تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» (١) أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون. وقوله : (وَأَجْدَرُ) أي أولى وأحق بـ (أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر (حَكِيمٌ) في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء. ثم نوع جنس الأعراب فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) هو مفعول ثان ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران. وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس ، والمغرم إما مصدر أو موضع. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيها بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص. ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) وإنها جملة معترضة كقوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك «رجل صدق». قال في الكشاف : وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء. والعذاب ، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بنياتهم. قيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ) الآية. والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سببا لحصول القربات عند الله وسببا لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله : اللهم صل على آل أبي أوفى. ثم إنه تعالى شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكدا بحرفي التنبيه والتحقيق (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) ثم فسر القربة بقوله : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) والسين لتحقيق الوعد. قيل : هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه ، أخذت أمه بجادا وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان قائده والله أعلم.

التأويل : الناس ثلاثة : المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم ، والقاعدون الكذابون ، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المغازي باب ٧٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٨) (٣٣ / ٣٢٢).

٥٢١

الاستعداد. (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) بطريق المتابعة (لِتَحْمِلَهُمْ) على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ترفعا ودلالا واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاستعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلا وميلا إلى اللذات العاجلة. (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً) إن في عالم الإنسانية بدوا هو نفسه وحضرا هو قلبه ، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة ، وقد يصير القلب كافرا بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب ، ولكن النفس تكون أشد كفرا من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد إيمانا من النفس المؤمنة. (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالا وفترة. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها (وَاللهُ سَمِيعٌ) يجيب هذا الدعاء (عَلِيمٌ) بمن ينبغي أن يسمع في حقه.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ

٥٢٢

فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

القراآت : من تحتها بزيادة من : ابن كثير. والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف. و (الْأَنْهارُ) بالرفع : يعقوب. الآخرون بالجر. (إِنَّ صَلاتَكَ) على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب (مُرْجَوْنَ) بواو ساكنة بعد الجيم : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد. الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) بغير واو : أبو جعفر ونافع وابن عامر (أَسَّسَ بُنْيانَهُ) مجهولا في الحرفين : ابن عامر ونافع حرف بسكون الراء : ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد. الباقون بالضم (هارٍ) بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث ، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد إلى أن قرأها يعقوب. الباقون (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ) فعلا ماضيا أو مضارعا بحذف التاء من التفعل : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس. تقطع مضارعا مجهولا من التقطع : روح. الباقون تقطع مضارعا مجهولا من التقطيع.

الوقوف : (بِإِحْسانٍ) لا لأن قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) خبر (وَالسَّابِقُونَ أَبَداً) ط ه (الْعَظِيمُ) ه (مُنافِقُونَ) ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا ، ومن وصل وقف على (أَهْلِ الْمَدِينَةِ) تقديره هم مردوا (عَلَى النِّفاقِ) ط ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل (لا تَعْلَمُهُمْ) صفة للقوم فلم يقف (لا تَعْلَمُهُمْ) ط (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ط (عَظِيمٍ) ه ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفا على (مُنافِقُونَ) أو على قوم المقدر (سَيِّئاً) ط (عَلَيْهِمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ط (لَهُمْ) ط (عَلِيمٌ) ه (الرَّحِيمُ) ه (وَالْمُؤْمِنُونَ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ط (حَكِيمٌ) ه (مِنْ قَبْلُ) ط (الْحُسْنى) ط (لَكاذِبُونَ) ه (أَبَداً) ط (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) ط (أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ط (الْمُطَّهِّرِينَ) ه (فِي نارِ جَهَنَّمَ) ط (الظَّالِمِينَ) ط (قُلُوبِهِمْ) ط (حَكِيمٌ) ه.

التفسير : لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان ؛ قال ابن عباس : السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا. وعن الشعبي : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل بيعة

٥٢٣

العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. والظاهر أن الآية عامة في كل من سبق في الهجرة والنصرة. قال أهل السنة : لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم. ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه ، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت. قال أكثر العلماء : كلمة «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) للتبعيض ، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم. وقد قيل : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وقيل : للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة. وروي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان بينهم؟ فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) إلى آخر الآية؟ أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة ، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم. قال العلماء : معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم. ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) هو خبر و (مِنَ الْأَعْرابِ) بيان أو حال و (مُنافِقُونَ) مبتدأ (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم (مَرَدُوا) التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك «صرح ممرد» و «غلام أمرد» و «أرض مرداء» لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير. فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقا معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك. ثم قال (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال ابن عباس : هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر. روى السدي عن أبي مالك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان إنك منافق ، اخرج يا فلان إنك منافق ، حتى أخرج ناسا وفضحهم. وقال مجاهد : هما القتل والسبي وعذاب القبر. وقال قتادة : بالدبيلة وعذاب القبر. وقال محمد بن إسحق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور. وقال الحسن : بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر. وقيل : أحد العذابين

٥٢٤

ضرب الملائكة الوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو الدرك الأسفل من النار. قال الكلبي : وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم. ثم قال (وَآخَرُونَ) وهو معطوف على (مُنافِقُونَ) أو مبتدأ. و (اعْتَرَفُوا) صفته و (خَلَطُوا) خبره (عَسَى اللهُ) جملة مستأنفة. وقيل : (خَلَطُوا) حال بإضمار «قد» (عَسَى اللهُ) خبر. وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا. عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الجهاد. روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وقيل : كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا : والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا. فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين ـ وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر ـ فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا : هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال رسول الله : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً). الآية. والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال وفي الاستقبال. (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن. وهذا أبلغ من قولك : خلطت الماء باللبن. لأنك جعلت في الأول كلا منهما مخلوطا ومخلوطا به كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك : بعت شاة ودرهما أي شاة بدرهم. وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان. ويجوز أن يقال : الخلط هاهنا بمعنى الجمع. قال أهل السنة : فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما. وفي قوله (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم ، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن (عَسَى) من الكريم إطماع

٥٢٥

واجب. وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل ، وفيه أن التوبة بخلق الله. وقالت المعتزلة : معنى أن يتوب أن يقبل التوبة. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهاء الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه.

ثم قال سبحانه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) عن الحسن : كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر. وقال أكثر الفقهاء : المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحا لدعواهم. ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضا التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع. وفي قوله (مِنْ أَمْوالِهِمْ) دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال ، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة. وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي. وقوله (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. وقيل : التاء في (تُطَهِّرُهُمْ) للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين. قال العلماء : المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سببا للإنماء والزيادة والبركة ، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم. قال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون. وقال الشافعي : تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) قال ابن عباس : معناه ادع لهم. فمن هنا قال الشافعي : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال آخرون بظاهر اللفظ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى. وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعا. وأطلق بعضهم ـ كالغزالي وإمام الحرمين ـ لفظ الكراهة وقالوا : السلام أيضا في معنى الصلاة. وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضا كعلي وأولاده عليه‌السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم. قالوا : لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن

٥٢٦

في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه ، وذلك لأن دعاءه يستجاب البتة فيتطهرون بها ، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا : الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن. وردّ عليهم بسائر الآيات. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت (أَلَمْ يَعْلَمُوا) يعني غير التائبين. وقيل : معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية. وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حالة الطاعة وجب على كرمه قبول توبته. وفيه أيضا أن قبول التوبة ليس إلى الرسول. وفي قوله (عَنْ عِبادِهِ) دون «من» إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضما وانكسارا. وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة ، وأنها من الله بمكان ، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث. ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيبا لهم في التوبة (اعْمَلُوا) فيه نوع تهديد وتخويف (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) وقد مر تفسير مثله عن قريب. والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكما وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون ، وفي الآخرة حكما وهو الجزاء. وبوجه آخر كأنه قيل : إن كنت من المحققين فاعمل لله ، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية. ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعا. أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله واطلاعه وإفشائه. واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام : منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق ، والثاني التائبون المتعرفون بذنوبهم ، والثالث الذين بقوا مرقوفا أمرهم وذلك قوله (وَآخَرُونَ) وإعرابه كإعراب قوله (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا) ومعنى (مُرْجَوْنَ) أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) [الأعراف : ١١١] كما مرّ ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن

٥٢٧

يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون : إنهم مرجون لأمر الله. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. وقال ابن عباس : نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أخذا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) كما سيجيء. وقال الحسن : إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا. وقوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذرا ، ويقول آخرون : عسى الله أن يغفر لهم. قال الجبائي : جعل أمرهم دائرا بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة ، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط. ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) كأنه قال : ومنهم الذين اتخذوا. في الكشاف : أن محله النصب على الاختصاص ، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير : كانوا اثني عشر رجلا بنوا مسجدا يضارّون به مسجد قباء. وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجدا كذلك.

واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أمورا أربعة : الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق ، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ، والرابع قوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وقوله (مِنْ قَبْلُ) يتعلق بـ (حارَبَ) أي من قبل بناء مسجد الضرار. وقال في الكشاف : إنه متعلق بـ (اتَّخَذُوا) والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. قال الزجاج : الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة : الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون : إنه الإعداد. والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم

٥٢٨

حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجدا وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) أي ما أردنا ببناء هذا المسجد (إِلَّا) الخصلة (الْحُسْنى) وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين. قال المفسرون. إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) الآية فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي ـ قاتل حمزة ـ فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين. وقال الحسن : همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه. ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. ثم بيّن علة النهي فقال : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي من ابتداء وجوده (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) والمعنى لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملا على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام : إن المسجد إذا كان مبنيا على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه ؛ فالإمام أولى بأن يكون متقيا من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه‌السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين. واختلفوا في هذا المسجد فقيل : مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى. فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة. وقيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، قال في الكشاف : وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقال القاضي : كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصورا على واحد. وأيضا كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار. ثم ذكر لمسجد التقوى وصفا آخر وذلك قوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) فقيل : إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار

٥٢٩

وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق ، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيرا من طهارة الظاهر في القرب من الله. وقيل : إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول. وروي أنها لما نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال عليه‌السلام : أترضون بالقضاء؟ قالوا : نعم قال : أتصبرون على البلاء؟ قالوا : نعم. قال : أتشكرون في الرخاء؟ قالوا : نعم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار إن الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم. ومحبة التطهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بونا بعيدا فقال مستفهما على سبيل التقرير (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ) دينه على ضد ذلك. والشفا هو الشفير أي الشفة ، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف ، والهار الهائر وهو أيضا المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قال الليث : الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه ، فإذا سقط فقد انهار. وقال في الكشاف : إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» على «فعل» ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفا على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم ، يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه. ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) في كونه سببا للريبة (فِي قُلُوبِهِمْ) وجوه منها : أن هدمه صار سببا لازدياد شكهم في نبوته ، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذ يضمحل أثرها عنها. والمقصود أن هذا

٥٣٠

الشك يبقى في قلوبهم أبدا ويموتون على النفاق. قال في الكشاف : يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.

التأويل : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الذين سبقت لهم العناية الأزلية ، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة ، أو السابقون في جواب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] الأولون في استماع هذا الخطاب ، أو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل ، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه ، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة ، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحا ، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال ، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال ، وهذا السبق مخصوص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأمته كما قال : «نحن الآخرون السابقون» (١). (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) عن الأوطان البشرية (وَالْأَنْصارِ) لهم في طلب الحق (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بإعطاء الاستعدادات الكاملة (وَرَضُوا عَنْهُ) بإيفاء حقوقها. (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) من أعراب صفات النفس (مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ) مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهرا لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء» ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقيا لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل ، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر. فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨. مسلم في كتاب الجمعة حديث ١٩ ، ٢١. النسائي في كتاب الجمعة باب ١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١.

٥٣١

حتى يدعها» (١) (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة (ثُمَّ يُرَدُّونَ) بجذبات اللطف (إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة (وَآخَرُونَ) يعني القلب وصفاته (اعْتَرَفُوا) بذنوب ثبوت صفات النفس والتلوث بها (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) هو صدق التوجه (وَآخَرَ سَيِّئاً) هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات. (عَسَى اللهُ) أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه. (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) عن دنس حب الدنيا (وَتُزَكِّيهِمْ) بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلا (وَسَتُرَدُّونَ) بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت. (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بتربية عباده (حَكِيمٌ) فيما يفعل من القبول والرد. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) في عالم الطبيعة مزبلة النفس (مَسْجِداً ضِراراً) لأرباب الحقيقة (وَكُفْراً) بأحوالهم (لِمَنْ حارَبَ اللهَ) هم أهل الإباحة من مدعي الفقر (لا تَقُمْ) يا رسول الروح. (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من الميثاق (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث. ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) أي جبل على الخير وما فيه رضا الله (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) لأنهم جبلوا على الشقاء (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٠٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ٢٤. أبو داود في كتاب السنة باب ١٥.

٥٣٢

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

القراآت : (فَيَقْتُلُونَ) مبنيا للمفعول (وَيُقْتَلُونَ) مبنيا للفاعل : حمزة وعلي وخلف. الآخرون على العكس. (وَيُقْتَلُونَ) بالتشديد : أبو عون عن قنبل. إبراهام وكذلك ما بعده : هشام (يَزِيغُ) بياء الغيبة : حمزة وحفص والمفضل. والباقون بتاء التأنيث (خُلِّفُوا) بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس. الباقون بالتشديد مجهولا.

الوقوف : (الْجَنَّةَ) ط (وَيُقْتَلُونَ) ط (وَالْقُرْآنِ) ط (بايَعْتُمْ بِهِ) ط (الْعَظِيمُ) ه (لِحُدُودِ اللهِ) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (الْجَحِيمِ) ه (إِيَّاهُ) ط (مِنْهُ) ط ج (حَلِيمٌ) ه ط (ما يَتَّقُونَ) ط (عَلِيمٌ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (وَيُمِيتُ) ط (نَصِيرٍ) ه (تابَ عَلَيْهِمْ) ط (رَحِيمٌ) ه ط للعطف على النبي (خُلِّفُوا) ط (إِلَّا إِلَيْهِ) ط (لِيَتُوبُوا) ط (الرَّحِيمُ) ه (الصَّادِقِينَ) ه.

التفسير : لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقا به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه فقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) الآية. قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ـ وهم سبعون نفسا ـ قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة ،

٥٣٣

قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم. وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازا عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وهاهنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة ، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج اليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات ؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي ، والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) وفي قوله (يُقاتِلُونَ) معنى الأمر كقوله (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١١] وهو كالتفسير لتلك المبايعة (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله : (يُقاتِلُونَ). والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثرا من القتال ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس» (١) ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة ، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته ، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال : «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» (٢) قوله

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ١٠٢. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٣٥. أحمد في مسنده (٥ / ٢٣٨).

(٢) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ١٠٠ ، ١٠٢. أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٨. النسائي في كتاب الفرع باب ٥. أحمد في مسنده (٤ / ٣٢٩ ، ٣٣٤).

٥٣٤

(وَعْداً عَلَيْهِ) قال الزجاج : إنه منصوب بمعنى قوله : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) كأنه قيل : وعدهم الجنة وعدا فهو مصدر مؤكد ، وكذا قوله (حَقًّا) أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) قيل : وعد المجاهدين على الإطلاق ، وقيل : ذكر هذا البيع لأمة محمد ، وقيل : الأمر بالقتال (وَمَنْ أَوْفى) استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد (مِنَ اللهِ) لأنه الغني عن كل الحاجات القادر على كل المقدورات. وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به ، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقا مؤكدا. ومنها أنه قال (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله (وَعْداً) وإنه لا يخلف الميعاد. ومنها قوله (عَلَيْهِ) وكلمة «على» للوجوب ظاهرا. ومنها قوله : (حَقًّا) وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله : (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف البتة. ومنها قوله : (فَاسْتَبْشِرُوا) والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ) ثم وصف الفوز بـ (الْعَظِيمُ) واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه : أحدها ذلك الفوز بغير «هو» وإنه في ستة مواضع : في «براءة» موضعان ، وفي «النساء والمائدة والصف والتغابن» وما في «النساء» بزيادة واو. والآخر (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ) بزيادة «هو» وذلك في ستة مواضع أخرى في «براءة» موضعان و «يونس» و «المؤمن» و «الدخان» و «الحديد» وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية ، وكذلك ما في «المؤمن». وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها ، وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة ، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في «المؤمن» وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية (فَاغْفِرْ وَقِهِمْ وَأَدْخِلْهُمْ) قال أبو القاسم البلخي : لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياسا على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة.

ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال : (التَّائِبُونَ) قال الزجاج : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] وقيل : التائبون رفع على البدل من الضمير في

٥٣٥

(يُقاتِلُونَ) وقيل : مبتدأ خبره (الْعابِدُونَ) وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن : التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضا إذ لا دليل على التخصيص و (الْعابِدُونَ) قال ابن عباس : هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء ، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة : هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. و (الْحامِدُونَ) هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين ، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] و (السَّائِحُونَ) قال عامة المفسرين : هم الصائمون لقوله : «سياحة أمتي الصيام». ثم قيل : هذا صوم الفرض. وقيل : الذين يديمون الصيام. قال الأزهري : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه فيكون ممسكا عن الأكل والشرب كالصائم. وقيل : أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع. وقال أهل المعنى : الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول. وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل. قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثرا عظيما في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعا من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يعني المصلين قال بعض العلماء : إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود ، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود. وقيل : أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع. ثم قال : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن هاهنا بحثا آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله : (وَالنَّاهُونَ وَالْحافِظُونَ) دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء

٥٣٦

بالواو وبغيرها كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٢] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر ، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيها على هذه المخالفة والمباينة. ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في «الكهف» في قوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الآية : ٢٢] وما في «الزمر» في قوله في ذكر الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الآية : ٧٣] وما في «التحريم» في قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [الآية : ٥] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار. فالثمانية تجري مجرى استئناف كلام فلهذا فصل بالواو. وأما قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) فكإجمال بعد تفصيل ؛ وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها ، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات. وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية. فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا ، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز ، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها. والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل ، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال ، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام. ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد. والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة ، وكالبيع بين العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئا في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين ، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة ، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة ، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس. وأما دفع المضار

٥٣٧

والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة ، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان ، وإما في العقل كباب تحريم الخمر ، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق ، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام ، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولا إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) يشمل ذلك أيضا بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر.

ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى هاهنا وجوب إظهار البراءة من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضا وإن كانوا أقارب فقال : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ١١٦] فطلب غفرانهم جار مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده ، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله : (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ـ فقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآيتان. وقيل عن ابن عباس : لما افتتح صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهدا أي آخرهما موتا؟ فقيل : أمك آمنة. فزار صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبرها ثم قام باكيا فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن

٥٣٨

لي فيه ونزل عليّ (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية. فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل : هذا أصح لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا ، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام. ويمكن أن يوجه الأول بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله بقي مستغفرا إلى حين نزول الآية. ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه ، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ) لإبراهيم (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الاستغفار. ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه‌السلام ويوافقه قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة وذلك في قوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه. وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران ، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان. وقيل : المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) [التوبة : ٨٤] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة. ثم ختم الآية بقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) قال أهل اللغة : أوّاه «فعال» مأخوذ من حروف «أوه» كلمة يقولها المتوجع ، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الأوّاه الخاشع المتضرع» والحلم ضد السفه ، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى. ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضلالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ما يجب عليهم أن يحتزروا عنه. والحاصل أن الله لا يسمي قوما ضلالا بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره ، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما. وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلا في حكم الضلال. ثم قال : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) والمراد أن من كان عالما قادرا هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر. قالت المعتزلة : وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب. وأجيب بأن له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة ، وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

٥٣٩

وَالْأَرْضِ) فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهارا للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال : وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي.

ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) الآية. ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول : أن قبول التوبة دليل سبق الذنب ، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. والجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني : ما المراد بساعة العسرة؟ فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدا في ذلك السفر ، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة ، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) [التوبة : ٨١] وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] الثالث : ما معنى (كادَ يَزِيغُ) وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان : كاد زيد يخرج ، وكاد يخرج زيد. ومعنى الأول كاد زيد خارجا أي قارب الخروج ، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده ، والزيغ الميل عن الجادة قيل : قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم

٥٤٠