تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وأجيب عن قولهم «ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده» بأن قوله في آخر الآية : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير : كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل. وفيه أيضا دلالة على أن المراد من قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) هو أنه يضله عن الدين ، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله : «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (١) ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت. والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر ، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي. قال القاضي في تفسيره : روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية. قال : ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاء وقدرا وخلقا لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره ، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله. أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه. هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا : كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان ، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة ، ثم إنه لو ترك ذلك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية. يحكى أن

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٧. البخاري في كتاب المرضى باب ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٧. أحمد في مسنده (١ / ١٧٢ ، ١٧٤) ، (٦ / ٣٦٩).

١٦١

الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله ، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير ، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفيا عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز : إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ. قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد ، وآخر في غاية الفسق ، والثالث كان صبيا لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي : أما الزاهد ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ففي دركات النار ، وأما الصبي فمن أهل السلامة. فقال : قولي له إن الصبي لو أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي : لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك. فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي ، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد ، فقال الجبائي : يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك. فقال لها أبو الحسن : قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال : يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟ قال الراوي : فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيبا عن الجبائي قائلا : نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول : الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون : إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان. وقال البغداديون : إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله ، وعلى قول البغداديين فلله أن يقول : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته ، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق. وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلا لأنه ليس فعلا شاقا عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه ، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس. فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولا فليكن هاهنا

١٦٢

أيضا مقبولا وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم. وأورد على الشق الثاني أن قولنا : «تكليفه يتضمن مفسدة» ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق ، فمعناه إذا أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم. هذا تمام مناظرة الفريقين ، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر.

ثم قال : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) في المشار إليه وجوه منها : أنه المذكور في الآية المتقدمة. أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله ، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره. وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان. ومعنى (مُسْتَقِيماً) عادلا مطردا. وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. أو هو محذوف أي أحقه. وعن ابن عباس : يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك. وقال ابن مسعود : يعني القرآن. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر. قال في التفسير الكبير : قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وختم الآية بقوله : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي : تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أي دار الله يعني الجنة ، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل : الكعبة بيت الله : أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل : الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر. وقيل : السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة. ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم ، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله ، وأن النافع والضار ليس إلا هو

١٦٣

سبحانه ، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، ولم يكن أنسهم إلا به ، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) على أنه متكفل لجميع مصالحهم دينا ودنيا. ثم قال : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا ، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال : ويوم نحشرهم والمراد واذكر يوم كذا ، أو يوم نحشرهم قلنا ، أو متعلقة محذوف والتقدير : ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم ، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٧٤] (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال ؛ استكثر الأمير من الجنود. أما قوله : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفا فكما قال للجن تبكيتا ناسب أن يقول للإنس أيضا مثل ذلك توبيخا لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وفيه قولان : الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان : أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفردا وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمنا في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيما منهم للجن ؛ وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦]

١٦٤

وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم ، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الأجل؟ قيل : هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل : هو وقت التخلية والتمكين وقيل : وقت المحاسبة في القيامة (قالَ) الله تعالى في جوابهم (النَّارُ مَثْواكُمْ) مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثويا إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي : المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قيل : المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل : خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس : استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون «ما» بمعنى «من» وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه ، وقيل : المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم. وقال في الكشاف : أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله ، إن نفست عنك إلا إذا شئت ، فيكون قوله : «إلا إذا شئت» من أشد الوعيد مع تهكم لأنه إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم : هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. (عَلِيمٌ) بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول : إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعا للتسلسل ، وأيضا لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله : (هُوَ

١٦٥

وَلِيُّهُمْ) ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم وهذه مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم ، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال : جاء في بعض الكتب السماوية «أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم».

ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قال أهل اللغة : المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] على أن من الجن رسلا كالإنس ، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول البتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه. ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] والمراد بالاصطفاء هاهنا النبوّة بالإجماع. وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن. وأيضا لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الإنس ، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف : ٢٩] الآية. وقد يسمى رسول الرسول رسولا كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) [يس : ١٤] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود. وقال الواحدي : أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) [الرحمن : ٢٢] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب. وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى الجن والإنس. أما قوله : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يخوفونكم

١٦٦

عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بدا من الاعتراف فلذلك (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون ؛ فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وعن حالهم في الآخرة بقوله : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة.

التأويل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) في حالة العدم (فَأَحْيَيْناهُ) بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت (وَجَعَلْنا لَهُ) نور الوجود الحقيقي الذي (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وبه يسمع وبه يبصر (كَمَنْ) هو محبوس (فِي الظُّلُماتِ) الطبيعة (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) أي كل قالب (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) من النفس والهوى والشيطان (لِيَمْكُرُوا فِيها) بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. (ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من القلب والسر والروح. (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان ، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقانا والإيقان عيانا والعيان عينا. (ضَيِّقاً) لتزاحم ظلمات صفات البشرية (حَرَجاً) لتعلقاته بالدنيا وشهواتها (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. (وَهذا) الذي بينا من الهداية والضلالة (صِراطُ رَبِّكَ) باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) أي الصفات الشيطانية (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي غلبتم على الصفات الإنسانية (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يعني النفس الأمارة (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها ، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم كما استعان بحواء على إغواء آدم. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضا بقضاء الله إلا أن يشاء الله فيتوب عليهم (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في تقدير الاستمتاع (عَلِيمٌ) بأهل الجنة

١٦٧

وبأهل النار ، (وَكَذلِكَ) أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) يعني الإلهامات الربانية. وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٣٩ ، ٤٠] وما التوفيق إلا منه.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

القراآت : عما تعملون بتاء الخطاب : ابن عامر مكاناتكم بالجمع حيث كان : أبو بكر وحماد. الباقون (مَكانَتِكُمْ) على التوحيد. من يكون بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بتاء التأنيث. (بِزَعْمِهِمْ) بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون : بالفتح (زَيَّنَ) على البناء للمفعول (قَتْلَ) بالرفع (أَوْلادِهِمْ) بالنصب شركائهم بالجر : ابن عامر. الآخرون (زَيَّنَ) على البناء للفاعل (قَتْلَ) بالنصب (أَوْلادِهِمْ) بالجر

١٦٨

(شُرَكاؤُهُمْ) بالرفع وإن تكن بتاء التأنيث : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد (مَيْتَةً) بالرفع : ابن كثير وابن عامر ويزيد ، وقرأ (مَيْتَةً) بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون : بالتخفيف.

الوقوف : (غافِلُونَ) ه (مِمَّا عَمِلُوا) ط (يَعْمَلُونَ) ه (ذُو الرَّحْمَةِ) ط (آخَرِينَ) ه (لَآتٍ) لا لأن الواو بعده للحال (بِمُعْجِزِينَ) ه (عامِلٌ) ج لابتداء التقرير مع فاء التعقب (تَعْلَمُونَ) ه لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة (عاقِبَةُ الدَّارِ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (لِشُرَكائِنا) ج للشرط مع الفاء (إِلَى اللهِ) ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكما (شُرَكائِهِمْ) ط (يَحْكُمُونَ) ه (دِينَهُمْ) ط (يَفْتَرُونَ) ه (افْتِراءً عَلَيْهِ) ط (يَفْتَرُونَ) ه (أَزْواجِنا) ج للشرط مع العطف. (شُرَكاءُ) ط (وَصْفَهُمْ) ط (عَلِيمٌ) ه (عَلَى اللهِ) ط (مُهْتَدِينَ) ه.

التفسير : (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره (أَنْ لَمْ يَكُنْ) وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك ، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و «أن» هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة ، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفا أي أن الحديث كذا ، ويجوز أن يكون ، (أَنْ لَمْ يَكُنْ) بدلا من (ذلِكَ) كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر : ٦٦] ومعنى قوله : (بِظُلْمٍ) أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة. أو المراد ظالما لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة. ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالما. وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلما ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازا وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما قوله : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحدا على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها. والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله : (بِظُلْمٍ) إن كان عائدا إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة ، وإن كان عائدا إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه. ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر

١٦٩

كلاما كليا فقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) أي ولكل عامل في عمله درجات ، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومعنى (مِمَّا عَمِلُوا) أي من جزاء أعمالهم. وقيل : إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قالت الأشاعرة : في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين ، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإشهاده محال. ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده ، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو ، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه ، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة. والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث. ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات. ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى بقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم ، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم. ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي : من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون ، إلا على طريق البدل من فائت ، وقوله : (ما يَشاءُ) أي خلق ثالث ورابع. ثم اختلفوا فقال بعضهم : خلقا آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع ، وقال أبو مسلم : يعني خلقا ثالثا مخالفا للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة. ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها. وقال في الكشاف : المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه‌السلام ، ثم ذكر حال المعاد فقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) قال الحسن : أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، ويحتمل أن يقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة.

١٧٠

وقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي خارجين عن قدرتتا وحكمنا إشارة إلى قهره ، يقال : أعجزه الشيء أي فاته. فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب. ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديد منكري البعث فقال : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) قال الواحدي : قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال ، وقال في الكشاف : المكانة تكون مصدرا. يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين. وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة ، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أينا تكون له العاقبة المحمودة ، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك «قل» فصار استئنافا ومحل «من» نصب إن كان بمعنى «الذي» أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ و (عاقِبَةُ الدَّارِ) العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له.

ثم حكى أنواعا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيها على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيرا للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالهم فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) قال الزجاج : وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا بدليل قوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها. ثم قال : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) وفي تفسيره وجوه : قال ابن عباس : كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا ، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة. ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا ، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير. وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وعن الحسن والسدي : كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى. وقال مجاهد : إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عزوجل

١٧١

سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه ، وقال قتادة : إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم. وقال مقاتل : إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة. وقالوا : لو شاء زكى نصيب نفسه. وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة. فمعنى (فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك. وقوله : (مِمَّا ذَرَأَ) فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه. ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وذكر العلماء فيه وجوها : الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه. الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع. الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله (بِزَعْمِهِمْ) الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر. الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب ، فإفراز النصيب لها عبث. النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج ، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله ، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وعلى الثاني هم السدنة والخدام ، والأول قول مجاهد ، والثاني للكلبي. وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) بالوأد أو بالنحر. ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به ، وأما قراءة ابن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله : لله در اليوم من لامها وضعف بغير الظرف كقوله :

لله در اليوم من لامها

وضعف بغير الظرف كقوله :

فزججتها بمزجة

زج القلوص أبي مزاده

وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه ، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن

١٧٢

حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا ، وإن ورد فكثير أم لا؟ ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله :

بين ذراعي وجبهة الأسد

والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بالجر على تقدير عرض الآخرة ، فتقدير الآية : قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم. ومعنى (لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم بالإغواء. قال ابن عباس : ليردوهم في النار. واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة ، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق. وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه ، وقيل : وليوقعوهم في دين ملتبس (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) لما فعل المشركون ما زين لهم ، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جاريا مجرى اسم الإشارة. والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر. ثم قال : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) على قانون قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك. قيل : إنما قال في هذه الآية (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) ليكون مناسبا لقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) وقال فيما قبل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] الآيات. النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساما فأوّلها أن قالوا (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) وحجر «فعل» بمعنى «مفعول» كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح ، وفلان في حجر القاضي أي في منعه. كانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء (وَ) ثانيها أن قالوا : هذه (أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة. (وَ) ثالثها : (أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل : هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل (افْتِراءً عَلَيْهِ) وانتصابه

١٧٣

على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء. ثم قال : (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) والمقصود منه الوعيد ، (وَ) النوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن (قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) يعنون أجنة البحائر والسوائب (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) هذا إن ولد حيا (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) أي اشترك فيه الذكور والإناث ، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة ، ومن قرأ بالرفع فعلى أن «كان تامة» ، أو لأن التقدير : وإن يكن لهم أو هناك ميتة. وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي ، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكرا في قوله : (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) وتذكير الضمير في قوله : (فَهُمْ) للتغليب (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق. فإن قيل : كيف أنث (خالِصَةٌ) وذكر محرما؟ قلنا : الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة ، والثاني حمل على اللفظ ، وفي الأول وجهان آخران : أن تكون التاء للمبالغة مثل راوية الشعر وأن يكون مصدرا كالعاقبة والعاقبة أي ذو خالصة. ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية. وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه ، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين. وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، ولهذا سجل عليهم آخرا بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم.

التأويل : (مُهْلِكَ الْقُرى) أي قرى أشخاص الإنسان (بِظُلْمٍ) وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية (وَأَهْلُها غافِلُونَ) لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد. (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة (ذُو الرَّحْمَةِ) خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم. و (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على ما جبلتم عليه (إِنِّي عامِلٌ) على ما جبلت عليه (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) من الشياطين والنفس والهوى والدنيا (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع ، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا

١٧٤

أَوْلادَهُمْ) لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر ، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد. وقال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

القراآت : (حَصادِهِ) بفتح الحاء : أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب ، الباقون : بالكسر وكلاهما مصدر (مِنَ الضَّأْنِ) بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية

١٧٥

والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف. (وَمِنَ الْمَعْزِ) ساكن العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه ، الباقون : بفتحها إلا أن تكون بتاء التأنيث : ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس من طريق ابن رومي عنه. (مَيْتَةً) بالتخفيف والرفع : ابن عامر وزاد يزيد التشديد. الباقون : بالياء وبالنصب. (الْحَوايا) ممالة : علي وحمزة وخلف. (فَقُلْ رَبُّكُمْ) وبابه مظهرا : الحلواني عن قالون والبرجمي.

الوقوف : (مُتَشابِهٍ) ط. (وَلا تُسْرِفُوا) ط (الْمُسْرِفِينَ) ه لا لأن قوله : (حَمُولَةً) منصوب بـ (أَنْشَأَ وَفَرْشاً) ط الشيطان ط (مُبِينٌ) ه لا لأن (ثَمانِيَةَ) منصوب بـ (أَنْشَأَ جَنَّاتٍ أَزْواجٍ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى (الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ط (أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ط لانتهاء الاستفهام (صادِقِينَ) ه لا لأن (اثْنَيْنِ) منصوب بـ (أَنْشَأَ) أيضا (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ط (أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ط لأن «أم» في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ) بمعنى ألف استفهام توبيخ. (بِهذا) ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى (عِلْمٍ) ط (الظَّالِمِينَ) ه. (لِغَيْرِ اللهِ) ج (رَحِيمٌ) ه (ظُفُرٍ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى. (بِعَظْمٍ) ط (بِبَغْيِهِمْ) ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقا. وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم. (واسِعَةٍ) ط لاختلاف الجملتين (الْمُجْرِمِينَ) ه (مِنْ شَيْءٍ) ط (بَأْسَنا) ط (لَنا) ط (تَخْرُصُونَ) ه (الْبالِغَةُ) ج للشرط مع الفاء (أَجْمَعِينَ) ه (حَرَّمَ هذا) ج لذلك (مَعَهُمْ) ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف (يَعْدِلُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة ، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيها على ضعف عقولهم ، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع ، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القبضان. وقيل : كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعضها يبقى على

١٧٦

وجه الأرض منبسطا كالقرع والبطيخ. وقيل : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه ، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش. وقيل : المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه ، وغير معروشات ما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال فيبقى غير معروش. (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي تقتات (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) والأكل كل ما يؤكل والمراد هاهنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] أي إليهما. والمراد أن لكل شيء منهما طعما غير طعم الآخر و (مُخْتَلِفاً) حال مقدّرة أي أنشأه مقدّرا اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) في القدر واللون والطعم. ثم قال (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية إلى قوله (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) [الأنعام : ٩٩] تنبيها على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية ، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة. وفائدة هذا الأمر الإباحة ، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه. وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق ، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير. وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله : (كُلُوا) خطاب عام يتناول الكل ، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل ، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى ، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام. قال علماء الأصول : من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل ؛ فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، وفائدة قوله : (إِذا أَثْمَرَ) وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع ، أما قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك ، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل. والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء ، وقال مجاهد : الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول : إذا حصدت فحضرك

١٧٧

المساكين فاطرح لهم منه ، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس في المال حق سوى الزكاة» (١) وبأن قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال. وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ ، والقول الأول أصح. ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال : (وَآتُوا حَقَّهُ) بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان. واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع. وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل. واحتج هو أيضا بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق ، والجواب أن بيانه في الحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (٢). ثم قال تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) ولأهل اللغة فيه تفسيران : فعن ابن الأعرابي : السرف تجاوز ما حد لك. فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف كما جاء في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (٣) وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فنزلت الآية (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب ، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط. وقال عمر : سرف المال ما ذهب منه في غير منفعة. وعلى هذا فقد قال مقاتل : معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث. وقال الزهري : ولا تنفقوا في معصية الله تعالى. وعن مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما في معصية الله كان مسرفا ، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير. ثم ختم الآية بقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه. قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً) معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين. فالحمولة ما يحمل الأثقال

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٣.

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٦. البخاري في كتاب الزكاة باب ٣٢ ، ٤٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٧. الموطأ في كتاب الزكاة حديث ١ ، ٢. أحمد مسنده (٢ / ٩٢).

(٣) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ١٨. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٣٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٥١٨ ـ ٥٣. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢١ ، ٢٢. أحمد في مسنده (٢ / ٤ ، ١٥٢). (٣ / ٣٣٠ ، ٣٤٦).

١٧٨

«فعولة» بمعنى «فاعلة» والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى «مفعول». وقيل : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) قالت المعتزلة : أي مما أحلها لكم (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) بين العداوة. وفي انتصاب (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وجهان : قال الفراء : هو بدل من قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً). وجوز غيره أن يكون مفعول (كُلُوا) والعرب تسمي الواحد فردا إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجا وهما زوجان ، قال عز من قائل : (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥] وقال : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ثم فسرها بقوله : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أي زوجين اثنين (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) وفي الآية الثانية : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) قال الجوهري : الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر. وضأن أيضا مثل حارس وحرس. وقال في الكشاف : إنه قرىء بفتح العين. والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) نصب بقوله : (حَرَّمَ) والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش ، والذكر من المعز وهو التيس ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة ، والأنثى من المعز وهي العنز ، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة. ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين ، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا ، أو من خلط تارة وكانوا يقولون : قد حرمها الله فقيل لهم : إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الله حرمه.

واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيدا وتشديدا للتحليل ، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد ، أما قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) فـ «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار

١٧٩

وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى أمثالهم بالظلم بقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. قال المفسرون : يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيّر شريعة إسماعيل عليه‌السلام وبحّر البحائر وسيّب السوائب. والأقرب أن اللفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي : في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال القاضي : لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدى بها. وقالت الأشاعرة : معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) أي طعاما محرما (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) على آكل يأكله (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام (مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) مصبوبا سائلا. قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي ترى فيها حمرة الدم فقال : لا بأس به إنما النهي عن الدم المسفوح. وباقي الآية ظاهر مما سلف في أمثالها ، وانتصاب (فِسْقاً) على أنه معطوف على المنصوبات قبله ، و (أُهِلَ) صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقا لتوغله في باب الفسق كما يقال : فلان كرم وجود. وجوز أن يكون (فِسْقاً) مفعولا له من (أُهِلَ) وعلى هذا فقد عطف (أُهِلَ) على (يَكُونَ) والضمير في (بِهِ) يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في (يَكُونَ) قالت العلماء : إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآنا أو غيره محرما سوى هذه الأربعة ، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة «إنما» الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية ، والذي جاء في المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلى قوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [الآية : ٣] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم. وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات

١٨٠