الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (٣ : ٢٣٢) مهما عمت هذه عضلهن عن أن ينكحهن أزواجهن الذين طلقوهن وسواهم ، وعن أن يعضلن عن الزواج الآخر لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أم لغرض آخر ، ومثلها (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢ : ٢٣١).

ذلك ، وإنما يستثنى الذهاب ببعض ما أوتين ـ مطلقات وسواهن ـ حين (يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فقد يجوز ذلك العضل حتى يفتدين ببعض حقوقهن فداء لتطليقهن كما في طلاق الخلع والمباراة لمكان الكراهيّة ، ولكن الكراهيّة هنا هي من الأزواج لمكان إتيانهن بفاحشة مبينة ، وهي في المباراة من الجانبين ، وفي الخلع من جانب الزوجة ، والكراهية فيهما أعم مما كانت عن فاحشة أم سواها ، فقد تضاف الكراهية لفاحشتها من ناحية الزوج ، سماحا لأخذ البعض مما أوتين ـ لا كله ـ حين يأتين بفاحشة مبنية.

إذا فلا يختص طلاق الخلع والمباراة بكراهتها أم كراهتهما ، بل وإتيانها بفاحشة مبنية مما تخلعها مهما لم تشمله كل أحكام الخلع والمباراة.

وعلّ ذلك السماح يعم ما قبل الطلاق وبعده حيث العضل يعمهما ، فحين يطلقها لفحشائها وقد آتاها كل حقوقها ، يجوز له عضلها نفسها تضييقا عليها ، أم عضلها عن الزواج الآخر حتى يأخذ بعض ما آتاها بديلا عما أتت من فاحشة مبنية.

وترى ما هي «فاحشة مبنية»؟ قد تعني المعصية الفاحشة (١) ، المتجاوزة

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٣٥٥ قال أبو علي الطبرسي الألى حمل الآية على كل معصية يعني في الفاحشة وهو المروي عن أبي جعفر عليهما السلام.

٣٦١

حدها في حقل الزوجية ، سواء أكانت فاحشة الجنس أم خلقية أم عقيدية ، فهي على أية حال فاحشة ليس ليصبر عليها الزوج استمرارية للحياة الزوجية ، إذا فله حق الاسترجاع إلى بعض ما آتاها ، إذ لم يؤتها ما آتاها إلّا للمقام معها مدى الحياة ، ولم يكن سبب الفصل إلّا هيه ، فلتفتد ببعض ما أوتيت كما سلبت بعض حقه بفاحشتها.

ذلك ، ومن «مبيّنة» أن تتبين اما بنفسها بشهود زوجها أم ببينة ، فالفاحشة البينة بالبينة او الرؤية هي التي تسمح لما سمحت إذا كانت مبينة.

فكما الفاحشة المزعومة دون إثبات لا تسمح بأخذ البعض مما أوتين كذلك الثابتة غير المبيّنة.

فالفاحشة غير المبينة وهي المتفلتة عنها دون إصرار عليها ـ اللهم إلّا في فاحشة الجنس ـ إنها لا تحلل الذهاب ببعض ما أوتين ، إذ لا تبينّ الفصل العاضل والعضل الفاصل.

ثم (ما آتَيْتُمُوهُنَّ) تعم كلما أوتين غير النفقة المستمرة اليومية ، من صدقة وهبة وهدية أماهيه من عطيات واجبة أم مندوبة لمكان عموم النص ، فلو أريد الصداق لقيل ببعض صدقاتهن.

فجملة المستفاد من الآيتين هي الحظر عن إرث النساء كرها في كل حقوله ، من إرث ذواتهن على أية حال وإن كان للقريب الذي يجوز ان يتزوجها فضلا عن الأبناء للأمهات أم لأزواج الآباء ، ومن إرث أموالهن بزواج وغير زواج ، إلّا إذا كانت زواجا دون كره وبقاء في الزوجية دون كره ، وأما إذا تزوجها دون رغبة فيها إلّا في مالها حياة ومماتا ، فليست هذه زواجا مشروعة ، وقد تصدق عليها الإرث كرها حيث لا يعني بذلك الزواج إلّا أن تموت فيرث مالها ، دون أن يعطيها حقها المفروض في حقل الزواج.

٣٦٢

ثم ولا يجوز عضل النساء على أية حال ، ولا سيما بغية الأخذ مما أوتين (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وقد مضى من عضل اللاتي يأتين الفاحشة من نساءكم أن (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) شرط ثبوت الفاحشة ببينة ، وإلا فعضل الإيذاء حتى ينتهين ، أم عضل العشرة تضييقا عليهن حتى يرجعهن بعض ما أوتين إلى بعولتهن إذ ضيعن عليهم المقام معهن.

فالعضل بغير فاحشة مبينة محظور ، سواء في حقل الزواج ان يضيق عليها لتفتدي ويطلقها ، ام لتبقى عنده ، ام يضيق عليها بعد طلاقها ، أيا كان الضيق ، اللهم إلّا بحق ك (اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (٤ : ٣٨).

فإن أتين بفاحشة الزنا دون توبة فهي أبين فاحشة مبينة ولا يجوز الإبقاء عليهن ، اللهم إلّا عضلا ليردن بعض ما أخذن فيطلقن ، ثم يجوز الإبقاء عليهن في سائر الفاحشة اللهم إلا ما يفسد جو العائلة فتفسد الناشئة ، وسماح الأخذ ببعض ما أوتين مخصوص بفاحشة مبينة لا سواها (١).

ذلك! والضابطة العامة بالنسبة لهن (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ما دمن معكم أزواجا دون عضل إياهن ولا أخذ من حقوقهن إلّا في طيبة من انفسهن (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤ : ٤) أو أن يأتين بفاحشة مبينة أم في طلاق الخلع او المباراة.

وترى إذا أتت بفاحشة مبيّنة وردّت شيئا مما أخذت دون عضل هل يسمح هنا بعضلها؟ طبعا لا ، حيث العضل المسموح إنما هو ذريعة لاسترجاع البعض مما أوتين ، و (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) استثناء عن كلا العضل والأخذ مما

__________________

(١) في تفسير البرهان ١ : ٣٥٥ روي الشيباني عن أبي جعفر عليهما السلام أنه قال : إذا اطلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية.

٣٦٣

أوتين ، ولكن العضل ليس هنا إلّا كذريعة ، والأصل (عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لا يستثنى إلّا لاسترجاع حق فيقتصر فيه على قدر الضرورة للحصول عليه.

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ما أمكنت تلك المعاشرة ، إصلاحا للحياة الزوجية ، وتقويما لهن على خط الشرعة الإلهية ، عظة وأمرا بمعروف ونهيا عن المنكر ، ثم في ذلك السبيل هجرا في المضاجع وضربا غير مبرح (١) فان كل ذلك معروف سواء أكان معروفا بذاته أم في سبيل معروف.

ومعروف معاشرة النساء معروف في الفطرة السليمة والعقلية غير الدخيلة إنسانية وشرعية ، وكما المعروف من أحد بالنسبة لنفسه معروف ، حيث يجنّد كافة قواته وإمكانياته لإصلاح حاله ورياحته على أية حال ، كذلك فليكن بالنسبة لزوجته التي هي بعض من كيانه كما في تصريحه مكرورة قرآنية : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

والبيئة الزوجية هي أعرق البيئات الوحدوية في بني الإنسان كافة ، تتبناها سائر الوحدات الجماعية في كافة الحقول.

وهنا «عاشروهن» دون تعاشروا ، اعتبارا بأن فاعلية الرجال وقابليتهم في تلك العشرة أقوى وأحرى من النساء ، حيث الأخطاء منهن أكثر ، فلتكن بداية العشرة الحسنة من الرجال حتى تؤثر في عشرتهن إياهم بالمعروف حيث (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٣٢ ـ أخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله (ص) قال : اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

٣٦٤

فقد تعطي (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ما ينقض كافة الجاهليات بحق المرأة المظلومة ، إذ ما كن يعتبرن من أجزاء المجتمع الإنساني إلّا طفيليات مستخدمات ومتعا جنسية ليست إلّا هيه ، فإذا بهذه الإذاعة القرآنية تدخلهن في صفوف الرجال وتكلفهم الحفاظ عليهن وأن يعاشروهن بالمعروف!.

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

فالكراهية من ناحية الزوج قد تتحمل ومنها ما يرجى فيه خير ، وأخرى لا تتحمل كأن تأتي بفاحشة مبيّنة دونما توبة ، أم يخاف ألّا يقيم معها حدود الله فالطلاق مهما اختلفا في سماح الأخذ مما أوتين وعدمه.

وأما إذا كانت الكراهية من قبلها أو منهما ، وهما يخافان ألّا يقيما حدود الله فخلعا أو مباراة بحدودهما المسرودة على ضوء آيتهما في البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٢٢٩).

ثم و (خَيْراً كَثِيراً) المرجو إذا تصبر معها على كراهيتها يعم خير الأولاد الذين يلدنهم ، وخير أحوالهن على أثر ذلك التصبّر بعشرة معروفة ، أم ولأقل تقدير خير أحوالهم بذلك التصبر ائتمارا بأمر الله.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠).

فقد روي أن الرجل منهم إذا مال إلى زواج آخر رمى زوجته بالفاحشة حتى يلجئها الى الافتداء منه بما آتاها ليصرفه في زواجه الآخر فنزلت.

وإرادة الاستبدال هذه هي بطبيعة الحال في ظرف الكراهية للمبدل منها ، حين لا يحق له مما آتاها شيء لفاحشة مبيّنة أم كراهيتها أم مع كراهيته خوفا منهما

٣٦٥

ألا يقيما حدود الله ، أم طلاق قبل الدخول ، إذ يجوز في كلّ من هذه.

واختصاص طلاق الاستبدال بالذكر قد يعنى الذبّ عما يخلد بخلد الأزواج أن لهم أخذ شيء منهن لانقطاع البضع بالطلاق وقد ملكوه بالعقد دونما انقطاع ، تأشيرا إلى أن الانقطاع لم يحصل إلا لكراهيته هو إياها ، لا لفاحشة مبيّنة ارتكبتها حتى يرتبك بإيتاء حق لها ، ولا لكراهيتها أم كراهيتها المخوّفة لترك حدود الله حتى تفتدي بشيء مما أوتيت لكراهيتها والحفاظ على حدود الله ، والأخذ في الأخيرين أخذ بفديتهن دونما استقلال منهم ولا استغلال.

واما استرجاع نصف صدقتها بطلاق قبل الدخول فليس استرجاعا لحقها بل هو حقه بنص آية الطلاق قبل الدخول : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٢ : ٢٣٧).

فمصبّ الآية هو مورد كراهية الرجل ـ فقط ـ دون هذه الطوارئ ، حيث يخلّف الأخذ مما أوتين بهتانا وإثما مبينا ، فإنّ الأخذ مخصوص بإتيانهن فاحشة مبينة ، والأخذ في مورد الخلع والمباراة ليس فقط أخذا ، إنما هو أخذ لما يفتدين تخلّصا عن الزواج ، فقد انحصر ذلك الأخذ بمحظور هو إتيانهن فاحشة مبينة ، فهو مورد التنديد : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) بهتانا بفاحشة مبينة ، وإثما مبينا وهو الإبطاء عن الخير حيث يبين البخل منكم والبغضاء منهن ، والفرية عليهن.

وهنا القنطار ـ وهو حمل بغير ذهبا ـ الممثل به في صدقات النساء ـ مجردة ام مع الهبات والهديات ـ مما يدل على سماح الإكثار فيما يؤتين في حقل الزواج دونما تحديد وكما في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ولقد اخطأ الخليفة

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٣٣ ـ أخرج ابن جرير عن أنس عن رسول الله (ص) (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) قال : ألفا ومأتين يعني ألفين.

٣٦٦

عمر ـ فيمن اخطأ ـ حيث هدد من يزيد على اربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش مستدلة بآية القنطار فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ورجع عن فتواه (١).

ولقد كان الخليفة اعدل ممن أوّل الآية (٢) بأنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع ك (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) حيث لا تدل على حصول الآلهة؟ ولكن «لو» في الآية تحيل مدخولها وليست هنا إلا «إن» ثم لو كان صدقة القنطار محظورا لما جاء في كتاب

__________________

(١) هذه القصة مشهورة عن الخليفة وممن أوردها السيوطي في الدر المنثور ففيه أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيد عن مسروق قال ركب عمر بن الخطاب المنبر ثم قال : أيها الناس ما اكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله (ص) وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم؟ قال نعم فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.

وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال عمر بن الخطاب لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول : (وآتيتم إحداهن قنطارا) فقال عمر إن امرأة خاصمت عمر فخاصمته.

وفيه أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال قال عمر : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة ما ذاك لك قال ولم قالت لأن الله يقول : (وآتيتم إحداهن قنطارا) ، فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ.

أقول وقد أخرج الأول بلفظه المعاملي في أماليه وابن الجوزي في سيرة عمر ١٢٩ وابن كثير في تفسيره ١ : ٤٦٧ عن أبي يعلى وقال إسناده جيد قوي ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٤ : ٢٨٤ والسيوطي في ـ

(٢) هو الفخر الرازي في تفسيره ١٠ : ١٣.

٣٦٧

الشرعة مثالا لحكم شرعي تركا لمثال مشروع إلى غير مشروع! وعلى فرض حظره كان الواجب استرجاع المحظور لا الحظر عنه لأن الزائد الصادق عليه «شيئا» لم يدخل بعد في مالها ، فله بل عليه استرجاعه!.

ثم وذكر المحظور مثالا وغير مثال يتطلب طرح الحظر عنه ، فالسكوت عنه دليل

السماح فيه وأنه غير محظور ، كما هو قضية كتاب الهدى ، فان نقل الضلال ضلال ما لم يرد عليه وإن تأشيرا ، ولا إشارة هنا ولا لمحة إلى حظر القنطار ، وهنا للخليفة فضله على شيعته ان صدق صريح الآية دونما تأويل عليل ، ومن الغريب هنا يتيمة شيعية خلاف نص الآية (١) معاكسة لما صدقته الآية وصدقه الخليفة!

__________________

ـ جمع الجوامع كما في ترتيبه ٨ : ٢٩٨ وفي الدر المنتشرة ٢٤٣ نقلا عن سبعة من الحفاظ ومنهم أحمد وابن حبان والطبراني وذكره الشوكاني في فتح الغدير ١ : ٤٠٧ والعجلوني في كشف الخفاء ١ : ٢٦٩ نقلا عن أبي يعلى وقال سنده جيد وابن درويش الحوت في أسنى المطالب ١٦٦ وقال : حديث كل أحد أعلم وافقه من عمر قاله عمر لما نهى عن المغالاة في الصداق ولما قالت امرأة قال الله : وآتيتم إحداهن قنطارا رواه أبو يعلى وسنده جيد.

وهنا صور تسع أخرى من القصة تشابهها في أصل الفتوى وردها إضافة إلى ما نقلناه عن الدر المنثور أخرجها الزبير بن بكار في الأوفقيات كما تقدمت وابن عبد البر في جامع العلم كما في مختصرة وابن كثير في تفسيره ١ : ٤٦٧ والسندي في حاشية سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٤ والعجلوني في كشف الخفاء ١ : ٢٧٠ و ٢ : ٢١٨ وصور أخرى ذكرها جماعة كثيرة ذكرهم المغفور له العلامة الأميني في الغدير ٦.

(١) نور الثقلين ١ : ٤٥٩ في عوالي اللئالي روى المفضل بن عمر قال دخلت على أبي عبد الله (ع) فقلت أخبرني عن مهر المرأة الذي لا يجوز للمؤمن أن يجوزه؟ فقال : «مهر السنة المحمدية خمسمائة درهم فما زاد على ذلك رد إلى إلى السنة ولا شيء عليه أكثر من الخمسمائة ، ورواه الصدوق في الفقيه».

أقول : هي مضروبة عرض الحائط لمخالفته نص الآية الكريمة.

٣٦٨

وترى (آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ) تعم كلما أوتين من صدقة أماهيه من هبة وهدية وعطية ونفقة؟ الظاهر نعم ، فلو كان المقصود خصوص الصدقات لجاءت بصيغتها الخاصة والإيتاء أعم منها.

كما و (لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) تعني ما تعنيه ، لا سيما وأن ذلك الأخذ أيا كان ومن أيّ كان هو بهتان كأنها أتت بفاحشة مبينة إذ لم يسمح بأخذ شيء مما أوتين إلّا أن يأتين بفاحشة مبينة.

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١).

الإفضاء من الفضاء : المكان الواسع ، وهو من كل من الزوجين إلى الآخر كناية عن الخلوة والمباشرة الجنسية حيث دخل كل في فضاء الآخر جنسيا وما سواه من إفضاء العواطف والمشاعر والتصورات الصالحة عن وحدوية الحياة الزوجية ، فلا يقف ذلك الإفضاء المتروك دون مفعول خاص عند حدود الجسد بإفضاءاته ، بل يسع كل معانيه في إنسانية الإفضاء ، فيسكب كل إيحاءاتها ، فقد يدع طليق الإفضاء يرسم كل التصورات الصالحة لتلك الحياة المشتركة الموحدة ، ففي كل نظرة ونبرة إفضاء ، وفي كل مخالطة روحية أو جسدية إفضاء ، إفضاءات بعضها فوق بعض قضيتها الوحدة العريقة المتماسكة بين الزوجين ، مما يؤكد الميثاق الغليظ على الحياة السليمة الزوجية.

وبذلك يخرج هذا الطلاق عن غير المدخول بها مهما خرج من قبل عن الأخذ.

فهذه المخالطة المحللة مع ما أخذن منكم ميثاقا غليظا على الإيفاء بشؤون الزوجية حسب المقرر في الشرعة الإلهية ، إنها سياج صارم عن أية تخلفة في ذلك

٣٦٩

الحقل في أيّ من النواميس الخمس بينهما ، ومنها الخيانة المالية أخذا دون سبب مما أوتين ، وأهم منها من جرّاءها البهتان والإثم المبين ، حيث لا يعني ذلك الأخذ الأجرد عن أي مبرر إلّا أنهن أتين بفاحشة مبينة.

فالميثاق الغليظ هو العقد مع الإفضاء (١) فانه تحقيق للعقد حقيق بالإيفاء بكل شروط الزوجية السليمة ، حيث يعقد عليها على كتاب الله وسنة رسول الله سياجا صارما على كل تخلف عن واجبات الزوجية ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٣٥٥ عن الكافي بسند متصل عن بريد قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن قول الله عز وجل (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : الميثاق هي الكلمة عقد بها النكاح وأما قوله : غليظا فهو ماء الرجل يفضيه إلى امرأته ، ورواه مثله يوسف العجلي عنه (ع).

٣٧٠

نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ

٣٧١

فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨)

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢).

«ما» هنا ليست ـ فقط ـ موصولة وإلّا لكان الصحيح «من» اعتبارا بالنساء ، ولا هي ـ فقط ـ مصدرية وإلا فالصحيح «نكاح آباءكم» إذا فهي موصولة ومصدرية تعنيهما هنا.

والنهي مصدريا وارد على نكاح آباءكم إذ كانوا ينكحون المحارم سببيا او نسبيا إلّا شذرا ، وكذلك نكاح الشغار وهو المبادلة في الزواج ، والنكاح دون صدقة ، والنكاح بالإكراه واللواط والمساحقة ونكاح البهائم وما إليها من جاهليات النكاح.

ثم وهي موصولة ضمن كونها مصدرية تعني نساء الآباء ، تخصيصا ضمن

٣٧٢

تعميم تدليلا على نوعية النكاح الممنوع في شرعة الإسلام ، ثم تأتي المصاديق الأخرى في الآية التالية.

أترى «من النساء» تخص بالغات النكاح ، فلا تشمل الصغيرات؟ وطليق النساء يشمل كل أنثى كما في (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَال أَقْرَبُونَ) (٤ : ٧) ـ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٣) ـ (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْن) (١١)!.

ثم النكاح في «ما نكح» تشمل كل مصاديقه عقدا ووطئا عن عقد او عن شبهة او ملك يمين او هبة او زنا ، ولا تختص بواحدة منها إلّا إذا خصتها قرينة كما في خصوص العقد (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) (٣٣ : ٤٩) ، وفي الوطء : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢ : ٢٣٠) فإن نكاح الزوج ليس إلّا وطئها.

إذا فالوطئ نكاح كما هنا ، مهما كان بعقد أم سواه كوطي بشبهة او بملك يمين او هبة أو زنى ، مهما قل استعماله في الزنا فانه سفاح يقابل النكاح ، ولكن طليق النكاح يشمل كل ضم هو المعنى اللغوي للنكاح ، سواء أكان ضما بعقد مجرد أم عملية الجمع الوطء حلا او حراما ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «ناكح اليد ملعون» فإذا كانت العادة السرية نكاحا وهي لا عقد ولا وطئ فبأن يشمل الزنا أحرى حين يطلق دون قرينة كما هنا ، ذلك وحتى إذا كان النكاح حقيقة فيما سوى السفاح ومجازا فيه ، إذ لا محظور في ساحة الربوبية لاستعمال لفظ في اكثر من معنى واحد حقيقة او مجازا ام هما معا ، فإن مقام جمع الجمع يزيل خرافة استحالة هكذا استعمال ، والمحتاج الى القرينة في النكاح إذا هو تقييده ببعض مصاديقه دون بعض.

ولا يشمل النكاح مجرد ملك اليمين دون وطئ ، ولو اختص النكاح هنا

٣٧٣

بالعقد لكان الصحيح «ما تزوج» فتخرج المزني بها كما تخرج الموطوءة بشبهة او ملك او هبة ، ولكنه نكاح تشمل كل مصاديقه الحقيقية او المجازية في عرف الشرع ، وتجمعهما الحقيقة اللغوية وهي مطلق الجمع كما يقال : نكاح البهيمة.

وهنا تصدق الرواية القائلة بحرمة المزني بها على ابن الزاني (١) وباحرى ـ إذا ـ حرمة الموطوءة حلا بغير عقد كشبهة وملك وهبة (٢) وأحرى من الكل النكاح المنقطع فانه حقا نكاح في كل الأعراف مهما اختلفت الطائفتان في ان النبي حرّمها ام ظل حلا الى يوم الدين.

واما المستفيضة ان «الحرام لا يفسد الحلال» فهي مخصوصة بالإفساد بعد التحليل ، كأن يزني الرجل بمنكوحة أبيه فانها لا تحرم ـ إذا ـ على أبيه (٣) فان عموم هذه القاعدة مخصص بإطلاق الآية هنا ونص الرواية ، كما خصص بآية

__________________

(١) هي ما رواه علي بن جعفر في الحسن عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال : سألته عن رجل زنى بامرأة هل يحل لابنه أن يتزوجها؟ قال : لا ، وفي الموثق عن عمار عن الصادق (ع) في الرجل يكون له الجارية فيقع عليها ابن ابنه قبل أن يطأها الجد أو الرجل يزني بالمرأة هل يحل لابنه أن يتزوجها؟ قال : لا إنما ذلك إذا تزوجها فوطئها ثم زنى بها ابنه لم يضره لأن الحرام لا يفسد الحلال وكذلك الجارية(التهذيب ٧ : ٢٨٢ والإستبصار ٣ : ١٦٣ والكافي ٢ : ٣٣ باب ما يحرم على الرجل مما نكح ابنه وأبوه وما لا يحل الحديث ٩ ومرآت العقول ٣ : ٤٧٢).

(٢) انظر البيهقي ٧ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ومن طريق الشيعة موثق عمار الماضية ، وصيغة أخرى «الحرام لا يفسد الحلال أو لا يفسد الحرام الحلال أو ما حرم حرام حلالا وغيرها كما في الوسائل ٤ و ٨ و ٩ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ص ٥٣ ـ ٥٥ ج ٣ الأميري والمستدرك ٢ : ٥٧٥ ـ ٥٧٦»

(٣) ويدل على الحرمة رواية زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام في حديث «إذا أتى الجارية وهما حلال فلا تحل تلك الجارية أبدا لأبيه ولا لابنه» (الكافي ٥ : ٤١٩).

أقول : وهذا الحكم إجماعي مع أن المملوكة ليست معقودة فليشملها النكاح اعتبارا بالوطي دون ملك اليمين بمجرده.

٣٧٤

الزانية فانها نص في حرمتها على المؤمن كما المؤمنة على الزاني ، وخصصت بمواضع اخرى.

فليس (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) إلا حلا نسبيا خروجا عن الحرمات الذاتية في زواياها النسبية والمصاهرة والرضاعية ، فلا تنافي حرمة نكاح المشركات والزانيات والمكرهات ، والباكرات دون إذن آبائهن ، وسائر المحرمات التي تتحول الى المحللات بعد تحقيق شروطها ، كالتوبة والإذن واضرابهما.

ولكن الحرمة في الخمسة عشر ذاتية لا تتحول الى حل على أية حال.

وحرمة الملاعنة والمفتضة وان كانت لا تزول بأية وسيلة ، ولكنها بادئة بسببها لعانا وافتضاضا ، وهما محللتان من ذي قبل.

والظاهر من ذكر المحصنات من النساء وهن ذوات الأزواج ، ان الحرمة الذاتية محصورة فيمن ذكرن من النساء نسبيا وسببيا ، إذا فلا حرمة ذاتية فيمن سواهن من النساء.

و «آباءكم» تعم الأجداد من أب أو أم ، وهل تشمل الآباء من الرضاعة؟ علّه نعم لأنهم آباء رضاعيون فتشملهم طليقة الآباء ، ولكنه لا ، حيث الحرمة بالرضاعة مذكورة في الآية التالية ، فلتختص بما فيها دون شمول لمن سواهم.

وهل تحرم بنات وأخوات وأمهات نساء الآباء؟ قضية اختصاص الحرمة بما نكح الآباء عدم الحرمة في سواهن.

(لا تَنْكِحُوا ... إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وهل المراد من الاستثناء تحليل السالف وان الحرمة حديثة بالآية؟ و (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ..) تضرب الحرمة الى اعماق الماضي فلا حلّ ـ إذا ـ فيما قد سلف! كما وتدل على سالف الحرمة آية توراتية :

٣٧٥

«وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه انهما يقتلان كلاهما. دمهما عليهما» (اللاويين ٣٠ : ١١).

قد يعني الاستثناء سلب العقوبة على هذه الفحشاء السالفة حيث الإسلام يجب ما قبله و : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨).

ذلك ، ومما يزيله الاستثناء حرمة المولد وقذارته ، فقد زالت بالإسلام بعد نزول آية التحريم ، فلا يعتبر ولد الأبناء من نساء آباءهم ولد الزنا والحرام.

وهل ان «لا تنكحوا» طليقة ك «ما نكح»؟ الظاهر لا ، حيث النهي لا يصح تعلقه بالوطئ المجرد عن عقد سواء بالنسبة لنساء الآباء ام سواهن فانه محرم على اية حال.

انما هو العقد وطئ ام لم يطأ ، فان وطئ الأب حليلة ابنه زنا او شبهة لم تحرم عليه لا عقدا لأنها معقودته من قبل ، ولا وطئا لأنه وطئ عن عقد.

ثم و «لا تنكحوا» كما تبطل العقد على منكوحة الأب ، كذلك تقطع العقد السابق فصلا دون طلاق ، حيث النهي دليل الحرمة الوضعية مع التكليفية ، فلا فرق ـ إذا ـ بين بداية النكاح بعد نزول الآية واستمراريته وقد نكح قبل نزول الآية.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).

أترى أن نكاح ما نكح الآباء أفحش من الزنا حيث يزيد عليه مقتا (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (١٧ : ٣٢)؟.

أجل لأنه مقت من الآباء بالنسبة للأبناء أن ينكحوا منكوحاتهم ، حيث

٣٧٦

امرأة الأب هي مكان الأم ، ثم الابن لا يخلف أباه في حظوة الجنس فيصبح ندا له فيها ، وكثيرا ما يكره الزوج الثاني الزوج الاول لامرأته بفطرته وطبعه ، فيكره ـ إذا ـ أباه ويمقته ، فهذه مماقتة من الجانبين ، كما وتمقت زوجة الأب ابنه إذا تزوجها ، فثالوث من المقت ، والشرعة الربانية تتبنى المودة وتمقت العداوة ، وهذا السلب والإيجاب هما رأس الزاوية في هندسة الشريعة اللهم إلّا في العداوة الواجبة والمودة المحظورة.

ذلك ، ولأن ثالوث الفاحشة والمقت وسوء السبيل ليس يختص بنكاح نساء الآباء ، بل و (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ككل نكاحهم المحظور ، المسرود هنا أصوله من نساء الآباء هنا والأمهات وأضرابهن في آية الأمهات.

وقد جمعت سنة الجاهلية في النكاح ذلك الثالوث المنحوس (فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) ومنه اللواط والمساحقة أماهيه من سنن الجاهلية البغيضة.

فرع : هل تحرم منظورة الأب او ملموسة دون جماع على الابن ام هي من الابن على الأب دون نكاح حلا او حراما؟ الظاهر لا ، وفي بعض الاخبار نعم ولكنها مع معارضتها بغيرها معروضة على الآية المعارضة لها فمعروضة عرض الحائط او مأولة (١).

__________________

(١) الموافقة للآية هي موثقة علي بن يقطين عن العبد الصالح (عليه السلام) عن الرجل يقبل الجارية يباشرها من غير جماع داخل أو خارج أتحل لابنه أو لأبيه؟ قال : لا بأس (التهذيب : ٢ : ١٩٥).

ومن المعارضة لها وللآية صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل تكون عنده الجارية يجردها وينظر الى جسدها نظرة شهوة هل تحل لأبيه وإن فعل أبوه هل تحل لابنه ، قال : «إذا نظر إليها بشهوة ونظر منها الى ما يحرم على غيره لم تحل لابنه وإن فعل ذلك الابن لم تحل للأب» (التهذيب ٢ : ٢٠٦ والإستبصار ٣ : ١٢٢) ومثلها صحيحة محمد بن إسماعيل سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل تكون له الجارية فيقبلها هل تحل لولده؟ فقال (عليه السلام) ـ

٣٧٧

١ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ ...)

التحريم هنا المتعلق بالذوات دون خصوص النكاح ، فيه بعد أوسع من النكاح ، فكما ان تحريم الخمر يعم كافة المحاولات بشأن الخمر ، من صنعها وبيعها واشترائها وحملها ... دون شربها فقط ، حيث الحرمة واردة على الخمر نفسها لا فقط شربها.

كذلك «حرمت» في الأمهات والبنات وسائر الخمسة عشر من النساء ، تحلّق على كافة الحظوظات الأنثوية من هؤلاء النساء ، نظرة ولمسة وقبلة ومضاجعة واستيلادا مهما كان بغير مضاجعة ، والاستيلاد هو أبرز الحظوظات الواقعية في حقل المخالطات الأنثوية.

إذا فاستيلاد الأمهات وأضرابهن بزرق نطف الأبناء محرم كما يحرم بالوطئ ، وهذه الحرمة تعم كل موارد العلم أن النطفة من أولادهن ، سواء علموا وجهلن ، أو جهلوا وعلمن ، أم ساد الجهل الأمهات والأولاد ولكن عامل الزرق عالم بالحال ، كما في نكاح الأمهات ، حيث الحرمة التكليفية تتبع موارد العلم بالموضوع ، بل والجهل ـ تقصيرا ـ بالحكم.

ذلك! فالقول بإجمال الآية في المعني من الحرمة لاستحالة تعلقها بالذوات ، اللهم إلا الأفعال غير المذكورة هنا في حقل التحريم؟ إنها قولة جاهلة هراء ، فما أفصحه وأوضحه من آية تعني حرمة كافة الالتذاذات

__________________

ـ بشهوة؟ قلت : نعم قال (عليه السلام) ما ترك شيئا إذا قبلها بشهوة ثم قال ابتداء منه : إن جردها ونظر إليها بشهوة حرمت على أبيه وأبنه ، قلت : إذا نظر الى جسدها؟ فقال : إذا نظر الى فرجها وجسدها بشهوة حرمت عليه (الكافي ٥ : ٤١٨).

أقول : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) دليل الصحة في حليلة الأبن انها محرمة على الأب دون العكس إلا إذا صدق النكاح.

٣٧٨

والانتفاعات الأنثوية بصيغة تحريم الذوات.

فليست تعني ـ فقط ـ تحريم النكاح حيث التعبير بحرمة الذوات أوسع دلالة من تحريم النكاح ، وقضية الفصاحة ولا سيما القمة القرآنية الإفصاح عن المراد بما يساويه ، لا أوسع منه ولا أضيق.

ثم و «أمهاتكم» تعم الجدات من ناحية الآباء والأمهات ، مهما علون أو نزلن ما صدقت عليهن «أمهاتكم» الخاصة بالامومة النسبية أو النازلة منزلتهن كأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٣٣ : ٦) وأما المرضعات (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) (٢٣) فبنص آخر يتبع فلا يشملهن طليق «أمهاتكم» حيث «إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم».

ذلك وأما المظاهرات والدعيات ف (ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ...) (٤).

وهل الأمهات من السفاح كما الأمهات من النكاح في ذلك التحريم العميم؟ طبعا نعم ، فإن واقع ولادته منها لا ينكر مهما كانت بينهما مفاصلة في بعض أحكام الأمهات ، و «الولد للفراش وللعاهر الحجر» إنما تحرم الزاني عن هذا الولد في أحكام الأولاد ، ثم لا رباط له بالعاهرة ، ولا سيما غير ذات الفراش ، و (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) نص في طليق الأمومة بالولادة دون شرط آخر فيها إلّا هيه.

ذلك وبأحرى نشر الحرمة في الأمهات من وطئ الشبهة أو الزّرق ، فما صدقت الأمومة في أصل الولادة شملتها الحرمة ، من نكاح أو سفاح أو شبهة.

ثم «حرمت» هنا دون «أحرّم» أو ما شابه ، دليل على ماضي التحريم في كافة التشاريع الإلهية ، اللهم إلّا في الجمع بين الأختين لمكان (إِلَّا ما قَدْ

٣٧٩

سَلَفَ) فإن قدره المعلوم هو ما سلف من حل الجمع بينهما ، ولكنه قد لا يختص بذلك الجمع حيث التزاوج بين الإخوة والأخوات هو بداية التناسل منذ المرحلة الثانية كما سلف ، ثم الأمهات والبنات كنساء الآباء وأمهات النساء والمحصنات بالزواج ، لسن مما سلف ، وغيرهن بحاجة الى برهان على سلف فيهن وغير سلف ، وعلّ العمات والخالات لسن مما سلف كما في نص التورات (١).

٢ «وبناتكم» وهن طبعا من أصلابكم ، حيث الربائب يذكرن بعدهن ، فلا تحرم الدعيات ، ولا بناتكم من الرضاعة ، إذ لسن بناتكم في الأصل ، ولا يلحقن بهن من الرضاعة ، حيث لم يذكرن في حقل الرضاعة ، فإنما الرضاعة تحرّم الأمهات والأخوات حسب النص ، ولو عم تحريم الرضاعة ما يحرم من النسب لعم النص دون اختصاص بالأمهات والأخوات.

فقد تخصص الضابطة «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» بذلك النص دونما حول عنه ولا تحويل.

«وبناتكم» كما تعم البنات دون وسيط كذلك بوسيط الأبناء والبنات مهما علوا أو نزلوا ما صدقت «بناتكم» وكذلك تعم بناتكم بوطئ الشبهة أو زرق النطفة وأشباهه أو الزنا ، ما ثبت أنهن منكم ، ولا تعم اللاتي من غير نطفكم دعيات أو رضاعيات ، فضلا عن بناتهن أو بنات أبناءكم الرضاعيين أو الأدعياء ، ولا دور هنا للأولوية في البنات الرضاعيات من الأخوات حيث المناط

__________________

(١) في سفر اللأويين «وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم ١٥ وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتهما ورأت هي عورته فذلك عار يقطعان أمام أعين بني شعبهما ١٧ عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف ١٩ وإذا اضطجع رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه .. وإذا رأى رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة قد كشف عورة أخيه» ٢١.

٣٨٠