والتصاريف اللغوية يخفى عليه الفرق بين «التسوية» و «المساواة».

إن الذين يصرفون قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ولا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» إلى معنى ساويته بالأرض أي «هدمته» أولئك قوم أيفت أفهامهم ، وسخفت أذهانهم ، وضلت ألبابهم ، ولم يكن من العربية لهم ولا قلامة ظفر فكيف بعلمائهم؟!

ولا يخفى على عوام العرب أن تسوية الشئ عبارة عن تعديل سطحه أو سطوحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره أو تحديبه أو تسنيمه وما أشبه ذلك من المعاني المتقاربة (١٤) والألفاظ المترادفة ، فمعنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا تدع قبرا مشرفا ـ أي : مسنما ـ إلا سويته ـ أي ـ سطحته وعدلته ـ» وليس معناه : إلا هدمته وساويته بالأرض كي يعارض ما ورد من الحث على زيارة القبور واستحباب إتيانها ، والترغيب في تشييدها ، والتنويه بها ، وذلك المعنى ـ أعني أن المراد من تسوية القبر تسطحيه وعدم تسنيمه ـ كان هو الذي فهمته من الحديث أول ما سمعته بادئ بدء وعند أول وهلة ، ثم راجعت الكتاب ـ أعني صحيح مسلم ـ ونظرت الباب فوجدت صاحب الصحيح ـ مسلم ـ قد فهم ما فهمناه من الحديث حيث عنون الباب قائلا : (باب تسوية القبور) وأورد فيه أولا بسنده إلى تمامه قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يأمر بتسويتها (١٥) ثم أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي الهياج المتقدم : «ولا قبرا مشرفا إلا سويته».

وكذلك فهم شارحو صحيح مسلم وإمامهم النووي الشهير ، وها هو بين أيدينا يقول في شرح تلك الجملة النبوية ما نصه : فيه : أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن

__________________

(١٤) معجم مقاييس اللغة ٣ / ١١٢ (سوى).

(١٥) صحيح مسلم ٢ / ٦٦٦ باب ٣١ / ح ٩٢.