عليه في كل عصر ومصر أن المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة ، بل كلما اطلقت لفظة «أهل البيت» يتبادر منها العترة الطاهرة ، والانصراف والتبادر علامة الحقيقة.
وأما الرأي الآخر القائل إن «أهل البيت» هم نساؤه فيرده الاعتبار ودلالة الآية على العصمة ، وقد تقدم توضيح ذلك فيما سبق فتأمل.
المفردة الرابعة : التطهير.
ذكر اللغويون عدة اشتقاقات لكلمة «طهر» يجمعها معنيان هما القاسم المشترك :
١ ـ الطهارة المادية.
٢ ـ الطهارة الروحية.
فبعد إذهاب الرّجس بكل أقسامه عن أهل البيت عليهمالسلام أكده بالفعل «يطهّركم» والمصدر «تطهيرا». والعلة في تأكيده التطهير تكمن في رفع ما عسى أن يتوهم أحد من أن «طهّر ـ يطهّر» الذي هو فعل قد يكون رافعا للنجاسة الخبثية الظاهرية دون الحدثية ، أو قد يزيل صورة الخبثية دون حقيقتها أو حكمها دون لونها أو جرمها ، ولونها دون رائحتها ، وكذلك الحدثيّة ، أو قد تكون الطهارة مبيحة غير رافعة للحدث ، أو قد تكون رافعة للحدث غير كاملة كما لو توضأ ولم يقرأ الأدعية المخصوصة ، فقد ورد أنه لا يطهر منه إلا الأعضاء المغسولة ، وقد تكون كاملة وغير مزيلة لبعض الأوساخ غير المانعة ، فإذا قال : «طهّر تطهيرا» أو أكده بالمصدر أفاد حصول التطهير على أكمل وجه وأصحه في كل ما ينبغي ، فلما قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) بتقديم الإرادة الدالة على كمال الاعتناء ، ولم يكتف بمعناها الذي يدل عليه «يذهب ويطهّر» دل ذلك على التطهير من كل ما يحتمل ويفرض من حدث أو خبث أو دنس أو وسخ أو نقص أو ما لا ينبغي أو غير كمال أو غير كامل ظاهرا وباطنا مما يكون عن قصد أو نسيان أو غفلة أو سهو أو تقصير أو قصور أو عدم رضا أو جهل أو تردد أو شك أو كفر أو التفات لغيره عزوجل. وفي هذه الآية نهاية الغاية في الطهارة والتطهير وكمال النهاية.
وبفقرة «يطهّركم تطهيرا» نستدل أيضا على الطهارة المادية للمعصومين عليهمالسلام ، لأن الإرادة الإلهية بإذهاب الرجس عن العترة وزيادة التطهير لهم تعني أن كل شيء فيهم ومنهم ولهم طاهر مطهّر لا دنس فيه أبدا تماما كأهل
الجنّة طاهرين مطهّرين بل هم سادة أهل الجنّة ، والجنّة خلقت من فاضل طينتهم وسوابغ رحمتهم التي هي رحمة الله التي وسعت كل شيء.
فدماؤهم الزكية طاهرة مطهرة لا دنس فيها ، فإذا كان المسك بعض دم الغزال كما قال الشاعر :
فإن تفق الأنام وأنت منهم |
|
فإن المسك بعض دم الغزال |
فلا ريب وبطريق أولى أن تكون دماؤهم الزكية طاهرة حيث بارك فيها الربّ وقدّسها لكونها عنصر الحياة عند أصحابها الذين ما عرفوا إلا الله تعالى وما عبدوا سواه البتة.
وهكذا كل ما يتعلق بالرسول وآله الميامين فإن له ميزة عند الله تعالى وخصيصة تشريفا لهم وتعظيما عمّن سواهم من الخلق ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
إلى هنا تم ما ذكرناه وبشكل مجمل في مفردات الآية المباركة وبقي تساؤلات تجول في خاطر البعض هي :
التساؤل الأول :
إن أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره تعالى عن أنه يريد إذهاب الرجس عنهم عليهمالسلام وتطهيرهم ، وليس في الآية ما يدل على تحقق هذه الإرادة بالفعل وأنها صدرت منه سبحانه وتعالى مع أن الشيعة الإمامية يقولون بدلالة الآية على اتصافهم بالعصمة.
والجواب :
إنّ إرادة تطهيره لهم عليهمالسلام فعلية وقد تحققت قبل نزول آية التطهير وذلك :
١ ـ إن الآية في مقام المدح والثناء وهما فرع تحقق الإرادة الفعلية بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، فهناك ملازمة بين مقام المدح والثناء ومقام الإرادة
الفعلية ، فلا اثنينية بين المقامين وإلا لاستلزم الفراغ في الذات الإلهية بمعنى أن ما قاله المولى لا يريده ، وهذا قبيح يتنزّه عنه الحكيم فضلا عن الله سيّد الحكماء عزوجل.
ويشهد لما قلنا تصرفاتنا العرفية ، فإنك إذا مدحت إنسانا يعني ذلك أن إرادتك الفعلية قد تحققت فيه.
٢ ـ إن إرادة الله تعالى تحققت في آية التطهير كما تحققت فعلا في آيات مماثلة لها كقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) و (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٢).
ومفاد الآيتين أن الله سبحانه وتعالى يبيّن لكم ـ أيّها الناس ـ الحقائق بواسطة هذه القوانين كما بيّنها لمن كان قبلكم وسار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة.
إن قيل :
لما ذا أتى بصيغة المضارع «يريد» الدالة على الحاضر والمستقبل ولم يأت بصيغة الماضي؟
يجاب عنه :
إن الإتيان بصيغة الحاضر أو المستقبل والعدول عن الماضي لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام ، فهو يريد إفادة دوام هذه الإرادة واستمرارها دائما.
التساؤل الثاني :
إنّ إذهاب الرّجس يتعلق بشيء موجود ، وعليه يستلزم ذلك أن يكون هناك رجس موجود أذهبه الله عزوجل عنهم وطهّرهم منه ، وهذا يضاد مقالة المسلمين الشيعة القائلين بعصمة العترةعليهمالسلام.
__________________
(١) سورة النساء : ٢٦.
(٢) سورة النساء : ٢٨.
والجواب :
١ ـ إن نزول الآية الشريفة بتطهيرهم في ذاك الوقت ليس دليلا على أنهم لم يكونوا مطهّرين قبل نزولها وذلك لأن الآية في مقام المدح والثناء ، فإرادته تعالى التكوينية متحققة فيهم قبل نزول الآية لعلمه عزوجل بأنهم سيطيعونه حق طاعته ، فإرادته كما تعلقت فيهم لقربهم منه ، كذا تعلقت بتبيين الشرائع والأحكام والهداية بقوله تعالى :
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (١) (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٢).
فالله سبحانه طهّرهم قبل نزول الآية ولكنّه أراد إبراز وإظهار إرادته فيهم وأنها متحققة في كل آن وزمان من آنات أزمنتهم.
٢ ـ الإذهاب تارة يطلق ويراد منه إزالة الشيء عن المحل بعد ثبوته كما يقال : الماء يذهب القذارة والنجاسة.
وتارة يطلق ويراد منه دفع الشيء عن المحل قبل عروضه وإن كان ممكنا في حدّ ذاته لعروضه كقوله : أذهب الله عنك السوء والبلاء.
والإذهاب في الآية (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) بالمعنى الثاني أي دفع الرّجس عنهم قبل عروضه.
وبعبارة أخرى : إن هذه التراكيب كقوله تعالى (يُرِيدُ .. لِيُذْهِبَ .. يُطَهِّرَكُمْ) كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود كذلك تستعمل فيما لو لم يكن موجودا ، كما لو كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكن
__________________
(١) الآيات في سورة النساء : ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٢٨.
(٢) سورة الحجرات : ١٧.
موجودا بالفعل كدعاء الإنسان لغيره بإذهاب المرض عنه وليس عنده أي مرض ، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.
قال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في ذلك :
«وإنّما يفيد إيقاع الفعل الذي يذهب الرّجس ، وهو العصمة في الدين والتوفيق للطاعة التي يقرّب بها العبد رب العالمين ، وليس يقتضي إذهاب الرجس وجوده من قبل ، والإذهاب عبارة عن الصرف ، وقد يصرف عن الإنسان ما لم يعتره كما يصرف عنه ما اعتراه ألا ترى أنه يقال في الدعاء «صرف الله عنك السوء» فيقصد إلى المسألة الله عصمته من السوء ، دون أن يراد بذلك الخبر من سوء به ، والمسألة في صرفه عنه ، وإذا كان الإذهاب والصرف بمعنى واحد ، بطل ما توهّمه السائل منه ، وثبت أنه قد يذهب بالرّجس عمّن لم يعتره قطّ الرجس على معنى العصمة له منه ، والتوفيق لما يبعده من حصوله به فكان تقدير الآية حينئذ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ..) الذي قد اعترى سواكم بعصمتكم ، ويطهّركم أهل البيت من تعلقه بكم على ما بيّناه(١).
التساؤل الثالث :
ما فائدة البحث في طهارة متعلقات المعصوم المادية ، أليس فيه إثارة التشويش على الساحتين العامة والخاصة ، وما الثمرة العملية لو قلنا بالطهارة المادية؟
وجوابه :
إذا كان البحث في هذه المسألة يوجب اضطرابا وتشويشا وبالتالي يجب رفضه ، فإنّ كثيرا من المسائل الفقهية والعقيدية وغيرهما يحرم البحث فيها حينئذ لكونها توجب تشويشا بين العامة والخاصة بل بين العامة أنفسهم وكذا الخاصة ، مع أن الفقهاء عامة بحثوا في أمور أخطر من مسألة طهارة المتعلقات المادية للمعصوم
__________________
(١) المسائل العكبرية للشيخ المفيد ، المسألة الأولى ، نقلا عن كتاب آية التطهير.
ولم يوجب بحثهم أي تشويش واضطراب بين المسلمين.
هذا مضافا إلى عدم حرمة كل ما سبّب التشويش ، وإلّا فإنّ مسائل كثيرة أوجبت تشويشا على الساحة الشيعية كمسألة ولاية الفقيه مثلا ومع هذا لم يفت أحد من فقهاء الشيعة بعدم جواز إثارتها كمسألة فقهية قابلة للنقاش صغرى وكبرى ، وكذا مسألة الخلافة والإمامة وغيرها من المسائل أريق سابقا من أجلها الدماء ومع هذا لم يحرّم البحث فيها أحد من فقهاء الشيعة ، ولو كان البحث في المسائل العقيدية التي توجب تشويشا محرّما لما ذكر القرآن الكريم مسائل عقيدية تتعلق بالديانتين اليهودية والنصرانية وحكمه عليهما بالكفر لكونهما حرفتا بعد غياب موسى وعيسىعليهماالسلام.
وأما الثمرة العملية المترتبة على البحث في هذه المسألة فهي كما لو وقع دم من بدن المعصوم عليهالسلام على لباس المصلي أو بدنه فهل يجب الغسل منه لصحة الصلاة أم لا؟
كما أن الثمرة والفائدة من البحث فيها إنّما هو إظهار عظمة المعصومين عليهمالسلام الذين لا يقاس بهم أحد من الناس كما نصت عليه الأخبار.
ونحن نسأل من توهم عدم الثمرة :
ما فائدة البحث في الدم الذي تحت الأحجار عند شهادة مولى الأحرار الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام حيث أفتى الفقهاء عامة بطهارته! وما فائدة البحث في دم البراغيث والبق والعلق؟ بل ما فائدة البحث في أرواث وأبوال الحيوانات المأكولة وغير المأكولة؟
وهكذا فإن البحث في هذه المسألة كغيرها من المسائل الأدنى منها درجة والأقل منها أهمية لها ثمرة فقهية ، وكل ما كان له ثمرة فقهية يجب البحث فيه لمعرفة حكمه ، وعليه فإن هذه المسألة يجب البحث فيها لوجود ثمرة فقهية مترتبة عليها.
وفي ختام البحث أقول :
إن آية التطهير من أوضح الدلالات على إمامة العترة الطاهرة ، ومع هذا فإن العامة يفصلون بين علو المرتبة وبين القيادة والخلافة.
ونحن نسأل أهل الفكر منهم :
إذا لم تكن الإمامة أو الخلافة مقرونة بقوة العلم وعلو المنزلة والسبق بالفضيلة فبأي شيء تقرن؟
وهل يحق للفاسق أو الجاهل أن يستلم الخلافة مع وجود الشريف العالم بالأمور كلها؟!
العامة قالوا بصحة الأول دون الثاني الذي قامت الأدلة القرآنية والعقلية على إثباته. قال تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (١).
وبآية التطهير يتم الاستدلال بالآيات على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، وهناك آيات واضحة الدلالة تدل على مطلوبنا منها :
الآية الرابعة :
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢).
نقل الجمهور (٣) في مصادرهم أنها نزلت في فضل الإمام عليّ يوم الغدير : منها ما رواه الواحدي أبو الحسن عليّ بن أحمد النيسابوري (المتوفى ٤٦٨ ه) :
إن الآية المباركة نزلت يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________________
(١) سورة الأعراف : ٨٩.
(٢) سورة المائدة : ٦٧.
(٣) راجع إحقاق الحق ج ٢ / ٤١٥ ، نقلا عن المصادر المعتبرة عند العامة.
ومنها ما رواه السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (المتوفى سنة ٩١١ ه) عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال :
نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ..) على رسول الله يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب (١).
وعن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) أن عليّا مولى المؤمنين (وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس) (٢).
ومنها ما رواه الألوسي (المتوفى سنة ١١٢٧ ه) : عن ابن عبّاس قال : نزلت الآية في عليّ كرّم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم ، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام : «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» (٣).
كما رواه ـ أي حديث الغدير ـ عامة مفسري الشيعة الإمامية ، ومورد نزولها الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يوم غدير خم وهو مكان بين مكة والمدينة ، ويوم النزول كان في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة ، وهي آخر حجة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يقال لها حجة الوداع لأن النبيّ كان يعلم أنها آخر حجة له وسوف تدركه المنية بعدها ، لذا قيل عنها أنها حجة الوداع ، وحجة الكمال والتمام ، لتمام الدين فيها بالولاية لأمير المؤمنين عليهالسلام.
ولمّا قضى الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم مناسكه ، وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من الجموع الكثيرة ، ووصل إلى غدر خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي
__________________
(١) الدر المنثور ج ٢ / ٥٢٨.
(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٥٢٨.
(٣) روح المعاني ج ٤ / ٢٨٢ وذكر فيه ألفاظا غليظة على علماء الشيعة الإمامية.
الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله تعالى بقوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ..).
وأمره أن يقيم الإمام عليّا علما للناس ، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية ، وفرض طاعته عليهالسلام على كل أحد ، وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة ، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، ونهى عن سمرات خمس متقاربات دومات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد ، حتى إذا أخذ القوم منازلهم ، فقم ما تحتهن حتى إذا نودي بالصلاة للظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن ، وكان يوما هاجرا يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء ، وظلل لرسول الله بثوب على شجرة من الشمس ، فلما انصرف صلىاللهعليهوآلهوسلم من صلاته ، قام خطيبا وسط القوم على أقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعا عقيرته فقال :
«الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلّ ، ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمّدا عبده ورسوله ، أما بعد :
أيّها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبيّ إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، وأني أوشك أن ادعى فأجيب ، وإني مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا :
نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجاهدت ، فجزاك الله خيرا ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟
قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال :
اللهم اشهد ، ثم قال : أيّها الناس ألا تسمعون؟ قالوا : نعم ، قال : فإني فرط على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه
أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثّقلين ، فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟
قال : الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وأن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم أخذ بيد الإمام عليّ عليهالسلام فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، يقولها ثلاث مرات ، وفي لفظ أحمد بن حنبل إمام الحنابلة : أربع مرات ، ثم قال :
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ، ثم لم يتفرقوا حتى نزل الأمين جبرائيل بقوله تعالى :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضي الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي.
ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام على هذه الدرجة الرفيعة التي حباها المولى عزوجل له عليهالسلام.
وممن هنأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر بن الخطاب ، كلّ قال له : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.