محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

وعلى هذا ، فمقتضى القاعدة هنا التخيير ، بمعنى جعل الشارع أحدهما جزءاً ، إذ احتمال اعتبار خصوصية كل منهما مدفوع بأصالة البراءة ، فانّ اعتبارها يحتاج إلى مؤونة زائدة ، ومقتضى الأصل عدمها ، فإذن النتيجة هي جزئية الجامع بينهما ، لا خصوص هذا ولا ذاك ، هذا كلّه حسب ما تقتضيه القاعدة في دوران الأمر بين فردين طوليين من نوع واحد.

وأمّا بحسب الأدلة الخاصة ، فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القيام تعيّنه في الركعة الاولى وهو قوله عليه‌السلام في صحيحة جميل بن دراج « إذا قوي فليقم » (١) فانّه ظاهر في وجوب القيام مع القدرة عليه فعلاً ، وأنّ المسقط له ليس إلاّ العجز الفعلي ، والمفروض أنّ المكلف قادر عليه فعلاً في الركعة الاولى ، فإذا كان قادراً عليه كذلك يتعين بمقتضى قوله عليه‌السلام : « إذا قوي فليقم » ومن المعلوم أنّه إذا قام في الاولى عجز عنه في الثانية فيسقط بسقوط موضوعه ، وهو القدرة.

وأمّا غير القيام كالقراءة والركوع والسجود ونحوها فلا يظهر من أدلتها وجوب الاتيان بها في الركعة الاولى في مثل هذه الموارد ـ أعني موارد دوران الأمر بين ترك هذه الأجزاء في الاولى وتركها في الثانية ـ لعدم ظهورها في وجوب تلك الامور مع القدرة عليها فعلاً ، بل هي ظاهرة في وجوبها مع القدرة عليها في تمام الصلاة. وعليه فلا فرق بين القدرة عليها في الركعة الاولى والقدرة عليها في الركعة الثانية أصلاً ، ولا تجب صرف القدرة فيها في الاولى بل له التحفظ بها عليها في الثانية ، فإذن المرجع فيها هو ما ذكرناه من التخيير باعتبار أنّ الدليل كما عرفت لا يمكن أن يشمل كليهما معاً ، لفرض عدم القدرة عليهما ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٩٥ / أبواب القيام ب ٦ ح ٣

١٢١

كذلك ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّا نعلم إجمالاً بوجوب أحدهما ، ونرفع اعتبار خصوصية كل منهما بالبراءة.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي التخيير لا محالة ووجوب الجامع بينهما ، لا خصوص هذا ولا ذاك.

وعلى ما ذكرناه من الضابط في باب الأجزاء والشرائط ، يظهر حال جميع الفروع المتقدمة (١) التي ذكرها شيخنا الاستاذ قدس‌سره وكذا حال عدّة من الفروع التي تعرّضها السيِّد قدس‌سره في العروة (٢).

وعلى أساس ذلك تمتاز نظريتنا عن نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره في هذه الفروعات.

والنقطة الرئيسية للامتياز بين النظريتين ، هي أنّا لو قلنا بانطباق كبرى باب التزاحم على تلك الفروعات ، فلابدّ عندئذ من الالتزام بمرجحاتها ومراعاة قوانينها ، كتقديم الأهم أو محتمل الأهمّية على غيره ، وتقديم ماهو أسبق زماناً على المتأخر ، وما هو مشروط بالقدرة عقلاً على ما كان مشروطاً بها شرعاً ، وهكذا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق كبرى باب التعارض عليها ، فانّه على هذا لا أثر لشيء من تلك المرجحات أصلاً ، ضرورة أنّ الأهمّية أو الأسبقية لا تكون من المرجحات في باب التعارض ، ووجهه واضح ، وهو أنّ الأهمّية أو الأسبقية إنّما تكون مرجحة على تقدير ثبوتها ، وفي فرض تحقق موضوعها ، ومن المعلوم أنّ في باب التعارض أصل الثبوت غير محرز ، فانّ أهمّية أحد

__________________

(١) في ص ١٠٣

(٢) العروة الوثقى ١ : ٤٦٤ المسألة ١٤ [١٤٧٤]

١٢٢

المتعارضين على فرض ثبوته في الواقع ، وكونه مجعولاً فيه ، ومن الواضح جداً أنّها لا تقتضي ثبوته.

ومن هنا قد ذكرنا أنّ كبرى مسألة التعارض كما تمتاز عن كبرى مسألة التزاحم بذاتها ، كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها ، فلا تشتركان في شيء أصلاً. وعليه فالمرجع في باب الأجزاء والشرائط هو ما ذكرناه ، ولا أثر للسبق الزماني والأهمّية فيها أبداً.

وعلى هدى تلك النقطة تظهر الثمرة بين القول بالتزاحم والقول بالتعارض في عدّة موارد وفروع :

منها : ما إذا دار الأمر بين ترك الركوع في الركعة الاولى وتركه في الثانية ، فعلى القول الأوّل يتعين تقديم الركوع في الركعة الاولى على الركوع في الثانية ، من جهة انطباق كبرى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره هنا ، فلو ترك الركوع في الاولى وأتى به في الثانية بطلت صلاته ، وعلى القول الثاني فالأمر فيه التخيير كما عرفت. وعليه فيجوز للمكلف أن يأتي بالركوع في الاولى ويترك في الثانية وبالعكس ، فتكون صلاته على كلا التقديرين صحيحة. وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الاولى وتركها في الثانية ، وهكذا.

ومنها : ما إذا دار الأمر في الصلاة بين ترك القيام وترك الركوع ، فعلى الأوّل يمكن الحكم بتقديم القيام نظراً إلى سبقه زماناً ، ويمكن الحكم بالعكس نظراً إلى كون الركوع أهم منه ، وقد فعل شيخنا الاستاذ قدس‌سره ذلك في هذا الفرع كما تقدّم ، وعلى الثاني فالأمر فيه التخيير ، باعتبار أنّ التعارض بين دليليهما بالاطلاق ، فيسقط كلا الاطلاقين ، فيرجع إلى أصالة عدم اعتبار خصوص هذا وذاك ، فتكون نتيجة ذلك التخيير ، أعني وجوب أحدهما لا بعينه.

١٢٣

ومنها : ما إذا دار الأمر بين ترك الطمأنينة في الركن كالركوع والسجود وما شاكلهما ، وتركها في غيره كالأذكار والقراءة ونحوهما ، فعلى الأوّل يتعين سقوط قيد غير الركن ، لكون قيده أهم منه ، فيتقدّم الأهم في باب المزاحمة. وعلى الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً ، لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الطمأنينة هو الاجماع ، ومن المعلوم أنّه لا إجماع في هذا الحال ، وعليه فنرجع إلى أصالة البراءة عن اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ، فتكون النتيجة هي التخيير.

ومنها : ما إذا دار الأمر بين القيام المتصل بالركوع والقيام في حال القراءة ، فبناءً على الأوّل لابدّ من تقديم القيام المتصل بالركوع على القيام في حال القراءة ، لكونه أهم منه ، إمّا من جهة أنّه بنفسه ركن أو هو مقوّم للركن كالركوع ، ولذا حكم شيخنا الاستاذ قدس‌سره بتقديمه عليه في الفروعات المتقدمة. وبناءً على الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً ، بل الأمر في مثله العكس ، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ المستفاد من صحيحة جميل بن دراج المتقدمة (١) وجوب القيام عند تمكن المكلف منه فعلاً ، والمفروض أنّ المكلف في مثل المقام قادر فعلاً على القيام في حال القراءة ، فإذا كان الأمر كذلك يتعين عليه ولا يجوز له تركه باختياره وإرادته.

فما ذكره قدس‌سره من الكبريات التي بنى فيها على إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، وقد عرفت أنّ تلك الكبريات جميعاً داخلة في باب التعارض ، فالمرجع فيها هو قواعد ذلك الباب ، ولأجل ذلك تختلف نظريتنا فيها عن نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره تماماً ، وإن كانت النتيجة في بعضها واحدة على كلتا النظريتين ، وذلك كما إذا دار الأمر

__________________

(١) في ص ١٢١

١٢٤

بين ترك الطهور في الصلاة وترك جزء أو قيد آخر ، فلا إشكال في تقديم الطهور على غيره على كلا المسلكين.

أمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التزاحم فواضح ، لكون الطهور أهم من غيره ، ومن هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده ، وهذا واضح.

وأمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التعارض فأيضاً كذلك ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الطهور مقوّم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه ، ولذا ورد في الرواية أنّ « الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث منها الركوع ، وثلث منها السجود ، وثلث منها الطهور » (١) ، وقد ذكرنا في محلّه (٢) أنّ الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا الصلاة وثلثاها ، لا بخصوص مرتبتهما العالية ، كما أنّا ذكرنا أنّ المراد من الطهور الذي هو ركن للصلاة الجامع بين الطهارة المائية والترابية ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط مرتبة اخرى منها وهكذا ، للنصوص الدالة على ذلك كما عرفت.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا بدّ في مقام دوران الأمر بين الطهور وغيره من تقديم الطهور ، ضرورة أنّه في فرض العكس ـ أي تقديم غيره عليه ـ لا صلاة لتجب مع ذلك القيد ، بل إذن لا تعارض ولا دوران في البين أصلاً ، ضرورة أنّ التعارض بين دليلي الجزأين أو الشرطين أو الشرط والجزء إنّما يتصور مع فرض وجود الموضوع وهو حقيقة الصلاة ، ليكون وجوبها ثانياً بدليل خاص موجباً للتعارض بينهما ، وأمّا إذا فرض دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره ، فيتعين تقديم الأوّل وصرف

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١ ( مع اختلاف يسير )

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٨٦ ـ ١٨٨

١٢٥

القدرة فيه ولا يمكن العكس ، بداهة أنّه يلزم من وجوب هذا القيد عدمه ، إذ معنى تقديمه هو أنّه واجب في ضمن الصلاة ، والمفروض أنّ تقديمه عليه مستلزم لانتفاء الصلاة ، ومن المعلوم أنّ كل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال ، وهذا لا من ناحية أهمّية الطهور ، ليقال إنّه لا عبرة بها في باب التعارض أصلاً ، بل هو من ناحية أنّ تقديم غيره عليه يوجب انتفاء حقيقة الصلاة ، فلا صلاة عندئذ لتجب.

وبتعبير آخر : أنّ دوران الأمر بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط على كلا القولين ـ أي القول بالتعارض والقول بالتزاحم ـ إنّما هو في فرض تحقق حقيقة الصلاة وصدقها ، بأن لا يكون انتفاء شيء منهما موجباً لانتفاء الصلاة ، فعندئذ يقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر ، فبناءً على القول بالتزاحم يرجع إلى قواعده وأحكامه ، وبناءً على القول بالتعارض يرجع إلى مرجحاته وقواعده. وأمّا إذا فرضنا دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره ، فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني وعدم الاعتناء به ، ضرورة أنّ مرجع هذا إلى دوران الأمر بين سقوط أصل الصلاة وسقوط جزئها أو قيدها ، ومن المعلوم أنّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً ، حيث إنّه لا يعقل سقوط أصل الصلاة وبقاء القيد على وجوبه ، لفرض أنّ وجوبه ضمني لا استقلالي.

وقد تحصّل من ذلك كبرى كلّية ، وهي أنّه لا معنى لوقوع التزاحم أو التعارض بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وبين غيره من الأجزاء أو الشرائط ، هذا بناءً على ما قوّيناه (١) من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وغيرهما من الأركان. وأمّا بناءً على عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظرية التزاحم في

__________________

(١) فى شرح العروة ١٠ : ٢١٥

١٢٦

أمثال هذه الموارد عن نظرية التعارض ، إذ على الأوّل لا بدّ من تقديم الطهور على غيره في مقام وقوع المزاحمة بينهما لأهمّيته. وأمّا على الثاني ـ وهو نظرية التعارض ـ فلا وجه لتقديمه على غيره من هذه الناحية أصلاً ، لما عرفت من أنّه لا عبرة بالأهمّية في باب التعارض أبداً ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى أدلتهما ، فإن كان الدليل الدال على أحدهما عاماً والآخر مطلقاً ، فيقدّم العام على المطلق كما عرفت ، وإن كان كلاهما عاماً ، فيقع التعارض بينهما فيرجع إلى مرجحاته ، وإن كان كلاهما مطلقاً فيسقط كلا الاطلاقين ، ويرجع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ونتيجته التخيير كما سبق.

وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاولى وتركه في الثانية ، فانّ النتيجة في هذا الفرع أيضاً واحدة على كلا القولين ، وهي تقديم القيام في الركعة الاولى على القيام في الثانية ، ولكن على القول بالتزاحم بملاك أنّه أسبق زماناً من الآخر ، وقد عرفت أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً كما هو كذلك في المقام ، وعلى القول بالتعارض فمن ناحية النص المتقدم ، هذا تمام كلامنا في الناحية الاولى.

وأمّا الناحية الثانية ـ وهي ما ذكره قدس‌سره من الترجيح للتقديم في هذه الفروعات ـ فأيضاً لاتتم على إطلاقها على فرض تسليم أنّ تلك الفروعات من صغريات باب التزاحم.

وبيان ذلك يحتاج إلى درس كل واحد من هذه الفروعات على حدة.

أمّا الفرع الأوّل : وهو ما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك قيد آخر من قيودها ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط قيد آخر ولو كان وقتاً.

وغير خفي أنّه لا بدّ من فرض هذا الفرع في غير الأركان من الأجزاء أو

١٢٧

الشرائط ، ضرورة أنّه في فرض دوران الأمر بين سقوط الطهور وسقوط ركن آخر بعرضه العريض ، كالركوع أو السجود أو التكبيرة ، لا صلاة لتصل النوبة إلى أنّها واجبة مع هذا أو ذاك ، لفرض أنّها تنتفي بانتفاء ركن منها ، فإذن لا موضوع للتزاحم ولا التعارض.

نعم ، يمكن دوران الأمر بين سقوطه وسقوط مرتبة منها ، فانّ حاله حال دوران الأمر بينه وبين سقوط بقية الأجزاء والشرائط كما هو واضح.

ومن هنا يظهر أنّه لا يعقل التزاحم بين الطهور والوقت أيضاً ، ضرورة انتفاء الصلاة بانتفاء كل منهما ، فلا موضوع عندئذ للتزاحم ليرجّح أحدهما على الآخر. فما أفاده قدس‌سره من أنّه يسقط ذلك القيد وإن كان وقتاً لا يرجع إلى معنىً محصّل ، لفرض أنّ الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة عندئذ لتجب مع الطهور.

وبعد ذلك نقول : إنّه لا إشكال في تقديم الطهور على غيره من الأجزاء والشرائط ، وليس وجهه مجرد كونه أهم ، بل وجهه ما ذكرناه من أنّ الطهور بما أنّه مقوّم لحقيقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بينه وبين غيره ، ضرورة أنّ مرجع ذلك إلى دوران الأمر بين ترك نفس الصلاة وترك قيدها ، ومن الواضح جداً أنّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً ، ومن هنا قلنا إنّ التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط إنّما يعقل فيما إذا لم يكن أحدهما مقوّماً لحقيقة الصلاة ، وإلاّ فلا موضوع له لتصل النوبة إلى ملاحظة المرجح لتقديم أحدهما على الآخر ، ولا يشمله ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من رواية أو إجماع قطعي ، ضرورة أنّ هذا العمل ليس بصلاة.

وأمّا الفرع الثاني : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط

١٢٨

قيد آخر ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط الطهارة المائية ، وأفاد في وجه ذلك أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، إلاّ أنّ الطهارة المائية خاصة تمتاز عن بقية الأجزاء والشرائط من ناحية جعل الشارع لها بدلاً دون غيرها ، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع.

ولنأخذ بالمناقشة عليه وملخّصها : هو أنّ ثبوت البدل شرعاً لا يختص بخصوص الطهارة المائية ، فكما أنّ لها بدلاً وهو الطهارة الترابية ، فكذلك لبقية الأجزاء والشرائط.

والوجه في ذلك : هو أنّ الصلاة إنّما هي مأمور بها بعرضها العريض ، لا بمرتبتها الخاصة وهي المرتبة العليا المعبّر عنها بصلاة المختار ، وعلى هذا فكما أنّ المكلف لو لم يتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية ، فكذلك لو لم يتمكن من الصلاة في الثوب أو البدن الطاهر ، أو مع الركوع والسجود ، أو في تمام الوقت ، أو مع قراءة فاتحة الكتاب ، أو غير ذلك ، فتنتقل وظيفته إلى الصلاة في بدل هذه الامور ، وهو في المثال الأوّل الصلاة عارياً على المشهور ، وفي الثوب النجس على المختار. وفي الثاني الصلاة مع الايماء والاشارة. وفي الثالث إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت ، فانّه بدل لادراك تمام الركعات فيه. وفي الرابع الصلاة مع التكبيرة والتسبيح ، وهكذا.

وعلى الجملة : فبما أنّ الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضى الروايات العامة والخاصة ، فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة اخرى ، وهكذا.

ونتيجة هذا لا محالة عدم الفرق بين الطهارة المائية وغيرها من الأجزاء والشرائط ، لفرض أنّه قد ثبت لكل منها بدل بدليل خاص ، كما دلّ على

١٢٩

وجوب الصلاة مع الايماء عند تعذّر الركوع والسجود ، أو مع الركوع قاعداً عند تعذّر الركوع قائماً ، وما دلّ على وجوبها قاعداً عند تعذّر القيام ، وما دلّ على وجوبها مع التكبيرة والتسبيح عند تعذّر القراءة ، وما دلّ على وجوبها مع إدراك ركعة منها في الوقت عند تعذّر إدراك تمام ركعاتها فيه وهكذا ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : المفروض أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا وجه لتقديم غير الطهارة المائية من الأجزاء والشرائط عليها في مقام المزاحمة ، لا من ناحية أنّ لها بدلاً ، ولا من ناحية اشتراطها بالقدرة شرعاً ، لما عرفت من أنّ البقية جميعاً تشترك معها في هاتين الناحيتين على نسبة واحدة.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ ما أفاده قدس‌سره من الكبرى الكلّية وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ، وإن كان تاماً إلاّ أنّه لا ينطبق على المقام.

ويجب علينا أن ندرس هذا الفرع من جهات :

الاولى : فيما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط خصوص السورة في الصلاة.

الثانية : فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط الأركان.

الثالثة : فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط بقية الأجزاء أو الشرائط.

أمّا الجهة الاولى : فالظاهر أنّه لا شبهة في تقديم الطهارة المائية على السورة ، وذلك لما دلّ على أنّها تسقط بالاستعجال والخوف ، وهو صحيحة

١٣٠

محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته ، قال : لا صلاة إلاّ أن يقرأ بها في جهر أو إخفات. قلت : أيّما أحبّ إليك إذا كان خائفاً أو مستعجلاً ، يقرأ سورةً أو فاتحة الكتاب؟ قال : فاتحة الكتاب » (١) فانّها تدل على سقوطها بالاستعجال والخوف من ناحية فوت جزء أو شرط آخر ، فانّ موردها وإن كان خصوص دوران الأمر بينها وبين فاتحة الكتاب ، إلاّ أنّه من الواضح جداً عدم خصوصية لها ، فإذن لا يفرق بينها وبين غيرها من الأجزاء والشرائط منها الطهارة المائية ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتحقق الخوف والاستعجال.

وقد تحصّل من ذلك أنّ هذا التقديم لا يستند إلى إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ، بل هو مستند إلى النص المتقدِّم.

وأمّا الجهة الثانية : فلا شبهة في تقديم الأركان على الطهارة المائية ، بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره في أمثال المقام ، وذلك لأنّ ملاك التقديم هنا أمر آخر ، لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ليختلف باختلاف النظرين.

بيان ذلك على وجه الاجمال : هو أنّ الصلاة ـ كما حققناه في محلّه (٢) ـ اسم للأركان خاصة ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي خارجة عن حقيقتها ، فلذا لا تنتفي بانتفائها ، كما تنتفي بانتفاء الأركان ، وعليه فاذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... )(٣) بضميمة أنّ الصلاة

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ١

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٨٦ ـ ١٨٨

(٣) المائدة ٥ : ٦

١٣١

لا تسقط بحال ، فالنتيجة هي أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج التي هي عبارة عن الأركان قد أمر الشارع في هذه الآية الكريمة باتيانها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه.

وعلى الجملة : فالصلاة حيث إنّها كانت اسماً للأركان ، والبقية قيود خارجية قد اعتبرت فيها في ظرف متأخر ، وإن قلنا إنّها عند وجودها داخلة في المسمى ، إلاّ أنّ دخولها فيه ليس بمعنى دخلها فيه بحيث ينتفي بانتفائها ، بل بمعنى أنّ المسمى قد اخذ لا بشرط بالاضافة إلى الزيادة ، فلا محالة لا تنتفي بانتفائها.

وعلى ذلك فاذا ضممنا هذا إلى ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، وإلى أدلة الأجزاء والشرائط منها هذه الآية المباركة ، فالنتيجة هي أنّ الاتيان بالأركان واجب على كل تقدير ، وأ نّها لا تسقط مطلقاً ـ أي سواء أكان المكلف متمكناً من البقية أم لم يكن متمكناً ـ ضرورة أنّ في صورة العكس أي تقديم الأجزاء أو الشرائط على الأركان فلا يصدق على العمل المأتي به صلاة ليتمسك بما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فاذن لا موضوع للتعارض ولا التزاحم هنا ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين ترك ركن بعرضه العريض وترك الطهارة المائية أو غيرها من القيود.

وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من الركن وسقوط الطهارة المائية ، فهل الأمر كما تقدّم أم لا؟ وجهان :

الظاهر هو الوجه الثاني ، وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الركن عليها

١٣٢

لا يجري في هذا الفرض ، والوجه فيه ما حققناه في بحث الصحيح والأعم (١) من أنّ لفظة الصلاة موضوعة للأركان بعرضها العريض ، لا لخصوص المرتبة العليا منها ، وعلى هذا يترتب أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة ، وإنّما تنتفي بانتفاء جميع مراتبها ، فإذن يكون المراد من الصلاة في الآية المباركة وهي قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... )(٢) هو الأركان بعرضها العريض ، لا خصوص مرتبة منها ، غاية الأمر يجب الاتيان بالمرتبة العليا في فرض التمكن منها عقلاً وشرعاً ، والمرتبة الاخرى دونها في فرض عدم التمكن من الاولى وهكذا ، وكذا الحال في الطهور حيث إنّه يجب على المكلف الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، والطهارة الترابية في فرض فقدانه.

وعلى ضوء هذا ، فالآية الكريمة تدل على أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج ـ وهي الجامع بين مراتبها ـ واجبة على المكلف مع الوضوء أو الغسل في فرض كونه واجداً للماء ، ومع التيمم في فرض كونه فاقداً له ، ولا تدل على وجوب كل مرتبة من مراتبها كذلك ، فإذا دار الأمر بين الاتيان بالمرتبة العالية منها مع الطهارة الترابية ، والمرتبة الدانية منها مع الطهارة المائية ، فالآية لا تدل على وجوب الاتيان بالاولى دون الثانية أصلاً ، بل ولا إشعار في الآية بذلك ، لفرض أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة. وقد عرفت أنّ الآية تدل على وجوب الصلاة وهي الجامع بين هذه المراتب بالكيفية المزبورة ، فعندئذ الحكم بوجوب تلك المرتبة ومشروعيتها في هذا الحال وسقوط الطهارة المائية يحتاج

__________________

(١) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٨٦ ـ ١٨٨

(٢) المائدة ٥ : ٦

١٣٣

إلى دليل آخر ، ولا يمكن إثبات مشروعيتها بالآية المباركة ، لاستلزامه الدور ، فانّ مشروعيتها في هذا الحال تتوقف على دلالة الآية ، وهي تتوقف على مشروعيتها في هذا الحال.

وعلى الجملة : فلو دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر ، فلا إشكال في سقوط المرتبة ، بل لا دوران في الحقيقة بمقتضى الآية الكريمة ، لفرض أنّ اعتبار الأركان بعرضها العريض مفروغ عنه دون اعتبار كل مرتبة من مراتبها ، ولذا قلنا إنّ الأركان مشروطة بالقدرة عقلاً دون كل مرتبة منها ، فانّها مشروطة بالقدرة شرعاً ، وهذا واضح.

وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر ـ كما في مفروض الكلام ـ فلا دلالة للآية على تقديم بعضها على بعضها الآخر أبداً ، ضرورة أنّ دلالتها في محل الكلام تبتني على نقطة واحدة ، وهي أن يكون الداخل في مسمى الصلاة المرتبة العليا من الأركان مع الطهور الجامع بين المائية والترابية فحسب ، وعلى هذا فإذا دار الأمر بين سقوط تلك المرتبة وسقوط الطهارة المائية تسقط الطهارة المائية ، لفرض أنّ اعتبارها عندئذ متفرّع على ثبوتها ، لا في عرضها ، لدلالة الآية الكريمة وقتئذ على وجوب الاتيان بها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه ، إلاّ أنّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع ، وأنّ الصلاة موضوعة للجامع بين مراتبها لا غير.

وعليه ففي مسألتنا هذه وما شاكلها على وجهة نظر من يرى أنّها داخلة في كبرى باب التعارض ، فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب على ما تقدّم بصورة مفصّلة ، وعلى وجهة نظر من يرى أنّها داخلة في كبرى باب التزاحم ،

١٣٤

فلابدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد ذلك الباب ، كالسبق الزماني والأهمّية ونحوهما.

أمّا الأوّل ، وهو السبق الزماني فإن كان موجوداً ، بأن يكون أحدهما سابقاً على الآخر زماناً فلا مانع من الترجيح به ، وذلك لما ذكرناه (١) من أنّ السبق الزماني مرجح في الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، والمفروض أنّ كل مرتبة من مراتب الأركان مشروطة بالقدرة شرعاً ، وإن كانت الأركان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلاً ، فإذن يقدّم ما هو الأسبق زماناً على الاخرى.

وأمّا الثاني ، وهو الأهمّية ، فالظاهر أنّه مفقود في المقام ، وذلك لأنّا لم نحرز أنّ المرتبة العالية من الركوع مثلاً أهم من المرتبة العالية من الطهور وبالعكس ، كما هو واضح ، نعم احتمال كون المرتبة العالية منه أهم منها موجود ، ولا مناص عنه ، ولا سيّما بالاضافة إلى المرتبة العالية من الركوع والسجود ، وذلك لأنّا نستكشف من جعل الشارع التراب أحد الطهورين أنّ المصلحة القائمة بالطهارة الترابية ليست أدون بكثير من المصلحة القائمة بالطهارة المائية ، وهذا بخلاف المرتبة الدانية من الركوع والسجود ، وهي الايماء ، فانّ المصلحة الموجودة فيه أدون بكثير من المصلحة الموجودة فيهما ، كما لا يخفى. وعليه فلا بدّ من تقديمها على الطهارة المائية ، لما تقدّم مفصّلاً (٢) من أنّ محتمل الأهمّية من المرجحات ، فلا مناص من تقديمه على الآخر في مقام المزاحمة.

وأمّا الثالث ، وهو أنّ المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على المشروط بها شرعاً ،

__________________

(١) في ص ٤٥

(٢) في ص ٨٢

١٣٥

فهو مفقود في المقام ، لما عرفت من أنّ كلتيهما مشروطة بالقدرة شرعاً.

ونتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط :

الاولى : أنّه لا يعقل دوران الأمر بين سقوط ركن وسقوط ركن آخر ، لانتفاء الصلاة عندئذ على كل تقدير.

الثانية : أنّه إذا دار الأمر بين ترك ركن وترك مرتبة من ركن آخر فلا إشكال في تعيّن ترك المرتبة ، بل قد عرفت أنّه لا دوران في مثله ولا موضوع للتعارض ولا التزاحم ، فيقدّم الركن على مرتبة من الركن الآخر بمقتضى لا تسقط الصلاة بحال ، وبمقتضى الآية الكريمة كما سبق.

الثالثة : أنّ في فرض دوران الأمر بين سقوط مرتبة من ركن كالركوع أو السجود ، وسقوط مرتبة من آخر كالطهور ، لا تدل الآية ولا تسقط الصلاة بحال على سقوط الثانية دون الاولى ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعد باب التعارض أو التزاحم على ما عرفت.

وأمّا الجهة الثالثة : وهي ما إذا دار الأمر بين الطهارة المائية وبقية الأجزاء أو الشرائط ، فالصحيح أنّه لا وجه لتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية ، وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الأركان عليها لا يجري هنا ، والوجه فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان خاصة ووجوب تلك الأركان مفروغ عنه في الخارج مطلقاً ، أي سواء أكان المكلف متمكناً من بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم يتمكن من ذلك ، لفرض أنّ اعتبار البقية متفرع على ثبوتها وفي ظرف متأخر عنها لا مطلقاً ، كما هو الحال فيها.

ومن هنا قلنا إنّ المراد من الصلاة في الآية الكريمة هو الأركان ، فانّها حقيقة

١٣٦

الصلاة ومسمّاها ، كانت معها بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم تكن ، وكذا المراد من الصلاة في قوله عليه‌السلام : « لا تسقط الصلاة بحال » (١) ، ولذلك ذكرنا أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بها مطلقاً ، سواء أكانت معها البقية أم لم تكن.

وعلى هذا الأصل فلا تدل الآية على تقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أصلاً ، لفرض أنّها غير دخيلة في المسمى من ناحية ، وعدم تفرع اعتبار الطهارة المائية على اعتبارها من ناحية اخرى ، بل هو في عرض اعتبار تلك.

ودعوى أنّ المراد من الصلاة في الآية المباركة بضميمة ما استفدنا من أدلة اعتبار الأجزاء والشرائط هو الواجدة للجميع لا خصوص الأركان ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر : أنّا قد ذكرنا في بحث الصحيح والأعم (٢) أنّ البقية عند وجودها داخلة في المسمى ، وعدمها لايضر به على تفصيل هناك ، فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه ، وهذا معنى دلالتها على تقديم البقية عليها.

مدفوعة بأنّ اعتبارها في هذا الحال ودخولها في المسمى أوّل الكلام ، ضرورة أنّ اعتبارها يتوقف على دخولها فيه ، والمفروض أنّ دخولها فيه يتوقف على اعتبارها في هذا الحال.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥ ( نقل بالمضمون )

(٢) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٧٨ وما بعدها

١٣٧

فإذن لا دلالة للآية بضميمة قوله عليه‌السلام : « لا تسقط الصلاة بحال » على تقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية ، وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض في المقام بناءً على دخوله في هذا الباب ، وإلى قواعد باب التزاحم بناءً على دخوله فيه ، والثاني هو مختاره قدس‌سره هنا.

أمّا الأوّل ، فقد تقدّم ضابطه فلا نعيد.

وأمّا الثاني ، وهو بناءً على دخوله في باب التزاحم فتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط عليها يبتني على أحد امور :

الأوّل : دعوى أنّ للطهارة المائية بدلاً دون غيرها ، فيقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل. ولكن قد عرفت فساد تلك الدعوى بشكل واضح.

الثاني : دعوى أنّ الطهارة المائية مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى الآية الكريمة دون البقية ، وقد تقدّم أنّ ما هو مشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على ما هو مشروط بها شرعاً. ويردّها : ما ذكرناه من أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها جميعاً مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فلا فرق من هذه الناحية بين الطهارة المائية وغيرها أصلاً.

الثالث : دعوى أنّ بقية الأجزاء والشرائط أهم من الطهارة المائية. وفيه : أنّه لا طريق لنا إلى إحراز كونها أهم منها أصلاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا وجه لتقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أبداً في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، بل يمكن القول بتقديم الطهارة المائية على غيرها من الأجزاء ، باعتبار أنّها سابقة عليها زماناً ، كما إذا فرض دوران الأمر بين ترك الوضوء أو الغسل فعلاً وسقوط جزء في ظرفه ، بأن لايتمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلامانع من الحكم بتقديم الوضوء

١٣٨

أو الغسل عليه ، لفرض أنّ التكليف بالاضافة إليه فعلي ولا مانع منه أصلاً. وقد تقدّم (١) أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، وما نحن فيه كذلك. فما أفاده قدس‌سره من أنّه يقدّم على الطهارة المائية كل قيد من قيود الصلاة ، لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا الفرع الثالث : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط قيد آخر غير الطهور ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط ذلك القيد.

أقول : أمّا استثناء الطهور من ذلك وإن كان صحيحاً ولا مناص عنه ، إلاّ أنّه لا معنى للاقتصار عليه ، بل لا بدّ من استثناء جميع الأركان من ذلك ، لما تقدّم من أنّه في فرض دوران الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط ركن آخر كذلك تسقط الصلاة يقيناً ، لفرض أنّها تنتفي بانتفاء كل منهما. فإذن لا موضوع للتمسك بـ « لا تسقط الصلاة بحال » والاجماع القطعي على ذلك ، ضرورة أنّه لا صلاة في هذا الحال ليقال إنّها لا تسقط ، وعليه فإذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط الطهور رأساً ، تسقط الصلاة عندئذ لا محالة ، لفرض أنّها كما تسقط بسقوط الطهور ، كذلك تسقط بعدم إدراك ركعة في الوقت ، هذا إذا كان غرضه من الاستثناء ذلك.

وأمّا إذا كان غرضه منه هو أنّ الطهور يقدّم على الوقت في هذا الحال ـ أعني ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة في الوقت وسقوط الطهور رأساً ـ فقد عرفت فساده الآن ، وهو ما مرّ من أنّه لا صلاة في هذا الحال ليقال بتقديمه عليه ، لفرض أنّها تنتفي بانتفاء كل منهما ، وأمّا وجوبها في خارج الوقت فهو بدليل آخر أجنبي عن الأمر في الوقت.

__________________

(١) في ص ٤٥

١٣٩

وأمّا تقديم إدراك ركعة من الوقت على غيره من الأجزاء أو الشرائط فواضح ، لما عرفت من أنّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط قيد آخر يسقط ذلك القيد ، وحيث إنّ الوقت من الأركان فإذا دار الأمر بين سقوطه وسقوط غيره يسقط غيره لا محالة.

وبتعبير أوضح : هو أنّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها (٢) وما يستفاد من الروايات الدالة على أنّ الصلاة لا تسقط بحال (٣) ، إلى قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) إلخ (٤) فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالأركان ـ التي هي حقيقة الصلاة ـ في الوقت مطلقاً ، أي سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن من ذلك ، فلا يمكن أن تزاحم بقية الأجزاء والشرائط الأركان في الوقت ، لا في تمامه ولا في جزئه ، ضرورة أنّ في صورة العكس أعني تقديم البقية على الوقت لا صلاة لنتمسك بدليل لا تسقط الصلاة بحال أو نحوه. ومن هنا قلنا إنّه لا موضوع للتعارض أو التزاحم في مثل هذا الفرض ، وأنّ التقديم فيه لا يكون مبتنياً على كون هذه الموارد من موارد التزاحم أو التعارض ، بل هو بملاك آخر لا بملاك إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ، ولذا لا بدّ من الالتزام بهذا التقديم على كل من القولين.

وبذلك يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام من جعل

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠

(٣) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥

(٤) المائدة ٥ : ٦

١٤٠