البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

كميت بهيم اللون ليس بفارض

ولا بعوان ذات لون مخصف

ويقال لكل ما قدم وطال أمره : فارض ، قال الشاعر :

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

وكأنّ المسن سميت فارضا لأنها فرضت سنها ، أي قطعتها وبلغت آخرها ، قال خفاف بن ندبة :

لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل

ولم تعطه بكرا فيرضى سمينه

فكيف تجازي بالمودة والفضل

البكر : الصغيرة التي لم تلد من الصغر ، وقال ابن قتيبة : التي ولدت ولدا واحدا. والبكر من النساء : التي لم يمسها الرجل ، وقال ابن قتيبة : هي التي لم تحمل. والبكر من الأولاد : الأول ، ومن الحاجات : الأولى.

قال الراجز :

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت مني كذراع من عضد

والبكر ، بفتح الباء : الفتى من الإبل ، والأنثى : بكرة ، وأصله من التقدم في الزمان ، ومنه البكرة والباكورة. والعوان : النصف ، وهي التي ولدت بطنا أو بطنين ، وقيل : التي ولدت مرة. وقالت العرب : العوان لا تعلم الخمرة ، ويقال : عونت المرأة ، وحرب عوان ، وهي التي قوتل فيها مرة بعد مرة ، وجمع على فعل : قالوا عون ، وهو القياس في المعتل من فعأل ، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر ، منه :

وفي الأكف اللامعات سور

بين : ظرف مكان متوسط التصرف ، تقول : هو بعيد بين المنكبين ، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) (١) ، ودخولها إذا كانت ظرفا : بين ما تمكن البينية فيه ، والمال بين زيد وبين عمرو ، مسموع من كلامهم ، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما ، أو الألف ، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء ، فيليها إذ ذاك الجملة الاسمية والفعلية ، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير. اللون : معروف ، وجمعه على القياس ألوان. واللون : النوع ، ومنه ألوان

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٨.

٤٠١

الطعام : أنواعه. وقالوا : فلان متلوّن : إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد ، ومنه : يتلوّن تلوّن الحرباء ، وذلك أن الحرباء ، لصفاء جسمها ، أي لون قابلته ظهر عليها ، فتنقلب من لون إلى لون. الصفرة : لون معروف ، وقياس الفعل من هذا المصدر : صفر ، فهو أصفر ، وهي صفراء ، كقولهم : شهب : فهو أشبه ، وهي شهباء. الفقوع : أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه ، يقال : أصفر فاقع ووارس ، وأسود حالك وحايك ، وأبيض نفق ولمق ، وأحمر قاني وزنجي ، وأخضر ناضر ومدهام ، وأزرق خطباني وأرمك رداني. السرور : لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق. وقال قوم : السرور والفرح والحبور والجذل نظائر ، ونقيض السرور : الغم. الذلول : الريض الذي زالت صعوبته ، يقال : دابة ذلول : بينة الذل ، بكسر الذال ، ورجل ذليل : بين الذل بضم الذال ، والفعل : ذل يذل. الإثارة : الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان ، وقال امرؤ القيس :

يهيل ويذري تربها ويثيره

إثارة نباش الهواجر مخمس

وقال النابغة :

يثرن الحصى حتى يباشرن تربه

إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل

الحرث : مصدر حرث يحرث ، وهو شق الأرض ليبذر فيها الحب ، ويطلق على ما حرث وزرع ، وهو مجاز في : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (١). والحرث : الزرع ، والحرث :

الكسب ، والحرائث : الإبل ، الواحدة حريثة. وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث

، لأن الحارث هو الكاسب ، واحتراث المال : اكتسابه. المسلّمة : المخلصة المبرأة من العيوب ، سلم له كذا : أي خلص ، سلاما وسلامة مثل : اللذاذ واللذاذة. الشية : مصدر وشى الثوب ، يشيه وشيا وشية : حسنه وزينه بخطوط مختلفة الألوان ، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس : واش ، لأنه يحسن كذبه عندهم حتى يقبل ، والشية : اللمعة المخالفة للون ، ومنه ثور موشى القوائم ، قال الشاعر :

من وحش وجرة موشّى أكارعه

طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

الآن : ظرف زمان ، حضر جميعه أو بعضه ، والألف واللام فيه للحضور. وقيل : زائدة ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل ، يقال : آن يئين أينا : أي حان. الدرء : الدفع ، ويدرأ عنها العذاب. وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٣.

٤٠٢

فنكب عنهم درء الأعادي

وادّار : تفاعل منه ، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أوّلها همزة وصل ذكر في النحو. القساوة : غلظ القلب وصلابته. يقال : قسا يقسو قسوا وقسوة وقساوة ، وقسا وجسا وعسا متقاربة. الشق ، أن يجعل الشيء شقين ، وتشقق منه. الخشية : الخوف مع تعظم المخشي. يقال : خشي يخشى. الغفلة والسهو والنسيان متقاربة. يقال منه : غفل يغفل ، ومكان غفل لم يعلم به.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية. وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ، ولم يدروا قاتله ، واختلفوا فيه وفي سبب قتله. فقال عطاء والسدّي : كان القاتل ابن عم المقتول ، وكان مسكينا ، والمقتول كثير المال. وقيل : كان أخاه ، وقيل : ابن أخيه ، ولا وارث له غيره ، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء أيضا : كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال ، فقتله لينكحها. وطوّل المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم. والذي سأل موسى البيان هو القاتل ، قاله أبو العالية. وقال غيره : بل اجتمع القوم فسألوا موسى ، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم ، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرّة. وقوله : (وَإِذْ قالَ) معطوف على قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) (١) ، وقوم موسى أتباعه وأشياعه. وقرأ الجمهور : يأمركم ، بضم الراء ، وعن أبي عمرو : والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفا ، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع ، فيحتمل أن يراد به الحال ، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة ، أو بما أخبر موسى ، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر ، وهو على إسقاط الحرف ، أي بأن تذبحوا. ولحذف الحرف هنا مسوّغان : أحدهما : أنه يجوز فيه ، إذا كان المفعول متأثرا بحرف الجر ، أن يحذف الحرف ، كما قال :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

والثاني : كونه مع إن ، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس. ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة ، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال. وقد روى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٣.

٤٠٣

الحسن مرفوعا ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدّد الله عليهم». وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله ، فاختبروا بذلك ، إذ هذا من الابتلاء العظيم ، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه ، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارّا بأمّه. وقال طلحة بن مصرّف : لم تكن من بقر الدنيا ، بل نزلت من السماء. وقال بعض أهل العلم : البقر سيد الحيوانات الإنسية.

وقرأ : (أَتَتَّخِذُنا)؟ الجمهور : بالتاء ، على أن الضمير هو لموسى. وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء ، على أن الضمير لله تعالى ، وهو استفهام على سبيل الإنكار. (هُزُواً) ، قرأ حمزة ، وإسماعيل ، وخلف في اختياره ، والقزاز ، عن عبد الوارث والمفضل ، بإسكان الزاي. وقرأ حفص : بضم الزاي والواو بدل الهمز. وقرأ الباقون : بضم الزاي والهمزة ، وفيه ثلاث لغات التي قرىء بها ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) ، فإما أن يريد به اسم المفعول ، أي مهزوأ ، كقوله : درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله ، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة ، أي أتتخذنا نفس الهزؤ ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلا ، أو على حذف مضاف ، أي مكان هزء ، أو ذوي هزء ، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة ، بقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له ، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى ، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر ، وجوابهم هذا كفر بموسى. وقال بعض الناس : كانوا مؤمنين مصدقين ، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية. والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا) ، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده ، فتوهموا أن موسى داعبهم ، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله ، أو يكون أخبرهم بذلك ، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت ، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. وقيل : في الكلام محذوف تقديره : آلله أمرك أن تتخذنا هزوا؟ وقيل : هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار ، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، لما فهم موسى عليه‌السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به ، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه ، أن يكون من الجاهلين بالله ، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى ، إذ

٤٠٤

الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى. وقوله : من الجاهلين ، فيه تصريح أن ثم جاهلين ، واستعاذ بالله أن يكون منهم ، وفيه تعريض أنهم جاهلون ، وكأنه قال : أن أكون منكم ، لأنهم جوّزوا على من هو معصوم من الكذب ، وخصوصا في التبليغ ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب. قالوا : والجهل بسيط ، ومركب البسيط : عام وخاص. العام : عدم العلم بشيء من المعلومات ، والخاص : عدم العلم ببعض المعلومات ، والمركب : أن يجهل ، ويجهل أنه يجهل. فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم ، فضلا عن نبي شرف بالرسالة والتكليم ، وذلك مستحيل عليه ، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب. فالذي استعاذ منه موسى هو خاص ، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا ، أو المقابل لجهلهم. فقالوا : أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله ، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين. فإن ذلك جهل ، أو من الجاهلين بالجواب ، لا على وفق السؤال ، إذ ذاك جهل ، والأمر من تلقاء نفسي ، وأنسبه إلى الله ، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء ، فإن ذلك جهل. وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى. قيل : وإنما استعاذ منها بطريق الأدب ، كما استعاذ نوح عليه‌السلام (أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (١) ، وكما في : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) ، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ، لما قال لهم موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلبا ، جاز ما قالوا له ذلك ، وهذا القول أيضا فيه تعنيت منهم وقلة طواعية ، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة ، لكانوا قد أتوا بالمأمور ، ولكن شدّدوا ، فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. وكسر العين من ادع لغة بني عامر ، وقد سبق ذكر ذلك في (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا) (٢) ، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي : مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله : سل لنا ربك يبين ما هي ، ومفعول يبين : هي الجملة من المبتدأ والخبر ، والفعل معلق ، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي ، لأن التبيين يلزمه الإعلام ، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها ، وكأنهم قالوا : يبين لنا ما البقرة التي أمرنا بذبحها ، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة ، وإنما هو سؤال عن الوصف ، فيكون على حذف مضاف ، التقدير : ما صفتها؟ ولذلك أجيبوا بالوصف ، وهو قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ). وإنما سألوا على طريق التعنت ، كما

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦١.

٤٠٥

قدّمناه ، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا ، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف ، أو على طريق أنهم ظنوا قوله : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) من باب المجمل ، فسألوا تبيين ذلك ، إذ تبيين المجمل واجب ، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح ، لثقل ذلك عليهم ، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك. وتقدّم معنى قولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ، كيف خصوا لفظ الربّ مضافا إلى موسى ، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة. وقيل : إنما سألوا موسى استرشادا لا عنادا ، إذ لو كان عنادا لكفروا به وعجلت عقوبتهم ، كما عجلت في قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ، وفي عبادتهم العجل ، وفي امتناعهم من قبول التوراة ، وقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) (٢). وفي الكلام حذف تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) : صفة لبقرة ، والصفة إذا كانت منفية بلا ، وجب تكرارها ، كما قال :

وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل

فإن جاءت غير مكرّرة ، فبابها الشعر ، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل ، فقدر مبتدأ محذوفا ، أي لا هي فارض ولا بكر ، فقد أبعد ، لأن الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أن لا حذف. (عَوانٌ) : تفسير لما تضمنه قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ). (بَيْنَ ذلِكَ) : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه ، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد ، فقيل : أشير بذلك إلى مفرد ، فكأنه قيل : عوان بين ما ذكر ، فصورته صورة المفرد ، وهو في المعنى مثنى ، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعا حقيقة ، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، قالوا : وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، قال رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

قيل له : كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت : كأنها ، فيعود على الخطوط ، أو كأنهما ، فيعود على السواد والبلق؟ فقال : أردت كان ذاك ، وقال لبيد :

إن للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

٤٠٦

قيل : أرادوا كلا ذينك ، فأطلق المفرد وأراد به المثنى ، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك ، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك ، وهذا مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا ، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف ، لدلالة المعنى عليه ، التقدير : عوان بين ذلك وهذا ، أي بين الفارض والبكر ، فيكون نظير قول الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

أي : فما كان بين الخير وباغيه ، فحذف لفهم المعنى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) أي والبرد. وإنما جعلت عوانا لأنه أكمل أحوالها ، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) : أي من ذبح البقرة ، ولا تكرروا السؤال ، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه. ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله ، ويحتمل أن تكون من قول موسى ، وهو الأظهر. حرّضتم على امتثال ما أمروا به ، شفقة منه. وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : ما تؤمرونه ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ تقدّم أن الله يأمركم ، ولتناسب أواخر الآي ، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله :

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله :

وما يدرون أين المصارع

وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية ، أي : فافعلوا أمركم ، ويكون المصدر بمعنى المفعول ، أي مأموركم ، وفيه بعد (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) لما تعرّفوا سنّ هذه ، شرعوا في تعرف لونها ، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم ، إذ قد تقدّم أمران : أمر الله لهم بذبح بقرة ، وأمر المبلغ عن الله ، الناصح لهم ، المشفق عليهم ، بقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) ، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها ، والقول في : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ، وفي جزم : (يُبَيِّنْ) ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله ، فأغنى عن ذكره. (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) : قال الجمهور : هو اللون المعروف : ولذلك أكد بالفقوع والسرور ، فهي صفراء حتى القرن والظلف ، وقال الحسن وأبو عبيدة : عنى به هنا السواد ، قال الشاعر :

وصفراء ليست بمصفرّة

ولكن سوداء مثل الحمم

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

٤٠٧

وقال سعيد بن جبير : صفراء القرن والظلف خاصة. (فاقِعٌ) : أي شديد الصفرة ، قاله ابن عباس والحسن ؛ أو الخالص الصفرة ، قاله قطرب ، أو الصافي ، قاله أبو العالية وقتادة. (لَوْنُها) : ذكروا في إعرابه وجوها : أحدها : أنه فاعل مرفوع بفاقع ، وفاقع صفة للبقرة. الثاني : أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث : أنه مبتدأ ، و (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) خبر. وأنث على أحد معنيين : أحدهما : لكونه أضيف إلى مؤنث ، كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه. والثاني : أنه يراد به المؤنث ، إذ هو الصفرة ، فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين ، فحمل على المعنى كقولهم : جاءته كتابي فاحتقرها ، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل ، لأن إعراب لونها مبتدأ ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون ، أو تسرّ الناظرين خبره ، فيه تأنيث الخبر ، ويحتاج إلى تأويل ، كما قررناه. وكون لونها فاعلا بفاقع جار على نظم الكلام ، ولا يحتاج إلى تقديم ، ولا تأخير ، ولا تأويل ، ولم يؤنث فاقعا وإن كان صفة لمؤنث ، لأنه رفع السبي ، وهو مذكر فصار نحو : جاءتني امرأة حسن أبوها ، ولا يصح هنا أن يكون تابعا لصفراء على سبيل التوكيد ، لأنه يلزم المطابقة ، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك ، وسوداء حالكة ، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأمّا قوله :

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا

كأن ذكي المسك فيها يفتق

فبابه الشعر ، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة ، وجاء (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) ، ولم يكتف بقوله : صفراء فاقعة ، لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة ، فحكم عليها أنها صفراء ، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة ، فابتدأ أوّلا بوصف البقرة بالصفرة ، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها ، فكأنه قال : هي صفراء ، ولونها شديد الصفرة. فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظا ، إذ تعلقت أوّلا بالذات ، ثم ثانيا بالعرض الذي هو اللون ، واختلف المتعلق أيضا ، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة ، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد. قال الزمخشري : فإن قلت ، فهلا قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ قلت : الفائدة فيه التوكيد ، لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جد جده ، وجنونك جنون. اه كلامه. وقال وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.

(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) : أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها. وهذه الجملة صفة للبقرة ، وقد تقدّم قول من جعلها خبرا ، كقوله : لونها ، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل ، ولم يجىء باسم الفاعل ، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما

٤٠٨

كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد ، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل ، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله ، لأنه ناشىء عن الوصف قبله ، أو كالناشىء ، لأن اللون إذا كان بهجا جميلا ، دهشت فيه الأبصار ، وعجبت من حسنه البصائر ، وجاء بوصف الجمع في الناظرين ، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها ، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصا دون شخص ، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق ، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها ، وإن كان النظر هنا من نظر القلب ، وهو الفكر ، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله ، من تحسين لونها وتكميل خلقها. والضمير في تسرّ عائد على البقرة ، على تقدير أن تسرّ صفة ، وإن كان خبرا ، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد تقدّم توجيه التأنيث ، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء ، فهو عائد على اللون ، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ ، ويسر خبرا ، ويكون فاقعا صفة تابعة لصفراء ، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو :

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا

على قلة ذلك ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا بفاقع ، ويسر إخبار مستأنف. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ، ولهذا كان علي كرم الله وجهه ، يرغب في النعال الصفر. وقال ابن عباس : الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم ، وكان ابن عباس أيضا يحض على لبس النعال الصفر. ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهم.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن وجه الاشتباه عليهم ، إن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية ، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها من العجائب ، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب ، وذلك لما نبئوا أنها آية ، سألوا عن ماهيتها وكيفيتها ، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك ، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك ، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات ، وإنما سألوا عن التعيين ، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق ، لأنهم لو عملوا بمطلقه لم يحصل التقصي عن الأمر بيقين. انتهى كلامه. وقال غيره : لما لم يمكن التماثل من كل وجه ، وحصل الاشتباه ، ساغ لهم السؤال ، فأخبروا بسنها ، فوجدوا مثلها في السن كثيرا ، فسألوا عن اللون ، فأخبروا بذلك ، فلم يزل اللبس بذلك ، فسألوا عن العمل ، فأخبروا بذلك ، وعن بعض أوصافها الخاص بها ، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض

٤٠٩

الأوصاف ، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر ، فهذا هو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة.

(إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) : هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه البقرة ، وهو تشابهها علينا ، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون. وقرأ عكرمة ويحيى بن يعمر : إن الباقر ، وقد تقدم أنه اسم جمع ، قال الشاعر :

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا

خلقا كحوض الباقر المتهدم.

وقرأ الجمهور : تشابه ، جعلوه فعلا ماضيا على وزن تفاعل ، مسند الضمير البقر ، على أن البقر مذكر. وقرأ الحسن : تشابه ، بضم الهاء ، جعله مضارعا محذوف التاء ، وماضيه تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر ، على أن البقر مؤنث. وقرأ الأعرج : كذلك ، إلا أنه شدّد الشين ، جعله مضارعا وماضيه تشابه ، أصله : تتشابه ، فأدغم ، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي أيضا عن الحسن ، وقرأ محمد المعيطي ، المعروف بذي الشامة : تشبه علينا. وقرأ مجاهد : تشبه ، جعله ماضيا على تفعل. وقرأ ابن مسعود : يشابه ، بالياء وتشديد الشين ، جعله مضارعا من تفاعل ، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرىء : متشبه ، اسم فاعل من تشبه. وقرأ بعضهم : يتشابه ، مضارع تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أبي : تشابهت. وقرأ الأعمش : متشابه ومتشابهة. وقرأ ابن أبي إسحاق : تشابهت ، بتشديد الشين مع كونه فعلا ماضيا ، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنا عشر قراءة. وتوجيه هذه القراءات ظاهر ، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت ، فقال بعض الناس : لا وجه لها. وتبيين ما قاله : إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها ، والماضي لا يكون فيه تاءان ، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله : اشابهت ، والتاء هي تاء البقرة ، وأصله أن البقرة اشابهت علينا ، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل ، أو اشابهت أصله : تشابهت ، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة ، صار اللفظ : أن البقرة اشابهت ، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل ، إذ النطق واحد ، فتوهم أنه قرأ : تشابهت ، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق ، فإنه رأس في علم النحو ، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم ، كالفرزدق ، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب ، فكيف يقرأ قراءة لا وجه

٤١٠

لها ، وأن البقر تعليل للسؤال ، كما تقول : أكرم زيدا إنه عالم ، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.

(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) : أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها ، أو إلى ما خفي من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة. وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر. وقد جاء في الحديث : «ولم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد». وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة ، أي إن شاء الله اهتدينا ، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ ومنفيا بلم ، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب ، فكان الترتيب أن يقال في الكلام : إن زيدا لقائم إن شاء الله ، أي : إن شاء الله فهو قائم ، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها ، ليحصل توافق رؤوس الآي ، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله ، وجاء خبر إن اسما ، لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم ، وأكد بحر في التأكيد أن واللام ، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى ، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم. وأكدوا تلك النسبة ، ولو كان تعليقا محضا لما احتيج إلى تأكيد ، ولكنه على قول القائل : أنا صانع كذا إن شاء الله ، وهو متلبس بالصنع ، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب. قال الماتريدي : إن قوم موسى ، مع غلظ أفهامهم وقلة عقولهم ، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيدا من المعتزلة ، لأنهم قالوا : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ، والمعتزلة يقولون : قد شاء الله أن يهتدوا ، وهم شاؤوا أن لا يهتدوا ، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى ، حيث كان الأمر على : ما شاؤوا إلا كما شاء الله تعالى ، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة. انتهى كلامه.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) الكلام على هذا كالكلام على نظيره. (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ، لا ذلول ؛ صفة للبقرة ، على أنه من الوصف بالمفرد ، ومن قال هو من الوصف بالجملة ، وأن التقدير : لا هي ذلول ، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض : صفة لذلول ، وهي صفة داخلة في حيز النفي ، والمقصود نفي إثارتها الأرض ، أي لا تثير فتذل ، فهو من باب :

على لاحب لا يهتدي بمناره

اللفظ نفي الذل ، والمقصود نفي الإثارة ، فينتفي كونها ذلولا. ولا تسقي الحرث :

٤١١

نفي معادل لقوله : لا ذلول. والجملة صفة ، والصفتان منفيتان من حيث المعنى ، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضا. ومعنى الكلام : أنها لم تذلل بالعمل ، لا في حرث ، ولا في سقي ، ولهذا نفى عنها إثارة الأرض وسقيها. وقال الحسن : كانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث ، ولا يسنى عليها فتسقى. وقد ذهب قوم إلى أن قوله : تثير الأرض ، فعل مثبت لفظا ومعنى ، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ، ونفى عنها سقي الحرث. وردّ هذا القول من حيث المعنى ، لأن ما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولا.

وقال بعض المفسرين : معنى تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا ، ومن عادة البقر ، إذا بطرت ، تضرب بقرنها وأظلافها ، فتثير تراب الأرض ، وينعقد عليه الغبار ، فيكون هذا المعنى من تمام قوله : لا ذلول ، لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول. قال الزمخشري : لا ذلول ، صفة لبقرة بمعنى : بقرة غير ذلول ، يعني : لم تذلل للحرث وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا : الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه. ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب ، وما ذهبا إليه ليس بشيء ، لأن قوله : لا ذلول ، صفة منفية بلا ، وإذا كان الوصف قد نفي بلا ، لزم تكرار لا النافية ، لما دخلت عليه ، تقول : مررت برجل لا كريم ولا شجاع ، وقال تعالى : (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (١) (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٢) (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) ، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار ، لأن المستفاد منها النفي ، إلا إن ورد في ضرورة الشعر ، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية ، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية ، وعلى ما قدراه كان نظير : جاءني رجل لا كريم ، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر ، كما نبهنا عليه. قال ابن عطية : ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.

والجملة التي أشار إليها هي قوله : تثير الأرض ، والنكرة هي قوله : لا ذلول ، أو قوله : بقرة ، فإن عنى بالنكرة بقرة ، فقد وصفت ، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا ، وإن عنى بالنكرة لا ذلول ، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه ، ولا أمعن

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٠ و ٣١.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٤٣ و ٤٤.

٤١٢

النظر في كتابه ، بل قد أجاز سيبويه في كتابه ، في مواضع مجيء الحال من النكرة ، وإن لم توصف ، وإن كان الاتباع هو الوجه والأحسن ، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة ، وقد يجوز نصبه على نصب : هذا رجل منطلقا ، يريد على الحال من النكرة ، ثم قال : وهو قول عيسى ، ثم قال : وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالا ، ولم يجعله صفة ، ومثل ذلك : مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيام ، وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، ومثل ذلك : عليه مائة بيضاء ، والرفع الوجه ، وعليه مائة دينا ، الرفع الوجه ، وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون : مررت بماء قعدة رجل ، والوجه الجر ، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب ، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال : راقود خلا وعليك نحى سمنا ، وقال في باب نعم ، فإذا قلت لي عسل ملء جرة ، وعليه دين شعر كلبين ، فالوجه الرفع ، لأنه صفة ، والنصب يجوز كنصبه ، عليه مائة بيضاء ، فهذه نصوص سيبويه ، ولو كان ذلك غير جائز ، كما قال ابن عطية ، لما قاسه سيبويه ، لأن غير الجائز لا يقال به فضلا عن أن يقاس ، وإن كان الاتباع للنكرة أحسن ، وإنما امتنعت في هذه المسألة ، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب ، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.

وأجاز بعض المعربين أن يكون : تثير الأرض ، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره : لا تذل في حال إثارتها ، والوجه ما بدأنا به أولا ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : لا ذلول ، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، وهو نفي لذلها ، ولأن توصف به فيقال : هي ذلول ، ونحوه قولك : مررت بقوم لا بخيل ولا جبان ، أي فيهم ، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفا ، ويكون قوله : تثير الأرض ، صفة لاسم لا ، وهي منفية من حيث المعنى ، ولذلك عطف عليها جملة منفية ، وهو قوله : ولا تسقي الحرث. وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز أن تكون (تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) خبرا ، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله ، لأن قوله : (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) يبقى كلاما منفلتا مما بعده ، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف ، ويكون محط الخبر هو قوله : (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) ، لأنها صفة في اللفظ ، وهي الخبر في المعنى ، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافيا ذلة هذه البقر ، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بني معها ، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول ، على قراءة السلمي ، في موضع الصفة على

٤١٣

تقدير أن تثير وما بعدها الخبر ، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة ، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا ، ولا يتخيل أن قوله : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) على تقدير أن تثير ، وما بعده خبر يكون دالا على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود ، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود ، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها ؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة ، لأنك قيدت الخبر بتقديركه حيث هي ، فصلح هذا النفي ، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه ، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص ، وهو الأرض والحرث ، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة ، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص ، إما بالخبر المحذوف ، وإما بتعلق الخبر المثبت.

وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها ، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف ، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها ، إذا جعلت تثير خبرا لا يقال أن الرابط هنا هو العموم ، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس ، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو : زيد نعم الرجل ، على خلاف في ذلك ، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه ، لو قلت زيد لا رجل في الدار ، ومررت برجل لا عاقل في الدار ، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم ، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار ، انتفى زيد فيها ، وإذا قلت : لا عاقل في الدار ، انتفى العقل عن المرور به ، لم يجز ذلك ، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبرا للا ذلول ، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي ، من حيث المعنى ، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك ، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم ، أو حيث هم ، فتمثيل صحيح ، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم ، إنما الرابط هذا الضمير ، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير ، إذ قدره لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، فهذا الضمير عائد على البقرة ، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله : فيهم ، أو : حيث هم ، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى : (لا ذَلُولٌ) في قراءة السلميّ يتخرج على وجهين : أحدهما : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير حذف خبر ، والثاني : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة

٤١٤

الجمهور أولى ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن ، على أحد تخريجيها ، تكون قد بدأت بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد ، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا ، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد ، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد ، والمفعول الثاني لتسقي محذوف ، لأن سقي يتعدّى إلى اثنين. وقرأ بعضهم : تسقى بضم التاء من أسقى ، وهما بمعنى واحد. وقد قرىء : نسقيكم بفتح النون وضمها. مسلمة من العيوب ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومقاتل ، أو من الشيات والألوان ، قاله مجاهد وابن زيد ، أو من العمل في الحرث والسقي وسائر أنواع الاستعمال ، قاله الحسن وابن قتيبة. والمعنى : أن أهلها أعفوها من ذلك ، كما قال الآخر :

أو معبر الظهر ينبي عن وليته

ما حجّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا

أو من الحرام ، لا غصب فيها ولا سرقة ولا غيرهما ، بل هي مطهرة من ذلك ، أو مسلمة القوائم والخلق ، قاله عطاء الخراساني ، أو مسلمة من جميع ما تقدّم ذكره ، لتكون خالية من العيوب ، بريئة من الغصوب ، مكملة الخلق ، شديدة الأسر ، كاملة المعاني ، صالحة لأن تظهر فيها آية الله تعالى ومعجزة رسوله ، قال أبو محمد بن عطية : ومسلمة ، بناء مبالغة من السلامة ، وقاله غيره ، فقال : هي من صيغ المبالغة ، لأن وزنها مفعلة من السلامة ، وليس كما ذكر ، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة ، بل هو تضعيف النقل والتعدية ، يقال : سلم كذا ، ثم إذا عدّيته بالتضعيف ، فالتضعيف هنا كهو في قوله : فرحت زيدا ، إذ أصله : فرح زيد ، وكذلك هذا أصله : سلم زيد ، ثم يضعف فيصير يتعدّى. فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدّي بالهمزة. لاشية فيها : أي لا بياض ، قاله السدّي ، أو : لا وضح ، وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض ، أو لا عيب فيها ، أو : لا لون يخالف لونها من سواد أو بياض ، أو : لا سواد في الوجه والقوائم ، وهو الشية في البقر ، يقال ثور موشى ، إذا كان في وجهه وقوائمه سواد. وقيل : لا شية فيها ، تفسير لقوله : مسلمة ، أي خلصت صفرتها عن أخلاط سائر الألوان ، قاله ابن زيد. قال ابن عطية : والثور الأشيه الذي ظهر بلقه ، يقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه. كل ذلك بمعنى البلقة. انتهى. وليس الأشيه مأخوذا من الشية لاختلاف المادّتين.

(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) : قرأ الجمهور : بإسكان اللام والهمزة بعده ، وقرأ نافع :

٤١٥

بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وعنه روايتان : إحداهما : حذف واو قالوا ، إذ لم يعتد بنقل الحركة ، إذ هو نقل عارض ، والرواية الأخرى : إقرار الواو اعتدادا بالنقل ، واعتبارا لعارض التحريك ، لأن الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها. فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالها من الثبوت. وانتصاب الآن على الظرفية ، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر ، وهو قوله لهم : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) إلى (لا شِيَةَ فِيها) ، والعامل فيه جئت ، ولا يراد بجئت أنه كان غائبا فجاء ، وإنما مجازه نطقت بالحق ، فبالحق متعلق بجئت على هذا المعنى ، أو تكون الباء للتعدية ، فكأنه قال : أجأت الحق ، أي إن الحق كان لم يجئنا فأجأته. وهنا وصف محذوف تقديره بالحق المبين ، أي الواضح الذي لم يبق معه إشكال ، واحتيج إلى تقدير هذا الوصف لأنه في كل محاورة حاورها معهم جاء بالحق ، فلو لم يقدر هذا الوصف لما كان لتقييدهم مجيئه بالحق بهذا الطرف الخاص فائدة. وقد ذهب قتادة إلى أنه لا وصف محذوف هنا ، وقال : كفروا بهذا القول لأن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان لا يأتيهم إلا بالحق في كل وقت ، وقالوا : ومعنى بالحق : بحقيقة نعت البقرة ، وما بقي فيها إشكال.

(فَذَبَحُوها) : قبل هذه الجملة محذوف ، التقدير : فطلبوها وحصلوها ، أي هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة ، وتحصيلها كان بأن الله أنزلها من السماء ، أو بأنها كانت وحشية فأخذوها ، أو باشترائها من الشاب البارّ بأبويه. وهذا الذي تظافرت عليه أقاويل أكثر المفسرين ، وذكروا في ذلك اختلافا وقصصا كثيرا مضطربا أضربنا عن نقله صفحا كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه ، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى ، أو عن رسوله في قرآن أو سنة.

(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) : كنى عن الذبح بالفعل ، لأن الفعل يكنى به عن كل فعل. وكاد في الثبوت تدلّ على المقاربة. فإذا قلت : كاد زيد يقوم ، فمعناه مقاربة القيام ، ولم يتلبس به. فإذا قلت : ما كاد زيد يقوم ، فمعناه نفي المقاربة ، فهي كغيرها من الأفعال وجوبا ونفيا. وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت ، دلت على نفي الخبر ، وإذا نفيت ، دلت على إثبات الخبر ، مستدلا بهذه الآية ، لأن قوله تعالى : (فَذَبَحُوها) يدل على ذلك ، والصحيح القول الأول. وأمّا الآية ، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح ، إذ المعنى : وما قاربوا ذبحها قبل ذلك ، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إمّا غلاء

٤١٦

ثمنها ، وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء على ما عهد منهم. واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة : أهي التي أمروا أولا بذبحها ، وأنها معينة في الأمر الأوّل ، وأنه لو وقع الذبح عليها أولا لما وقع إلا على هذه المعينة؟ أم المأمور بها أوّلا هي بقرة غير مخصوصة ، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات ، فذبحوا المخصوصة؟ فكان الأمر الأول مخصوصا لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة ، ويجوز النسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة ، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأوّل ، لكانوا ممتثلين ، فكذلك بعد التخصيص. ثم اختلف القائلون بهذا الثاني : هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهي كونها لا ذلول إلى آخره؟ أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل ، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارض ولا بكر ، وصفراء فاقع لونها؟ والذي نختاره هذا الثاني ، لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف ، لأن قوله : ما هي ، وما لونها ، وما هي ، يدل على ذلك ، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعا ، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة ، كان ذلك تكليفا بعد تكليف ، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق ، وعلى جواز النسخ قبل الفعل.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) : معطوف على قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) (١). ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما ، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة ، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر ، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل ، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله : اضربوه ببعضها ، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل. ثم سألوا عن تعيين قاتله ، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك ، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ، فيكون الأمر بالذبح متقدّما في النزول ، والتلاوة متأخرا في الوجود ، ويكون قتل القتيل متأخرا في النزول ، والتلاوة متقدّما في الوجود ، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخرا في النزول ، متقدّما في التلاوة ، والإخبار عن قتلهم مقدّما في النزول ، متأخرا في التلاوة ، دون تعرض لزمان وجود القصتين. وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر ، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح ، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة ، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى ، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر ، إنما يكون لمرجح ، ولا مرجح ، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولا ذبح بقرة. هل يمتثلون ذلك أم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادئ الرأي حكمة أعظم من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٤.

٤١٧

امتثال ما تظهر فيه حكمة ، لأنها طواعية صرف ، وعبودية محضة ، واستسلام خالص ، بخلاف ما تظهر له حكمة ، فإن في العقل داعية إلى امتثاله ، وحضا على العمل به.

وقال صاحب المنتخب : إن وقوع ذلك القتيل لا بد أن يكون متقدّما لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل ، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدّما على الإخبار عن قصة البقرة. فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدّمة على الأولى في الوجود. فأما التقديم في الذكر فغير واجب ، لأنه تارة يقدّم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه ، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة. وتقدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عكس ، لما كانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. انتهى كلامه ، وهو مبني على أن القتل وقع أولا ، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة ، وليس له دليل على ذلك إلا نقل شيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنة. وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدّما وأن القتل تأخر ، كحالهما في التلاوة.

وقال بعض الناس : التقديم والتأخير حسن ، لأن ذلك موجود في القرآن ، في الجمل ، وفي الكلمات ، وفي كلام العرب. وأورد من ذلك جملا ، من ذلك : قصة نوح عليه‌السلام في إهلاك قومه ، وقوله : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) (١) ، وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر ، وبمتاع إلى الحول ، إذ الناسخ مقدّم ، والمنسوخ متأخر. وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيرا ، والتقديم والتأخير ، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر ، فينبغي أن ينزه القرآن عنه. ونسبة القتيل إلى جمع ، إما لأن القاتلين جمع ، وهم ورثة المقتول ، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله ، أو لأن القاتل واحد ، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم ، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة ، إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح.

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) قرأ الجمهور : بالإدغام ، وقرأ أبو حيوة : فتدارأتم ، على وزن

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤١.

٤١٨

تفاعلتم ، وهو الأصل ، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير. وقال ابن عطية : قرأ أبو حيوة ، وأبو السوار الغنوي : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ) ، وقرأت فرقة : فتدارأتم على الأصل. انتهى كلامه. ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ : فدرأتم ، بغير ألف قبل الراء. ويحتمل هذا التدارؤ ، وهو التدافع ، أن يكون حقيقة ، وهو أن يدفع بعضهم بعضا بالأيدي ، لشدة الاختصام. ويحتمل المجاز ، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض ، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح ، أو بأن دفع بعضهم بعضا بالتهمة والبراءة. والضمير في : فيها عائد على النفس ، وهو ظاهر ، وقيل : على القتلة ، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وقيل : على التهمة ، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام.

(وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ، ما : منصوب باسم الفاعل ، وهو موصول معهود ، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت ، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار ، ولا تكرار ، إذ لا تجدد فيه ، لأنها قصة واحدة معروفة ، فلذلك ، والله أعلم ، لم يأت بالفعل. وجاء اسم الفاعل معملا ، ولم يضف ، وإن كان من حيث المعنى ماضيا ، لأنه حكى ما كان مستقبلا وقت التدارؤ ، وذلك مثل ما حكى الحال في قوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (١). ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان ، والعائد على ما محذوف تقديره : ما كنتم تكتمونه. والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله ، وعلى هذا ذهب الجمهور. وقيل : يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره ، فيكون القتيل من جملة أفراده ، وفي ذلك نظر ، إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) : جملة معطوفة على قوله : (قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها).

والجملة من قوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئا ، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل. والهاء في اضربوه عائد على النفس ، على تذكير النفس ، إذ فيها التأنيث ، وهو الأشهر ، والتذكير ، أو على أن الأول هو على حذف مضاف ، أي وإذ قتلتم ذا نفس ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فروعي بعود الضمير مؤنثا في قوله : (فَادَّارَأْتُمْ) فيها ، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكرا في قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٨.

٤١٩

أو عائد على القتيل ، أي ، فقلنا : اضربوا القتيل ببعضها. الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان ، فقيل : ضربوه بلسانها ، أو بفخذها اليمنى ، أو بذنبها ، أو بالغضروف ، أو بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن ، أو بالبضعة التي بين الكتفين ، أو بالعجب ، وهو أصل الذنب ، أو بالقلب واللسان معا ، أو بعظم من عظامها ، قاله أبو العالية. والباء في ببعضها للآلة ، كما تقول : ضربت بالقدوم ، والضمير عائد على البقرة ، أي ببعض البقرة. وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله ، التقدير : فضربوه فحيي ، دل على ضربوه قوله تعالى : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ، ودل على فحيي قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى). ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة ، أو من يقول : إنهم أمروا بطلبها ، ولم تكن في صلب ولا رحم ، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه. قيل : على قبره ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر. وروي أنه قام وأوداجه تشخب دما ، وأخبر بقاتله فقال : قتلني ابن أخي ، فقال بنو أخيه : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد معاينته ، ثم مات مكانه. وفي بعض القصص أنه قال : قتلني فلان وفلان ، لا بني عمه ، ثم سقط ميتا ، فأخذا وقتلا ، ولم يورثوا قاتلا بعد ذلك. وقال الماوردي : كان الضرب بميت لا حياة فيه ، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة.

(كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) : إن كان هذا خطابا للذين حضروا إحياء القتيل ، كان ثم إضمار قول : أي وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة. وقدّره الماوردي خطابا من موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون من تلوين الخطاب. والمعنى : كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا ، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب الطبري ، والظاهر هو الأول ، لانتظام الآي في نسق واحد ، ولئلا يختلف خطاب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وخطاب (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل. والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله : (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) ، أي إحياء مثل ذلك الإحياء ، يحيي الله الموتى ، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء ، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل. وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل ، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف ، أي مثل إحياء ذلك القتيل ، يحيي الله الموتى ، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفا. وإذا كان ذلك خطابا لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل ،

٤٢٠