البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

وهل ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال : «لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ، لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١). وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة ، وبعضهم يقول يوما واحدا ، وبعضهم عشرا ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفى عنهم الهداية والربح ، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا ، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا ، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيدا تغليبا للخير ، لا للحال.

وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا : أحدها : أنها نزلت في المنافقين. الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث : في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه : أنه لقي نفرا من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : ألي تقول هذا ، والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٥.

١٢١

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) : المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل ، كشبه وشبه وشبيه ، وهو النظير ، ويجمع المثل والمثل على أمثال. قال اليزيدي : الأمثال : الأشباه ، وأصل المثل الوصف ، هذا مثل كذا ، أي وصفه مساو لوصف الآخر بوجه من الوجوه. والمثل : القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه. وقيل : المثل ، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس ، يستدل به على وصف مشابه له من بعض الوجوه ، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساويا للأول في الظهور من وجه دون وجه. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقا للعقل. والذي : اسم موصول للواحد المذكر ، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى من في وقوعه على الواحد والجمع. وقال الأخفش : هو مفرد ، ويكون في معنى الجمع ، وهذا شبيه بقول أبي علي ، وقال صاحب التسهيل فيه ، وقد ذكر الذين ، قال : ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيرا وفيه للضرورة قليلا وأصحابنا يقولون : يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي ، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه مكسورة أو مضمومة ، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة ، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغات في الذي. والاستيقاد : بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك ، ووقود النار ارتفاع لهيبها. والنار : جوهر لطيف مضيء حار محرق. لما : حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا ، وظرفا بمعنى حين عند الفارسي ، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه ، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما ، ولمجيء جوابها مصدرا بإذا الفجائية. الإضاءة : الإشراق ، وهو فرط الإنارة. وحوله : ظرف مكان لا يتصرف ، ويقال : حوال بمعناه ، ويثنيان ويجمع أحوال ، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة. الذهاب : الانطلاق. النور : الضوء من كل نير ونقيضه الظلمة ، ويقال نار ينور إذا نفر ، وجارية نوار : أي نفور ، ومنه اسم امرأة الفرزدق ، وسمي نورا لأن فيه اضطرابا وحركة. الترك : التخلية ، أترك هذا أي خله ودعه ، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف ، الأصح جواز ذلك. الظلمة : عدم النور ، وقيل : هو عرض ينافي النور ، وهو

١٢٢

الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به ، والإعدام لا توصف بالخلق ، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم ، وهو المنع ، قال : لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية. الإبصار : الرؤية. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) جموع كثرة على وزن فعل ، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا ، نحو : أحمر وحمراء ، أو انفرد المانع في الخلقة ، نحو : عذل ورتق. فإن كان الوصف مشتركا لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء ، وذلك نحو : رجل آلي وامرأة عجزاء ، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه. والصمم : داء ، يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع ، وأصله من الصلابة ، قالوا : قناة صماء ، وقيل أصله السد وصممت القارورة : سددتها. والبكم : آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام ، قاله أبو حاتم ، وقيل : الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب ، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. والعمى : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، والفعل منها على فعل بكسر العين ، واسم الفاعل على أفعل ، وهو قياس الآفات والعاهات. والرجوع ، إن لم يتعد ، فهو بمعنى : العود ، وإن تعدى فبمعنى : الإعادة. وبعض النحويين يقول : إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر.

قال الزمخشري : لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان ، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامع الآبي ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام الأنبياء والحكماء ، فقال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١) ، ومن سور الإنجيل سور الأمثال ، انتهى كلامه.

ومثلهم : مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده ، والتقدير كائن كمثل ، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية : الخبر الكاف ، وهي على هذا اسم ، كما هي في قول الأعشى :

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

انتهى.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٣.

١٢٣

وهذا الذي اختاره وينبأ به غير مختار ، وهو مذهب أبي الحسن ، يجوز أن تكون الكاف اسما في فصيح الكلام ، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر ، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره ، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله : فصيروا مثل : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (١). وحمله على ذلك ، والله أعلم ، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى ، صار المعنى عنده على الزيادة ، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل ، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن ، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارا ، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة. وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارا وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يدفع بها الأذى ، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه ، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر. الثاني : أنه يهتدي بها ، فإذا انطفأت ضل ، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام ، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمة كفره. الثالث : أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها ، كذلك المنافق ، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه. الرابع : أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه ، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة ، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار. الخامس : أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب ، قاله مجاهد : السادس : شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد ، والضلالة المشتراة بالظلمات. السابع : أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه ، روي معناه عن الحسن ، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل.

وروي عن ابن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب ، ويمان بن رئاب ، أنها في اليهود ، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة ، واليهود لما كانوا يبشرون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون ، شبه حالهم بحال المستوقد النار ، فلما بعث وكفروا به ، أذهب الله ذلك النور عنهم. الثاني : شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنار المستوقد ، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد. الثالث : شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارا ، فلما

__________________

(١) سورة الفيل : ١٠٥ / ٥.

١٢٤

غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان ، وتقدم الكلام على الذي ، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع ، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع ، والذي نختاره أنه مفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد ، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد نارا كأحد التأويلين في قوله :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

ولا يحمل على المفرد لفظا ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم ، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة ، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة ، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (١) على أحد التأويلين ، وجمعه في قول الشاعر :

يا رب عبس لا تبارك في أحد

في قائم منهم ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد

وأما قول الفارسي : إنها مثل من ، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف من ، فلفظ من مفرد مذكر أبدا وليس كذلك الذي ، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (٢) ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين ، قال : أحدهما : أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام ، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين ، خطأ ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب ، كما كان للذي ، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها ، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت ، قال : والثاني : إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة ، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك ، بل هو مثله من حيث المعنى ، ألا ترى أنه لا يكون واقعا إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه

__________________

(١ ـ ٢) سورة التوبة : ٩ / ٦٩.

١٢٥

لا يكون إلا جمعا لمذكر عاقل ، ولكنه لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب ، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعا والياء والنون نصبا وجرا ، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل ، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع ، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيرا.

وقرأ ابن السميفع : كمثل الذين ، على الجمع ، وهي قراءة مشكلة ، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفا لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع ، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه :

أحدها : أن يكون إفراد الضمير حملا على التوهم المعهود مثله في لسان العرب ، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى ، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية ، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد ، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط ، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد ، وهو الذين ، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي ، قول الشاعر ، أنشده ابن الأعرابي :

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

الثاني : أن يكون إفراد الضمير ، وإن كان عائدا على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع ، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب ، أنشد أبو الحسن :

وبالبدو منا أسرة يحفظوننا

سراع إلى الداعي عظام كراكره

أي كراكرهم.

والثالث : أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائدا على الذين ، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد ، التقدير استوقد هو ، أي المستوقد ، فيكون نحو قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) (١) أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية ، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما : أن يكون حذف وأصله لهم ، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد نارا وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس ، فيكون مثل قول الشاعر :

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣٥.

١٢٦

ولو أن ما عالجت لين فؤادها

فقسا استلين به للآن الجندل

يريد ما عالجت به ، فحذف حرف الجر والضمير ، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس ، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو ، وضابطها أن يكون الضمير مجرورا بحرف جر ليس في موضع رفع ، وأن يكون الموصول ، أو الموصوف به الموصول ، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظا ومعنى ، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير ، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني : أن تكون الجملة الأولى الواقعة لا عائد فيها ، لكن عطف عليها جملة بالفاء ، وهي جملة لما وجوابها ، وفي ذلك عائد على الذي ، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر ، فيكون شبيها بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم : زيد جاءت هند فضربتها ، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما ، وهو قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع.

واستوقد : استفعل ، وهي بمعنى افعل. حكى أبو زيد : أوقد واستوقد بمعنى ، ومثله أجاب واستجاب ، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء ، أو للطلب ، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح ، وكونها بمعنى أوقد ، قول الأخفش ، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى ، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه. ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا نارا فأوقدوها ، (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ، لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب ، إنما تتسبب عن الاتقاد ، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح ، والتشبيه وقع بين قصة وقصة ، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (١) ، وعلى أنه في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ، هو من قبيل المقابلة أيضا؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع؟ أو الفوج الذي استوقد ، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى. على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع ، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير ، كمثل أصحاب الذي استوقد ، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفردا لفظا ومعنى لما احتيج إلى ذلك ، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة ، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة ، كما قدمنا ، ونكر نارا وأفردها ،

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ٥.

١٢٧

لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام ، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوءة به ، فشبه حاله بحال من استوقد نارا ما إذ لا يدل إلا على المطلق ، لا على كثرة ولا على عهد ، والفاء في فلما للتعقيب ، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة ، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره أن استوقد فهو فاسد من وجوه ، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ، فأغنى عن إعادته هنا.

وأضاءت : قيل متعد وقيل لازم ومتعد ، قالوا : وهو أكثر وأشهر ، فإذا كان متعديا كانت الهمزة فيه للنقل ، إذ يقال : ضاء المكان ، كما قال العباس بن عبد المطلب ، في النبي عليه الصلاة والسلام : وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك ، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله ، وإذا كان لازما فقالوا : إن الضمير في أضاءت للنار ، وما زائدة ، وحوله ظرف معمول للفعل ، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار ، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى ، أي : فلما أضاءت الجهة التي حوله ، كما أنثوا على المعنى في قولهم : ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه ، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب : جلست ما مجلسا حسنا ، ولا قمت ما يوم الجمعة ، والحمل على المعنى محفوظ ، كما ذكرناه ، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا ، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما ، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية ، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة ، ولا حمل على المعنى.

وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فلما ضاءت ثلاثيا فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة ، إما موصولة وإما موصوفة ، كما تقدم ، ولما جوابها : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، وجمع الضمير في : بنورهم حملا على معنى الذي ، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد ، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم ، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد ، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفا لفهم المعنى ، كما حذفوه في قوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) (١) ، الآية. قال الزمخشري : وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه ، انتهى. وقوله : لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٥.

١٢٨

الكلام ، لأنه قدره خمدت ، وأي استطالة في قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها ، فلا استطالة بخلاف قوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما ، فلذلك كان الحذف سائغا لاستطالة الكلام. وقوله : مع أمن الإلباس ، وهذا أيضا غير مسلم ، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) هو الجواب ، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة ، كان ذلك من باب اللغز ، إذ تركت شيئا يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه ، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ).

ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى ، قال : وكان الحذف أولى من الإثبات ، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت ، فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار ، انتهى. وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها ، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ، قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره ، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ، ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام ، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ، ولا أن يزاد فيه ، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، فخرجوا ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل : ذهب الله بنورهم. والثاني : أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان ، قالهما الزمخشري ، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف ، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما ، وهو أن يكون قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بدلا من جملة التمثيل ، على سبيل البيان ، لا يظهر في صحته ، لأن جملة التمثيل هي قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ، فجعله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بدلا من هذه الجملة ، على سبيل البيان ، لا يصح ، لأن البدل لا يكون في الجمل

١٢٩

إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية ، فقد ذكروا جواز. ذلك. أما أن تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحدا أجاز ذلك ، والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد ، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل ، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدء فيها ، ومن جعل الجواب محذوفا جعل الضمير في بنورهم عائدا على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية ، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها ، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت : خرجت بزيد ؛ فمعناه أخرجت زيدا ، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت ، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت : قمت بزيد ، دل على أنك قمت وأقمته ، وإذا قلت : أقمت زيدا ، لم يلزم أنك قمت ، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي ، قال : تدخل الباء ، يعني المعدية ، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو : أقعدته ، وقعدت به ، وأدخلته الدار ، ودخلت به ، ولا يصح هذا في مثل : أمرضته ، وأسقمته. فلا بد إذن من مشاركة ، ولو باليد ، إذا قلت : قعدت به ، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها. ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا ، ولا يلزم ذلك أبا العباس : إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به ، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) (١) ، والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر :

ديار التي كانت ونحن على منى

تحل بنا لو لا نجاء الركائب

أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالا غير محرمين ، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراما ، فتصير حلالا بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما ، فلا يقال : أذهبت بزيد ، ولقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٢) ، في قراءة من جعله رباعيا تخريج يذكر في مكانه ، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم ، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة ، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة ، إذ هو فاعل الأشياء كلها.

وفي معنى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ثلاثة أقوال : قال ابن عباس : هو مثل ضرب

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٠.

١٣٠

للمنافقين ، كانوا يعتزون بالإسلام ، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العز ، كما سلب موقد النار ضوءه ، وتركهم في ظلمات ، أي في عذاب. الثاني : إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم ، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم. الثالث : أبطل نورهم عنده ، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا ، فهم كرجل أوقد نارا ثم طفئت فعاد في ظلمه. وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائدا على المنافقين ، وإن عاد على المستوقدين ، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها ، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل ، فلذلك قال الضحاك : لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحا عاصفا فاطفأها ، وهذا التأويل يأتي على قول من قال : إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم ، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم ، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها ، وإن المراد بها نار العداوة والحقد ، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين. وإذا كانت النار مجازية ، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح ، وقد تقدم الكلام فيه. وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم ، لا العكس. فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور. والمقصود إذهاب النور عنهم أصلا ، ألا ترى كيف عقبه بقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ)؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة ، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة ، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.

وقرأ الجمهور : في ظلمات بضم اللام ، وقرأ الحسن ، وأبو السماك : بسكون اللام ، وقرأ قوم : بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين ، غير المضعف ، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو : كلية ، امتنعت الضمة ، أو كان مضعفا نحو : دره ، أو معتل العين نحو : سورة ، أو وصفا نحو : بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم : إن ظلمات ، بفتح اللام جمع ظلم ، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع ، والعدول إلى الفتح تخفيفا أسهل من ادعاء جمع الجمع ، لأن العدول إليه قد جاء في نحو : كسرات جمع كسرة جوازا ، وإليه في نحو : جفنة وجوبا. وفعلة وفعلة أخوات ، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت ، وجمع الجمع ليس بقياس ، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني : في ظلمة ، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع ، لأن كل واحد له ظلمة تخصه ، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع

١٣١

الظلمات. وسيأتي الكلام على ذلك ، إن شاء الله. ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ ، وإن كان ترك متعديا لواحد فيحتمل أن يكون : في ظلمات ، في موضع الحال من المفعول ، فيتعلق بمحذوف ، ولا يبصرون : في موضع الحال أيضا ، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالا متداخلة ، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني ، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال ، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني ، وإن كان يجوز ظننت زيدا منفردا لا يخاف ، وأنت تريد ظننت زيدا في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد ، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر ، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد ، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرئ القيس :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر ، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر ، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكدا ، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده ، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه. قال ابن عباس : والظلمات هنا العذاب ، وقال مجاهد : ظلمة الكفر ، وقال قتادة : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، وقال السدّي : ظلمة النفاق ، ولم يذكر مفعول لا يبصرون ، ولا ينبغي أن ينوي ، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.

قرأ الجمهور : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم ، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية ، لكنها في موضع خبر واحد ، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان ، فصح الألسن ، بصراء الأعين ، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم ، ولا تلمحوا أنوار الهداية ، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى ، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر ، أنشد الزمخشري من ذلك أبياتا ، وأنشد غيره :

١٣٢

أعمى إذا ما جارتي برزت

حتى يواري جارتي الخدر

وأصم عما كان بينهما

أذني وما في سمعها وقر

وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين ، وليس من باب الاستعارة ، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه ، صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لو لا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :

لدي أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

وحذف المبتدأ هناك لذكره ، فلا يقال : إنه من باب الاستعارة ، إذ هو كقول زهير :

أسد علي وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصافر

والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز ، وذلك لعدم قبولهم الحق. وقيل : وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والتعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك ، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم. والعرب إذا سمعت ما لا تحب ، أو رأت ما لا يعجب ، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه. قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (١) ، وقالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (٢) الآية. قيل : ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم ، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالا من البهائم وأشبه حالا من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر. فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى ، ولذلك لما أراد ابراهيم ، على نبينا وعليه‌السلام ، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٣)؟ وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء ، وإن كان قد قاله بعض المفسرين. قال : دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك ، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٤). وقرأ عبد الله بن مسعود ، وحفصة أم المؤمنين : صما بكما عميا ، بالنصب ، وذكروا في نصبه وجوها : أحدها : أن يكون مفعولا. ثانيا لترك ، ويكون في ظلمات متعلقا بتركهم ، أو في موضع

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٧.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٥.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤٢.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

١٣٣

الحال ، ولا يبصرون. حال. الثاني : أن يكون منصوبا على الحال من المفعول في تركهم ، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين ، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث : أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره أعني. الرابع : أن يكون منصوبا على الحال من الضمير في يبصرون ، وفي ذلك نظر. الخامس : أن يكون منصوبا على الذم ، صما بكما ، فيكون كقول النابغة :

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تخادع

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين ، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها ، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين ، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين ، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين ، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم ، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم ، ولم يبين جهة الضعف ، ووجهه : أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الاسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع ، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع ، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون : جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية ، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها ، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة ، التي هي كناية عن عدم قبول الحق ، جدير أن لا يرجع إلى إيمان. فإن كانت الآية في معنيين ، فذلك واضح ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع إليه أبدا ، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها. قال قتادة ، ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم ، وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام ، وقيل : لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى ، وقيل : لا يرجعون إلى ثواب الله ، وقيل : عن التمسك بالنفاق ، وقيل : إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولا للهداية ، وبعث إليهم رسلا بالبراهين القاطعة ، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم ، والجري على مألوف آبائهم ، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم. وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعا وإلى العبد لملابسته له ، ولذلك قال في هذه الآية : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، فأضاف هذه

١٣٤

الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١) ، فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى. وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازما ، وإن كان متعديا كان المفعول محذوفا تقديره فهم لا يرجعون جوابا.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أو ، لها خمسة معان : الشك ، والإبهام ، والتخيير ، والإباحة ، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل ، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول : أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي : أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين ، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح ، لا أنها وضعت للشك ، فقد تكون في الخبر ، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين ، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها ، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال ، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره ، ولو جمع بين المباحين لم يعص ، علما بأن أو ليست معتمدة هنا. الصيب : المطر ، يقال : صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضا ، قال الشاعر :

حتى عفاها صيب ودقه

داني النواحي مسبل هاطل

وقال الشماخ :

وأشحم دان صادق الرعد صيب

ووزن صيب فيعل عند البصريين ، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين ، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم : صيقل بكسر القاف علم لامرأة ، وليس وزنه فعيلا ، خلافا للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا. السماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والسماء المعروفة ذات البروج ،

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٢٣.

١٣٥

وأصلها الواو لأنها من السمو ، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث. قالوا : سماوة ، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة ، قال العجاج :

طيّ الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

والسماء مؤنث ، وقد يذكر ، قال الشاعر :

فلو رفع السماء إليه قوما

لحقنا بالسماء مع السحاب

والجنس الذي ميز واحده بتاء ، يؤنثه الحجازيون ، ويذكره التميميون وأهل نجد ، وجمعهم لها على سموات ، وعلى اسمية ، وعلى سماء. قال : فوق سبع سمائنا شاذ لأنه ، أولا : اسم جنس فقياسه أن لا يجمع ، وثانيا : فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياسا ، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث ، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.

الرعد ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وشهر بن حوشب ، وعكرمة : الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت ، وقال بعضهم : كلما خالفت سحابة صاح بها ، والرعد اسمه. وقال علي ، وعطاء ، وطاوس ، والخليل : صوت ملك يزجر السحاب. وروي هذا أيضا عن ابن عباس ، ومجاهد. وقال مجاهد : أيضا صوت ملك يسبح ، وقيل : ريح تختنق بين السماء والأرض. وروي عن ابن عباس : أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت ، وقيل : اصطكاك الأجرام السحابية ، وهو قول أرباب الهيئة. والمعروف في اللغة : أنه اسم الصوت المسموع ، وقاله علي ، قال بعضهم : أكثر العلماء على أنه ملك ، والمسموع صوته يسبح ويزجر السحاب ، وقيل : الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب. وتلخص من هذه النقول قولان : أحدهما : أن الرعد ملك ، الثاني : أنه صوت. قالوا : وسمي هذا الصوت رعدا لأنه يرعد سامعه ، ومنه رعدت الفرائص ، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة. واتسع فيه فقيل : أرعد ، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإيعاد. والتهدد : ارتعاد الموعد والمهدد.

البرق : مخراف حديد بيد الملك يسوق به السحاب ، قاله علي ، أو أثر ضرب بذلك المخراف. وروي عن علي : أو سوط نور بيد الملك يزجرها به ، قاله ابن عباس ، أو ضرب ذلك السوط ، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس. وروي نحوه عن مجاهد : أو ملك يتراءى. وروي عن ابن عباس أو الماء ، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة البصري ،

١٣٦

أو تلألؤ الماء ، حكاه ابن فارس ، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب ، قاله بعضهم. والذي يفهم من اللغة : أن الرعد عبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء ، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) جعل : يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد ، وبمعنى صير أو سمى فيتعدى لاثنين ، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة ، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها. الأصبع : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، وذكروا فيها تسع لغات وهي : الفتح للهمزة ، وضمها ، وكسرها مع كل من ذلك للباء. وحكوا عاشرة وهي : أصبوع ، بضمها ، وبعد الباء واو. وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام ، فإن بعض بني أسد يقولون : هذا إبهام ، والتأنيث أجود ، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا : أذينة ، ولا تلحق في العدد ، قالوا : ثلاث آذان ، قال أبو ثروان في أحجية له :

ما ذو ثلاث آذان

يسبق الخيل بالرديان

يريد السهم وآذانه وقدده. الصاعقة : الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، وهي مع حدتها سريعة الخمود ، ويهلك الله بها من يشاء. قال لبيد يرثي أخاه أربد ، وكان ممن أحرقته الصاعقة :

فجعني البرق والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد

ويشبه بالمقتول بها من مات سريعا ، قال علقمة بن عبدة :

كأنهم صابت عليهم سحابة

صواعقها لطيرهن دبيب

وروى الخليل عن قوم من العرب : الساعقة بالسين ، وقال النقاش : صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. قال أبو عمرو : الصاقعة لغة بني تميم ، قال الشاعر :

ألم تر أن المجرمين أصابهم

صواقع لا بل هن فوق الصواقع

وقال أبو النجم :

يحلون بالمقصورة القواطع

تشقق البروق بالصواقع

١٣٧

فإذا كان ذلك لغة ، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه ، لم يكن من باب المقلوب خلافا لمن ذهب إلى ذلك ، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة. ويقال : صعقته وأصعقته الصاعقة ، إذا أهلكته ، فصعق : أي هلك. والصاعقة أيضا العذاب على أي حال كان ، قاله ابن عرفة ، والصاعقة والصاقعة : إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد ، فتكون التاء للمبالغة نحو : راوية وإما أن تكون مصدرا ، كما قالوا في الكاذبة. الحذر ، والفزع ، والفرق ، والجزع ، والخوف : نظائر الموت ، عرض يعقب الحياة. وقيل : فساد بنية الحيوان ، وقيل : زوال الحياة. الإحاطة : حصر الشيء بالمنع له من كل جهة ، والثلاثي منه متعد ، قالوا : حاطه ، يحوطه ، حوطا.

أو كصيب : معطوف على قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ، وحذف مضافان ، إذ التقدير : أو : كمثل ذوي صيب ، نحو قوله تعالى : (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (١) ، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل ، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد ، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب ، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وإن المعنى أيهما شئت مثلهم به ، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه ، ولا إلى أن أو للإباحة ، ولا إلى أنها بمعنى الواو ، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمتخاطبين ، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى ، ولا إلى كونها بمعنى بل ، ولا إلى كونها للإبهام ، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه جملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو ، أو بمعنى بل ، لم يثبت عند البصريين ، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل ، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين ، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا ، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل. وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفا لحالهم بعد كشف الأول. وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق ، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع جدواه بذهاب النور. وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق ، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة ، كما شرحناه.

والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة ، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء ، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول ، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٩.

١٣٨

ظلمة الليل ، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون. والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر ، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ. وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ، فقال : مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الأشكال ، وعما هم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم ، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق ، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئا من الممثل ، وستأتي بقية الأقوال في ذلك ، إن شاء الله تعالى. وقرىء : أو كصايب ، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب ، أبلغ من صايب ، والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه ، وكذلك أيضا (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين. فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقد منع ذلك أبو علي ، وردّ عليه بقول الشاعر :

لعمرك والخطوب مغيرات

وفي طول المعاشرة التقالي

لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ولكن أمّ أوفى لا تبالي

ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض. من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض ، ويكون على حذف مضاف التقدير ، أو كمطر صيب من أمطار السماء ، وأتى بالسماء معرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء ، فهو مطبق عام. قال الزمخشري : وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ، ومنها يأخذ ماءه ، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر ، ويؤيده قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (١) انتهى كلامه. وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر ، إنما تدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء ، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء ، وأن منشأه من البحر. والعرب تسمي السحاب بنات بحر ، يعني أنها تنشأ من البحار ، قال طرفة :

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٣.

١٣٩

لا تلمني إنها من نسوة

رقد الصيف مقاليت نزر

كبنات البحر يمأدن كما

أنبت الصيف عساليج الخضر

وقد أبدلوا الباء ميما فقالوا : بنات المحر ، كما قالوا : رأيته من كثب ومن كثم. وظلمات : مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية ، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة ، ويجوز أن تكون فيه في موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله : (مِنَ السَّماءِ) ، إما تخصيص العمل ، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء ، وأجازوا أن يكون ظلمات مرفوعا بالابتداء ، وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة ، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد ، وبين أن تكون من قبيل الجمل ، كأن الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات ، لأنه حصلت أنواع من الظلمة. فإن كان الصيب هو المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه وانتساجه وتتابع قطره ، وظلمة : ظلال غمامه مع ظلمة الليل. وإن كان الصيب هو السحاب ، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل. والضمير في فيه عائد على الصيب ، فإذا فسر بالمطر ، فكان ذلك السحاب ، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوّز ، ولم يجمع الرعد والبرق ، وإن كان قد جمعت في لسان العرب ، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل : وإرعاد وإبراق ، وإن أريد العينان فلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل ، إذ يقال : رعدت السماء رعدا وبرقت برقا ، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ، كما قالوا : رجل خصم ، ونكرت ظلمات ورعد وبرق ، لأن المقصود ليس العموم ، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق.

والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به ، لأنه إذا حذف ، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكورا ، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه. فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ) (١) ، التقدير ، أو كذي ظلمات ، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله : يغشاه. ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٢) المعنى من أهل قرية فقال : فجاءها ، فأطرح المحذوف وقال : أو هم ، فالتفت إلى المحذوف. والجملة من قوله : يجعلون لا موضع لها من

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤.

١٤٠