شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي ـ أي مفهوم النسبة ـ وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا.

الأمر الرابع : أنّ إحضار مفهوم الربط والنسبة كان الغرض منه إحضار حقيقة الربط والنسبة في الذهن ؛ لكي يحصل الارتباط بين المفاهيم الذهنيّة. وهذا المفهوم لا يكفي فيه أن يكون نسبة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ لأنّ النسبة بهذا المعنى إنّما هي مفهوم النسبة والذي هو معنى استقلالي يمكن تصوّره مجرّدا عن حقيقة الطرفين والربط المخصوص.

وهذا يعني أنّ مفهوم النسبة الحاضرة في الذهن كان صورة ذهنيّة تحكي عن النسبة الخارجيّة الواقعيّة الحقيقيّة القائمة بين الطرفين ، وهذه النسبة لا يمكن أن تربط بين شيئين ؛ لأنّها ليست نسبة حقيقيّة وإنّما هي صورة ذهنيّة للنسبة فقط.

ولذلك فلا بدّ أن يكون هذا المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، أي نسبة حقيقيّة متقوّمة بالربط بين الطرفين بحيث يستحيل سلب الربط عنها.

وهذا يعني أنّها نسبة بالمعنى الحرفي ، أي أنّ حقيقتها وجوهرها الربط والطرفان ، وعندئذ تكون هذه النسبة الحقيقيّة الحاضرة في الذهن رابطة بين المفاهيم الذهنيّة ؛ لأنّها لا تتصوّر من دون الربط الحقيقي والطرفين فتصوّرها في الذهن وإحضارها فيه يعني وجود نسبة حقيقيّة في الذهنيّة متقوّمة بالطرفين ، أي مفهومي النار والموقد الذهنيّين.

وبذلك يتّضح أوّل فرق أساسي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وهو أنّ الأوّل سنخ مفهوم يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري. والثاني سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

الأمر الخامس : وهو أنّ الفارق الأساسي الأوّل بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هو أنّ المعاني الاسميّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن هو الحكم بواسطته على الخارج ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن مطابقا للخارج وعينه بالحمل

٣٠١

الأوّلي والنظر التصوّري ، أي أن يكون الشيء مجرّدا عن خصائص الوجود وقيوده ، بحيث يكون ما في الذهن وهو الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج بعد تجريده عن خصائص الوجود الخارجي. وهذا يتمّ بتصوّره بالحمل الأوّلي ، فيكون المفهوم الحاضر في الذهن مطابقا للصورة الذهنيّة أيضا ؛ لأنّ الحاضر في الذهن هو مفهوم الشيء المجرّد بما هو هو.

وأمّا المعاني الحرفيّة فإنّ الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون هناك مطابقة وعينيّة حقيقيّة ، بأن يكون ما في الذهن عين ما هو في الخارج ، وهذا لا يتحقّق إذا كان المفهوم متصوّرا بالحمل الأوّلي ، بل لا بدّ أن يكون عين ما في الخارج حاضرا بنفسه لا بصورته إلى الذهن.

وبتعبير آخر : أن يكون ما في الخارج مطابقا لما في الذهن ، بأن يكون حاضرا في الذهن مع كلّ خصائصه الخارجيّة. وهذا إنّما يتمّ إذا كان المفهوم مصداقا حقيقيّا للخارج بقيوده وخصائصه ، فيكون ما في الذهن حاكيا عن الخارج ؛ لأنّه عين حقيقته الخارجيّة.

والحاصل : أنّ المعاني الاسميّة إنّما تكون عين الخارج إذا جرّد من خصائصه ولوحظ بما هو هو أي بالحمل الأوّلي ، وإلا فإنّ المفهوم الذهني ليس مطابقا للخارج بالحمل الشائع ؛ لأنّه ليس مصداقا حقيقيّا له.

بينما المعاني الحرفيّة فهي تكون عين الخارج بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع معا ؛ لأنّ ما هو موجود في الذهن هو عين الخارج بقيوده وخصائصه لأنّه مصداق حقيقي له ، وليس مجرّد صورة ومفهوم يحكي عنه فقط. فإنّ الخارج عين ما في الذهن بكلّ خصائصه وقيوده.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة المعاني الحرفيّة ، بأن يراد بإيجاديّة المعنى الحرفي كونه عين حقيقة نفسه ، لا مجرّد عنوان ومفهوم يري الحقيقة تصوّرا ويغايرها حقيقة.

وما ذكرناه من أنّ المعاني الحرفيّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون عين الحقيقة الخارجيّة لا مجرّد صورة وعنوان حاك عنها ، يعتبر معنى عميقا جدّا للقول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة بالمصطلح الأصولي المتعارفة.

٣٠٢

إذ يراد من الإيجاديّة هنا أنّها نفس الخارج وحقيقته وليست عنوانا حاكيا عن الخارج تصوّرا وبالحمل الأوّلي ، ولكنّه يكون مغايرا للخارج بالحقيقة وبالحمل الشائع. فالمعاني الحرفيّة إيجاديّتها بمعنى كونها مطابقة للخارج تصوّرا وتصديقا بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع.

فالنسب والروابط الذهنيّة متقوّمة بطرفيها في الذهن أيضا ، بحيث إنّها تحضر إلى الذهن مع الطرفين ويستحيل انفكاكها وتجرّدها عن الطرفين ، وهذا يعني أنّ ما في الذهن من نسب وروابط هو عين الخارج ونفسه وليس شيئا آخر يغايره.

والأنسب أن تحمل إيجاديّة المعاني الحرفيّة التي قال بها المحقّق النائيني (١) على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة (٢) من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ المعاني الاسميّة معان إخطاريّة بينما المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وفسّر كلامه بأنّ الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود ومتحقّق قبله في مرحلة سابقة عن اللفظ ، وإنّما اللفظ يخطر المعنى في الذهن ويحضره فيه. بينما الحرف يوجد معناه فلا معنى للحرف قبل وجوده ، ولذلك فهو لا يخطر ولا يحضر المعنى الذي كان موجودا ، إذ لا وجود للمعنى قبله ، وإنّما الحرف يوجد المعنى بوجوده اللفظي.

والأنسب أن تحمل الإيجاديّة التي ذكرها المحقّق النائيني على ما ذكرناه من أنّ الحرف سنخ معنى يراد به أن يكون عين الحقيقة تصوّرا وتصديقا لا تصوّرا فقط.

وأمّا بناء على الإيجاديّة بمعنى الربط الكلامي بين الطرفين فلا يمكن أن يتعقّل معنى للحروف وإن وجدت في الكلام ؛ لأنّه إذا لم يكن لها معنى في مرحلة سابقة عن الكلام فكيف استعمل لفظ لا معنى له وبعد استعماله صار له معنى؟! ولما ذا لا يتمّ ذلك في كلّ الألفاظ التي لا معنى لها في مرتبة سابقة؟

إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال لفظ لا معنى له في الكلام ؛ لأنّ الغاية من وضع الألفاظ واستعمالها كونها حاكية عن المعاني الموضوعة لها ، إذ لا يتكلّم إنسان

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ٣٧.

(٢) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

٣٠٣

بالألفاظ جزافا وإنّما يعبّر بالألفاظ عمّا يجول في خاطره من معان كما هو واضح بالبداهة.

المرحلة الثانية : أنّ تكثّر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفيّة مثلا لا يعقل إلا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا ، كما في نسبة ( النار ) إلى ( الموقد ) ونسبة ( الكتاب ) إلى ( الرفّ ) ، أو موطنا كما في نسبة الظرفية بين ( النار ) و ( الموقد ) في الخارج وفي ذهن المتكلّم وفي ذهن السامع.

وهنا أمور :

الأمر الأوّل : ذكرنا أنّ النسبة التي هي معنى حرفي متقوّم بالطرفين يستحيل انفكاكها عنهما. وعليه ، فإنّ النوع الواحد من هذه النسب المختلفة ؛ حيث إنّه توجد النسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة والالتصاقيّة ... إلى آخره إنّما يحصل فيها التكثّر والتعدّد مع فرض التغاير بين الطرفين وتعدّدهما ، فكلّما كان هناك طرفان متغايران حصل لنا كثرة في هذه النسبة.

وهذا التغاير تارة يكون بلحاظ الذات أي أن يتغيّر نفس الطرفين ويحلّ مكانهما طرفان آخران كقولنا : ( النار في الموقد ، الكتاب في الرفّ ، زيد في البيت ) ، فهنا التغاير بين الطرفين ذاتي ؛ لأنّ كلّ طرفين في الجملة يتغايران مع الطرفين في الجملة الأخرى بذاتهما ، فإنّ زيدا والبيت والموقد والنار والكتاب والرفّ جواهر ذاتيّة متغايرة.

وأخرى يكون التغاير بلحاظ الواقع وعالم الوجود والتحقّق ، أي الموطن والعالم الذي يوجد فيه الطرفان مع وحدتهما ذاتا ، أي أنّه يوجد طرفان يتعدّد ويكثّر وجودهما بلحاظ اختلاف وتغاير الموطن ، كقولنا : النار في الموقد بلحاظ عالم الواقع الخارجي ، والنار في الموقد في ذهن المتكلّم ، والنار في الموقد في ذهن المخاطب والسامع. فإنّ هذه النسبة الواحدة التي لها طرفان متّحدان ذاتا متغايرة بلحاظ الموطن والعالم. وبأحد هذين الأمرين يحصل لنا التكثّر والتعدّد بالنسب.

وكلّما تكثّرت النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتي حقيقي بينهما ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

الأمر الثاني : هو أنّه يستحيل أن يكون هناك جامع حقيقي بين النسب المختلفة والمتكثّرة بالأنواع ، بل حتى النوع الواحد من النسب يستحيل انتزاع جامع ذاتي بين

٣٠٤

أفراده ومصاديقه ، كنسبه الظرفيّة مثلا فإنّه يستحيل أن تكون جامعا ذاتيّا بين النسب الظرفيّة المتكثّرة ذاتا أو موطنا ؛ وذلك لأنّه يشترط في الجامع الذاتي عدّة أمور كلّها ليست متوفّرة بلحاظ النسب ، وتوضيح ذلك :

أوّلا : أنّ الجامع الذاتي الحقيقي ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، خلافا للجامع العرضي الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال الأوّل : الإنسان بالنسبة إلى زيد وخالد. ومثال الثاني : الأبيض بالنسبة إليهما.

الجامع الذاتي الماهوي الحقيقي عبارة عن الكلّي الذي يحفظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد من جنس وفصل ؛ لأنّ فرضه ذاتيّا يعني ملاحظة الذاتيّات التي تتألّف منها الماهيّة بعد تجريدها عن الخصوصيّات والقيود الزائدة عنها والتي تعرض عليها ، سواء العرض الخاصّ أو العرض العامّ.

مثاله مفهوم الإنسان الذي يكون جامعا حقيقيّا ذاتيّا لأفراده الخارجيّة كزيد وعمرو وخالد بعد تجريدها عن العوارض والصفات التي تتميّز بها وتشخّصها عن غيرها ، فإنّ الإنسان يحتوي على الجنس والفصل الموجودين في هذه الأفراد وهما الحيوان والناطق ، فكلّ واحد من هذه الأفراد قد حفظ فيه المقوّمات الذاتيّة داخل هذا الجامع الذاتي الحقيقي.

وأمّا الجامع العرضي فهو لا يحافظ على المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، وإنّما يلاحظ فيه جهة مشتركة بين الأفراد أو الأنواع وهذه الجهة المشتركة ليست دخيلة في التركيب الذاتي لهذه الأفراد وإنّما هي جهة وصفة عارضة عليها ، مثاله مفهوم الأبيض الذي يكون جامعا بالنسبة لزيد وخالد أو لهما وللثلج والحليب مثلا ، فإنّه لا يستبطن المقوّمات الذاتيّة لهذه الأفراد ولذلك فهو ليس جامعا ذاتيّا وحقيقيّا ، وإنّما يحتوي هذا الجامع على صفة مشتركة بينها لاحظها العقل وانتزعها من الأفراد وفرضها جامعا عرضيّا انتزاعيّا.

ثانيا : أنّ انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الأفراد مع إلغاء ما به الامتياز.

إنّ انتزاع الجامع الحقيقي من بين الأفراد أو الأنواع بملاحظة الجهة الذاتيّة المشتركة بين الأفراد أو الأنواع جميعا يكون بإلغاء كلّ الخصوصيّات والمشخّصات الأخرى

٣٠٥

التي يمتاز بها هذا الفرد عن ذاك أو ذاك النوع عن الآخر. فمثلا : انتزاع مفهوم الإنسان من زيد وعمرو وخالد يكون بالحفاظ على الجهة الذاتيّة التي يشترك فيها الجميع ، وهي الحيوان الناطق مع إلغاء وتجريد كلّ فرد من خصوصيّاته ومميّزاته الشخصيّة التي تكون عارضة عليه وليس دخيلة في تركيبه الماهوي.

وكذلك انتزاع مفهوم الحيوان من الإنسان والفرس والأسد يكون بالحفاظ على الجهة المشتركة في الجميع ، وهي الحيوان مع إلغاء الفصول والعوارض والخصوصيّات التي تتنوّع بها هذه الأفراد.

ونفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على الجامع الانتزاعي العرضي الذي يلاحظ فيه جهة مشتركة أيضا بين الأفراد أو الأنواع المتكثّرة والمختلفة والمتميّزة ، كانتزاع الأبيض من زيد وعمرو والثلج والورق والحليب ، مع إلغاء كلّ الخصوصيّات والذاتيّات التي يمتاز بها هذا عن ذاك. وعليه فيكون الجامع العرضي يلاحظ فيه الجهة المشتركة العرضيّة.

ثالثا : أنّ ما به امتياز النسب الظرفيّة المذكورة بعضها على بعض إنّما هو أطرافها ، وكلّ نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ، وإلا لم تكن نسبة وربطا في هذه المرتبة.

وعلى أساس ما تقدّم ـ من أنّه لا بدّ من ملاحظة الجهة المشتركة وإلغاء ما به الامتياز ـ نقول :

إنّ المعاني الحرفيّة كالنسبة الظرفيّة مثلا التي لها أفراد متعدّدة ومتكثّرة ذاتا أو موطنا كقولنا : زيد في الدار ، وزيد في المدرسة ، وزيد في الدار كصورة في ذهن المتكلّم أو ذهن السامع أو في الخارج. فهذه النسب المتكثّرة والمتنوّعة نجد أنّ ما به امتياز كلّ نسبة فيها عن الأخرى إنّما هو طرفاها ، فهذه النسبة تختلف عن تلك تبعا لاختلاف الطرفين إمّا ذاتا وإمّا موطنا.

ونجد أيضا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة وهو الطرفان دخيلا في حقيقة النسبة ، بمعنى أنّه ذاتي لها ومقوّم لها ، إذ تقدّم سابقا أنّ النسبة والربط متقوّمة بالطرفين فهي عين الطرفين وهما حقيقة النسبة والربط.

ولذلك يستحيل تصوّر النسبة أو الربط مجرّدة عن الطرفين ؛ لأنّ الطرفين في مرتبة النسبة ذاتها أي هما عين حقيقتها وماهيّتها ، وما كان عين حقيقة الشيء وفي مرتبة

٣٠٦

ذاته لا يمكن تعقّل الشيء مستقلاّ أو مجرّدا عنه ، ولذلك فلا يمكن تعقّل النسبة والربط مستقلاّ عن الطرفين.

ولو فرض أنّه أمكن تصوّر النسبة والربط بمعزل عن الطرفين فهذا معناه أنّ الطرفين ليسا مقوّمين وذاتيّين للنسبة وليسا عين حقيقة النسبة وليسا في مرتبة النسبة ذاتها ، ولذلك فما يكون متعقّلا ليس النسبة أو الربط وإنّما مفهوم النسبة والربط.

وقد ذكرنا سابقا أنّ مفهوم النسبة والربط معنى اسمي ؛ لأنّه يتعقّل مستقلاّ عن الطرفين ، بينما النسبة والربط الحقيقيّين فهما عين الطرفين ولا يمكن فصلهما عن بعضهما أصلا ولو تصوّرا.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ انتزاع الجامع بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف على إلغاء ما به الامتياز ، وهو هنا الطرفان لكلّ نسبة. ولمّا كان طرفا كلّ نسبة مقوّمين لها فما يحفظ من حيثيّة بعد إلغاء الأطراف لا تتضمّن المقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة ، فلا تكون جامعا ذاتيّا حقيقيّا.

الأمر الثالث : أنّ انتزاع الجامع الذاتي بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف كما ذكرنا على الحفاظ على ما به الاشتراك المقوّم لكلّ هذه الأفراد من النسب ، بحيث تكون كلّها مشتركة في جهة ذاتية واحدة ، وعلى إلغاء ما به الامتياز والذي على أساسه يحصل التغاير والاختلاف والتكثّر بين أفراد النسب.

ونحن عرفنا سابقا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة هو الطرفان ؛ لأنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ، فالطرفان وتكثّرهما ذاتا أو موطنا يسبّبان الاختلاف والتغاير والامتياز. فإذا أردنا أن نلغي ما به الامتياز أي الطرفين لم يبق شيء من النسبة ؛ لما تقدّم من أن كلّ نسبة متقوّمة بالطرفين ، بحيث إذا سلب عنها الطرفان لا يمكن تصوّرها أو تعقّلها ؛ لأنّ ذلك بمثابة سلب الشيء عن حقيقته وذاته.

وهذا معناه أنّه لا يوجد جهة اشتراك بين النسب أصلا أو بين أفراد النسبة الواحدة. فالمقوّمات الذاتيّة لا يمكن الحفاظ عليها عند إلغاء ما به الامتياز ؛ لأنّ ما به الامتياز هو نفس المقوّمات الذاتيّة للنسبة ، فإذا ألغي وجرّدت النسبة عنه ألغيت أيضا الجهة المشتركة الذاتيّة المقوّمة.

وحينئذ يستحيل وجود جامع ذاتي حقيقي ؛ لأنّه لا يوجد جهة مشتركة ليتمكّن

٣٠٧

الجامع أن يحافظ عليها بعد إلغاء ما به الامتياز من النسب أي الطرفين ، إذ بعد إلغاء الطرفين لا يكون هناك نسبة ، وإنّما مفهوم واسم للنسبة فقط لا النسبة الحقيقيّة.

وهذا برهان على التغاير الماهوي الذاتي بين أفراد النسب الظرفيّة ، وإن كان بينها جامع عرضي اسمي وهو نفس مفهوم النسب الظرفيّة.

الأمر الرابع : أنّ النسب المتعدّدة أنواعا وأفرادا كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة الاستعلائيّة ، بل وأفراد النسبة الظرفيّة أيضا التي هي نوع واحد تحته أفراد ومصاديق متعدّدة ومتكثّرة ، كلّ هذه النسب متغايرة فيما بينها تغايرا ماهويّا ذاتيّا.

فكلّ نسبة وكلّ فرد من أفراد النسبة يختلف ويباين ويغاير الفرد الآخر من النسبة حتّى وإن كان متّحدا معه في النوع.

وهذا التغاير ذاتي وماهوي بمعنى أنّ ذات وماهيّة هذه النسبة تختلف وتباين ذات وماهيّة النسبة الأخرى ، لما عرفنا من أنّ كلّ نسبة تمتاز وتتقوّم بالطرفين. فما دامت النسبة بين الطرفين فهي مباينة للنسبة الأخرى لوجودها بين طرفين آخرين ، وكلّ طرفين مباينان ومغايران للطرفين في النسب الأخرى.

وبهذا ظهر أنّه يستحيل وجود جامع ذاتي ماهوي لعدم وجود مفهوم كلّي تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للنسب المتعدّدة. نعم ، يمكن أن يكون هناك جامع عنواني اسمي وليس عرضيّا ، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفيّة ، فإنّ هذا المفهوم كاسم ينطبق على كلّ النسب الظرفيّة يكون جامعا عنوانيّا اسميّا. وفرقه عن الجامع العرضي أنّ الجامع العرضي فيه جهة اشتراك بين النسب ، ولكنّها ليست ذاتيّة. وهنا لا توجد جهة اشتراك أصلا لا ذاتيّة ولا عرضيّة ، وإنّما هناك مفهوم لفظي اسمي ينطبق على الجميع.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم أثبت المحقّقون أنّ الحروف موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ (١) ؛ لأنّ المفروض عدم تعقّل جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له ، فلا بدّ من وضع الحرف لكلّ نسبة بالخصوص ، وهذا إنّما يتأتّى باستحضار جامع عنواني عرضي مشير ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

__________________

(١) كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٥٥ ـ ٥٦ ، والسيّد الخوئي في المحاضرات ١ : ٨٢ ، وغيرهما إلا أنّ اعتماد هؤلاء في هذه النظريّة على مثل هذا التفصيل الذي سبق في المتن غير واضح.

٣٠٨

ذهب المحقّقون من الأصوليّين الى أنّ الحروف الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ كما هو الصحيح ؛ وذلك لأنّه لا يوجد جامع ذاتي حقيقي بين النسب المختلفة ، بل بين أفراد النسبة الواحدة ، ولذلك لا يوجد مفهوم كلّي ليوضع له اللفظ.

وإنّما هناك نسب متعدّدة ومتكثّرة وكلّ نسبة منها متقوّمة بطرفيها ، ولذلك يكون الوضع لكلّ نسبة نسبة على حدة بخصوصها.

ولكن حيث أمكن انتزاع جامع عرضي عنواني يكون مشيرا إلى أفراد النسبة الواحدة ـ كأفراد النسبة الظرفيّة مثلا المتعدّدة والمتكثّرة ـ كان الوضع بإزاء هذا المفهوم الانتزاعي العرضي المشير إلى الأفراد. فكان الوضع عامّا بملاحظة هذا الجامع العنواني العرضي والموضوع له خاصّ ؛ لأنّ الموضوع له هو كلّ نسبة بخصوصها ، إذ لا يوجد جامع حقيقي بين النسب المختلفة ليوضع له ويكون موضوعا.

وعليه ، فما قيل : من أنّ الوضع عامّ والموضوع له عامّ غير صحيح ؛ لأنّه متوقّف على الجامع الحقيقي وهو غير معقول في النسب كما تقدّم.

وليس المراد بالخاصّ الجزئي بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّ النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّيّة طرفيها ، بل كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فجزئيّة المعنى الحرفي جزئيّة بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

الإشكال : هو أنّ الموضوع له إذا كان خاصّا فهو جزئي بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين ، فوضع كلمة ( في ) للظرفيّة معناه أنّ الظرفيّة المتقوّمة بالطرفين خارجا وضع لها كلمة ( في ) ، فيلزم كون الوضع خاصّا أيضا بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين. وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ كلمة ( في ) موضوعة للنسبة الظرفيّة التي هي مفهوم كلّي عرضي فيلزم كون الموضوع له عامّا أيضا.

والحاصل إمّا أن يكون الوضع خاصّا والموضوع له خاصّا أو يكون الوضع عامّا والموضوع له عامّا أيضا ، ولا معنى للوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

والجواب : أنّ الخاصّ الموضوع له اللفظ العامّ ليس المراد فيه الجزئي الحقيقي الذي لا ينطبق على كثيرين ؛ لأنّه من الواضح أنّ النسبة الظرفيّة مثلا وغيرها من النسب

٣٠٩

تقبل الانطباق على كثيرين ؛ لأنّ الطرفين كلّيّان فتكون النسبة كلّيّة بتبع كلّيّة الطرفين.

وإنّما المراد من الخاصّ هنا هو كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فالموضوع له خاصّ ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بالطرفين ومتخصّصة بهما. وهذا يعني أنّ المعنى الحرفي يطلق عليه عنوان الجزئي تبعا للطرفين المتقوّم بهما والذي لا ينفكّ عنهما. وأمّا الطرفان أنفسهما فهما كلّيّان لأنّهما ينطبقان على كثيرين في الخارج.

ولذلك يكون المراد من الخاصّ هو المفهوم الأخصّ من مفهوم آخر والذي يكون بذاته كلّيّا ، كالجزئي الإضافي فإنّه كلّي في نفسه ، ولكنّه إذا أضيف إلى مفهوم أوسع منه كان جزئيّا بالإضافة إليه ، كالإنسان المضاف إلى الحيوان فهو جزئي إضافي ولكنّه في نفسه كلّي.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الموضوع له وإن كان خاصّا تبعا لكون النسبة مخصوصة بطرفيها ، إلا أنّه عامّ ؛ لأنّ الطرفين ينطبقان على كثيرين في الخارج. فكان الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ ، أي المفهوم الكلّي الأضيق دائرة من الوضع ، حيث إنّ الوضع كان إزاء الجامع العرضي الانتزاعي المشير إلى النسب المختلفة المتكثّرة ، ولكن الموضوع له كان كلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين.

٣١٠

هيئات الجمل

٣١١
٣١٢

هيئات الجمل

كما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على أنحائها كذلك هيئات الجمل ، غير أنّ الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة ، وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

الجملة وهي الهيئة التركيبيّة ونحوها من تراكيب لغويّة من فعل وفاعل أو من مبتدأ وخبر تشتمل على مادّة وعلى هيئة كصيغة ( افعل ) و ( لا تفعل ) ، فإنّ المادّة التي تتكوّن منها الجملة مفهوم اسمي ؛ لأنّ المادّة هي المصدر وهو المفهوم القابل لأن يتصوّر عقلا ، مستقلاّ من الجملة من قبيل ( الضرب ) في قولنا : ( ضرب زيد ). نعم المادّة في الخارج مرتبطة دائما بالطرفين ، إذ يستحيل تحقّق المادّة من دونهما في الخارج.

وأمّا الهيئة وهي الصيغة التي ركّبت منها المادّة كهيئة : ( فعل ) أو ( افعل ) أو ( لا تفعل ) فهي معنى حرفي ؛ لأنّها لا تتصوّر إلا في طرفين هما المادّة أو المسند والمسند إليه ، أو الشرط والجزاء ، أو الفاعل أو المفعول. وهذا يعني أنّ الهيئة موضوعة للنسبة وللربط الحقيقتين ، أي بالحمل الشائع ، فحقيقتها الربط كما تقدّم في الحروف.

فكما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على اختلاف أنحائها كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة وغيرها كذلك هيئات الجمل موضوعة للنسبة على مختلف أنحائها.

وحيث إنّه يوجد في اللغة نحوان من الجمل هما الجملة الناقصة والجملة التامّة فيكون هناك أيضا نحوان من النسب. فالجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وخالف في ذلك السيّد الأستاذ ؛ إذ ذهب إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة

٣١٣

لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الأولى ، أي لقصد إخطار المعني. وأنّ هيئة الجملة التامّة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهو قصد الحكاية في الجملة الخبريّة أو الطلب ، وجعل الحكم في الجملة الانشائيّة ، وهكذا (١).

ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الأولى والتي هي إخطار الحصّة الخاصّة من المعنى في ذهن السامع. فالمتكلّم يقصد من هذه الجملة الناقصة أن يخطر في ذهن السامع الحصّة الخاصّة من المفهوم ، فقوله ( زيد العالم ) أو ( علم زيد ) الغرض منه بهذا التركيب الناقص أن يخطر هذه الحصّة الخاصّة من زيد أي علمه فقط ؛ تمهيدا للحكم عليه أو للإخبار عنه.

بينما هيئة الجملة التامّة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الثانية ، أي لأجل الحكاية أو الطلب. فقولنا : ( زيد عالم ) أو ( ضرب زيد ) الغرض منه هو الحكاية والإخبار ، فالمتكلّم قصد من هذه الهيئة إخطار ذات المعنى والمفهوم في ذهن السامع لأجل الإخبار والحكاية عنه ، وقوله : ( اضرب زيدا ) أو ( لا تسرق ) الغرض هو الطلب وجعل الحكم كالوجوب أو الحرمة.

وهذا يعني أنّ الهيئة في الجملتين الناقصة والتامّة ليست موضوعة للنسبة ، وإنّما هي موضوعة للقصد ، ولكنّه قصد الإخطار في الجملة الناقصة تمهيدا للغرض عند المتكلّم ، بينما في الجملة التامّة يكون هذا القصد نفس الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم. وعليه فلا يعقل أن يكون الفرق بين الجملتين في كون النسبة في إحداهما ناقصة وفي الأخرى تامّة ؛ لأنّ النسبة لا تقبل الزيادة والنقصان أو القلّة والكثرة ، بل هي إمّا أن توجد أو لا توجد.

وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهّد الذي يقتضي أن تكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقيّا كما تقدّم (٢).

__________________

(١) أقرب ما وجدناه إلى هذا البيان في كلمات السيّد الخوئي ما جاء في هامش أجود التقريرات ١ : ٢٤ كما جاءت الإشارة إليه في هامش الصفحة ٣١ من نفس المصدر.

(٢) في الحلقة الثانية ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة.

٣١٤

وما ذهب إليه السيّد الخوئي مبني على مسلك التعهّد الذي قال به بالنسبة للوضع ، حيث إنّه فسّر الوضع بالتعهّد. فالمتكلّم يتعهّد بأنّه لا يحضر اللفظ إلا إذا قصد إحضار المعنى ، كما تقدّم في الحلقة الثانية. والذي على أساسه سوف تكون الدلالة الوضعيّة دائما تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقي دائما.

فبناء على هذا المسلك فسّر الفرق بين الجملتين الناقصة والتامّة ، حيث قال بأنّ الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص. فالمتكلّم يخطر الحصّة الخاصّة من المفهوم في ذهن السامع تمهيدا للحكم أو الإخبار أو الطلب ، بينما الجملة التامّة موضوعة للتحصيص لنفس الإخبار والحكاية والطلب لذات المفهوم والمعنى.

فالمدلول الوضعي هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّ الوضع تعهّد ، والكاشف عن هذا التعهّد هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّها تكشف عن أنّ المتكلّم أراد تفهيم السامع أمّا الحصّة أو ذات المفهوم.

والصحيح : ما عليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما في الكلمات الإفراديّة وفي الجمل ، وأنّ الجملة حتّى التامّة لا تدلّ بالوضع إلا على النسبة دلالة تصوّريّة ، وأمّا الدلالتان التصديقيّتان فهما سياقيّتان ناشئتان من ظهور حال المتكلّم.

الصحيح : ما ذهب إليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما وليس تصديقيا ، سواء في الكلمات الإفراديّة كالبحر وزيد وعالم أو في الجمل : ( زيد عالم ) و ( زيد العالم ) و ( اضرب زيدا ) و ( لا تضرب عمرا ).

فإنّ الوضع في الجميع هو المدلول التصوّري والذي يكون محفوظا دائما ، سواء كان هناك قصد أم لم يكن ، وسواء كان هناك قصد للحقيقة أم المجاز. وقد تقدّم في الحلقة السابقة فساد مسلك التعهّد ؛ لاستلزامه تعدّد الوضع والواضع ، ولاستلزامه إلغاء المجاز ، ولاستلزامه إلغاء الوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال.

ويضاف إلى ذلك هنا : أنّ الجملة التامّة فضلا عن الجملة الناقصة لا تدلّ وضعا إلا على النسبة تصوّرا ؛ لأنّنا لو جرّدنا الجملة التامّة عن قصد الحكاية والإخبار أو الطلب وجعل الحكم لا يعني ذلك أنّها تصير كالجملة الناقصة ، فالفرق ثابت بينهما دائما في مرحلة سابقة عن القصد والمدلول التصديقي ، وهو فارق بلحاظ الدلالة التصوّريّة. ففرق بين قولنا : ( زيد العالم ) والتي هي جملة ناقصة وبين قولنا : ( هل زيد عالم )

٣١٥

والتي هي جملة تامّة مجرّدة عن قصد الحكاية والإخبار ؛ لأنّ الاستفهام يسلب الإخبار والحكاية ، وهذا يعني أنّ المدلول الوضعي التصوّري في الجملة الناقصة يختلف عن المدلول الوضعي في الجملة التامّة ، سواء كان فيها قصد أم لا. وهذا الفارق هو أنّ النسبة في الجملة الناقصة تختلف عن النسبة في الجملة التامّة ، فالدلالة الوضعيّة التصوّريّة في الجملتين مختلفتان ، وهذا الاختلاف هو أنّ الجملة الناقصة موضعة لنسبة ناقصة لم تتمّ ولذلك لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وما ذكره من كون الجملة الناقصة تدلّ على حصّة من المعنى وتخطره في الذهن ، حيث جعلها كالحروف الدالّة على التحصيص غير صحيح ؛ لأنّ نظريّة التحصيص التي ذكرها غير تامّة في كلّ الحروف على فرض التسليم بها ، فإنّ حروف العطف والإضراب لا تدلّ على الحصّة ، بل على ذات المعنى والمفهوم كقولنا : ( جاء زيد بل عمرو ) وكقولنا : ( جاء زيد وعمرو ).

وأمّا الدلالتان التصديقيّتان الأولى والثانية فهما من شئون ظهور الحال للمتكلّم وكونه في مقام البيان والتفهيم ، فإذا لم ينصب قرينة على المجاز ولم يأت بما يخالف مراده كان ذلك سببا لحدوث الدلالتين التصديقيّتين في أنّه استعمل اللفظ في المعنى الحقيقي ، وأنّه يريده جدّا ، وليستا من شئون اللفظ والدلالة الوضعيّة التصوّريّة.

٣١٦

الجملة التامّة

والجملة الناقصة

٣١٧
٣١٨

الجملة التامّة والجملة الناقصة

ولا شكّ في الفرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقي موضوعا له ميّز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

الجملة التامّة كقولنا : ( زيد عالم ) جملة يحسن السكوت عليها وتقبل الحكم عليها بالصدق أو الكذب من خلال مطابقتها للواقع وعدمه ، بينما الجملة الناقصة كقولنا : ( زيد العالم ) جملة لا يحسن السكوت عليها ولا تتّصف بالصدق والكذب.

ولذلك يوجد فرق بين الجملتين في المعنى الموضوع له فيهما ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عن المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة.

وحينئذ فإن قيل بأنّ المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له دائما كما هو مسلك السيّد الخوئي القائل بالتعهّد ، والذي يكون على أساسه المدلول الوضعي تصديقي دائما ؛ لأنّه لا يأتي باللفظ إلا عند قصد المعنى وإخطاره في ذهن السامع ، فهنا يكون التمييز بين الجملتين على أساس المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة ، بحيث يكون المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة هو الحصّة الخاصّة من المعنى ويراد إخطارها في ذهن السامع ، بينما المعنى الموضوع له في الجملة التامّة هو ذات المعنى لأجل الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم.

ونحن قد عرفنا عدم صحّة هذا المبنى فيبطل البناء عليه أيضا لأنّ الصحيح ما عليه المشهور وهو :

وأمّا بناء على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له فنحن بين أمرين :

__________________

(١) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : المقارنة بين الجمل التامّة والناقصة.

٣١٩

إمّا أن نقول : إنّه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوّري ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي. وإمّا أن نسلّم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوّري.

وأمّا على مبنى المشهور الصحيح من أنّ المدلول الوضعي هو المدلول التصوّري دائما ، والمعنى الموضوع له في الجملتين التامّة والناقصة هو المدلول التصوّري لا التصديقي ؛ لأنّ المدلول التصديقي مرتبط بظهور حال المتكلّم وأنّه في مقام البيان والتفهيم لمراده الحقيقي الجدّي ، بخلاف المدلول التصوّري المرتبط بالصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ في كلّ الحالات حتّى مجازا وهزلا. وحينئذ نحن بين أمرين :

الأوّل : إمّا أن نقول بمقالة صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الموضوع له في الحروف هو نفسه المعنى الموضوع له في الأسماء ، وإنّما الاختلاف بينهما في كيفيّة اللحاظ حال الاستعمال والذي يكون قيد في العلاقة الوضعيّة لا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

فحينئذ فالمدلول التصوّري في الجملتين التامّة والناقصة واحد ؛ لأنّهما يدلاّن على مفهوم واحد. وإنّما المدلول التصديقي مختلف بين الجملتين ، فينحصر الاختلاف في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّية دون أن يكون هناك خلاف بينهما في مرحلة المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة.

وهذا يتّفق مع مسلك التعهّد من حيث النتيجة ، ولكنّه يختلف عنه من حيث المبنى ، فإنّ مبنى التعهّد هو أنّ المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقي ، بينما على مسلك الآخوند فالمعنى الموضوع له هو المدلول التصوّري دائما.

الثاني : أن نقول بوجود الاختلاف بين الجملتين ، في مرحلة المدلول التصوّري أيضا ، كما هو المشهور والصحيح ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عنه في الجملة الناقصة.

والأوّل باطل ؛ لأنّ المدلول التصوّري إذا كان واحدا وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلول تصديقي من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة؟! ولما ذا لا يصحّ أن يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟!

٣٢٠