شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

إذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الأمارة بالدلالة الالتزاميّة من قبيل اللازم الأعمّ فهو محتمل الثبوت حتّى مع عدم ثبوت المدلول المطابقي.

اللازم على ثلاثة أقسام :

١ ـ أن يكون اللازم مساويا للملزوم كالإخبار عن دخول إنسان إلى المسجد ، فلازمه المساوي وجود الناطق أو الضاحك في المسجد ، وهنا لا إشكال في تبعيّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في الحجّيّة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ المتساويين يوجدان معا ويرتفعان معا وإلا لم يكونا متساويين.

٢ ـ أن يكون اللازم أخصّ من الملزوم كالإخبار بدخول حيوان إلى البيت ، فلازمه الأخصّ وجود إنسان في البيت مثلا. فهنا أيضا يسقط المدلول الالتزامي عند سقوط المدلول المطابقي عن الحجّيّة ؛ لأن الأخصّ لا يثبت بدون الأعمّ ، فإذا انتفى الأعمّ انتفى الأخصّ ضمنا.

٣ ـ أن يكون اللازم أعمّ من الملزوم كالإخبار بدخول الإنسان إلى المسجد ، فلازمه الأعمّ وجود حيوان في المسجد ، فهنا إذا انتفى المدلول المطابقي وسقط عن الحجّيّة لوجود المعارض له مثلا أو للعلم بالخطإ والاشتباه فيه ، فهنا يحتمل سقوط المدلول الالتزامي ويحتمل بقاؤه ؛ وذلك لأنّ الأعمّ كما يصدق مع هذا الأخصّ كذلك يصدق مع غيره ، فإذا انتفى هذا الأخصّ فليس من الضروري أن ينتفي الأعمّ أيضا ؛ لإمكان وجوده مع غيره ، ولذلك يكون المدلول الالتزامي في هذا الفرض محتمل الثبوت أيضا. ومثال فقهي لذلك : الإخبار بوجوب شيء فلازمه الأعمّ الجواز مطلقا ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن لم يكن هناك وجوب فالجواز مطلقا يمكن ثبوته ؛ لأنّه يثبت مع الوجوب ويثبت مع غيره

٢٢١

كالاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخصّ ، فهو محتمل الثبوت لذلك.

وحينئذ إذا سقطت الأمارة عن الحجّيّة في المدلول المطابقي لوجود معارض أو للعلم بخطئها فيه فهل تسقط حجّيّتها في المدلول الالتزامي أيضا أو لا؟

والكلام حينئذ فيما إذا قامت الأمارة على وجوب شيء مثلا فكان الوجوب مدلولا مطابقيّا ـ لأنّه مؤدّى الأمارة ـ كخبر الثقة ، فحيث إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة كما تقدّم فالمدلول الالتزامي ثابت وهو الجواز مطلقا في المثال. فإذا تبيّن فيما بعد أنّ هذه الأمارة كانت مخطئة أو سقطت عن الحجّيّة لوجود معارض لها كخبر الثقة يدلّ على الاستحباب مثلا أو ينفي الوجوب.

فالسؤال هنا هو : إنّ هذا المدلول الالتزامي الأعمّ هل يسقط عن الحجّيّة أيضا تبعا لسقوط حجّيّة المدلول المطابقي أو لا يسقط؟

قد يقال : إنّ مجرّد تفرّع الدلالة الالتزاميّة على الدلالة المطابقيّة وجودا لا يبرّر تفرّعها عليها في الحجّيّة أيضا.

ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني إلى عدم سقوط المدلول الالتزامي عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي ؛ وذلك لأنّ دليل الحجّيّة العامّ يشملهما معا ، فكلّ منهما فرد مستقلّ لدليل الحجّيّة ؛ لأنّه إخبار مستقلّ عن الآخر. فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة بقي الآخر ؛ إذ لا مبرّر لسقوطه.

ومجرّد كون الدلالة الالتزاميّة متفرّعة وجودا أو ثبوتا على الدلالة المطابقيّة لا يكون مبرّرا للقول بأنّها متفرّعة عليها في الحجّيّة والسقوط أيضا ؛ إذ يمكن التفكيك بين الأمرين ظاهرا فيبقى حجّة ما لم يعلم بسقوطه

لقرينة أو دليل أو معارض ونحو ذلك.

وقد يقرّب التفرّع في الحجّيّة بأحد الوجهين التاليين :

القول الثاني وهو الصحيح : إنّ الدلالة الالتزاميّة كما أنّها تتبع الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود فهي تابعة لها في الحجّيّة والسقوط أيضا. وهذا ما يسمّى بأنّ الدلالة الالتزاميّة متفرّعة ومرتبطة بالدلالة المطابقيّة ثبوتا وحجّيّة.

وهنا يوجد تقريبان لهذا المبنى :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المدلول الالتزامي مساو دائما للمدلول

٢٢٢

المطابقي وليس أعمّ منه. فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقي أو المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامي أيضا.

التقريب الأوّل : لإثبات سقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة عند سقوط المدلول المطابقي عنها : ما ادّعاه السيّد الخوئي من أنّ المدلول الالتزامي دائما مساو للمدلول المطابقي ، وهذه الدعوى واضحة فيما إذا كان اللازم مساويا أو أخصّ كما تقدّم سابقا.

وأمّا إذا كان اللازم أعمّ كالجواز اللازم الأعمّ للوجوب والحيوان اللازم الأعمّ للإنسان فهذا يحتاج إلى دليل لإثبات المساواة بينه وبين الملزوم الأخصّ. فإذا ثبتت المساواة بينهما فحينئذ يكون المعارض للمدلول المطابقي معارضا للمدلول الالتزامي أيضا ، فإذا سقط عن الحجّة تبعه في السقوط أيضا فيكون متفرّعا عليه ثبوتا وسقوطا.

فالمدلول الالتزامي وإن كان بظاهره أعمّ مطلقا من المدلول المطابقي إلا أنّه بالتحليل والدقّة مساو له دائما ، والوجه في ذلك :

والوجه في المساواة ـ مع أنّ ذات اللازم قد يكون أعمّ من ملزومه ـ أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان :

إحداهما مقارنة مع الملزوم الأخصّ ، والأخرى غير مقارنة.

والأمارة الدالّة مطابقة على ذلك الملزوم إنّما تدلّ بالالتزام على الحصّة الأولى من اللازم وهي مساوية دائما.

البرهان الذي ذكره السيّد الخوئي هو أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان : حصّة تقع طرفا في الملازمة ، وحصّة أخرى ليست واقعة كذلك. فالحصّة المقارنة مع الملزوم الذي هو المدلول المطابقي غير الحصّة الأخرى من اللازم الأعمّ وليست مقارنة لها.

فالحصّة المقارنة : هي التي تقع طرفا في الملازمة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ الأمارة الدالّة على المدلول المطابقي الذي هو الملزوم إنّما تدلّ على ثبوت الحصّة المقارنة من اللازم لا على اللازم مطلقا ، لذلك فالمساواة بينهما دائميّة فيثبت التفرّع فيهما.

وتوضيح ذلك بالمثال : الأمارة الدالّة على وقوع قطرة بول في هذا الثوب المعيّن ، فإنّها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على النجاسة أيضا ، إلا أنّ النجاسة وإن كانت لازما أعمّ من وقوع قطرة البول ـ لأنّها تصدق معها ومع غيرها أيضا كقطرة الدّم مثلا ـ

٢٢٣

لكنّها في الحقيقة مساوية للملزوم ؛ وذلك لأنّ الأمارة لا تخبر عن النجاسة مطلقا بوجودها السعي المنتشر ، وإنّما تخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة وهي الحصّة المقارنة مع الملزوم ، أي عن النجاسة الحاصلة من وقوع قطرة البول لا عن النجاسة مطلقا وبأي سبب آخر. وهذا يعني أنّ الدلالة الالتزاميّة هي التي تقع طرفا في الملازمة ـ حيث إنّ الملازمة تتألّف من اللازم والملزوم والعلاقة بينهما ، فالملزوم هو المدلول المطابقي واللازم هو المدلول الالتزامي والعلاقة هي الملازمة بينهما ولا تقع طرفا بما هي لازم أعمّ ، بل بما هي حصّة من اللازم وهي الحصّة المقارنة للملزوم. ولذلك فهناك مساواة بين وقوع قطرة البول وبين النجاسة ثبوتا ، وكذلك بينهما مساواة في الحجّيّة أيضا. فإذا علم بعدم حجّيّة المدلول المطابقي لخطأ الأمارة مثلا أو لوجود المعارض لها فإنّه يعلم أيضا بعدم حجّيّة المدلول الالتزامي أيضا ؛ لأنّه مساو دائما والمتساويان يثبتان معا ويرتفعان معا ، ولا معنى للتفكيك بينهما. فإذا سقطت هذه الحصّة من اللازم المقارنة للملزوم دائما لم يبق هناك ما يدلّ على بقاء اللازم وحجّيّته ، بل يحتاج ذلك إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ؛ لأنّ الأمارة لا تدلّ على ثبوت اللازم مطلقا ومن جميع الحيثيّات ، بل من هذه الحيثيّة فقط ، فإذا انتفت هذه الحيثيّة انتفى اللازم وثبوته يحتاج إلى حيثيّة أخرى.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة ، فإن كان طرف الملازمة هو الحصّة كانت هي المدلول الالتزامي ، وإن كان طرفها الطبيعي وكانت مقارنته للملزوم المحصّصة له من شئون الملازمة وتفرعاتها كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي.

الملازمة مؤلّفة من طرفين اللازم والملزوم والعلاقة بينهما تسمّى بالملازمة ، وفي مقام بحثنا نقول : إنّ الملزوم هو المدلول المطابقي الذي هو مؤدّى الأمارة ، واللازم هو المدلول الالتزامي لهذا المؤدّى والمفاد.

وتفريع اللازم على الملزوم والعلاقة بين المدلول المطابقي والالتزامي تسمّى بالملازمة.

ثمّ إنّ هذا المدلول الالتزامي الذي يقع طرفا في الملازمة على قسمين :

الأوّل : ما كان له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الحصّة الخاصّة التي لها وجود مستقلّ قبل هذه الملازمة ،

٢٢٤

فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة. فهنا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي.

الثاني : ما ليس له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بل كان ثبوته وتحقّقه متفرّعا على وجود الملازمة وفي طولها ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الطبيعي وذات الماهيّة والمفهوم ، وبعد طروء الملازمة يصبح هذا اللازم الطبيعي متحصّصا بحصص بعضها مقارن للملزوم وهو الحصّة المقارنة له والتي تحقّقت وتفرّعت وثبتت في طول الملازمة ، وبعضها غير مقارن له. فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو ذات الطبيعي ، والحصّة إنّما نشأت في طول هذه الملازمة فهي متأخّرة وجودا وتحقّقا عنها وفي طولها.

فهنا لا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي. وتوضيح ذلك بالمثالين التاليين :

ومثال الأوّل : اللازم الأعمّ المعلول بالنسبة إلى إحدى علله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة إلى دخول زيد في النار ، فإذا أخبر مخبر بدخول زيد في النار فالمدلول الالتزامي له حصّة خاصّة من الموت ، وهي الموت بالاحتراق ؛ لأنّ هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.

القسم الأوّل : هو أنّ يكون طرف الملازمة هو الحصّة ، ومثاله اللازم الأعمّ وهذا اللازم معلول لإحدى علل كثيرة ، فهو بالنسبة إلى علله معلول وبالنسبة إلى واحدة منها بالخصوص فهو أعمّ. من قبيل الموت فإنّه لازم أعمّ لوجود علل كثيرة له كالضرب بالسيف والاحتراق وكالغرق وكشرب السمّ ونحو ذلك ، فإذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار واحتراقه فيها فهذا مدلول مطابقي وهذا له لازم أعمّ وهو موته بسبب الاحتراق لا موته مطلقا وبأي سبب آخر. وعليه ، فالمدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة من الموت وهي الموت بالاحتراق لا الموت مطلقا ، وهذه الحصّة الخاصّة موجودة ومتحقّقة وثابتة قبل طروء الملازمة ، بمعنى أنّ الملازمة انصبّت على هذه الحصّة من الموت فاللازم هو الموت بالاحتراق والملزوم هو دخوله إلى النار ، والملازمة أنّه مات بالاحتراق بسبب دخوله إلى النار.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الحصّة من اللازم الأعمّ مقارنة ومساوية دائما للملزوم ، فإنّ الاحتراق مساو ومقارن للدخول إلى النار ، فإذا تبيّن فيما بعد اشتباه هذه الأمارة أو

٢٢٥

خطؤها أو سقطت عن الحجّيّة لوجود المعارض لها سقط أيضا المدلول الالتزامي المساوي ؛ لأنّ المتساويين يصدقان معا ويرتفعان معا ، فيكون ما ذكره السيّد الخوئي تامّا هنا.

ومثال فقهي لذلك : النجاسة اللازم الأعمّ مع أحد أسبابها كالبول أو الدّم ونحوهما ، فإذا أخبر مخبر بسقوط قطرة بول على الثوب فلازمه تنجّس الثوب ، ولكن هذا اللازم الأعمّ ليس هو طرف الملازمة وإنّما طرفها هو الحصّة الخاصّة ، أي النجاسة المسبّبة عن البول لا مطلق النجاسة فطرف الملازم هو الحصّة المقارنة مع المدلول المطابقي وهي مساوية له دائما. وعليه ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة سقط المدلول الالتزامي أيضا ، فتنتفي النجاسة عن الثوب إذا علم بعدم وقوع البول ؛ لأنّ المخبر إنّما يخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة لا عن ذات النجاسة.

فالملازمة بين دخوله إلى النار وبين الاحتراق والذي هو حصّة خاصّة من الموت ومن ثمّ يثبت الموت ؛ لأنّه معلول للاحتراق. فالطرف كان الحصّة ، والأعمّ كان متفرّعا عن الحصّة وفي طول ثبوتها أوّلا.

ومثال الثاني الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه ، كعدم أحد الأضداد بالنسبة إلى وجود ضدّ معيّن من أضداده.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول الالتزامي له عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ؛ لأنّ طرف الملازمة لوجود أحد الأضداد ذات عدم ضدّه لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وإنّما هذا التقيّد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا أنّه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

القسم الثاني : هو أن يكون طرف الملازمة الطبيعي ، ومثاله الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه كما إذا كان هناك تلازم من الجانبين معا ، فإنّ أحدهما ملازم للآخر وليس فيهما لازم وملزوم ؛ لأنّه ليس بينهما علّة ومعلول. من قبيل عدم أحد الأضداد عند وجود ضدّ معيّن من أضداده ، فإنّ التلازم متحقّق من الطرفين ، فوجود الضدّ يلازمه انتفاء الضدّ الآخر ، بناء على حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين معا.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول المطابقي أنّها صفراء ، وأمّا المدلول الالتزامي

٢٢٦

فهو ذات عدم أحد الأضداد كالسواد مثلا. فنقول : إنّ ثبوت الصفرة للورقة يلازمه عدم سوادها مثلا على أساس حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، فالمدلول الالتزامي هو عدم السواد مطلقا وليس عدم حصّة معيّنة من عدم السواد والتي هي الحصّة المقارنة مع صفرة الورقة.

والوجه في أنّ المدلول الالتزامي لصفرة الورقة هو ذات عدم السواد لا الحصّة المقارنة هو أنّ منشأ هذا التلازم هو حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت أحد الضدّين ارتفع ذات الضدّ الآخر لا حصّة معيّنة من الضدّ الآخر. وهنا كذلك فإنّه إذا ثبتت صفرة الورقة ارتفع عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي عدم السواد المقارن لوجود الصفرة.

نعم ، هذه الحصّة المقارنة والعدم المقيّد بذاك الوجود للضدّ إنّما يثبت في طول هذه الملازمة ، بحيث يكون متفرّعا ومترتّبا على الملازمة ومتحقّقا بعد الفراغ عن طروء الملازمة ، فإنّه يقال : إنّ عدم السواد الملازم للصفرة مقارن لوجود الصفرة ، إلا أنّ هذه الملازمة للحصّة المقارنة كانت في طول الملازمة الأولى ومتفرّعة عنها.

وحينئذ نقول : إذا سقط هذا المدلول المطابقي عن الحجّيّة وتبيّن أنّ الورقة ليست صفراء فهنا تسقط الحصّة المقارنة من اللازم وهي عدم السواد المقارن للصفرة ، إلا أنّ هذه الحصّة لم تكن هي المدلول الالتزامي ولم تقع طرفا للملازمة ، وإنّما ذات عدم السواد هو المدلول الالتزامي. وعليه ، فالساقط غير المدلول الالتزامي ، وأمّا المدلول الالتزامي فهو لا يزال باقيا على حجّيّته ؛ ولذلك فما ذكره السيّد الخوئي لا يتمّ هنا ؛ لأنّ ذات عدم الضدّ ليس داخلا في المعارضة ، وأمّا الحصّة المقارنة فهي تسقط لأنّها داخلة في المعارضة.

ومثال فقهي لذلك : الدليل الدالّ على الوجوب ، فالمدلول الالتزامي هو ذات عدم الترخيص مثلا الذي هو أحد أضداد الوجوب ، ثمّ بعد الملازمة تثبت الحصّة المقارنة للوجوب وهي عدم الترخيص المقارن كاللاحرمة مثلا ، وهذا هو يسقط عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي. وأمّا المدلول الالتزامي والذي هو طرف الملازمة أي ذات عدم الترخيص فهو غير ساقط عن الحجّيّة ؛ لعدم دخوله في المعارضة ، وإنّما الداخل هو الحصّة أي اللاحرمة المقارنة فقط.

٢٢٧

فالملازمة بين الوجوب أو الصفرة وبين ذات عدم الضدّ الذي هو اللازم الأعمّ. وبعد ذلك تتفرّع الحصّة المقارنة للملزوم ، فطرف الملازمة كان اللازم الأعمّ ثمّ بعد ذلك وفي طوله نشأت الحصّة.

الثاني : أنّ الكشفين في الدلالتين قائمان دائما على أساس نكتة واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في إدراكه الحسّي للواقعة ، فإذا أخبر الثقة عن دخول شخص للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار ، فإذا علم بعدم دخوله وأنّ المخبر اشتبه في ذلك فلا يكون افتراض أنّ الشخص لم يمت أصلا متضمّنا لاشتباه أزيد ممّا ثبت.

التقريب الثاني : بناء على ما هو الصحيح من أنّ المدلول الالتزامي إنّما يثبت لأجل أنّ الحيثيّة الكاشفة في الأمارة نسبتها إلى المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وعليه فالكشفان الثابتان في المدلولين الالتزامي والمطابقي قائمان على أساس نكتة واحدة وهي الحيثيّة الكاشفة عن الواقع والموجبة للنظر في الأمارة ، والتي على أساسها كان الترجيح.

ففي الأخبار والحكاية لدينا نكتة استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه عن الثقة الناقل للواقعة التي شاهدها حسّا أو رآها كذلك ، وفي الإنشاءات والقضايا التكوينيّة المجعولة لدينا نكتة الظهور وحجّيّته العقلائيّة على أساس كاشفيّته ، وحينئذ نقول : إذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار يثبت مدلوله المطابقي وهو دخوله النار واحتراقه ، ويثبت مدلوله الالتزامي وهو موته بسبب ذلك. والوجه في الثبوت هو الحيثيّة الكاشفة الموجودة في المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وهذه النكتة هي استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه في الإدراكات الحسيّة. فإذا علمنا فيما بعد أنّه أخطأ أو اشتبه أو كذب أو سقط مدلوله المطابقي عن الحجّيّة لوجود المعارض مثلا فهنا تسقط هذه الحيثيّة الكاشفة والتي كانت الأساس لثبوت المدلولين المطابقي والالتزامي ، ومع سقوطها يسقط المدلول المطابقي والالتزامي معا ؛ إذ لن يكون هناك عناية زائدة لإسقاط المدلول الالتزامي ؛ لأنّ نفس السبب الموجب لسقوط المدلول المطابقي هو نفس السبب الموجب لسقوط المدلول الالتزامي ، ولا نحتاج إلى افتراض نكتة أخرى زائدة.

٢٢٨

وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيّين عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية الحريق ، فإنّ ذلك لا يبرّر سقوط الخبر الآخر عن الحجّيّة ؛ لأنّ افتراض عدم صحّة الخبر يتضمّن اشتباها وراء الاشتباه الذي علم.

ومقامنا يختلف عمّا إذا كان هناك خبران عرضيّان عن شخصين مختلفين يخبران عن دخول زيد إلى النار ، فإنّ المدلول الالتزامي في كلّ منهما هو احتراقه وموته. فإذا علمنا بأنّ أحد هذين الشخصين كان كاذبا أو مخطئا أو مشتبها في نقله لهذا الخبر ، وأنّ الشخص لم يدخل إلى النار أصلا ، فهنا يسقط مدلوله الالتزامي عن الحجّيّة كما تقدّم ؛ لأنّ النكتة واحدة في المدلولين.

وأمّا خبر الشخص الآخر فلا يسقط عن الحجّيّة سواء في مدلوله المطابقي أو الالتزامي ؛ لأنّ إسقاطه يحتاج إلى إثبات عناية زائدة عن النكتة التي أسقطت ذاك الخبر ؛ لأنّ اشتباه ذاك الشخص لا يستلزم اشتباه هذا الشخص أيضا ، بل كلّ منهما مستقلّ في إخباره ولكلّ منهما حيثيّة كشف خاصّة ومستقلّة عن الآخر. فإسقاطه يحتاج إلى إثبات أنّه كاذب أو مخطئ أو مشتبه زيادة على الاشتباه والخطأ والكذب في ذاك الشخص.

والسرّ في الفرق بين مقامنا وبين هذا المقام هو أنّه في مقامنا توجد حيثيّة كشف واحدة في المدلولين ، بينما هنا يوجد حيثيّتان كاشفتان مستقلّتان في كلّ خبر منهما.

فالصحيح أنّ الدلالة الالتزاميّة مرتبطة بالدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

فكما أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة ومتفرّعة عن الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود كذلك هي متفرّعة عليها في السقوط والحجّيّة أيضا ، بناء على ما ذكرناه.

وأمّا الدلالة التضمّنيّة فالمعروف بينهم أنّها غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

الدلالة التضمّنيّة هي أن يكون للكلام ظهور ضمني في الشمول والعموم لكلّ جزء جزء ولكلّ فرد فرد من الأجزاء أو الأفراد.

فقولنا مثلا : ( تجب الصلاة ) تنحلّ إلى وجوبات ضمنيّة لكلّ جزء من أجزائها ، فالركوع واجب ضمني والسجود والقراءة ، وهكذا.

وقولنا : ( أكرم العالم ) ينحلّ إلى وجوبات ضمنيّة بإكرام كلّ فرد من أفراد العالم.

وقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) كذلك ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة ضمنيّة لكلّ فرد فرد.

٢٢٩

وقولنا : ( أكرم علماء هذه البلدة ) ينحلّ كذلك إلى وجوبات ضمنيّة بعدد الأفراد.

فهنا إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن علم بعدم وجوب الصلاة أو عدم وجوب الإكرام فهل تسقط الدلالة التضمّنيّة عن الحجّيّة أم تبقى حجّة؟

ذهب المشهور إلى أنّ الدلالة التضمّنيّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة ، فتبقى ثابتة ولو سقط المدلول المطابقي (١).

__________________

(١) والمشهور قبل سلطان العلماء هو التبعيّة في السقوط. والصحيح هو التفصيل بين نحوين من الدلالة التضمّنيّة :

الأوّل : الدلالة التضمّنيّة التحليليّة كوجوب الصلاة وكالإطلاق ( أكرم العالم ) ، فإنّ هذه الدلالة التضمّنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة أيضا ؛ وذلك لأنّ النكتة الكاشفة واحدة فيهما ، فإذا أسقطت هذه النكتة سقط المدلولان المطابقي والتضمّني معا إذ لا يوجد عناية زائدة لإسقاط المدلول التضمّني ؛ لأنّ الحيثيّة والنكتة فيهما معا واحدة.

الثاني : الدلالة التضمّنيّة غير التحليليّة كالعموم الاستغراقي ( أكرم كلّ عالم ) ، كالعموم المجموعي ( أكرم علماء هذه البلدة ). فهنا يوجد لكلّ فرد من أفراد هذا العموم نكتة وحيثيّة كشف خاصّة مستقلّة عن الحيثيّة الموجودة في الآخر. ولذلك إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة وعلم بعدم وجوب إكرام كلّ العلماء لورود المخصّص المنفصل مثلا بالاستثناء لبعض هؤلاء العلماء من الإكرام ، فإنّ المقدار الباقي لا يسقط عن الحجّيّة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة فيه مستقلّة وليست مرتبطة بالحيثيّة الكاشفة في الأفراد الأخرى التي علم سقوطها.

فإسقاط الدلالات التضمّنيّة الأخرى يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة في المقام. بهذا صحّ التفصيل بين هذين النحوين من الدلالة التضمّنيّة ؛ لأنّ الأوّل ليس فيه عناية زائدة إذ الحيثيّة الكاشفة واحدة في الجميع. بينما في الثاني يوجد عناية زائدة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة متعدّدة ومستقلّة عن البعض حيث لكلّ فرد حيثيّة خاصّة وسقوط بعضها لا يوجب سقوط البقية.

وسيأتي مزيد تفصيل في بحث الظهور التضمّني الآتي.

٢٣٠

وفاء الدليل بدور

القطع الطريقي والموضوعي

٢٣١
٢٣٢

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي

إذا كان الدليل قطعيّا فلا شكّ في وفائه بدور القطع الطريقي والموضوعي معا ؛ لأنّه يحقّق القطع حقيقة.

القطع الطريقي : هو القطع الكاشف عن الواقع بحيث يكون القطع طريقا إليه وكاشفا عنه ، فالمقطوع ثابت به.

والقطع الموضوعي : هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم مترتّبا على الموضوع المقطوع به لا على الموضوع وحده.

ثمّ إنّ الدليل على الحكم الواقعي تارة يكون دليلا قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة وحكم العقل ، وأخرى يكون دليلا ظنّيّا كالأمارات.

فإن كان الدليل قطعيّا فلا إشكال في أنّه يقوم ويفي بدور القطع الطريقي ، وبدور القطع الموضوعي أيضا ؛ وذلك لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة هي نفس القطع وليست شيئا منفصلا عنه ، بمعنى أنّ القطع طريق وكاشف ذاتي عن الواقع ، فإذا ثبت القطع الحقيقي أي العلم الوجداني بشيء فقد تمّ الانكشاف وتحقّقت الطريقيّة إليه.

وحينئذ يمكن أن يؤخذ هذا القطع موضوعا للحكم ، فيقال : إذا قطعت بالموضوع وعلمت به يترتّب عليه الحكم الشرعي كوجوب القصر والإخفات ، فإنّهما واجبان على من علم بالموضوع لا مطلقا.

والحاصل : أنّ القطع الطريقي هو الكاشف عن الحكم ، فالحكم موجود واقعا سواء قطع المكلّف به أم لا ، إلا أنّه مع القطع به يكون منجّزا أو معذّرا. بينما القطع الموضوعي هو القطع الدخيل في ثبوت الحكم بحيث إنّ الحكم مقيّد به وجودا وعدما. فإذا حصل القطع بالموضوع فيترتّب الحكم وإلا فلا.

وأمّا إذا لم يكن الدليل قطعيّا وكان حجّة بحكم الشارع فهناك بحثان :

٢٣٣

الأوّل : بحث نظري في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي مع الاتّفاق عمليّا على قيامه مقامه في المنجّزيّة والمعذّريّة.

والثاني : بحث واقعي في أنّ دليل حجّيّة الأمارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي أو لا؟

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولكن كان حجّة بحكم الشارع كالأمارات ـ التي هي أدلّة ظنّيّة كخبر الثقة والبيّنة واليد وحكم الحاكم إلا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لها ـ فالبحث فيها يقع في مقامين :

الأوّل : بحث نظري في تحليل قيام الأمارات مقام القطع الطريقي بعد الاتّفاق عمليّا على قيامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بمعنى أنّه يوجد دليل إثباتي على قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، فهي مثله في كونها طريقا إلى الحكم وكاشفا عنه ؛ لأنّها وإن كانت كشفا ظنّيّا إلا أنّ الشارع قد جعلها حجّة فالغاية من جعل الحجّيّة لها قيامها مقام القطع الطريقي ، فهي منجّزة ومعذّرة في كونها طريقا وكاشفا عن الحكم وإلا لم يكن لجعل الحجّيّة لها أية فائدة وأثر ، إلا أنّه يبحث ثبوتا وتحليلا في كيفيّة قيامها مقام القطع الطريقي ، فهذا بحث نظري تحليلي. وهذا البحث النظري الثبوتي يراد به دفع ما يتوهّم أو يشكل على قيامها مقامه كما سيأتي.

الثاني : بحث واقعي أي أنّه بحث على مستوى الثبوت والإثبات معا في أنّ الأمارات هل يمكن أن يستفاد من دليل حجّيّتها كونها تقوم مقام القطع الموضوعي أيضا أو لا يمكن ذلك؟ ثمّ بعد وجود هذا الدليل يمكن البحث عن كيفيّة تصوير قيامها مقامه ، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل على قيامها مقامه فلا معنى للبحث التحليلي النظري ؛ إذ لا فائدة منه.

أمّا البحث الأوّل : فقد يستشكل تارة في إمكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بدعوى أنّه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل أخرى في كيفيّة صياغة ذلك تشريعا ، وما هو الحكم الذي يحقّق ذلك؟

البحث الأوّل : في تصوير قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، والداعي إلى هذا البحث النظري هو الجواب عن الإشكالين التاليين :

٢٣٤

الإشكال الأوّل : إنّ قيام الأمارات مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ العقل يحكم بالتأمين ونفي العقاب إذا لم يكن هناك علم وبيان على الحكم الواقعي. فإذا قامت الأمارة على التنجيز بأن أخبر الثقة عن الوجوب أو الحرمة فهذا لا يعني العلم بالحكم الواقعي ، فهو لا يزال غير معلوم ؛ لأنّ البيان والعلم لا يتحقّقان بقيام الأمارة ، ومعه يقع التعارض بين حكم العقل بالتأمين والمعذّريّة في صورة عدم العلم والبيان وبين الأمارة الدالّة على التنجيز في صورة عدم العلم والبيان أيضا ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا بالحكم الشرعي. وحينئذ كيف يمكن قيامها على المنجّزيّة مع كونها معارضة لحكم العقل القطعي؟!

نعم ، الأمارات الدالّة على التأمين والمعذّريّة ليست مخالفة لحكم العقل ؛ لأنّه يثبت التأمين والمعذّريّة أيضا.

الإشكال الثاني : بعد الفراغ عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي وحلّ الإشكال السابق ، وأنّها ليست معارضة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان يستشكل في كيفيّة صياغة دليل الحجّيّة للأمارات ؛ والذي يتكفّل في كونها قائمة مقام القطع الطريقي.

أي ما هي الصياغة الإنشائيّة التي ينشئها الشارع عند جعل الحجّيّة للأمارة ، بحيث تكون هذه الصياغة وافية في بيان ذلك المطلب الذي يجعله الشارع في الأمارات عند جعل الحجيّة لها ، بحيث يكون هذا الحكم المجعول فيها محقّقا لذاك المطلب؟

أمّا الاستشكال الأوّل فجوابه :

أوّلا : أنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.

الجواب عن الاستشكال الأوّل : إنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ القاعدة العقليّة الأولى بناء على المسلك المختار هي الاشتغال والاحتياط العقلي ، على أساس أنّ مطلق انكشاف التكليف ولو احتمالا يكون منجّزا ما لم يثبت الترخيص والإذن الشرعي ، وهنا يكون الحكم العقلي عند الشكّ في الحكم هو التنجيز. وعليه ، فالأمارة الدالّة على التنجيز إنّما تؤكّد حقّ المولى في لزوم الإطاعة والامتثال ، فهي موافقة لحكم العقل وليست مخالفة له ، والأمارة التي تدلّ على التعذير تثبت وجود الإذن والترخيص الشرعي في الشارع في ترك التحفّظ وعدم لزوم الاحتياط العقلي في المورد كما مرّ توضيحه سابقا.

٢٣٥

وثانيا : أنّه لو سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأمّا المشكوك الذي يعلم بأنّه على تقدير ثبوته ممّا يهتمّ المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولا للقاعدة من أوّل الأمر. والخطاب الظاهري ـ أي خطاب ظاهري ـ يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعيّة في مورده على تقدير ثبوتها وبذلك يخرجها عن دائرة قبح العقاب بلا بيان.

والجواب الثاني على الاستشكال الأوّل : إنّنا لو سلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا نسلّم بإطلاقها لكلّ الأحكام المشكوكة ، بل هي مختصّة بقسم منها فقط ؛ وذلك لأنّ الأحكام المشكوكة على ثلاثة أقسام :

١ ـ الأحكام المشكوكة التي يعلم على تقدير ثبوتها بأهمّيّتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عليها.

٢ ـ الأحكام المشكوكة التي يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى يرضى بتفويتها أيضا حتّى في حال ثبوتها.

٣ ـ الأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، ولا يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها. بمعنى أنّه يشكّ في أنّها مهمّة أو ليست مهمّة على تقدير ثبوتها.

وحينئذ نقول : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مختصّة بالأحكام ، أي يعلم على تقدير ثبوتها بعدم أهمّيّتها ، بحيث إنّ المولى يرضى بتفويتها ، وبالأحكام المشكوك أهمّيّتها وعدم أهمّيّتها. فهنا تجري القاعدة العقليّة المذكورة لنفي التنجيز ولنفي التحفّظ ولإثبات التأمين عن هذه الأحكام المشكوكة.

وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عنها ، فهي ليست داخلة في موضوع القاعدة أصلا. بمعنى أنّها خارجة عنها تخصّصا ، ولا تحتاج في إثبات خروجها عن موضوع القاعدة إلى دليل خاصّ ليشكل بأنّها إذا كانت داخلة تحت القاعدة فكيف تخرج بالأمارة مع أنّها ليست علما؟!

فالمكلّف إذا شكّ في وجوب حفظ ابن الحاكم أو حفظ ماله من العدوّ فإنّه لا يمكنه الاعتماد على البراءة العقليّة هنا ؛ لأنّ هذا الحكم المشكوك على تقدير ثبوته فهو

٢٣٦

ممّا لا يرضى المولى والحاكم بتفويته ، فيكون عدم الالتزام وترك التحفّظ موجبا لاستحقاق المؤاخذة والعقاب والدليل على ذلك هو السيرة العقلائيّة القائمة على ذلك بين الحاكم والمحكوم العرفيّين والشارع أمضى هذه السيرة.

فإذا اتّضح ذلك نقول : إنّ الأمارة الدالّة على التنجيز أو أي حكم ظاهري آخر كالأصول العمليّة المنجزة تبرز لنا أنّ هذا الحكم المشكوك من النوع الذي لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته ، فمهمّتها هي الكشف عن التكاليف الواقعيّة المهمّة بنظر الشارع في حال الشكّ فيها. وكذلك الأمارات والأصول الدالّة على الترخيص فهي تبرز أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا يرضى الشارع بتفويته على تقدير ثبوته فتجوز المخالفة وترك التحفّظ.

وبهذا تكون الأمارات المنجّزة مخرجة لهذا القسم من الأحكام المشكوكة التي هي مهمّة ولا يرضى الشارع بتفويتها على تقدير ثبوتها من دائرة القاعدة. فهي خارجة تخصّصا لا تخصيصا فلا يأتي الإشكال المذكور.

وهذا هو الجواب الفنّي الصحيح على هذا الإشكال حتّى بناء على التسليم بالقاعدة المذكورة. وغيره من الأجوبة التي ذكرها أصحاب هذا المسلك لا تصلح جوابا فنّيّا عن ذلك.

وأمّا الاستشكال الثاني فينشأ من أنّ الذي ينساق إليه النظر ابتداء أنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة تحصل بعمليّة تنزيل لها منزلته من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة.

وأمّا الاستشكال الثاني والذي هو إشكال على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي نظريّا ومفاده : أنّه ما هي الصياغة التي يمكن من خلالها إبراز أنّ الشارع عند ما جعل الحجّيّة للأمارة قد أقامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة بعد التسليم بقيامها مقامه في هذا المقدار؟ إلا أنّ الاستشكال يرد على الصياغة الإنشائيّة وكيفيّة جعل الحجّيّة للأمارة ، وما هو المجعول في الأمارات وأي نحو من أنحاء الحكم هو كيفيّة تصويره؟ وللإجابة توجد عدّة اتّجاهات أهمّها :

الأوّل : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وهو الذي أوجب ورود الاستشكال المذكور وحاصل ما أفاده :

٢٣٧

إنّ دليل حجّيّة الأمارة ينزّل الأمارة منزلة العلم ، فكلّ آثار العلم تترتّب على الأمارة. ومن جملة آثار العلم كونه منجّزا ومعذّرا ، فتثبت المنجّزيّة والمعذّريّة للأمارة بدليل التنزيل المجعول في دليل حجّيّتها. أو يقال : إنّ دليل الحجّيّة ينزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع المقطوع ، فمن المعلوم أنّ الواقع المقطوع به يكون منجّزا ومعذّرا إمّا بنفسه بأن كان المقطوع به حكما شرعيّا كالوجوب والإباحة ، وإمّا مع الواسطة بإن كان المقطوع به موضوعا لحكم شرعي. فإحراز الموضوع والقطع به يترتّب عليه التنجيز والتعذير ، فإنّه إن كان موضوعا لحكم إلزامي كان منجّزا ، وإن كان موضوعا للترخيص كان معذّرا.

ودليل الحجّيّة في الأمارة يجعل هذا المؤدّى كالمقطوع به منجّزا أو معذّرا لكون المؤدّى إما حكما أو موضوعا لحكم.

وهذا نظير تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة ، فإنّ معناه أنّ أحكام الصلاة تثبت للطواف من الطهارة الخبثيّة والحدثيّة ؛ لأنّه المنظور في دليل التنزيل.

وعلى هذا الأساس نشأ الاعتراض والاستشكال وهو :

ومن هنا يعترض عليه : بأنّ التنزيل من الشارع إنّما يصحّ فيما إذا كان للمنزّل عليه أثر شرعي بيد المولى توسيعه وجعله على المنزّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام القطع الطريقي ليس له أثر شرعي بل عقلي ، وهو حكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة ، فكيف يمكن التنزيل؟!

ومن هنا نشأ الاستشكال ، فإنّ القول بأنّ دليل الحجّيّة ينزّل الأمارة أو مؤدّاها منزلة العلم أو الواقع غير صحيح ؛ وذلك لأنّ التنزيل يفترض وجود منزّل وهو الحاكم والجاعل ، ووجود منزّل وهو المراد إسراء الحكم إليه ، ومنزّل عليه وهو المراد إسراء الحكم منه. وهذا التنزيل يفترض أن يكون المنزّل قادرا على إسراء الحكم من هذا إلى ذاك وإلا فلا يتمّ التنزيل ، وهنا المفروض أنّ المنزّل هو الشارع ، وهذا يعني أنّه لا بدّ أن يكون هناك أثر شرعي في المنزّل عليه يراد إسراؤه إلى المنزّل ؛ لأنّ الأثر الشرعي بيد الشارع جعله ورفعه وتضييقه وتوسيعه.

فمثلا تنزيل الطواف منزلة الصلاة في قوله : « الطواف في البيت صلاة » صحيح ؛ لأنّ المراد منه إسراء حكم المنزّل عليه وهو الطهارة إلى المنزّل أي الطواف. ومن المعلوم

٢٣٨

أنّ الطهارة من الآثار الشرعيّة بيد الشارع جعلها ووضعها على الموضوع الذي يريده ؛ لأنّ أسباب الطهارة والنجاسة من الأسباب الاعتباريّة المجعولة من الشارع.

وأمّا في مقامنا فدليل التنزيل يريد إسراء المنجّزيّة والمعذّريّة الثابتتين للقطع الذي هو المنزّل عليه إلى الأمارة التي هي المنزّل ، وهذا التنزيل يصحّ فيما إن كانت المنجّزيّة والمعذّريّة من الآثار الشرعيّة للقطع ، بحيث يكون بيد المولى جعلها ووضعها ورفعها ، وهذا واضح البطلان ؛ إذ من المعلوم أنّ المنجّزيّة والمعذّريّة يثبتان للقطع بحكم العقل.

فإنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند القطع بتكليف الشارع ، ويحكم بالمعذّريّة عند القطع بعدم التكليف مع مخالفته للواقع ، وليستا من الآثار الشرعيّة ؛ إذ يستحيل أن يحكم الشارع بالمنجّزيّة والمعذّريّة لاستلزامه الدور ؛ إذ ما هو الدليل على لزوم إطاعة هذه المنجّزيّة والمعذّريّة؟ فإن كان حكم الشارع ينقل الكلام إليه ويتسلسل ، فلا بدّ أن ينتهي الأمر إلى أنّ الحاكم بذلك هو العقل ، والأوامر الإلهيّة في المقام ليست إلا إرشادا لحكم العقل بذلك.

فإذا ثبت كون المنجّزيّة والمعذّريّة من أحكام العقل وليس بيد الشارع وضعهما ورفعهما فكيف يصحّ التنزيل إذا؟! وعليه فكيف تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير؟! فإنّ هذا اللسان قاصر عن إبراز وإثبات وتصوير قيامها مقامه.

وقد تخلّص بعض المحقّقين (١) عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفي على طبق المؤدّى ، فإذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهرا ، وبذلك يتنجّز الوجوب ، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.

الثاني : يظهر من المحقّق الخراساني في حاشيته على ( الرسائل ) إلا أنّه عدل عنه في ( الكفاية ) وحاصله : أنّ دليل الحجيّة للأمارة لا ينزلها منزلة العلم أو الواقع ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم. وإنّما دليل الحجّيّة مفاده جعل حكم تكليفي على طبق مؤدّى الأمارة ، وهذا هو المسلك المعروف بجعل الحكم المماثل ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة فمعناه أن يجعل حكما تكليفيّا على طبق ما أدّت إليه الأمارة. فإذا

__________________

(١) منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٥٩.

٢٣٩

أخبر الثقة بوجوب السورة فإنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة حكم بوجوب السورة حكما ظاهريّا ، ولذلك تثبت المنجّزيّة ، وإذا أخبر بعدم وجوبه فيحكم الشارع حكما ظاهريّا بالترخيص ، وهذا الترخيص يحكم العقل بعدم استحقاق العقوبة على مخالفته لو كان الحكم ثابتا في الواقع وكانت الأمارة مخطئة ، وهذا هو معنى التعذير.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتان للأمارة بنفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده جعل الحكم المماثل وبالتالي يثبت قيامها مقام القطع الطريقي (١).

وتخلّص المحقّق النائيني (٢) بمسلك جعل الطريقيّة قائلا : إنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي لا تتمثّل في عمليّة تنزيل لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار الظنّ علما ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسدا على طريقة المجاز العقلي ، والمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين الوجود الحقيقي والاعتباري.

الثالث : ما ذكره المحقّق النائيني وسارت عليه مدرسته وهو أنّ دليل حجّيّة الأمارات ليس هو تنزيل الأمارة منزلة العلم أو تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ليرد الإشكال السابق من أنّه غير ممكن ؛ لأنّ المنجّزيّة والمعذّريّة ليستا من الآثار الشرعيّة فلا يتمّ التنزيل. وليس هو جعل الحكم المماثل ليلزم التصويب أو اجتماع الحكمين التكليفيّين المتماثلين أو المتضادّين.

وإنّما دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ويعتبر الظنّ علما ، فالشارع عند ما جعل الأمارة حجّة وأنّها تقوم مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة إنّما جعلها كذلك من حيث اعتبارها علما ، وبذلك تترتّب عليها كلّ آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ولا نحتاج إلى إثباتهما بدليل خاصّ ، بل إنّ نفس دليل الحجّيّة يثبتهما.

أمّا كيفيّة جعل الأمارة علما فهو على أساس الادّعاء والمجاز العقلي في المصداق لا

__________________

(١) إلا أنّ هذا المسلك كما تقدّم سابقا يستلزم التصويب الذي هو خلاف مذهب الإماميّة ، فإنّ قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل تدفعه ؛ لأنّها تثبت وجود أحكام واقعيّة ثابتة حتّى في صورة قيام الأمارات. وحينئذ إن كان هناك حكم تكليفي آخر على طبق الأمارة فتأتي شبهة ابن قبة بأنّ هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقا للواقع فيلزم اجتماع المثلين ، وإن كان مخالفا فيلزم اجتماع الضدّين وكلاهما مستحيل.

(٢) فوائد الأصول ٣ : ٢١.

٢٤٠