أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الثلاثة ، ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أولا ، ثم عن طريق الإرث ثانيا ، وقد صرّح بذلك أعلام القوم أمثال :

١ ـ الحلبي في سيرته قال :

إنّ فاطمة أتت أبا بكر بعد وفاة رسول الله وقالت : إنّ فدكا نحلة أبي ، أعطانيها حال حياته ، وأنكر عليها أبو بكر وقال : أريد بذلك شهودا فشهد لها الإمام عليّ (١) ، فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن ، فقال لها : أبرجل وامرأة تستحقينها؟ (٢).

٢ ـ وروى البخاري عن عروة بن الزّبير قال : إن عائشة أخبرته : أنّ فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله أن يقسّم لها ميراثها ، مما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورّث ما تركناه صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر.

قالت : وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به .. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس ، فأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم (٣).

ملاحظة : أما قول عمر «وأمرهما إلى ولي الأمر» فيه دلالة واضحة إلى أن اغتصابهما لقرى خيبر وفدك إنما كان لتدعيم سلطانهما ولم يكن من أجل توزيع

__________________

(١) انظر أخي القارئ إلى الحقد والعصبية التي كان يبيّتها القوم لعترة النبيّ ، فشهادة الإمام عليّ لا تقبل وقد قال عنه النبيّ «اللهم أدر الحق معه حيثما دار» وتقبل شهادة جابر وحذيفة وعائشة التي ورثت سهمها من حجرة النبي وسهم بقية نسوة النبيّ فدفنت أباها بجنب النبيّ وكذا عمر؟!

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٣٩.

(٣) صحيح البخاري ج ٣ / ٣٧٢ ح ٣٠٩٣ وكذا رقم ٣٠٩٢ ، وصحيح مسلم ج ١٢ / ٦٩ ح ٥٣.

٢٦١

ريعهم على فقراء المسلمين مع أن التوزيع ـ لو صح ـ فهو حرام لكونه تصرفا بأموال الغير من دون استئذان.

وعن عروة بن الزبير أيضا عن عائشة قالت :

إنّ فاطمة عليها‌السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبيّ فيما أفاء الله على رسوله تطلب صدقة النبيّ التي بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمّد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل (١).

أقول : لم يعهد من سيرة النبيّ أنه ترك مالا حتى يكون صدقة لفقراء المسلمين بل لم يعهد منه أنه كان يكنز الأموال لغده ، فكيف تنسب هذه الأحاديث إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الأموال وتكديسها فقام أبو بكر ليوزّعها على فقراء المسلمين أو يدخرها لولي الأمر حسبما قال عمر بالحديث المتقدم؟!!

وعن عائشة أيضا :

إن فاطمة عليها‌السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر فقال أبو بكر : سمعت النبيّ يقول : لا نورّث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمّد في هذا المال(٢).

٣ ـ روى ابن أبي الحديد عن أبي صالح عن أمّ هانئ : أن فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك إذا متّ؟

قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لك ترث رسول الله دوننا؟

قال : يا ابنة رسول الله ، ما ورّث أبوك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة ، قالت : بلى سهم الله الذي جعله لنا ، وصار فيئنا الذي بيدك (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩ ح ٣٧١١ و ٣٧١٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٣٠ ح ٤٠٣٥.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٥٠ فصل فدك في السير والأخبار.

٢٦٢

أقول : كيف يدّعي أن النبيّ لم يورّث مالا ولا دارا ، وقد ورث هو عن النبيّ خيبر وفدك ، وورثت عائشة ابنته سهم غيرها من حجرات النبيّ؟!!

فالاضطراب حاصل في كلام أبي بكر ، فمرة يقول : إن النبيّ قال لا نورّث ما تركناه صدقة ، ومرة يقول إن النبيّ لم يترك شيئا ليورّثه ، فإذا لم يورّث فكيف ورثت عائشة منه وسمحت له بأن يدفن بجانب رسول الله؟!

وروي أيضا عن أبي الطفيل قال : أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال : بل أهله ، قالت : فما بال سهم رسول الله؟ قال : إني سمعت رسول الله يقول : إن الله أطعم نبيه طعمة ، ثم قبضه ، وجعله للذي يقوم بعده ، فوليت أنا بعده على أن أردّه على المسلمين ، قالت : أنت وما سمعت من رسول الله أعلم (١).

أقول : إن في الحديث إشارة إلى افتراء أبي بكر على رسول الله بحديثه المطعون فيه «لا نورّث» حيث اعترف هنا بأن النبيّ موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله «لا نورث».

٤ ـ ما رواه أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي سلمة :

إن فاطمة عليها‌السلام قالت لأبي بكر : من يرثك إذا متّ؟

قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لنا لا نرث النبيّ؟ (٢).

٥ ـ ما رواه الطبري بإسناده عن عروة ، عن عائشة : إنّ فاطمة عليها‌السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله وهما حينئذ يطلبان أرضه في فدك ، وسهمه من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : سمعت النبيّ يقول : لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمّد من هذا المال ... قال : فهجرته فاطمة ، فلم تكلّمه في

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ١٣.

٢٦٣

ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليّ عليه‌السلام ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر (١).

أما أعلام الإمامية فقد رووا أحاديث كثيرة بلغت التواتر ، مفادها مطالبة السيّدة الزهراءعليها‌السلام للخليفة المزعوم أبي بكر بفدك وغيرها عن طريق الإرث ، نذكر بعضا منها :

١ ـ ما رواه الشيخ الجليل أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري (٢) عن حنّان بن سدير قال : سأل صدقة بن مسلم أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده ، فقال : من الشاهد على فاطمة بأنّها لا ترث أباها؟

فقال : شهدت عليها عائشة وحفصة ورجل من العرب يقال له «أوس بن الحدثان» من بني النضير ، شهدوا عند أبي بكر بأنّ رسول الله قال : لا أورث فمنعوا فاطمة ميراثها من أبيها(٣).

٢ ـ ما رواه الشيخ المفيد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا قبض رسول الله وجلس أبو بكر مجلسه ، بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها فأخرجه من فدك.

فأتته فاطمة عليها‌السلام فقالت : يا أبا بكر! ادعيت أنك خليفة أبي ، وجلست مجلسه ، وأنت بعثت وكيلي فأخرجته من فدك ، وقد تعلم أن رسول الله صدّق بها عليّ ، وأن لي بذلك شهودا.

فقال : إن النبيّ لا يورّث!!

فرجعت إلى الإمام عليّ عليه‌السلام فأخبرته ، فقال : ارجعي إليه وقولي له : زعمت أن النبيّ لا يورّث (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) وورث يحيى زكريا ، وكيف لا أرث أنا أبي؟!

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٠٨ والسنن الكبرى ج ٦ / ٣٠٠.

(٢) من أعلام القرن الثالث الهجري ومن أصحاب الإمام العسكري والحجّة المنتظر عليه‌السلام.

(٣) قرب الإسناد ص ٩٩ ح ٣٣٥.

٢٦٤

فقال عمر : أنت معلّمة! قالت : وإن كنت معلّمة ، فإنما علّمني ابن عمي وبعلي.

قال أبو بكر : فإن عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا رسول الله وهو يقول : إن النبيّ لا يورّث.

فقالت : هذه أول شهادة زور شهدا بها ، وإنّ لي بذلك شهودا بها في الإسلام ، ثم قالت: فإنّ فدكا إنما هي صدّق بها عليّ رسول الله ولي بذلك بيّنة فقال لها : هلمي ببيّنتك قال : فجاءت بأم أيمن والإمام عليّ عليه‌السلام ، فقال أبو بكر : يا أم أيمن سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في فاطمة؟

فقالت : سمعت رسول الله يقول : إن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة. ثم قالت : أم أيمن : فمن كانت سيّدة نساء أهل الجنة تدّعي ما ليس لها؟! وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلّا بما سمعت من رسول الله. فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص ، بأي شيء تشهدان؟

فقالت : كنت جالسة في بيت فاطمة عليها‌السلام ورسول الله جالس حتى نزل عليه جبرائيل فقال: يا محمّد قم فإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أخطّ لك فدكا بجناحي ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جبرائيل عليه‌السلام فما لبث أن رجع ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : يا أبة! أين ذهبت؟ فقال: خطّ جبرائيل عليه‌السلام لي فدكا بجناحه ، وحدّ لي حدودها.

فقالت : يا أبة! إني أخاف العيلة والحاجة من بعدك ، فصدّق بها عليّ. فقال : هي صدقة عليك ، فقبضتها ، قالت : نعم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا أم أيمن! اشهدي ، ويا عليّ اشهد.

فقال عمر : أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها ، وأمّا عليّ فيجرّ إلى نفسه.

٢٦٥

قال : فقامت مغضبة ، وقالت : اللهم إنهما ظلما ابنة [محمّد] نبيّك حقها فاشدد وطأتك عليهما. ثم خرجت وحملها عليّ على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها أربعين صباحا في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين عليهما‌السلام معها وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا الله فإني ابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيعتكم.

قال : فما أعانها أحد ، ولا أجابها ، ولا نصرها.

قال : فانتهت إلى معاذ بن جبل ، فقالت : يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة ، وقد بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن تنصره وذرّيته وتمنع مما تمنع منه نفسك وذرّيّتك ، وإنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال : فمعي غيري؟ قالت : لا ، ما أجابني أحد.

قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك؟

قال : فخرجت من عنده ودخل ابنه ، فقال : ما جاء بابنة محمّد إليك؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر ، فإنّه أخذ منها فدكا.

قال : فما أجبتها به؟ قال : قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي. قال : فأبيت أن تنصرها؟ قال : نعم.

قال : فأي شيء قالت لك؟ قال : قالت لي : والله لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فقال : أنا والله لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم تجب ابنة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : وخرجت فاطمة عليها‌السلام من عنده وهي تقول :

والله لا أكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم انصرفت. فقال عليّ عليه‌السلام لها : ائتي أبا بكر وحده فإنّه أرقّ من الآخر ، وقولي له :

٢٦٦

ادّعيت مجلس أبي وأنك خليفته وجلست مجلسه ، ولو كانت فدك لك ثمّ استوهبتها منك لوجب ردّها عليّ. فلما أتته وقالت له ذلك قال : صدقت.

قال فدعا بكتاب ، فكتبه لها بردّ فدك ، فقال : فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر ، فقال : يا بنت محمّد! ما هذا الكتاب الذي معك؟ فقالت : كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال : هلميه إليّ ، فأبت أن تدفعه إليه ، فرفسها برجله ـ وكانت حاملة بابن اسمه : المحسن (١) ـ فأسقطت المحسن من بطنها ، ثم لطمها ، فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نقف.

ثم أخذ الكتاب فخرقه.

فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوما مريضة ممّا ضربها عمر ، ثم قبضت ، فلما حضرتها الوفاة دعت عليّا صلوات الله عليه ، فقالت :

إمّا تضمن وإلّا أوصيت إلى ابن الزبير. فقال علي عليه‌السلام : أنا أضمن وصيّتك يا بنت محمد. قالت : سألتك بحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أنا متّ ألّا يشهداني ، ولا يصلّيا عليّ ، قال : فلك ذلك.

فلما قبضت عليها‌السلام ، دفنها ليلا في بيتها ، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها ، وأبو بكر وعمر كذلك ، فخرج إليهما عليّ عليه‌السلام فقالا له : ما فعلت بابنة محمّد؟! أخذت في جهازها يا أبا الحسن؟ فقال عليّ عليه‌السلام :

قد ـ والله ـ دفنتها. قالا : فما حملك على أن دفنتها ولم تعلمنا بموتها؟ قال : هي أمرتني. فقال عمر :

والله لقد هممت بنبشها والصلاة عليها فقال عليّ عليه‌السلام :

أما والله ما دام قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي ، إنك لا تصل إلى

__________________

(١) الأصح : «محسن» بدون إضافة لام التعريف.

٢٦٧

نبشها ، فأنت أعلم. فقال أبو بكر : اذهب فإنّه أحقّ بها منّا ، وانصرف الناس (١).

٣ ـ روى الطبرسي عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا بويع أبو بكر ، واستقام له الأمر على المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك من أخرج وكيل «السيّدة» فاطمةعليها‌السلام بنت رسول الله منها ، فجاءت فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى أبي بكر ، ثم قالت : لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله بأمر من الله؟

فقال : هاتي على ذلك بشهود! فجاءت بأم أيمن ، فقالت له أم أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول الله ، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال :

أم أيمن امرأة من أهل الجنّة؟ فقال : بلى ، قالت : فاشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فجعل فدكا لها طعمة بأمر الله.

فجاء الإمام علي عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتابا ودفعه إليها ، فدخل عمر ، فقال : ما هذا الكتاب؟ فقال : إن فاطمة عليها‌السلام ادّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعليّعليه‌السلام ، فكتبته لها.

فأخذ عمر الكتاب من فاطمة ، فتفل فيه ومزّقه (٢)!!

__________________

(١) الاختصاص ص ١٨٣ ، وما ورد في النصّ من أنها كانت تريد أن توصي «لابن الزبير» لعلّه تصحيف «للزبير بن العوّام» ولأن عبد الله بن الزبير كان صغيرا آنذاك ، من البعيد جدا بل من المقطوع به أن لا توصي الصدّيقة إليه لعدائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن ابن الزبير هو «عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم النبيّ وهو أخو ضباعة بنت الزبير ، وكان الزبير أخا عبد الله أبي رسول الله وأخا أبي طالب لأبيهما وأمهما ، وشهد عبد الله قتال الروم في عهد أبي بكر .. راجع ترجمته في أسد الغابة ج ٣ / ٣٤١ رقم ٢٩٤٨.

(٢) وفي رواية ذكرها المحقق العلّامة المقرّم في كتابه «وفاة الصدّيقة الطاهرة» ص ٧٨ نقلا عن كتاب اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء : أن الزهراء قالت لعمر : بقرت كتابي بقر الله بطنك.

٢٦٨

فخرجت فاطمة عليها‌السلام تبكي ، فلمّا كان بعد ذلك جاء عليّ عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد ، وحوله المهاجرون والأنصار فقال :

يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكته في حياة رسول الله؟!

فقال أبو بكر : هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهودا أن رسول الله جعلها لها وإلّا فلا حق لها فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا.

قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إياك أسأل البيّنة.

قال : فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يديها ، وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بيّنة على ما ادّعوها شهودا ، كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟!

فسكت أبو بكر ، فقال عمر : يا عليّ دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلّا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال : نعم ، قال : أخبرني عن قول الله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فيمن نزلت؟ فينا أم في غيرنا؟ قال : بل فيكم ، قال : فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعا بها؟

قال : كنت أقيم عليها الحدّ ، كما أقيمه على نساء المسلمين.

قال : إذن كنت عند الله من الكافرين ، قال : ولم؟ قال : لأنك رددت شهادة

٢٦٩

الله لها بالطهارة ، وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، إن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها ، وأخذت منها فدكا ، وزعمت أنه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» فرددت قول رسول الله «البيّنة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه».

قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : صدق ـ والله ـ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ورجع إلى منزله.

قال : ثم دخلت فاطمة المسجد ، وطافت بقبر أبيها ، وهي تقول :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة (١)

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنّا فكل الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

تجهمتنا رجال واستخفّ بنا

إذ غبت عنّا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منّا العيون بتهمال لها سكب

قال : فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلها ، وبعث أبو بكر إلى عمر فدعاه ، ثم قال له : أما رأيت مجلس عليّ منّا في هذا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا آخر مثله ليفسدنّ علينا أمرنا ، فما الرأي؟ فقال عمر : الرأي أن تأمر بقتله ، قال : فمن يقتله ، قال : خالد بن الوليد.

فبعثوا إلى خالد ، فأتاهما ، فقالا : نريد أن نحملك على أمر عظيم ، قال : احملاني على ما شئتما ، ولو على قتل عليّ بن أبي طالب!!

قالا : فهو ذلك ، قال خالد : متى أقتله؟

__________________

(١) في نسخة شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٦ يوجد «وهينمة» أي الصوت الخفي. و «هنبثة» هو الأمر العظيم.

٢٧٠

قال أبو بكر : احضر المسجد ، وقم بجنبه في الصلاة ، فإذا سلّمت فقم إليه واضرب عنقه!! قال : نعم.

فسمعت أسماء بنت عميس ، وكانت تحت أبي بكر ، فقالت لجاريتها : اذهبي إلى منزل عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وأقرئيهما السلام وقولي لعليّ : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ، فجاءت ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون. ثم قام وتهيأ للصلاة ، وحضر المسجد ، وصلّى خلف أبي بكر ، وخالد بن الوليد يصلّي بجنبه ومعه سيفه.

فلما جلس أبو بكر في التشهّد ، ندم على ما قال ، وخاف الفتنة ، وعرف شدة عليّ وبأسه ، فلم يزل متفكّرا لا يجسر أن يسلّم حتى ظنّ الناس أنه قد سها ، ثم التفت إلى خالد ، فقال : يا خالد لا تفعلنّ ما أمرتك!! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا خالد ما الذي أمرك به؟ فقال : أمرني بضرب عنقك.

قال : أو كنت فاعلا؟ قال : أي والله ، لو لا أنّه قال لي لا تقتله قبل التسليم ، لقتلتك!!

قال : فأخذه عليّ عليه‌السلام فجلد به الأرض ، فاجتمع الناس عليه ، فقال عمر : يقتله وربّ الكعبة. فقال الناس : يا أبا الحسن! الله الله ، بحق صاحب القبر.

فخلّى عنه ، ثم التفت إلى عمر ، فأخذ بتلابيبه وقال : يا بن صهّاك! والله لو لا عهد من رسول الله ، وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقلّ عددا. ودخل منزله (١).

وفي رواية أخرى عن المفضّل بن عمر قال :

__________________

(١) الاحتجاج / ج ١ / ١١٩.

٢٧١

قال مولاي الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : لما ولي أبو بكر ابن أبي قحافة ، قال له عمر : إنّ الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن عليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليّا وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا ومحاماة عليها ، ففعل أبو بكر ذلك وصرف عنهم جميع ذلك ، فلمّا قام أبو بكر بن أبي قحافة نادى مناديه :

من كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دين أو عدّة فليأتني حتى أقضيه ، وأنجز لجابر بن عبد الله ولجرير بن عبد الله البجلي.

قال الإمام عليّ عليه‌السلام للصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام صيري إلى أبي بكر وذكريه فدكا ، فصارت السيّدة فاطمة عليها‌السلام إليه وذكرت له فدكا مع الخمس والفيء ، فقال : هاتي بيّنة يا بنت رسول الله ، فقالت : أما فدك فإن الله عزوجل أنزل على نبيه قرآنا يأمر فيه أن يؤتيني وولدي حقي ، قال الله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فكنت أنا وولدي أقرب الخلائق إلى رسول الله فنحلني وولدي فدكا ، فلما تلا عليه جبرائيل عليه‌السلام المسكين وابن السبيل ، قال رسول الله : ما حق المسكين وابن السبيل؟ فأنزل الله تعالى :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

فقسّم الخمس على خمسة أقسام فقال عزوجل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) (٢) فما لله فهو لرسوله ، وما لرسول الله فهو لذي القربى ، ونحن ذو القربى ، قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣).

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الشورى : ٢٢.

٢٧٢

فنظر أبو بكر إلى عمر بن الخطّاب ، وقال : ما تقول؟

قال عمر : ومن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

فقالت السيّدة فاطمة عليها‌السلام : اليتامى الذين يأتمون بالله وبرسوله ، وبذي القربى والمساكين الذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم ، قال عمر : فإذا الخمس والفيء كله لكم ولمواليكم وأشياعكم؟

فقالت الصدّيقة المطهّرة عليها‌السلام :

أما فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله ، قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟

قالت مولاتنا فاطمة عليها‌السلام :

إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسّمها الله وأوجبها في كتابه ، فقالعزوجل: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ)(١).

قال عمر : فدك لك خاصة ، والفيء لكم ولأوليائكم ، ما أحسب أصحاب محمّد يرضون بهذا!

قالت عليها‌السلام : فإن الله عزوجل رضي بذلك ورسوله رضي به ، وقسّم على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن خالفنا فقد خالف الله ، ومن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة ، فقال عمر : هاتي بيّنة يا بنت محمّد على ما تدّعين؟ فقالت السيّدة المطهّرة عليها‌السلام : قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البيّنة ، وبيّنتي في كتاب الله ، فقال عمر : إن جابرا وجريرا ذكرا أمرا هينا ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.

٢٧٣

وأنت تدّعين أمرا عظيما يقع به الرّدة من المهاجرين والأنصار.

فقالت عليها‌السلام : إن المهاجرين برسول الله هاجروا إلى دينه ، والأنصار بالإيمان بالله وبرسوله وبذي القربى أحسنوا فلا هجرة إلّا إلينا ، ولا نصرة إلّا لنا ، ولا اتّباع بإحسان إلّا بنا ، ومن ارتدّ عنا فإلى الجاهلية.

فقال لها عمر : دعينا من أباطيلك (١) ، واحضرينا من شهد لك بما تقولين ، فبعثت إلى الإمام عليّ والحسن والحسين وأم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر ابن أبي قحافة ، فأقبلوا إلى أبي بكر وشهدوا لها بجميع ما قالت وادّعته ، فقال عمر : أمّا عليّ فزوجها ، وأما الحسن والحسين فابناها ، وأما أم أيمن فمولاتها ، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم ، وقد كانت تخدم فاطمة عليها‌السلام ، وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم.

فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : وأما فاطمة عليها‌السلام فبضعة من رسول الله ، ومن آذاها فقد آذى رسول الله ، ومن كذّبها فقد كذّب رسول الله ، وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنّة من كذّبهما فقد كذّب رسول الله إذ كان أهل الجنّة صادقين.

وأما أنا فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني وأنا منك ، وأنت أخي في الدنيا والآخرة والرادّ عليك هو الرادّ عليّ ، من أطاعك فقد أطاعني ، ومن عصاك فقد عصاني.

وأما أم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنّة ، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها ، فقال عمر : أنتم كما وصفتم به أنفسكم ، ولكنّ شهادة الجار إلى نفسه لا تقبل.

__________________

(١) لا نعجب من عمر بن الخطاب بلهجته القاسية التي تنمّ عن خبث سريرته اتجاه السيّدة الزهراء عليها‌السلام وقد جرّح برسول الله حينما نعته عمر بالهجر وهو على فراش الموت ، وقد روى الخبر عامة مؤرخي العامة!! كيف ينعتها بالباطل وقد طهّرها المولى عزّ ذكره وجعلها النبيّ بضعة منه؟!

٢٧٤

فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : إذا كنّا نحن كما تعرفون ولا تنكرون ، وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل ، وشهادة رسول الله لا تقبل ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون ، إذا ادّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة ، فما من معين يعين ، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بيّنة ولا حجّة (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) (١) ثم قال للسيّدة فاطمةعليها‌السلام : انصرفي حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

قال المفضل : قال مولاي جعفر عليه‌السلام :

كل ظلامة حدثت في الإسلام أو تحدث ، وكل دم مسفوك حرام ومنكر مشهور وأمر غير محمود فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما أو تابعهما ورضي بولايتهما إلى يوم القيامة (٢).

ولمّا رأت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة ولم تنجح مساعيها ، جاءت تطالب بحقها عن طريق الإرث ، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق ، وهي تعلم أن أهل السلطة يوم ذاك لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع ، وصدق الشاعر حين قال :

وآية السيف تمحو آية القلم.

وعلى كل حال ، فإنّ احتجاج السيّدة الزهراء عليها‌السلام لا من أجل استلام قطعة أرض ، كيف؟ وهي الزاهدة بحطام الدنيا ، وهي التي كانت توزّع ما يأتيها من خراج فدك على فقراء المسلمين وأيتامهم ، وهي التي آثرت اليتيم والمسكين والفقير على نفسها وهي صائمة حتى نزل فيها قرآن يتلوه المسلمون آناء ليلهم وأطراف نهارهم ، وإنّما كان همها وهدفها من المطالبة الاعتراف بحقوق آل البيت لأن أبا بكر لو اعترف للزهراء عليها‌السلام بفدك ، فإنه سيجر إلى الاعتراف بأنه غاصب للخلافة.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٩ / ٩٢ ح ٤٠ نقلا عن كشكول العلّامة.

٢٧٥

فلو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وطالبته بالخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لأنه يكون قد سجّل على نفسه أنها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود.

هذا مضافا إلى أنّ منعهما السيّدة الزّهراء عليها‌السلام من فدك ليس [إلّا أن لا يتقوّى الإمام عليّ عليه‌السلام بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا اتبعا ذلك بمنع سيدة النساء عليها‌السلام وزوجها أمير المؤمنين وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس ، فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراس والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة ، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء ، وهو داء لا دواء له ، وما أكثر ما تزول الأخلاق والشّيم ، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها] (١).

هذا مضافا إلى أنّ سيّدة النساء أرادت أن تسجّل اعتراضا على الظالمين حتى لا يكون السكون سبة إلى يوم القيامة ، مع تسجيل مظلوميتها في سجل التاريخ وكشف الغطاء عن نوايا القوم وأفعالهم ، من هذا المنطلق ذهبت سيدة النساء وبضعة أبيها إلى المسجد النبوي لتأكد الحجة ، فخطبت تلك الخطبة القاصعة التي قصمت ظهور القوم إلى يوم القيامة.

وها نتشرف بعرضها على القارئ الكريم ليرى بلاغة مولاتنا الزهراء روحي فداها ومدى مظلوميتها لدى بعض الصحابة الذين اتخذوا من الصحبة غطاء يمررون مشاريعهم من خلاله.

وهذه الخطبة العصماء التي ارتجلتها العالمة غير المعلّمة في حشد من المهاجرين والأنصار بعد أن ضرب بينها وبينهم ملاءة ، فكان وقعها أشدّ من الحسام المهند على نفوس السامعين إلّا نفر ضئيل لا يفقه شيئا قد غلّف الرين قلبه ، فغدا حجرا صلدا بل أشد ، وسأوردها بأسانيدها المعتبرة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج ١٦ / ٣٦٣.

٢٧٦

فقد روى ابن أبي الحديد نقلا عن كتاب «السقيفة وفدك» لأبي بكر الجوهري بأربعة طرق :

أ ـ قال أبو بكر : حدثني محمّد بن زكريا ، قال : حدثني جعفر بن محمّد بن عمارة الكندي قال ؛ حدثني أبي ، عن الحسين بن صالح بن حيّ ، قال : حدثني رجلان من بني هاشم ، عن زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام (١).

ب ـ قال : وقال ؛ حدّثني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه (٢).

ج ـ قال أبو بكر : وحدثني عثمان بن عمران العجيفي ، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام (٣).

د ـ قال أبو بكر : وحدّثني أحمد بن محمّد بن يزيد عن عبد الله بن محمّد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد الله بن حسن بن الحسن ، قالوا جميعا :

لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها (٤).

وروى الخطبة السيّد المرتضى علم الهدى (رحمه‌الله) في كتاب الشافي بأسانيد متعددة :

أ ـ عن أبي عبد الله محمّد بن عمران المرزباني ، عن محمد بن أحمد الكاتب ، عن أحمد بن عبيد الله النحوي ، عن الزيادي ، عن الشرقي بن القطامي ، عن محمّد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة (٥).

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٥ ورواها أبو جعفر محمد بن جرير رستم الطبري في دلائل الإمامة ص ٣٣ بخمسة طرق.

(٢) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٥.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الشافي في الإمامة ج ٤ / ٦٩ ، ط / مؤسسة الصادق ـ طهران.

٢٧٧

ب ـ عن المرزباني قال : وحدّثني أحمد بن محمّد المكي ، قال : حدثنا أبو العيناء محمّد بن القاسم السيمامي ، قال : حدثنا ابن عائشة (١) قال : لما قبض رسول الله أقبلت السيّدة فاطمةعليها‌السلام في لمّة من حفدتها إلى أبي بكر (٢).

ج ـ وعن المرزباني أيضا ، قال : حدّثني عليّ بن هارون ، قال : أخبرني عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال : ذكرت لأبي الحسين زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام كلام الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام عند منع أبي بكر إياها فدك ، وقلت له : إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه كلام أبي العيناء ، لأن الكلام منسوق البلاغة ، فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ، ويعلّمونه أولادهم ، وقد حدّثني به أبي عن جدّي يبلغ به فاطمةعليها‌السلام على هذه الحكاية ، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدّ أبي العيناء ، وقد حدّث الحسين بن علوان ، عن عطية العوفي ، أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام (٣).

ورواها ـ أي الخطبة ـ أيضا الشيخ الصدوق في العلل بأسانيد متعددة عن :

أ ـ ابن المتوكل (٤) عن السعدآبادي ، عن البرقي ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أحمد بن محمّد بن جابر عن زينب بنت عليّ عليهما‌السلام (٥).

ب ـ عن علي بن حاتم ، عن محمّد بن أسلم ، عن عبد الجليل الباقطاني ، عن الحسن بن موسى الخشّاب ، عن عبد الله بن محمّد العلوي ، عن رجال من أهل بيته ، عن زينب بنت عليّعليهما‌السلام عن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام (٦).

__________________

(١) ابن عائشة : عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي ، نسبة إلى عائشة بنت طلحة ، توفي سنة ٢٢٨ ه‍.

(٢) الشافي ج ٤ / ٧٠.

(٣) الشافي ج ٤ / ٧٦.

(٤) هو محمد بن موسى.

(٥) بحار الأنوار ج ٢٩ / ١٠٦ ح ٥٢ نقلا عن علل الشرائع للصدوق.

(٦) نفس المصدر.

٢٧٨

ج ـ عن علي بن حاتم ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن عمارة ، عن محمد بن إبراهيم المصري ، عن هارون بن يحيى ، عن عبيد الله بن موسى العبسي ، عن حفص الأحمر ، عن زيد بن علي ، عن عمته زينب بنت عليّ عن السيّدة فاطمة عليها‌السلام (١).

وكذا رواها بنفس السند المتقدم الشيخ المفيد في الأمالي (٢) ، وكذا السيّد ابن طاوس في كتاب الطرائف بسند آخر (٣).

كما رواها الشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج وأرسلها إرسال المسلمات كما هي عادته في الكتاب ، ونحن هنا نوردها بتمام ألفاظها.

عن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام : أنه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها‌السلام فدكا وبلغها ذلك ، لاثت خمارها (٤) على رأسها ، واشتملت بجلبابها (٥) ، وأقبلت في لمّة (٦) من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها (٧) ، ما تخرم (٨) مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت (٩) دونها ملاءة ، فجلست ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) اللوث : الطي والجمع ، والخمار بالكسر : المقنعة ، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى.

(٥) الاشتمال بالشيء : جعله شاملا ومحيطا لنفسه ، والجلباب : الرداء والإزار.

(٦) لمّة : جماعة.

(٧) الذيول : الأثواب الطويلة ، فكانت تستر قدميها بحيث تطأ ذيولها.

(٨) الخرم بضم الخاء : النقص.

(٩) نيطت : علقت ووصلت ، والملاءة : الريطة والإزار.

٢٧٩

أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها فقالت :

الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في الفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيّته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلّا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته ، وتعبّدا لبريّته ، وإعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة (١) لهم إلى جنّته.

وأشهد أن أبي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها (٢) ، وجلى عن الأبصار غممها (٣) ، وقام في الناس

__________________

(١) حاش الإبل : جمعها وساقها.

(٢) بهمها : مشكلاتها.

(٣) الغمم : جمع غمة وهي الشيء الملتبس.

٢٨٠