بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

ولا ريب انه من المحال أن تكون هذه الواقعة قد حدثت بالفعل ، ولاشك ان هذا الحديث موضوع جملة وتفصيلاً ، لأن سالماً كان شاباً قد بلغ الحُلُم ، وليس طفلاً ، صغيراً حتى يحقّ لامرأة أجنبية أن ترضعه ويصبح محرماً لها ، فكيف يجوز للمرأة أن تكشف عن جسدها ليضع فمه على صدرها ويمسه ويمتص من اللبن حتى بلوغ الرضعة الخامسة التي يصبح بعدها ابنها من الرضاعة؟ .. ثم لماذا لم يشتهر هذا الحديث إلا عبر عائشة دون غيرها ، مع ان الذين أصبحوا محرماً لها عدد لا بأس به ، وكان ينبغي أن يشيعوا خبر هذا الحلّ النبوي لهذه المعضلة حتى يصبح مخرجاً شرعياً للذين يقعون في مثل هذا المأزق؟ ولاشك ان سائر المسلمين اليوم لا يستسيغ هذا الفعل المُستهجن لأمه أو زوجته أو أخته أو إبنته ، فكيف يصحّ مثل هذا الحُكْم وانه قد صدر من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أولي الالباب؟

نماذج من فتاوى الامام مالك وأقواله

الأول : يدّعي مالك أن أول سورة براءة لما سقط من القرآن الكريم ، سقطت معه البسملة التي كان من الثابت انها تعدل سورة البقرة في طولها (١).

وهذا إقرار من الامام مالك بأن القرآن الكريم المتوافر في أيدي الناس ناقص ، وان هناك عدداً من آيات براءة قد سقط منها مع البسملة ، بينما يؤكد أهل السُنّة والجماعة نقلاً عن ابن عباس بأنه سأل علياً لمَ لم تُكتب في براءة (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فقال علي : لأنها أمان ، وبراءة نزلت بالسيف (٢) ، ولذلك لم تضم سورة براءة آية البسملة. فكيف نوفّق بين الروايتين؟

__________________

(١) انظر : تفسير السمعاني ٢ : ٢٨٤ ؛ فتح القدير ـ الشوكاني ٢ : ٣٣٢.

(٢) فتح الباري ـ ابن حجر ٨ : ٢٣٥ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٨ : ٢٥٣.

٢٤١

الثاني : كان مالك يضعّف حديث غسل الاناء سبعاً ، اذا ولغ فيه الكلب ، ويقول بأن ما يُؤكل صيده ، كيف يُكره لعابه؟ مع ان لا علاقة بين الاثنين ، وانه قياس باطل ، ومع تضعيف مالك لهذا الحديث ، فإن البخاري ومسلم قد دوّنا الحديث في صحيحهما.

الثالث : أهمل مالك اعتبار حديث : من مات وعليه صوم ، صام عنه وليه ، وذلك للأصل القرآني وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (١) ، مع ان الامام البخاري ومسلماً جاءا بعده وصحّحا الحديث ، ودوّناه في صحيحهما إثباتاً له.

والمعروف ان صحيح البخاري هو أصحّ كتاب بعد كتاب الله ، كما يعتقد جمهور المسلمين.

الرابع : فرّق مالك بين الوطء بعقد النكاح ، وبين الوطء في بعض تلك بملك اليمين ، فيقول : من ملك بنت أخيه ، أو بنت أخته ، وعمته ، وخالته ، وإمرأة أبيه ، وامرأة ابنه بالولادة ، وأمّه نفسه من الرضاعة ، وابنته من الرضاعة ، وأخته من الرضاعة ، وهو عارف بتحريمهن ، وعارف بقرابتهن منه ، ثم وطأَهُنَ كلهن ، عالماً بما عليه في ذلك ، فإنّ الولد لاحق به ، ولا حدّ عليه ، لكن يُعاقب ، ورأى ان الرجل إنْ مَلكَ ، أمّه التي ولدته ، وإبنته وأخته ، بأنهن حرائر ساعة يملكهن ، فإن وطأهن حُدّ حد الزنا (٢).

وليتنا نعلم ، كيف يحق للرجل أن يمتلك محارمه المقرّبين ، عالماً بتحريمهن عليه ، ويطأهن كلهن ، ثم يعاقب عقاباً يسيراً ، وهل هذا الحكم إلا إعمالٌ باطل ومغلوط للقياس والرأي؟

__________________

(١) اضواء على السنة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٣٦٩.

(٢) المحلى ـ ابن حزم ١١ : ٢٥٣.

٢٤٢

الخامس : ان ابن الماجشون ـ وهو فقيه مالكي وصاحب مالك ـ المعروف بسماع الأغاني والطرب ـ قد أفتى بأن المُخدَمة سنين كثيرة لا حدّ على المُخدم ، إذا وطأها ـ طبعاً بدون عقد زواج ـ ولا نعلم كيف يضفي هذا الفقيه المالكي على الزنا الصريح ، حكم الحلّية وعدم إقامة حد الزنا على الفاعل ، وهل ان الخدمة الطويلة ، تسمح للخادم بممارسة هذه الخطيئة وتخليصه من العقاب؟ إنه لعجب عجاب.

السادس : يقول مالك بعدم بقاء زوجة المفقود في عصمته ، وان من حقها الزواج بعد الفسخ ، وذلك بعكس ما يقول أبو حنيفة والشافعي من ان الزوجة تبقى في عصمة زوجها المفقود حتى تثبت وفاته أو تموت.

لا حجّية لعمل أهل المدينة

إن المتتبع لأحوال أهل المدينة وموقفهم من صاحب الرسالة الاسلامية ، طيلة فترة نزول الوحي ، وبعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يحكم بصحة ما يقوله مالك بن أنس في عمل أهل المدينة ، بخلاف أئمة أهل السُنّة الآخرين ، من انّ عملهم بمثابة سُنّة مشهورة مأثورة ورواية للحديث ، لأنهم ـ والقول لمالك ـ لا يخالفون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويتركون سُنته ، وانما عملهم امتداد لسُنّته ، وينبغي إتّباعها والأخذ بها مطلقاً ، وهي مقدّمة على خبر الآحاد (١).

وفي تعبير آخر : لما كان القرآن قد نزل في المدينة ، وأهلها هم أول من وجّه إليهم التكليف ، ومن خُوطبوا بالأمر والنهي ، وأجابوا داعي الله فيما أمر ، واقاموا عمود الدين ، وورثوا علم السُنّة ، وفقه الاسلام ، ولذا لا يجوز لأحد مخالفة عمل أهل المدينة ، للوراثة التي آلت إليهم في عهد تابعي التابعين.

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٦٥.

٢٤٣

ولا غرو ان هذه مجرّد إدعاءات ومزاعم تفتقر الى الدليل ، وذلك لأن القرآن الكريم كثيراً ما حذّر المسلمين ، وخاصة أهل المدينة ، من عصيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إطاعته ، والتملص من تنفيذ أوامره ، كقوله تعالى : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ (١) وهدّد الله تعالى فريقاً من أهل المدينة بقوله : لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٢).

وقد يردّ مُعرض بأن المعنيين في الآيات الكريمة ، بعض أهل المدينة وليس كلهم .. وهذا صحيح ، ولكن أولئك ضعاف النفوس من أهل المدينة الذين صنّفهم الله في خانة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، يبثّون سمومهم هنا وهناك ، ويسعون إلى إفساد الآخرين والتشويش عليهم وبليلة أفكارهم ومعتقداتهم ، وتحريف السُنّة النبوية من خلال الكذب على رسول الله ، وربما تغلغلت سمومهم وأباطيلهم في أوساط أهل المدينة ، من حيث لا تعلم ، خاصة وانهم كانوا مجهولين على كثير من الناس ، ومندسّين بينهم ، فكيف والحال هذه ، نطمئن الى عمل أهل المدينة ، دون التحرّي عن الصادق منهم والكاذب ، والنزيه منهم والمتهم ، والمخلص منهم والمشبوه ، والحاد الذهن منهم ، وضحل الفكر والتلقي ، ولو كان أهل المدينة كلهم صادقين ، لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كذّب عليّ فليتبوأ مقعده من النار؟

ثم من قال ان أهل المدينة قد أجاب ـ جلّهم ـ داعي الله ، والقرآن الكريم دعاهم

__________________

(١) التوبة ١٢٠.

(٢) الأحزاب ٦٠.

٢٤٤

الى الإجابة وحذّرهم ، قائلاً : وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّـهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الاحقاف ٣٢)؟

ثم لِمَ انفرد الامام مالك ، باعتبار عمل أهل المدينة سُنّة مشهورة دون أقرانه من الفقهاء وأصحاب المذاهب الأخرى ، الذين لم تَرُقْ لهم هذه القاعدة الفقهية التي تبنّاها مالك في نظريته الفقهية الخاصة به؟

مالك والسلطة الحاكمة

على الرغم من ان الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) هو الذي أوعز للامام مالك بن أنس ، بتدوين الموطأ الذي أ صبح قُطب الرحى لأتباع المذهب المالكي (١) ، إلا ان مالكاً ظلّ مبتعداً عن أصحاب السلطة ولحُكم ، كما هو معروف عنه ، حتى انه ظل منزوياً لا يصلي جماعة طيلة ٢٥ عاماً من حياته ، لأنه يعتبر النظام الحاكم غير عادل ولا ينبغي ممالاته والتعاون معه حتى رحل عن هذه الدنيا (٢) ، وأشار إلى محنته مع حكام زمانه اكثر المؤرخين ، مثل ابن الاثير والذهبي وابن خلكان وصاحب شذرات الذهب. وكان بعض تلاميذه قد سار بسيرته المتنفّرة من الحكام ، لكن بعض تلاميذه الآخرين ، خرجوا عن هذا المسلك ، مثل تلميذه يحيى بن يحيى الذي أشاع المذهب المالكي في الاندلس ، لمسالمته لحاكمها ، وانتخابه القضاة له من المالكيين ومن أصحابه ، فانقرض مذهب الاوزاعي من الاندلس ، وخَلَفه مذهب مالك (٣) ، ولكن ذلك لم يتفق

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٦٢.

(٢) المذاهب الفقهية : ٦١.

(٣) المصدر السابق : ٨٠.

٢٤٥

لليث بن سعد ، صديق مالك ، حيث ان السُلطة لم تدعمه ، ولم يتوافر له أصحاب يؤازرونه كأصحاب مالك ، فانقرض مذهبه وفقهه ، اما الليث فقد قال فيه الشافعي كان أفقه من مالك (١).

تُرى لو امتدّ العمر بالامام مالك ، وعاش ليرى تلامذته وقد هادنوا السلطات الحاكمة ، ودعموها ودعمتهم ، وبالتالي شاع مذهبه هناك ، فضلاً عن المغرب العربي وشامل إفريقيا ، فما هو موقفه من ذلك ومن التعاون مع الحكّام والعمل في مؤسساتهم ، الذين لم يكونوا ليقلّوا ظلماً عن حكّام بني العباس كما هو معلوم.

ولو قيّض لليث بن سعد ، أصحاب وتلاميذ سالموا الحكام وتعاونوا معهم ، وتبوأوا القضاء والوزارة لدى البلاط الحاكم ، لانتشر فقهه ، ولأصبح مذهباً مرموقاً الى جوار المذاهب الأخرى ، لا أن يتلاشى ويندثر وينزوي عن الحياة الاجتماعية كغيره من المذاهب التي ربما كانت اكثر متانة وقوّة وصحة وعُمقاً من المذاهب الاربعة الشهيرة ، لكن لم يسعفها الحظ أن تلتقي مع البلاط الحاكم؟

__________________

(١) دقائق التفسير ـ ابن تيمية ٢ : ١٧٢ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٦ : ٦٢٠.

٢٤٦

الامام الشافعي والتقلب بين المدارس الفقهية

هل صحيح ان محمد بن إدريس الشافعي ، ثالث أصحاب المذاهب الأربعة المُعتمدة لدى الجمهور المسلم ـ كما يقول أهل السُنّة والجماعة ـ عالم قريش الذي ملأ طباق الأرض علماً ، وهو إمام الدنيا وعالم الأرض؟ (١).

وهل صحيح ان الشافعي أعظم منّة على الاسلام ، جَمَعَ الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لامام قبله وبعده ، واتّفقوا على إمامته وعدالته؟.

وهل صحيح انه لم يعرف ناسخ الحديث من منسوخه غير الشافعي؟.

وهل صحيح ان الشافعي سارت الركائب بفضله ، ومعارفه وثقته وأمانته ، الحافظ المثبّت ، ناصر الحديث والسُنّة؟ (٢).

لابدّ من التأكد من أمثال هذه التقاريض التي امتلأت بها كتب علماء السُنّة ، وبالخصوص ، علماء المذهب الشافعي حول إمامهم وفقيههم.

وبعد البحث والتنقيب ، توصّلنا الى هذه الحقائق الراسخة :

١ ـ لم يكن هناك فقيه وعالم في التأريخ قد تذبذب في آرائه وأحكامه الفقهية مثل الامام الشافعي ، فهو في البدء كان متأثراً بمالك بن أنس وأنصار الحديث ، عندما كان في الحجاز ، ثم نبذ هذه الطريقة ، لما حلّ بالعراق ، متأثراً بأهل العراق وأصحاب أبي حنيفة

__________________

(١) المجموع ـ النووي ١ : ١١ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥١ : ٣٣٩.

(٢) أضواء على السّنة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٣٤٣.

٢٤٧

من مدرسة القياس والرأي ، ثم حين توجّه الى مصر ، وجد من الأنسب ان يمزج بين طريقة الحجازيين وطريقة العراقيين ، فوفّق بين مدرسة الحديث ، ومدرسة الرأي (١).

نحن نستغرب ، لِمَ هذا التذبذب في تبنّي القواعد الاصولية والفقهية لدى الامام الشافعي؟ وما علاقة ذلك يتغيّر البيئة والعرف في العراق ومصر ، كما يرى أشياع المذهب الشافعي ، ويعزونها الى مرونة الفقه الاسلامي ، ومسايرته للتطور؟ (٢).

واذا علمنا ان لكل قطر وبلد وبقعة في الارض ، بيئة معينة خاصة بها ، فهل يعني أن يتبني العلماء وأصحاب المدارس الفقهية ، مذاهب بعدد الأمصار والبلدان والبقاع الموزّعة ـ شرقاً وغرباً ، وشمالاً وجنوباً ، حسب تلك البيئة والمصر!!.

واذا عرفنا ان المذهب الشافعي له أتباع في كل الاقطار والبقاع والقارات ، وليس في مصر بالذات ، فكيف يوفّق أولئك الأتباع بين أحكام المذهب ، وبيئاته وأعرافهم التي تختلف من بقعة الى أخرى ، وتتعارض فيما بينها؟ تُرى لو قيّض للامام الشافعي ، الرحيل الى قطر آخر من الأقطار والولايات الاسلامية ، قبل ان يتوفى ، فهل كان قد غيّر مذهبه وقواعده وأحكامه ، طبق ذلك القطر ذي البيئة ال مخالفة لبيئة مصر والعراق أو الحجاز؟

وفي هذا السياق ، إذا كان المذهب الحنفي. ملائماً للعراق فحسب ، أي المذهب المبني على قواعد القياس والرأي؟ ، فكيف تبّنته ولايات وبقاع نائية ، تختلف بيئاتها وتقاليدها عن أهل العراق كلياً ، كالدولة العثمانية ، وبلدان أوروبية كالبوسنة والهرسك ومقدونيا وألبانيا؟

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٨٣.

(٢) المذاهب الفقهية : ٢٩.

٢٤٨

وعليه ، فلو كانت الطريقة أو المدرسة الفقهية التي تبنّاها الامام الشافعي ، مُلائمة لأهل مصر فقط ، فلِمَ لم يقصرها صاحب المذهب ، على مصر دون غيرها من الأمصار التي انتقل إليها المذهب الشافعي؟

ثم لو كان المذهب المالكي أو ما يُسمّى بمدرسة أهل الحجاز والحديث ، تُلائم الحجازيين فقط ، ولذلك غيّر الامام الشافعي ، أسلوبه الأصولي والفقهي عندما رحل الى العراق ثم مصر ، فكيف انتشر المذهب المالكي في بقاع نائية ، تختلف تقاليدها وبيئاتها وأعرافها عن أهل الحجاز كلياً ، مثل المغرب والاندلس ، وأصبح المذهب المالكي هو الحاكم في تلك المناطق؟

والغريب ان المذهب الحنبلي الذي كان صاحبه يعيش في بغداد ، قد تبنّته الشام أولاً ، ثم أصبح حكراً على أهل الحجاز البيئة المتفاوتة مع العراق مثلاً؟

والحق ان تعدد المذاهب الفقهية ، انما أملاه اختلاف ثقة أصحاب المذاهب بالحديث النبوي ومزاجهم الخاص ، وليس للبيئة أي دور في هذا الصدد.

فمالك بن أنس ، كان يثق بأهل المدينة ، ويعدّ عملهم بمثابة سُنّة عملية ، ولذلك كان يتوسّع في قبول الحديث ال نبوي ، ويقلّل من شأن القواعد الأخرى كالقياس مثلاً.

أما أبو حنيفة النعمان ، فلم يثق إلا بالحديث المشهور الواضح المعنى ، ولم يلتفت الى الحديث ال حسن أو المُرسل كما هو عند مالك والشافعي. ولاريب ان السُنّة النبوية لو كانت مدوّنة منذ العهد النبوي أو بعده مباشرة ، لما حصل كل الذي حصل؟

٢ ـ لم يكن الامام الشافعي ، مُقتنعاً اقتناعاً تاماً بأقواله وآرائه ، فهو يقول بأنه إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط (١) ، يعني اذا كان قد رأى رأياً على أساس ان الحديث النبوي غير صحيح أو ضعيف ، وقد صحّ الحديث عن طريق الآخرين ، أو عند

__________________

(١) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١٠ : ٣٥ ؛ الفتاوى الكبرى ـابن تيمية ٥ : ١٢٤.

٢٤٩

أهل الجرح والتعديل ، فللمقلدين أن يتخلّوا عن تقليد الشافعي في هذه المسألة ، ويرجعوا الى الحديث الصحيح ، خاصة وان الشافعي أوصى بأن ليس لأحد أن يترك قول رسول الله لقول أحد (١).

ويحاول البعض تبرير موقف الشافعي هذا ، بقوله : وما يبدو من عدول عن بعض الحديث ومخالفته ، فعذره عنده ، ان الحديث لم يصله ، أو وصله ولم يصح عنده لضعفه ، أو وجد فيه طعناً ، لا يراه غيره طعناً ، أو تركه ، وهو صحيح حسن ، لثبوت ما هو أصح منه عنده ، أو ثبت عنده نسخه (٢). ولكن والحال هذه ، ستتعدّد الفتاوى والأحكام الشرعية وتتعارض فيما بينها ، تَبَعاً لثقة المجتهد بالحديث أو عدم ثقته ، فلو كان الحديث النبوي قد صدر حقاً من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن الحكم الشرعي الذي يعتبر الحديث صحيحاً ، سيكون أقرب صحة من الأحكام الشرعية الأخرى التي تعتبر الحديث حسناً ، أو ضعيفاً ، أو مطعوناً فيه ، أو منقطعاً أو منسوخاً ، وهو في الحقيقة ، غير منسوخ ولا ضعيف ولا منقطع ، بل ربما كانت الفتوى أو الحكم الشرعي ، غير شرعي تماماً ، ولا تنطبق عليه صفة الشرعية ، لفقدان الاساس الذي يستند اليه وهو الحديث الصحيح الذي جاء عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصدر كل هذه الإشكالات عدم تدوين الحديث النبوي في وقته المناسب ، وذلك عندما فُرض طوق على الحديث من خلال منع تدوينه أو التحدّث به بحجة الخوف من تداخله مع القرآن الكريم.

فهل كان الامام الشافعي معذوراً عندما توقَّف في كثير من المسائل ، ولا يدري ما الجواب الشرعي فيها؟

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٩١.

(٢) المصدر السابق.

٢٥٠

أمّا لو كان الحديث المزعوم لم يصدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبداً ، أي ان موضوع الحكم أو الفتوى التي يصدرها الفقيه ، اذا كانت مبنية على أساس ان الحديث ضعيف أو مطعون فيه أو مشكوك بأمره ، فإن هذه الفتوى هي أقرب للصواب من الفتوى المبنية على أساس ان هذا الحديث صحيح أو حسن أو يستيغه الفقيه لأي سبب من الأسباب ، فيأتي الحكم غير مشروع وهو أقرب للبدعة.

كما ان الامام الشافعي لما ردّ المُرسل ، وخالف من تقدّمه ، اضطربت أقواله ، حسب اعتراف أقرانه من علماء أهل السُنّة ، فمرّة ، قال : المُرسل ليس بحجة مطلقاً ، إلا مراسيل سعيد بن المسيب ، ثم اضطر الى ردّ مراسيل ابن المسيب نفسه ، ثم الى الأخذ بمراسيل آخرين ، ثم قال بحجّية المُرسل عند الاعتقاد ، ولذلك تعب أمثال البيهفي في التخلّص من هذا الاضطراب ، وفي مسند الشافعي نفسه مراسيل كثيرة (١).

وما من شك ان هذا الاضطراب والتردّد ، وعدم اتخاذ موقف حاسم من المراسيل ، إنما يُنبئ عن طبيعة الامام الشافعي نفسه ، التي لا تثبت على موقف فقهي معيّن ، ولا قاعدة محدّدة ، كما هو ديدنه في تحوّلاته بين الحجاز والعراق ومصر. فهو عندما تبنّى مدرسة الرأي في العراق ، قلّل من اهتمامه بالحديث ، خاصة المراسيل منه ، ولكنه عندما حلّ في مصر ، رجع الى مدرسة الحديث ، واهتم بالمراسيل أكثر من قبل ، مُركّزاً على الحديث الصحيح والحسن في نظره.

الشافعي والقرآن الكريم

كان الشافعي ، وهو الذي عاش في القرن الثاني من الهجرة ، يقول بانه لا يحل

__________________

(١) نصب الراية ـ الزيلعي ١ : ٢٣.

٢٥١

لأحد أن يُفتي في دين الله ، إلا ان يكون رجلاً عارفاً بكتاب الله ، بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكّيه ومدنيّه ، وما أُريد به ، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالناسخ والمنسوخ ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن (١).

غير ان الشافعي قد أدان نفسه بنفسه ، لأنه لم يكن على إطّلاع راسخ بالقرآن الكريم كما ينبغي ، ووضع قواعد اصوله وفقهه على أساسه ، فهو قد أخطأ في فهم معاني القرآن مراراً ، منها على سبيل المثال ، مصطلح العَول ، حيث اعترض العلماء على تفسير الامام الشافعي ، الآية الكريمة : ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا (٢) ، ففسّر الشافعي : «تعولوا» بمعنى «يكثر عيالكم» ، فقال ابن الوزّان : أخطأ الشافعي ، يُقال : عال (الرجل) يعيل إذا افتقر ، وأعال (معيل) إذا كثر عياله (٣).

هذا في شأن القرآن الكريم ، أما في شأن الحديث النبوي ، فالشافعي نفسه قال : إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط ، لأنه كان غير مطمئن لأقواله وآرائه بأنها تأتي على وفق الحديث الصحيح ، فلربما كان يشكّك في حديث ما ، وهو صحيح أنه لم يكن مطّلعاً عليه بصورة كافية ، واذا كانت الحال هذه ، فكيف سوّغ لنفسه ، الإفتاء في دين الله ، مع انه لم تكتمل لديه قواعد الاستنباط الكافية ، والشروط التي تؤهّله ليكون فقيهاً ومفتياً بحق.

__________________

(١) انظر : الرسالة ـ الامام الشافعي : ٢٢٠ ؛ الاحكام ـ الآمدي ٣ : ١٥١.

(٢) النساء ٣.

(٣) تأريخ الادب العربي ـ عمر فروخ ٤ : ٢٠٣.

٢٥٢

الامام الشافعي ويحيى بن معين

يحيى بن معين ، من كبار أئمة الجرح والتعديل ، جعلوا قوله في الرجال حُجّة قاطعة ، وهو قد شكك في الامام الشافعي ، وتصريحه بهذا ثابت عنه من طرق صحيحة ، ومن أقوال يحيى بن معين : الشافعي كان يكذب ، ما أحبّ حديثه ولا ذكره (١).

الشافعي والصحابة

يعتقد الامام الشافعي بأن الصحابة هم رواة للحديث النبوي ، غير ان اجتهادهم وفتاواهم وآراءهم ، مَحطّ تساؤل ، لأنهم قد يخطئون كغيرهم من المسلمين ، ولذا لا يلزم أن تُؤخذ أجمعها أو بعضها ، كما هو عند المذهب الحنفي ، أما اذا عمل الصحابي بخلاف ما رواه ، فالشافعي يعمل بالحديث المروي عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويترك عمل الراوي ، إذ قد يكون عن اجتهاد ، أو سهو ، أو نحو ذلك (٢).

والشافعي بذلك يُخالف المذاهب الفقهية الأخرى التي تتمسك بفتوى واجتهاد الصحابي لتدعم بها قواعدها الفقهية.

غير ان الشافعي لثقته بالصحابة يأخذ بروايتهم للحديث النبوي ، مأخذ الصحة الكاملة ، من دون أي نقاش أو تشكيك ، باعتبارهم رواة صادقين للحديث ، نراه في كتابه (الأم) يجوّز على الصحابة الذين رووا عن النبي ، الخطأ والكذب ، إذ كانوا لا يقبلون مرويات بعضهم أحياناً ، ويعمل كل منهم بما يوحيه اجتهاده ، وقد تراشقوا بأسوأ التهم ، واستحل بعضهم دماء البعض الآخر.

__________________

(١) جامع بيان العلم ـ ابن عبد البر ٢ : ١٤٩.

(٢) المذاهب الفقهية : ٩٠.

٢٥٣

فإذا كان هذا حال الصحابة ، فكيف يعتمد على روايتهم للحديث النبوي وتُصدّق مروياتهم دون تمحيص وتحقيق كامل؟ وكيف يمكن قبول المراسيل ، دون معرفة الصحابة المنقولة عنهم تلك الروايات المنقطعة؟ إنها تساؤلات وجيهة!!

من فتاوى الشافعية

أبو سهيل الأبيوردي ، من علماء الشافعية ، ويُوصَف بأنه أحد أئمة الدنيا علماً وعملاً ، ومن أئمة الفقهاء ومع هذه الألقاب الرنانة ، فهو قد أفتى بأن الحدّ لا يلزم من يلوط بمملوك له ، بخلاف مملوك الغير ، وبدلاً من توجيه النقد لأمثاله ، وتخطئة مثل هذه الفتاوى والأحكام المخالفة بوضوح لحكم الله تعالى ، نرى علماء كباراً يسعون لتبرير مثل تلك الفتاوى والاحكام بذرائع واهية ، كقول القاضي حسين بأنه ربما قاس الايبوردي ، هذا الأمر على وطء أمته المجوسية أو أخته من الرضاع ، وعلله صاحب البحر بأنه ملكه فيه يصير شبهة في سقوط الحد ، والذي جزم به الرافعي تبعاً لأكثر الأصحاب ، أنه لا فرق بين مملوكه وغيره ، نعم في اللواط من أصله قول ان موجبه التعزير ، انه مخرج من القول بنظيره في إتيان البهيمة (١).

على ان ابن عقيل يرى بأن الوطء إن كان في الدبر في حق أجنبية ، وجب الحدّ الذي أوجبه في اللواط ، وعلى هذا فحدّه القتل بكل حال ، وان كان في مملوكه ـ أي عبده ـ فذهب بعضهم انه يعتق عليه.

إنها تبريرات ساذجة تتصادم والحكم الشرعي الصحيح والواضع جداً في هذ القضية ، وهي ان الحدّ يلزم المالك لكون العملية ، إغتصاباً وفعل إنسان بإنسان ، وليس

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٤ : ٤٥.

٢٥٤

هناك أي مهرب من الحد الشرعي الذي يقتضيه اللواط بأي حال من الأحوال.

إنتشار المذهب الشافعي

كان الامام الشافعي ـ وكما هو معلوم ـ ينهى المسلمين عن تقليده ، وبحسب إقرار تلميذه المزني الذي ألّف كتاب «المختصر الصغير» ، ونشر به المذهب ، حيث جاء في مقدمة الكتاب : اختصرت هذا من علم الشافعي ، ومن معنى قوله : لا بيّنة لمن أراد ، مع إعلامية نهيه عن تقليده ، وتقليد غيره ، ليأخذ فيه لنفسه ، ويحتاط لدينه (١).

ولكن ليس هناك دليل على ان غاية الشافعي من النهي تقليده ، هو الاحتياط للدين ، وانما هو اعتراف بأن فتاواه وأحكامه وآراءه ، قابلة للطعن من قبل المجتهدين والفقهاء الآخرين الذين ربما توصّلوا الى أحاديث نبوية صحيحة ، لم تتوصل جهوده للكشف عنها في حياته.

أما كيفية انتشار المذهب الشافعي ، فهذا يعود لتولّي علماء الشافعية لمناصب القضاء والوظيفة العليا في السلطان الحاكة ، سواء في مصر أو غيرها من البلدان الاسلامية. فالمقريزي مثلاً ، تولّى نيابة القضاء على المذهب الشافعي ، وأصبح واعظاً في جامع عمرو بن العاص ، ومدرسة السلطان حسن ، وإماماً في جامع الحاكم ، ومدرّساً للحديث في المدرسة المؤيدية ، وهو من كبار المؤرخين في عصر المماليك ، مصنّف ، وأشهر كتبه : كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار «الخطط المقريزية».

قال المقريزي : وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك (٢).

أما القاضي الجرجاني ، فقد سمع الحديث في نيسابور ، وقد تولّى القضاء على

__________________

(١) اضواء البيان ـ الشنقيطي ٧ : ٣٤٧ ؛ مفتو المزني ـ اسماعيل المزني : ١.

(٢) تأريخ الادب العربي ٣ : ٨٤٤.

٢٥٥

المذهب الشافعي مراراً في بلدان مختلفة حتى أصبح قاضي القضاة في الري (١).

هذا إن دلّ على شيء فانما يدل على ان انتشار المذهب الشافعي ، كان بفعل الترويج له من قبل القضاة والسلطات الحاكمة من ورائهم ، وان المذهب حظي بتبني المماليك له في مصر ، وهم الذين وطّدوا أسسه في المجتمع المصري ، ثم في الامصار والبقاع الأخرى.

__________________

(١) المصدر السابق ٢ : ٥٨٥.

٢٥٦

الامام أحمد بن حنبل والتشبّث بآثار السلف

تُرى هل حقاً انّ الإمام أحمد بن حنبل قد بزّ أقرانه في حفظ الحديث والذبّ عن السُنّة النبوية؟ وهل هو أعظم الناس ببغداد وإمام المحدّثين في عصره ، ومفتي العراق وشيخ الأمّة بلا منازع؟ (١).

وهل ان ابن حنبل كان إماماً في الحديث وضروبه ، وإماماً في الفقه ودقائقه ، وإماماً في السُنّة ودقائقها؟ (٢).

ثم هل ان الامام أحمد كان كما أكد معاصروه قد أعزّ الله الاسلام به ، وانه ليس هناك من هو أفقه منه في بغداد ، وهو حُجّة بين الله وبين عباده؟ وان الله جمع له علم الأولين والآخرين ، يقول ما يشاء ويُمسك ما يشاء؟ وهو قام مقام الانبياء (٣).

وكالعادة ، لابد من البحث والتنقيب في بطون الكتب والروايات للتوصّل الى الحقيقة كاملة حول صاحب المذهب الرابع.

وأول ما لفت انتباهي ان أئمة السُنّة والجماعة آنذاك ، كانوا يصرّون على ان صبغة المحدّث قد غلبت على أحمد ، أكثر مما ظهرت فيه صبغة الفقيه ، وانه كان يرفض أن

__________________

(١) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٥ : ١٧٨ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥ : ٢٦٢.

(٢) شذرات الذهب ـ ابن العماد الحنبلي ٢ : ٩٦ ؛ العبر في خبر من غبر ـ الذهبي ١ : ٤٣٥.

(٣) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١١ : ١٨٨ ؛ طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٢ : ٢٨ ؛ الجرح والتعديل ـ الرازي ١ : ٣١٠ و٣١١ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥ : ٣١٨ ؛ المغني ـ عبد الله بن قدامة ١ : ٥.

٢٥٧

تُسجّل آراؤه وأقواله لأنه كان غير مطمئن لها ، غير ان الخلّال وتلميذه إسحاق التيمي هما اللذان دوّنا علومه وأقواله بالرغم من ممانعته لذلك أيام حياته (١) ، ولأنه كان يعتقد بأن التقليد لغير النبي مذموم وفيه عمى للبصيرة ، وهو بالتالي يؤمن بالتقليد ولا يحق للمسلم أن يتفقه بغير الاقتباس من الاحاديث النبوية الصحيحة منها والضعيفة فضلاً عن فتاوى الصحابة والتابعين ، وان أقواله وآراءه كانت مجرّد آراء لا ينبغي تقليدها والأخذ بها غير أن تلاميذه وتلاميذ تلاميذه ، سارعوا الى تدوين آرائه التي كانت متناقضة الى حد كبير.

أصول فقه ابن حنبل في ميزان علماء أهل السُنّة والجماعة

من المعروف ان الفقه المنقول عن أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب على العقل نسبة كل هذه الأقوال إليه. والمرء حين يفتح أي كتاب للحنابلة ، وأي باب من أبوابه يجده لا يخلو من عدة مسائل اختلفت فيه الرواية بين لا ونعم.

ـ نُقل عن الامام الغزالي ان الاعتراف بفقه الحنابلة كان حوالي سنة ٥٠٠ هـ.

ـ الترقيع على المذهب الحنبلي من ناحية الكلام والاستدلال قد قام به أبو الحسن الاشعري ، بعدما أصبح من الحنابلة.

وأما الترقيع من الناحية الثانية ، فقد قام به أبو بكر الخلّال المتوفى سنة ٣١١ هـ ، وهو جامع أشتات المسائل الفقهية المنسوبة لابن حنبل ، ومن حلقته في جامع المهدي ببغداد ، انتشر المذهب الحنبلي الفقهي ، وقد اختلفت الروايات في أقوال أحمد اختلافاً عظيماً ، والمخرجون بعده اختاروا صحّة بعض الأقوال ورجحوها على غيرها.

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ١١٥ ـ ١١٦ ـ ١١٧.

٢٥٨

ـ سأل رجل أحمد بن حنبل عن مسألة في الحلال والحرام ، فقال له أحمد : سل عافاك الله غيرنا ، قال : انما نريد جوابك يا أبا عبد الله. قال : سل عافاك الله غيرنا ، سل الفقهاء ... سل أبا ثور (١).

ـ ابن قتيبة (متكلم أهل السُنّة) ، لم يذكر ابن حنبل في جماعة الفقهاء ، وكذلك بن عبد البر ، فانه لم يذكره في الفقهاء في كتابه الانتقاء.

ـ وكذلك ابن جرير الطبري لم يذكره في كتابه في اختلاف الفقهاء من الفقهاء ، وانما كان محدّثاً (٢).

ـ ان كثيراً من الأقدمين لم يعدّوا أحمد من الفقهاء ، كابن قتيبة وهو قريب من عصر أحمد جداً ، وابن جرير الطبري وغيرهما ، ولو كانت تلك المجموعة الفقهية معروفة مشهورة عنه وهي بلا شك تجعل صاحبها فقيهاً أي فقيه ، لم يكن هناك مسوّغ لأولئك أن يحذفوا أحمد من سجل الفقهاء.

ـ أبو حسن الأشعري بعد أن تاب من الاعتزال وانتسب الى أحمد وأصبح حنبلياً ، كما ذكر ذلك ابن عساكر ، اختلفوا في مذهبه الفقهي انه حنفي أو شافعي أو غيره ، ولم يحددوا هل كان حنبلياً أم لا؟ ومثله الباقلاني ، فإنه مع كونه يوقّع : أبو بكر الحنبلي ، فقد كان على مذهب مالك في الفقه ، ومثله عبد الله الانصاري الهروي المتوفي سنة ٤٨١ ، وكان شديد الانتصار لمذهب أحمد ، فهو في الفقه كان على طريقة ابن المبارك.

__________________

(١) الكامل ـ الجرجاني ٢ : ٣٦٧ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٦ : ٦٤ ؛ طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٢ : ٧٥.

(٢) الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٨ : ١٣٤.

٢٥٩

ـ والمشهور ان ابن حنبل كان ينهى في رسائله عن الرأي والقياس والاستحسان ، ويجعل القائلين بالرأي والقياس في رديف الجهمية والقدرية والرافضة ، ويحمل على أبي حنيفة بشخصه.

ـ ويعلّل ابن خلدون ، ظهرة قلّة أتباع المذهب الحنبلي ، ـ قديماً ـ بأن مذهب أحمد يكاد يكون مذهب حديث ، لخلّوه من نزعة الاجتهاد الفقهي ، فيقول : فأما أحمد بن حنبل فمقلّده قليل ، لبُعد مذهبه عن الاجتهاد ، وأصالته في معاضدة الرواية ... وأكثرهم بالشام والعراق ، من بغداد وضواحيها ، وهم أكثر الناس حفظاً للسُنّة ، ورواية الحديث (١).

ـ ولإبن جرير الطبري كتاب (اختلاف الفقهاء) الذي أحدث هزّة حنبلية في بغداد ، لما كتبه ، وتنوول في الايدي ، إذ لم يعد الامام أحمد في الفقهاء ، وقال الطبري : (أما أحمد بن حنبل فلا خلافه) كما ذكره ياقوت في مشاجرتهم له ورميهم إياه بالمحابر (٢).

ـ وأحمد بن حنبل نفسه يقول : إذا سُئلت في مسألة لا أعرف فيها خبراً ، قلت فيها : يقول الشافعي ، لأنه إمام عالم من قريش (٣).

ـ ولابن القيم الجوزية قولاً هزيلاً مفاده : وليس المراد بالضعيف عنده (ابن حنبل) ، الباطل ، ولا المنكر ، ولا ما في روايته متهم ، بحيث لا يسوغ الذهاب إليه ، فالعمل به ، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح ، وقسم من أقسام

__________________

(١) تأريخ ابن خلدون ١ : ٤٤٨.

(٢) المذاهب الفقهية : ١٤٧.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥١ : ٣٣٩ ؛ طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ١ : ٢٠٠.

٢٦٠