محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

كما في آيتي الحج والوضوء وما شاكلهما ، فالتقييد في مثل ذلك لا محالة يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً ، ضرورة أنّها لو لم تكن دخيلة فيه في مقام الثبوت والواقع لم يكن معنى لأخذها في متعلقه في مقام الاثبات والدلالة ، وعلى ذلك يترتب أنّه بانتفاء القدرة ينتفي الملاك ، لاختصاصه بخصوص الحصة المقدورة دون الأعم ، وعليه فلا يمكن تصحيح الوضوء بالملاك في موارد الأمر بالتيمم.

ومرّة اخرى لم تؤخذ في متعلقه في مرتبة سابقة على الطلب ، بل كان اعتبارها فيه من ناحية تعلق الطلب به ، سواء أكان باقتضاء نفس الطلب ذلك أو من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، فالتقييد في مثل ذلك بما أنّه كان في مرتبة لاحقة وهي مرتبة عروض الطلب ، فيستحيل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة على تلك المرتبة وهي مرتبة معروضه.

أو فقل : إنّ الطبيعة التي يتعلق بها الطلب وإن كانت مقيدة بالقدرة عليها حال تعلقه بها ، إلاّ أنّها مطلقة في مرتبة سابقة عليه ، ومن الواضح أنّ إطلاقها في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك ، وأ نّها باطلاقها واجدة للملاك التام ، وإلاّ لكان على المولى تقييدها في تلك المرتبة. إذن فمن الاطلاق في مقام الاثبات يستكشف الاطلاق في مقام الثبوت.

أقول : هذا البيان بعينه يجري فيما نحن فيه ، فانّ متعلق النذر في مرتبة سابقة على عروض النذر عليه ، ووجوب الوفاء به مطلق ، والتقييد إنّما هو في مرتبة لاحقة ، وهي مرتبة عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به ، وقد عرفت أنّ مثل هذا التقييد لا يكشف عن دخل القدرة في المتعلق ، ضرورة أنّه لا يصلح أن يكون بياناً ومقيداً للاطلاق في مرتبة سابقة عليه ، إذن ذات الفعل الذي هو معروض الالتزام النذري واجد للملاك على إطلاقه ، والمفروض عدم الدليل على تقييده في تلك المرتبة بخصوص الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة.

٦١

وعلى الجملة : فما أفاده قدس‌سره هنا من أنّ اعتبار القدرة في متعلق النذر باقتضاء نفس الالتزام به يلازم اعتبار القدرة في متعلق الوجوب شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بالفعل المقدور ، لايلائم ما ذكره هناك من التفرقة بين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً واعتبارها فيه باقتضاء نفس التكليف أو من جهة حكم العقل به من باب قبح تكليف العاجز كما عرفت.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ الدليل على اشتراط وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه بالقدرة شرعاً هو ما دلّ على تقييده بعدم كونه مخالفاً للكتاب أو السنّة مرّة ، وبعدم كونه محللاً للحرام مرّة اخرى.

ونتيجة ذلك أنّها لا تنعقد إذا كان الوفاء بها مستلزماً لترك واجب أو فعل محرّم ، لانطباق عنوان محلل الحرام عليه ، ومن الواضح أنّ هذا عين اعتبار القدرة في متعلقه شرعاً ، وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ الصحيح في وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعاً هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره كما مرّ.

وأمّا النقطة السادسة : وهي أنّ الاكتفاء في صحة النذر برجحان متعلقه في مقام العمل ولو باعتبار تعلق النذر به ، يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر ، فيردّها أنّ ما ذكره السيِّد قدس‌سره في العروة لا يستلزم ما أفاده ، والوجه فيه هو أنّه لا إشكال في اعتبار رجحان متعلق النذر في صحته ، وأ نّه لا بدّ أن يكون راجحاً ولو من جهة تعلق النذر به ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّه لا يمكن أن يقتضي وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه ، ضرورة استحالة اقتضاء الحكم لوجود شرطه وتحقق موضوعه في الخارج.

٦٢

فالنتيجة على ذلك : هي أنّ رجحان متعلق النذر مرّة يكون باقتضاء ذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان عليه ، ومرّة اخرى يكون بعروض عنوان خارجي طارئ عليه ، ولا يكون ذلك إلاّباقتضاء دليل خارجي ولا ثالث لهما ، بمعنى أنّ الشيء إذا لم يكن في نفسه راجحاً ، فصحة تعلق النذر به تحتاج إلى دليل من الخارج يدل على صحة النذر الكاشفة عن طروء الرجحان عليه ، فان دلّ دليل على صحته كما هو الحال في الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ، حيث قد قام الدليل من الخارج على صحة نذرهما ، مع أنّهما ليسا براجحين في نفسهما ، فنلتزم بها ، وإلاّ فلا. ومراد السيِّد قدس‌سره من الرجحان الجائي من قبل النذر هو ما ذكرناه من قيام الدليل الخارجي على صحة النذر الكاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوي وهو عنوان تعلق النذر به ، وليس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء بالنذر ليلزم منه جواز تحليل المحرّمات ، لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب الوفاء بالنذر ذلك ، أعني رجحان متعلقه.

فما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره على السيِّد قدس‌سره إنّما يتمّ لو كان مراده من الرجحان الناشئ من قبل النذر ، الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.

وعلى هذا البيان قد ظهر أنّ ما ذكره السيِّد قدس‌سره في العروة لا يستلزم جواز تحليل المحرّمات بالنذر ، ضرورة أنّ ما أفاده قدس‌سره أجنبي عن ذلك تماماً ، وخاص بما إذا قام دليل على صحة النذر.

وإن شئت فقل : إنّ إطلاق أدلة المحرّمات كافية لاثبات عدم الرجحان ، والمفروض أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضي رجحان متعلقه كما عرفت. ومن الواضح جداً أنّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه أبداً.

نعم ، إذا قام دليل على صحة تعلق النذر بفردٍ ما من أفراد المحرّمات ، فلا

٦٣

مناص من الالتزام بصحته وانعقاده ، وتقييد إطلاق دليل التحريم بغير هذا الفرد ، ولا يفرق فيه بين القول باعتبار رجحان متعلقه في نفسه ، والقول بكفاية الرجحان الناشئ من تعلق النذر به ، ضرورة أنّه على كلا القولين لا مناص من الالتزام بالصحة ، غاية الأمر على القول الأوّل يلزم أن يكون الدليل المزبور مخصصاً لأدلة اشتراط صحة النذر بكون متعلقه راجحاً في نفسه دون القول الثاني ، ولكن لا تترتب على ذلك أيّة ثمرة عملية.

وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة امور :

الأوّل : أنّ وجوب الحج ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً ، فانّه يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً ، ولكنّك عرفت أنّه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات الواردة في تفسيرها وبيان المراد منها ، حيث إنّها قد فسّرت في تلك الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق ، وفي بعضها وإن زاد صحة البدن أيضاً ولكن من المعلوم أنّها ليست شرط الوجوب مطلقاً ، بل هي شرط له على نحو المباشرة ، ونتيجة ذلك هي أنّه عند وجود الزاد والراحلة وأمن الطريق يجب الحج ، سواء أكان هناك واجب آخر أم لم يكن.

وعلى هذا الأساس فلا مجال لتوهم أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً ، فانّ منشأ هذا التوهم ليس إلاّ التفسير المزبور ، وقد عرفت أنّه تفسير غير مطابق للواقع. فإذن يتقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر في مقام المزاحمة وإن فرض أنّ وجوب الوفاء بالنذر سابق عليه زماناً ، لما مضى من أنّ الواجب المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعاً مطلقاً ، أي سواء أكان في عرضه أو سابقاً عليه بحسب الزمان أو متأخراً عنه.

٦٤

أمّا وجه تقديمه في الصورتين الاوليين فواضح ، لفرض أنّ التكليف به بما أنّه فعلي يكون معجّزاً مولوياً بالاضافة إلى الآخر وموجباً لانتفائه بانتفاء موضوعه ، دون العكس.

وأمّا في الصورة الأخيرة ، فلأنّ المفروض أنّ ملاكه حيث إنّه تام في ظرفه فلا يجوز تفويته ، إذ لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما أنّ الأوّل قبيح عنده فكذلك الثاني ، وعليه فيجب التحفظ على ملاكه وعدم تفويته ، وبما أنّ الاتيان بالواجب الآخر موجب لتفويته فلا يجوز ، وهذا معنى عدم قدرة المكلف على إتيانه شرعاً.

الثاني : أنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على صحة التفسير المزبور ، فأيضاً لا وجه لتقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه عليه ، وذلك لما عرفت من عدم دخول ذلك في كبرى تزاحم واجبين كان أحدهما أسبق زماناً من الآخر ، فانّ العبرة في ذلك إنّما هي بتقدم أحد الواجبين على الآخر زماناً كما مرّ ، ولا عبرة بتقدم سبب وجوب أحدهما على سبب وجوب الآخر ، أو بتقدم حدوث وجوب أحدهما على حدوث وجوب الآخر بعد كونه مزاحماً به بقاءً.

الثالث : أنّه لو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ وجوب الوفاء بالنذر وما شاكله مقدّم على وجوب الحج زماناً ، فمع ذلك لا وجه لتقديمه عليه ، وذلك لما عرفت من الوجهين المتقدمين ، ونتيجتهما هي أنّ حصول الاستطاعة في زمن متأخر كاشف عن بطلان النذر من الأوّل وعدم انعقاده.

ومن ذلك البيان قد ظهر فساد ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب الجواهر قدس‌سره (١) من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج ،

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ٢٥٨

٦٥

بملاك أنّ النذر مقدّم عليه زماناً ، فيكون رافعاً للاستطاعة ، ولا عكس. أو فقل : إنّ وجوب الوفاء به مطلق ووجوب الحج مشروط فلا يمكن أن يزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق.

ووجه فساده ما عرفت من منع ذلك صغرى وكبرى ، فلا حاجة إلى الاعادة.

ثمّ إنّه من الغريب ما صدر عن السيِّد الطباطبائي قدس‌سره في العروة في المسألة ٣٢ من مسائل الحج وإليك نص كلامه : إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه‌السلام في كل عرفة ، ثمّ حصلت لم يجب عليه الحج ، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا مقداراً ، فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه ، بل وكذا لو نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فان هذا كلّه مانع عن تعلق وجوب الحج به ، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج ، ثمّ حصلت الاستطاعة ، وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج ، لأنّ العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب.

وأمّا لو حصلت الاستطاعة أوّلاً ، ثمّ حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينه وبين الحج يكون من باب المزاحمة ، فيقدّم الأهم منهما ، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج ، وحينئذ فان بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحج فيه وإلاّ فلا ، إلاّ أن يكون الحج قد استقرّ عليه سابقاً فانّه يجب عليه ولو متسكعاً (١).

ثمّ قال في مسألة اخرى ما لفظه : النذر المعلق على أمر قسمان ، تارةً يكون

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٤٢ [٣٠٢٩]

٦٦

التعليق على وجه الشرطية ، كما إذا قال إن جاء مسافري فلله عليّ أن أزور الحسين عليه‌السلام في عرفة ، وتارةً يكون على نحو الواجب المعلق كأن يقول : لله عليّ أن أزور الحسين عليه‌السلام في عرفة عند مجيء مسافري ، فعلى الأوّل يجب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره ، وعلى الثاني لا يجب ، فيكون حكمه حكم النذر المنجّز في أنّه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحج ، سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها ، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحج من دون فرق بين الصورتين ، والسر في ذلك أنّ وجوب الحج مشروط والنذر مطلق ، فوجوبه يمنع عن تحقق الاستطاعة (١).

أقول : نتيجة ما ذكره قدس‌سره امور :

الأوّل : أنّ وجوب الوفاء بالنذر يتقدّم على وجوب الحج مطلقاً ، إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة ، وكان منجّزاً ثمّ حصلت الاستطاعة ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج وهو الاستطاعة ، فلا يكون المكلف معه قادراً على أداء فريضة الحج شرعاً.

الثاني : أنّه إذا كان هناك واجب مطلق فوري قبل تحقق الاستطاعة ، ثمّ تحققت ولم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين الحج ، قدّم ذلك الواجب على الحج وإن لم يكن أهم منه.

الثالث : أن يكون وجوب الحج مزاحماً بواجب فوري بعد حصول الاستطاعة ، ففي مثل ذلك يقدّم الأهم ، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج.

الرابع : أنّ النذر المعلق إذا كان على نحو الواجب المشروط فلا يكون مانعاً عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط ، وإن كان على نحو

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٤٣ المسألة ٣٣ [٣٠٣٠]

٦٧

الواجب المعلق ، بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ، فيكون مانعاً عن وجوب الحج ولو كان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق عليه في الخارج.

ولكنّ للمناقشة في هذه الامور مجالاً :

أمّا الأمر الأوّل : فقد ظهر فساده مما قدّمناه بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا الأمر الثاني : فانّ الواجب المطلق الفوري الثابت على ذمة المكلف لا يخلو من أن يكون مشروطاً بالقدرة عقلاً ، أو يكون مشروطاً بها شرعاً.

فعلى الفرض الأوّل ، فإن كان أهم من الواجب الآخر وهو الحج في مفروض المثال ، فلا إشكال في تقديمه عليه مطلقاً ، أي سواء أكان سابقاً عليه زماناً أم مقارناً معه أم متأخراً عنه ، والوجه فيه ما سيأتي بيانه إن شاء الله (١) من أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً ، ولو كان متأخراً عنه ، وعلى هذا فلا أثر لفرض كون ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده كما عن السيِّد قدس‌سره بل لا أثر لفرض كونه قبل زمان الواجب الآخر وهو الحج ـ هنا ـ أو بعده ، فانّه يتقدّم عليه في مقام المزاحمة على جميع هذه التقادير والفروض.

وإن كان بالعكس بأن يكون وجوب الحج أهم من ذلك الواجب الآخر فلا إشكال في تقديمه عليه ، بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو مقارناً معه أو متأخراً عنه ، والوجه في ذلك : ما ذكرناه من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً لا شرعاً ، من جهة ما عرفت من أنّ الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد والراحلة مع أمن الطريق ، وليست عبارة عمّا هو المشهور من التمكن من أداء

__________________

(١) في ص ٧٦

٦٨

فريضة الحج عقلاً وشرعاً لتكون نتيجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعية. وعلى هذا لايفرق بين فرض كون وجوب ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت أو بعده ، وسيجيء بيان ذلك من هذه الجهة بصورة مفصلة.

وأمّا إذا كان الواجبان متساويين ، بأن لا يكون أحدهما أهم من الآخر ولا محتمل الأهمّية ، فيتخيّر المكلف بين صرف قدرته في امتثال هذا وصرفها في امتثال ذاك على ما سنبيِّن إن شاء الله تعالى.

وعلى الفرض الثاني ، وهو ما إذا كان الواجب المطلق مشروطاً بالقدرة شرعاً ، لا إشكال في تقديم فريضة الحج عليه ولو كانت الاستطاعة متأخرة عنه زماناً ، وذلك لما عرفت من أنّ الواجب المشروط بالقدرة شرعاً لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلاً ، وبما أنّا قد ذكرنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فيتقدّم عليه مطلقاً ولو كان متأخراً عنه.

ومن ذلك يظهر حال الأمر الثالث أيضاً فلا حاجة إلى البيان.

فما أفاده السيِّد قدس‌سره من التفرقة بين كون الواجب المطلق الفوري ثابتاً في الذمة قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت ، وكونه ثابتاً فيها بعد حصولها ، وأ نّه على الأوّل يتقدّم على الحج مطلقاً ، وعلى الثاني لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين ، لا يرجع إلى معنىً صحيح ، لما عرفت من أنّه لا عبرة بالتقدّم أو التأخّر الزماني أصلاً.

وأمّا الأمر الرابع : فيظهر فساده مما تقدّم من أنّ النذر مطلقاً ـ أي سواء أكان على نحو الواجب المشروط أم على نحو الواجب المعلق ، بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ـ لا يكون مانعاً عن وجوب الحج ، بل قد عرفت أنّ وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه.

٦٩

وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب ـ من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة ، باعتبار أنّ وجوبه مطلق ووجوب الحج مشروط ، فهو رافع لموضوعه ومانع عن حصول شرطه ـ لا أصل له ، ولا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا كان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعاً عرضيين ، فهل يلاحظ فيه الترجيح فيقدّم الأهم على غيره أم لا؟ ثمّ على فرض عدم ملاحظة الترجيح بينهما ، وعدم تقديم الأهم على غيره ، فهل التخيير الثابت بينهما عقلي أو شرعي ، فهنا مقامان :

الأوّل : أنّ كبرى مسألة تقديم الأهم على غيره هل تنطبق على المقام ـ وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ـ أم لا؟

الثاني : أنّ الحاكم بالتخيير بينهما في صورة تساويهما أو من جهة أنّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره هل هو الشرع أو العقل؟.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) إلى أنّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره ، وقد أفاد في وجه ذلك أنّ الأهمّية إنّما تكون سبباً للتقديم فيما إذا كان كل من الواجبين واجداً للملاك التام فعلاً ، وأمّا في مثل مقامنا هذا حيث يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً فيستحيل أن يكون كل منهما واجداً للملاك بالفعل ، لفرض أنّ القدرة دخيلة فيه ، والمفروض هنا أنّه لا قدرة للمكلف على امتثال كليهما معاً ، والقدرة إنّما هي على امتثال أحدهما دون الآخر ، وعليه فيكون الملاك في أحدهما لا في غيره ، ومن الظاهر أنّ أهمّية طرف لاتكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر ، ضرورة أنّا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤١

٧٠

كما نحتمل أن يكون الملاك فيه كذلك نحتمل أن يكون في الطرف الآخر ، ومجرّد كونه أهم على فرض وجود الملاك فيه لا يكون دليلاً على تحققه ووجوده فيه واقعاً وحقيقة ، دون ذلك الطرف.

وبتعبير ثان : حيث إنّ المفروض اشتراط كل من الواجبين بالقدرة شرعاً وأنّ لها دخلاً في الملاك ولا ملاك بدونها ، فلا محالة يكون كل منهما صالحاً لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من جهة عدم القدرة عليه بحكم الشارع ، من دون فرق فيه بين أن يكون الملاكان متساويين أو يكون أحدهما أهم من الآخر على فرض وجوده وتحققه ، وعلى هذا فأهمّية طرفٍ لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر في مقام المزاحمة ، وذلك لصلاحية كل منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر ولو كان أحدهما أهم من الآخر ، ومجرد كون الملاك في طرفٍ أهم على تقدير وجوده لا يوجب كونه واجداً له دون الآخر ، فاذن لا وجه لتقديمه عليه في مقام التزاحم.

وأمّا المقام الثاني : فقد اختار قدس‌سره أنّ التخيير الثابت فيه تخيير شرعي لا عقلي ، غاية الأمر أنّه قد كشف عنه العقل ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ كلاً من الواجبين واجد للملاك في ظرف القدرة عليه عقلاً وشرعاً ، وأمّا إذا وقع التزاحم بينهما فيكون أحدهما لا بعينه واجداً للملاك دون الآخر.

أو فقل : إنّ في فرض التزاحم بما أنّ أحدهما لا بعينه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً ، لعدم المانع منه لا من قبل العقل ولا من قبل الشرع ، فلا محالة يكون واجداً للملاك الالزامي ، فاذا كان واجداً له فلا مناص من الالتزام بايجابه ، بداهة أنّه لا يجوز للمولى الحكيم أن يرفع اليد عن التكليف به مع فرض كونه واجداً للملاك بمجرد عجز المكلف عن امتثال كليهما معاً ، وعليه فلا مناص من الالتزام بوجوب واحد منهما لا معيّناً ، لاستقلال العقل بقبح ترخيص المولى في

٧١

تفويت الملاك الملزم ، ونتيجة إيجابه هي التخيير شرعاً ، أعني به وجوب هذا أو ذاك.

وخلاصة ما أفاده قدس‌سره نقطتان :

الاولى : أنّ أهمّية أحد واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ليست من المرجحات ، فالوظيفة هي التخيير بينهما مطلقاً.

الثانية : أنّ التخيير الثابت بينهما شرعي لا عقلي.

ولكن كلتا النقطتين خاطئة :

أمّا النقطة الاولى : فيردّها أنّ مناط تقديم الأهم على المهم في محل الكلام وترجيحه عليه في مقام المزاحمة لا يكون بملاك أنّه واجد للملاك دون غيره ، ليقال بعدم إحرازه فيه في هذا المقام ، بل هو بمناط آخر.

بيانه : أنّ المانع عن تقديم الأهم على المهم في المقام لا يخلو من أن يكون عقلياً أو شرعياً فلا ثالث لهما. أمّا المانع عقلي ـ وهو عدم القدرة عليه تكويناً ـ فغير موجود بالضرورة ، إذ المفروض أنّه مقدور تكويناً ووجداناً ، وهذا واضح. وأمّا المانع الشرعي ـ وهو أمر الشارع بصرف القدرة في غيره الموجب للعجز عن صرفها فيه ـ فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لا نعني به إلاّ أمر الشارع باتيان شيء لايقدر المكلف معه على الاتيان بالأهم في الخارج ومقام الامتثال ، فمثل هذا الأمر لا محالة يكون مانعاً عن فعلية الأمر بالأهم ، ولكن المفروض هنا عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة في غير الأهم ليكون مانعاً عن فعلية أمره. فاذن لا مانع من الأخذ بالأهم وتقديمه على المهم أصلاً.

وعلى الجملة : فالمهم وإن كان مقدوراً عقلاً إلاّ أنّه من ناحية مزاحمته مع الأهم غير مقدور شرعاً ، وقد عرفت أنّ القدرة الشرعية دخيلة في متعلقه ،

٧٢

فلا يكون الأمر به فعلياً بدون تلك القدرة ، فاذا لم يكن الأمر المتعلق به فعلياً فلا مانع من فعلية الأمر بالأهم.

وممّا ذكرناه ظهر أنّه يمكن إحراز الملاك في الأهم وكونه واجداً له دون المهم ، والوجه في ذلك أنّ الأهم مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فواضح. وأمّا شرعاً فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لا مانع منه ما عدا تخيّل أنّ الأمر بالمهم مانع ، وقد عرفت أنّ هذا خيال لم يطابق الواقع ، وذلك لاستحالة كون الأمر بالمهم في حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعلياً ، ضرورة عدم قدرة المكلف في تلك الحال على امتثاله بحكم الشرع ، حيث إنّه يوجب تفويت واجب أهم منه ، ومن المعلوم أنّه لا يجوز امتثال ما يوجب تفويت ما هو أهم منه بنظر الشرع ، ونتيجة ذلك هي أنّه لا مانع من كون الواجب الأهم واجداً للملاك الملزم في هذا الحال لا عقلاً ولا شرعاً.

وعليه فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ وجود الملاك في كل منهما مشكوك فيه ، لصلاحية كل واحد منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من دون فرق بين تساوي الملاكين وكون أحدهما أهم من الآخر ، لايمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما عرفت من الضابط لتقديم الأهم على المهم في المقام من ناحية ، وكونه واجداً للملاك من ناحية اخرى ، وإن كانت الناحية الاولى مترتبة على الناحية الثانية ، كما هو واضح. هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما معلوم الأهمّية.

وأمّا إذا كان محتمل الأهمّية ، فهل يتقدّم في مقام المزاحمة على الطرف الآخر الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً كما هو الحال فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً أم لا؟ وجهان.

الظاهر أنّه لا مانع من التقديم ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف بعد ما

٧٣

لايتمكن من امتثال كلا الواجبين معاً ، ويتمكن من امتثال أحدهما دون الآخر ، فلا محالة يدور أمره بين امتثال أحدهما تخييراً ، وامتثال خصوص ما تحتمل أهمّيته ، وعليه فيدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال ، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير مقام الامتثال والحجية وإن كان الصحيح هو جريان البراءة عن التعيين ، إلاّ أنّ في هذين المقامين لا مناص من الاشتغال والالتزام بالتعيين ، وذلك لأنّ حصول البراءة بامتثال ما تحتمل أهمّيته معلوم ، إمّا من جهة التعيين أو التخيير ، وأمّا حصولها بامتثال ما لا تحتمل أهمّيته فغير معلوم ، ومن الواضح جداً أنّ العقل لايكتفي في مقام الامتثال بالشك فيه بعد اليقين بالتكليف ، بل يلزم بتحصيل اليقين بالبراءة عنه ، بقاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، وكذا الحال في مقام الحجية ، فانّ حجية ما يحتمل تعيينه معلومة ولا مناص من الالتزام به ، وحجية ما لايحتمل تعيينه مشكوكة ، وقد حققنا أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فعلاً ، وهذا هو السر في افتراق هذين المقامين عن غيرهما.

ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ الأهم وكذا محتمل الأهمّية من المرجحات في المقام ، كما أنّهما من المرجحات في واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً فحسب.

وأمّا النقطة الثانية : فيردّها أنّ المفروض قدرة المكلف على امتثال كل من الواجبين المتزاحمين في نفسه ، وفي ظرف ترك الآخر عقلاً وشرعاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الشارع لم يأمر بخصوص أحدهما المعيّن ، لأنّه ترجيح من دون مرجح.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّه لا مانع من أمر الشارع بكليهما

٧٤

طولاً وعلى نحو الترتب ، بأن يكون تعلق الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ومترتباً عليه ، بل لا مناص من الالتزام بذلك ، والوجه فيه هو أنّ الأمر في المقام يدور بين أن يرفع اليد عن إطلاق كل من دليليهما بتقييد الأمر في كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، وأن يرفع اليد عن أصل وجوب كل منهما رأساً ، ومن المعلوم أنّ المتعين هو الأوّل دون الثاني ، ضرورة أنّ رفع اليد عن أصل الأمر بهما بلا سبب ، إذ أنّه لا يقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاق كل منهما مع التحفظ على أصله.

ونتيجة ذلك هي الالتزام بالترتب من الجانبين ، بمعنى أنّ تعلق الأمر بكل من الفعلين مشروط بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، ولا مانع من ذلك أصلاً لا عقلاً كما هو واضح ، إذ المفروض أنّ كلاً منهما مقدور عقلاً في ظرف ترك امتثال الآخر والاتيان بمتعلقه ، ولا شرعاً لفرض أنّه ليس هناك أيّ مانع شرعي عن تعلق الأمر بكل واحد منهما في نفسه ، وفي ظرف ترك الآخر ، إذ المفروض أنّ كلاً من الفعلين في ذاته ومع قطع النظر عن الآخر سائغ ، ومعه لا مانع من تعلق الأمر بهما كذلك ، وبه نستكشف وجود الملاك في كل منهما في نفسه ، وعند ترك الآخر.

وعلى الجملة : فقد ذكرنا سابقاً أنّه لا فرق في جريان الترتب بين ما يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة عقلاً ، وما يكون مشروطاً بها شرعاً ، فكما أنّه يجري في الأوّل ، فكذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة.

ودعوى أنّ جريان الترتب في مورد يتوقف على إحراز الملاك فيه ، وهو في المقام لا يمكن ، لفرض دخل القدرة الشرعية فيه ، مدفوعة بما ذكرناه هناك من أنّ جريان الترتب لا يتوقف عليه ، ضرورة أنّ إحرازه لا يمكن إلاّبعد إثبات الأمر ، فلو توقف إثبات الأمر على إحرازه لدار ، كما قدّمناه بشكل واضح.

٧٥

فتحصّل : أنّه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا ، وقد تقدّم أنّه لا فرق في إمكان الترتب واستحالته بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين. وأمّا عدم التزام شيخنا الاستاذ قدس‌سره به في المقام مع أنّه من القائلين به مطلقاً من دون فرق بين أن يكون من طرف أو من طرفين ، فمن جهة ما بنى قدس‌سره على أصل فاسد ، وهو أنّ الترتب لا يجري فيما إذا كانت القدرة المأخوذ فيه شرعية كما عرفت.

وعلى هذا الأساس يترتب أنّ التخيير بينهما تخيير عقلي ، كالتخيير بين واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً ، فانّ المكلف بعد ما لا يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً فلا محالة يكون مخيراً بين امتثال هذا وامتثال ذاك بحكم العقل ، فلا موضوع عندئذ للتخيير الشرعي أصلاً. وتظهر الثمرة في المقام بين كون التخيير شرعياً وكونه عقلياً ، فيما إذا كان المكلف تاركاً لامتثال كلا الواجبين معاً ، فانّه على الأوّل يستحق عقاباً واحداً ، لوحدة التكليف على الفرض. وعلى الثاني يستحق عقابين ، لما عرفت من أنّ لازم القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التكليف ، وقد ذكرنا أنّه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب ، بل لا مناص عنه ، وأ نّه لا يكون عقاباً على ترك ما ليس بالاختيار ، فانّ تعدد العقاب من جهة الجمع بين التركين ، لا من جهة ترك الجمع بينهما ، وقد مرّ بيان ذلك بصورة واضحة فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة عقلاً ، فيقع الكلام فيه في مقامين :

الأوّل : فيما إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر ، أو محتمل الأهمّية.

الثاني : فيما إذا كانا متساويين.

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم ، سواء أكان الأهم

٧٦

مقارناً مع المهم زماناً أو سابقاً عليه أو متأخراً عنه. أمّا في الاوليين فواضح ، وذلك لأنّ التكليف بالأهم يصلح أن يكون معجّزاً مولوياً للمكلف بالاضافة إلى الطرف الآخر وهو المهم ، وأمّا التكليف بالمهم فلا يصلح أن يكون كذلك ، فتكون نسبته إلى الأهم كنسبة المستحب إلى الواجب ، فكما أنّ المستحب لا يصلح أن يزاحم الواجب في مقام الامتثال ، فكذلك المهم لا يصلح أن يزاحم الأهم.

أو فقل : إنّ التزاحم سواء أكان بين التكليفين أم بين الاطلاقين فلا محالة يوجب سقوط أحدهما دون الآخر ، إذ سقوط كليهما غير محتمل ، ضرورة أنّه بلا موجب ، وعليه فيدور الأمر بين سقوط المهم دون الأهم وبالعكس ، ومن الواضح جداً أنّ الثاني غير معقول ، لأنّه ترجيح المرجوح على الراجح ، فإذن يتعيّن الأوّل ، وهذا معنى تقديم الأهم على المهم ، وأمثلة ذلك في الشرع والعرف كثيرة :

منها : ما إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الاسلام مثلاً وواجب آخر ، فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني في مقام الامتثال.

ومنها : ما إذا دار الأمر بين حفظ نفس مؤمن مثلاً وحفظ ماله أو نحوه ، فلا ينبغي الشك في تقديم الأوّل على الثاني ، لكونه أهم منه وهكذا.

وأمّا في الصورة الأخيرة فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه هو أنّ الأهم وإن كان متأخراً عن المهم زماناً ، إلاّ أنّ ملاكه بما أنّه تام في ظرفه وأهم من غيره ، فلا محالة وجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلاّ يفوت ، ضرورة أنّ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي ، كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه ، وعلى هذا حيث إنّ الاتيان بالمهم فعلاً يوجب تفويت ملاك الأهم في ظرفه فلا يجوز ، فيكون حكم العقل بوجوب حفظ القدرة عليه في زمانه

٧٧

معجّزاً للمكلف بالاضافة إلى امتثال المهم بالفعل.

وبتعبير ثانٍ أنّ الحاكم بالترجيح في باب المزاحمة حيث إنّه كان هو العقل لا غيره ، فمن الواضح جداً أنّه مستقل بتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال مطلقاً ، ولو كان الأهم متأخراً عنه زماناً كما في مفروض المقام ، فانّه يحكم بلزوم حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه ، لئلاّ يلزم منه تفويت الملاك الملزم فيه ، ولا يحكم بلزوم الاتيان بالمهم فعلاً ، بل يحكم بعدم جواز الاتيان به ، لاستلزامه تفويت ما هو الأهم منه.

ومثاله ما إذا دار الأمر بين حفظ مال الانسان مثلاً فعلاً ، وحفظ نفسه في زمان متأخر ، بأن لا يقدر على حفظ كليهما معاً ، فلو صرف قدرته في حفظ ماله فعلاً فلا يقدر على حفظ نفسه ، ولو عكس فبالعكس ، كما إذا فرض أنّ الحاكم حكم بمصادرة أمواله فعلاً ، وهو وإن كان قادراً على حفظ ماله بالشفاعة عنده ، إلاّ أنّه يعلم بأ نّه يحكم بعد بضع ساعات بقتل نفسه ، فلو توسط عنده فعلاً لحفظ ماله ، فلا يقبل توسطه فيما بعد لحفظ نفسه ، لفرض أنّه لا يقبل توسطه في اليوم إلاّمرّة واحدة ، فاذن يدور أمره بين أن يحفظ نفسه في زمان متأخر ويرفع يده عن حفظ ماله فعلاً ، وأن يحفظ ماله فعلاً ويرفع يده عن حفظ نفسه فيما بعد ، ففي مثل ذلك لا إشكال في حكم العقل بترجيح الأوّل على الثاني ، وتقديمه عليه ، وكذا إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي آخر وحفظ نفس محترمة في زمان متأخر بأن لا يقدر المكلف على امتثال الأوّل وحفظ الثانية معاً ، فانّه لا إشكال في وجوب حفظ القدرة على الواجب المتأخر ، وهو حفظ النفس المحترمة ورفع اليد عن وجوب الواجب الفعلي ، وهكذا.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من تقديم الواجب الأهم على المهم فيما إذا كان متأخراً عنه زماناً بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب المعلق واضح ،

٧٨

حيث إنّ الوجوب فعلي على الفرض والواجب أمر متأخر ، ومن المعلوم أنّ فعلية الوجوب تكشف عن كون الواجب في ظرفه واجداً للملاك الملزم ، وقد عرفت أنّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الإلزامي ، فكما أنّه يحكم بقبح الأوّل ، فكذلك يحكم بقبح الثاني.

وعلى ذلك فان لم يكن ملاك الواجب المتأخر في ظرفه أهم من ملاك الواجب الفعلي وكانا متساويين ، فيحكم العقل بالتخيير بينهما ، وعدم ترجيح الواجب الفعلي على المتأخر ، لعدم العبرة بالسبق الزماني في المقام أصلاً.

وما ذكرناه سابقاً (١) من أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره ، إنّما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلاً ، ونقطة الفرق بينهما هي أنّه على الأوّل بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة شرعاً ، ففي فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زماناً على الآخر ، حيث إنّ ملاكه تام بالفعل من ناحية أنّه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً ، ومعه لا عذر له في تركه أصلاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا يجب احتفاظ القدرة على الواجب المتأخر ، لفرض أنّ القدرة دخيلة في ملاكه ، فيستحيل أن يقتضي احتفاظها.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لابدّ من الاتيان بالمتقدم زماناً دون المتأخر ، ومن الواضح أنّ الاتيان به يوجب عجزه عنه ، فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، وعلى الثاني بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة عقلاً ، فلا يكون سبق أحدهما زماناً على الآخر في فرض المزاحمة من المرجحات ، لما عرفت من أنّ ملاك الواجب المتأخر حيث إنّه تام في ظرفه

__________________

(١) في ص ٤٥

٧٩

ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يقتضي الاحتفاظ عليه في ظرفه في مقابل اقتضاء الواجب الفعلي.

وأمّا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من استحالة الواجب التعليقي وعدم إمكانه ، فتقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً يرتكز على إحراز الملاك فيه في ظرفه من دليل خارجي ، فإن علم من الخارج اشتماله على الملاك ، كما إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي كحفظ مال المولى مثلاً ، وواجب متأخر كحفظ نفسه أو حفظ بيضة الاسلام أو ما شاكل ذلك من الواجبات التي قد اهتمّ الشارع بها غاية الاهتمام على نحو الاطلاق من دون اختصاص بوقت دون آخر ، فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم وإن كان متأخراً عنه زماناً ، لتمامية ملاكه الالزامي في وقته ، وقد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة عليه في ظرفه ، وعدم جواز صرفها في الواجب الفعلي ، ففي أمثال هذه الموارد لا فرق بين نظريتنا ونظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره ضرورة أنّه لا أثر لفعلية الوجوب ما عدا كشفه عن اشتماله ـ أي الواجب المتأخر ـ على الملاك في ظرفه ، وإذا علمنا بتحقق الملاك فيه واشتماله عليه ، فلا أثر لفعلية الوجوب وعدمها.

وأمّا إذا لم يعلم من الخارج بوجود الملاك فيه ، كما إذا لم تكن قرينة خارجية تدل عليه ، والمفروض أنّه ليس هنا قرينة داخلية أيضاً وهي ثبوت الوجوب ، فلا يمكن عندئذ استكشاف الملاك في شيء ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في فعل مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له ، فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي ، ضرورة أنّه مع عدم إحراز الملاك فيه في ظرفه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٠١

٨٠