بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

من التحقيق في الأمر والتنقيب عن الاسباب التي أدت الى تعطيل العمل بكتاب الله ، وذلك تطبيقاً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حاول عمر تمييع القضية ، وان هؤلاء المحتجين يحاولون تكليف الخليفة فيما لا يطيقه ، وان القرآن الكريم يؤكد ان المهم هو اجتناب الكبائر فحسب ، وان الله يغفر السيئات ، ويدخل المؤمنين مدخلاً كريماً.

ثم قال الخليفة عمر بأنه لو علم أهل المدينة بالأمر لنكّل بهؤلاء الوافدين ليجعلهم عبرة للآخرين (١).

ولسنا نعلم ما الداعي للتنكيل بالوفد المصري الذي كان يجب أن يحظى أعضاؤه بالشكر والتكريم على اهتمامهم بالقرآن الكريم وضرورة تطبيق تعاليمه على المجتمع ، بدلاً من عقابهم فيما لو اذاعوا الخبر في أوساط أهل المدينة ، ولماذا التعتيم ـ أصلاً ـ على أمر مهم وهو الاستخفاف بالاوامر القرآنية؟ ثم من قال بأن هذه الأمور المعطّلة من كتاب الله ، لا تتعلق بالكبائر التي أشارت إليها الآية القرآنية التي استشهد بها الخليفة؟ ثم أليس الخليفة وأمير المؤمنين مُؤتَمناً على الدين وهو الخليفة الراشد الثاني؟ فكيف يعالج مثل هذه الأمور بالتواني والتهرّب من مواجهة المشكلة وتمييعها بالشكل الذي جرى مع الوفد المصري؟ أما كان على عمر أن يستشير ـ كما هي عادته ـ الصحابة من حوله لاستكشاف الحل المناسب؟

عمر ومنع التحدّث بالسُنّة النبوية أو كتابتها

الحديث النبوي ، أفضل ما ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلاً عن القرآن الكريم ، بعد رحيله الى البارئ الأعلى ، والقرآن الكريم كما هو معروف ، نزل في أكثر آياته مجملاً غير مفصَّل ، وهو بحاجة الى شرح وتفسير وتأويل حتى يتمكّن المسلمون من فهمه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ : ٤٩٧.

١٨١

الدقيق ، واستيعاب معانيه وأبعاده التشريعية والدينية وكل المتطلبات الانسانية.

والله تعالى يقول في كتابه الكريم : لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١).

ورسول الله نفسه يؤكد للمسلمين بأن : «جئتكم بالقرآن ومثليه» ... ويقول : في حديث مشهور عند اهل السُنّة : «تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، كتاب الله وسُنّتي» وعليه ، فينبغي أن تكون السُنّة النبوية ، متداولة بين المسلمين ، والكل يطّلع عليها حتى يعرف مسؤوليته الشرعية في الحياة ، والحديث النبوي في حدّ ذاته ، حُجة على الأمة ، ويجب عليها الإمتثال لأوامر الشريعة ونواهيها وواجباتها بكل دقة ، ولا يتم ذلك إلا إذا كانت السُنّة النبوية مدوَّنة حتى لا ينساها حَفَظَتها بمرور الزمن ، كما ينبغي على أبناء الأمّة تَداول الحديث النبوي فيما بينهم كل يتعايشوا معه ، ويملأ نفوسهم بالحكمة والموعظة ، ويطبّقونه في سلوكهم وممارساتهم الحياتية الدقيقة على أساس شرعي متين. فالمسؤولية في تطبيق الشرع المقدس تقع على جميع المسلمين من خلال الاستلهام من القرآن والسُنّة معاً.

فبالنسبة لكتابة وتدوين الحديث النبوي ، منع الخليفة الثاني تدوين الحديث ، لأنه لا ينبغي أن يُكتب كتاب مع كتاب الله ومن كان عنده شيء من أحاديث الرسول فليمحه (٢). ويقصد عمر بالكتاب ، تدوين الحديث النبوي بعد أن كان محفوظاً في صدور الرجال والحَفَظَة من الصحابة ، وقال عمر أيضاً بأنه لا يُلبس كتاب الله بشيء أبداً (٣) أي بكتابة وتدوين الحديث النبوي.

__________________

(١) النحل ٤٤.

(٢) كنز العمال ١٠ : ٢٩٢ / ٢٩٤٧٦ ؛ كتاب العلم ـ النسائي : ١١.

(٣) عمدة القاري ٢ : ١٢٩ ؛ المصنف ١١ : ٣٢٥.

١٨٢

ومع ذلك فقد بدا لعمر بن الخطاب ـ فجأة ـ أن يدوّن السُنّة النبوية ، فاستفتى أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، فاستشارهم فأشاروا عليه بكتابتها ، لكنه قال بأنه كان يريد كتابة السُنّة ، وتذكّر قوماً من أهل الكتاب ، كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وانه أقسم أن لا يشوب كتاب الله بشيء أبداً (١) ، ثم ان الخليفة الثاني أمر رعاياه في الأمصار بأن من كان عنده شيء من الحديث فليمحه (٢) ، وكان أمره بالمنع متشدّداً لا يقبل التساهل.

والخطوة الثانية التي أقدم عليها عمر ، هي أن أمر الناس بإتيانه بالاحاديث المدوّنة لديهم ، فأمر بحرقها ، وذلك حينما علم بأن الاحاديث قد كثرت في عهده ، قائلاً : مثناة كمثناة أهل الكتاب ... ، فإستجاب الناس وامتنعوا عن كتابة الاحاديث النبوية (٣) ، وذلك لأن الأوامر كانت حاسمة في المنع.

وكان عمر في تبريره للمنع حسب رأيه ان تدوين الحديث النبوي يؤدي الى تحقيق أمنية أهل الكتاب ، وكلمة مثناة أو مشناة ، انما هو مصطلح يهودي عبّروا به عن التوراة المبدّلة المحرّفة (٤).

ويعني الخليفة الثاني بأن تدوين الحديث النبوي سيُسهم في تحريف وتشويه القرآن الكريم من خلال الخلط والمزج بني الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وان الاحاديث النبوية ربما تتسلل الى كتاب الله من حيث لا يعلم المسلمون ، وسيصبح القرآن محرّفاً على أثر ذلك كما حدث لكتب أهل الكتاب.

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ـ يوسف النمري القرطبي : ٦٤ و٦٥.

(٢) كنز العمال ١٠ : ٢٩٢ / ٢٩٤٧٦ ؛ كتاب العلم : ١١.

(٣) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد : ١٨٨ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي : ٢٢١.

(٤) تقييد العلم : ٥٢ ؛ دلائل النبوة ـ ابن نعيم : ٨٣٦ ذيل رقم ٨٢٤.

١٨٣

مع ان اليهود مثلاً ، لديهم التوراة التي حُرّفت من قبل رجال دينهم بما تشتهي أنفسهم ، أما التلمود فهو عبارة عن مجموعة نصائح ووصايا النبي موسى عليه‌السلام وليس فيه من التوراة شيء ، وأما الانجيل فقصته تختلف عن التوراة ، إذ ان هناك ـ كما هو مشهور ـ أربعة أناجيل ، دوّنتها مجموعة من (حواري) أتباع السيد المسيح بعد صعوده الى السماء بأربعين عاماً ، كُل حسب ذوقه ورؤيته ، ولذلك فهي تختلف فيما بينها اختلافاً واضحاً وتسمّى باللاهوت ، فيما كان الفقه المسيحي مدوّناً بصورة منفصلة ويُسمّى عند النصارى بالناسوت.

ولسنا نعلم ، ما العلاقة بين تدوين السٌنّة النبوية والقرآن الكريم ، الذي صانه الله من الضياع والتحريف ، وهو المدوّن والمجموع في عهد الرسول كما يشهد المؤرخون؟

فلماذا الخوف إذاً؟ ولِمَ أشار الصحابة على عمر بتدوين الحديث؟ ولم يخشوا على القرآن الكريم من التحريف كما خشي عمر؟ خاصة وان الكثير منهم جمعوا القرآن بأيديهم ، ومنهم العديد من حفّاظ القرآن الكريم ، ويدركون بأن تدوين الحديث ال نبوي هو الخطوة الصحيحة التي تحول دون ضياع الحديث واندثاره ، وخاصة ان الحفّاظ ربما ينسون الحديث المحفوظ في صدورهم بمرور الزمن ، وهم معرّضون للكبر والشيخوخة والخَرَف والموت أيضاً.

ولم يقتصر الخليفة الثاني على منع تدوين الحديث بل وأمر بعدم التحدّث بحديث رسول الله أيضاً ، والتقليل منه قدر الامكان.

فقد دعا عمر الى إقلال الرواية عن رسول الله ، عمّا لا يفيد حُكماً ولا سُنّة ، إلا فيما يُعمل به ، أي السُنّة العملية (١). ومن الغريب أن يمنع عمر التحدث بالحديث النبوي

__________________

(١) جامع بيان العلم ٢ : ١٢١.

١٨٤

باستثناء السُنّة العملية ، فهل من المعقول قد أدلى النبي بأحاديث كثيرة في مجالات متنوعة عبثاً ولا تفيد المسلمين؟ أم كل أحاديثه ذات فائدة عظيمة ، ولابد من الاستفادة منها ، فلماذا يُحرَم المسلمون من أريجها الفواح؟

ثم إذا خشي الخليفة الثاني من الكذب على رسول الله ، فإن الذين يكذّبون على الرسول من الرواة ، لا يفرّقون بين أحاديث الاحكام الشرعية والفرائض الواجبة ، وبين احاديث الفضائل والأخلاق والتربية ، بل ربما كان المنافقون والمندسون من أهل الكتاب ، يحبّذون تحريف أحاديث العقائد والتشريعات الاسلامية المتضمنة للأحكام والفرائض على الأحاديث الأخرى ، بغية بث الاختلاف والفرقة بين المسلمين؟ ثم إذا كان ال صحابة كلهم عدولاً كما يزعم أهل السُنّة والجماعة ، فلِمَ اتخذ عمر بن الخطاب موقفاً حذراً منهم ، وأمرهم بالاقلال من الحديث النبوي.

ولم يقف الخليفة الثاني عند هذا الحدّ في منع انتشار الحديث النبوي ، بل أمر الذين يغادرون المدينة الى الأمصار ، بالتقليل من التحدث عن رسول الله حتى لا يعيقون أو يشوشون على الذين يتلون القرآن الكريم ولهم دوي كدويّ النحل ، ثم أمر هؤلاء الصحابة بالعودة الى المدينة ، وحبسهم فيها حتى مات. وهؤلاء الصحابة ليسوا من الصحابة العاديين ، وانما هم من كبار الصحابة وأجلّتهم ، كابن مسعود وأبي مسعود الانصاري وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأبي ذر الغفاري وغيرهم ، وهؤلاء الصحابة الادلّاء ، هم الذين سجنهم عمر في المدينة لأنهم يكثرون الحديث عن رسول الله (١).

وهنا نتساءل :

١ ـ هؤلاء الصحابة كانوا من الملازمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقرّبين إليه ، ولابد انهم

__________________

(١) الكامل ـ ابن عدي ١ : ٤ ؛ تأريخ الاسلام ١٨ : ١٧٣ ؛ مجمع الزوائد ١ : ١٤٩.

١٨٥

سمعوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله الكثير من الحديث الشريف ، ولم يسمعوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمراً بمنع تدين او التحدّث بالحديث الذي كان يدلي به ، والا لامتنعوا قبل غيرهم ، فلماذا يتم منعهم من التحدّث بالسُنّة النبوية؟

وإذا حُرِم المسلمون في الاصقاع البعيدة من الاستفادة من هؤلاء الصحابة المقرّبين الذين كانوا ملازمين لرسول الله ، وسمعوا الكثير من حديثه ، فعلى من يعتمد المسلمون للتزوّد بالسُنّة النبوية التي هي المصدر الثاني للأحكام والشرائع الدينية؟ وهل كان عمر ابن الخطاب أعلم من هؤلاء بالسُنّة النبوية ، وهو الذي طالما كان يجهل النصوص الشرعية باعترافه هو نفسه ، وان الناس أفقه منه حتى ربات الحجال. بل ان بعض الصحابة يتّهمه بأنه كان يشغله التسكع في الأسواق.

٢ ـ ان سجن هؤلاء الصحابة الكبار في المدينة ، ومنعهم من التحدّث بالسُنّة النبوية ، تشكيك بهم وتكذيب لهم ، وإنهم في إكثارهم للحديث النبوي ، يتعدّون الصدق والأمانة في النقل بحيث يضعون الحديث من عند أنفسهم ويلصقونه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله او يحرّفونه على الاقل ، واذا كان هذا هو حالهم ، فكيف ينسجم موقف عمر هذا من الصحابة ، والقاعدة السُنّية التي تسبغ العدالة المطلقة على كل الصحابة وانهم لا يكذّبون على الرسول بتاتاً.

٣ ـ عندما كان الخليفة عمر يبعث بالولاة والعمال الى الأقطار والولايات والامصار ، يأمرهم بالتقليل من الحديث النبوي ما استطاعوا وان عليهم الاكتفاء بالقرآن الكريم دون أن يضع لهم ضوابط في ذلك (١) مع العلم ان رسول الله طالما وعظ ونهى عن أشياء مثل القرآن أو أكثر ، وحذّر من الذين

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ : ٢٧٣.

١٨٦

يقولون للمسلمين بأن عليهم بالقرآن فحسب ليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ، وان ما وجدوا في كتاب هالله اتبعوه.

وطبق قول رسول الله فإن خلّف حديثاً كثيراً ، فلماذا يُمنع المسلمون من تداوله ، بحيث يبقى القرآن الكريم وحيداً منفرداً ، يحلّلون حلاله ويحرّمون حرامه دون الرجوع الى السُنّة النبوية ومعرفة التفاصيل والشرح المفصَّل للمجمل من القرآن.

فكيف والحال هذه ، سيطبّق المسلمون ، الشرع على أنفسهم وهو في الكتاب العزيز مُجمل ، والمفروض الاعتماد على السُنّة النبوية لكي تصبح المسائل والمشاكل الشرعية واضحة للمكلَّفين؟

والغريب ان الخليفة الثاني لم يستثنِ حتى الصحابي «أبي هريرة» ، المعروف ـ عند أهل السُنّة ـ بأنه من أبرز نَقَلة الحديث النبوي ، لمواهبه وذكائه الخارق ، وقدرته الفائقة على الحفظ ، ومع ذلك فقد منعه الخليفة عمر بن الخطاب منعاً باتاً من التحدّث بالحديث النبوي ، وتهدده بالضرب والنفي إذا حدّث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، وحذّره اذا لم يترك الحديث عن رسول الله فسوف يلحقه بأرض قومه (١). وكان «أبو هريرة» يؤكّد بأنه لم يستطع التحدّث بالسُنّة النبوية حتى مات الخليفة الثاني (٢).

وبعد رحيل عمر بن الخطاب ، أطلق «أبو هريرة» العنان للحديث دون رقيب ، قائلاً بأنه لو حدّث بهذه الأحاديث في زمن عمر لأوجعه ضرباً (٣).

وعندما تصدّى الخليفة عثمان بن عفان لسدة الحكم بعد وفاة الخليفة عمر بن

__________________

(١) تأريخ المدينة المنورة ـ ابن شبة المصري ٣ : ٨٠٠.

(٢) البداية والنهاية ٨ : ١٠٧.

(٣) جامع بيان العلم ٢ : ١٢١.

١٨٧

الخطاب ، أطلق سراح الصحابة الذين حجزهم عمر في المدينة (١). وهنا نتساءل مرّة أخرى ، إذا كان هؤلاء الصحابة الكبار ومن ضمنهم «أبو هريرة» قد منعهم عمر من التحدّث عن رسول الله وشدّد النطاق عليهم ، ومنعهم من السفر الى الأقاليم الاسلامية الأخرى حتى لا يتحدثون بأحاديث عن رسول الله ، ربما يشوبها الكذب وعدم الصحة ، فلماذا أطلقهم الخليفة عثمان؟ ليسيحوا في الارض ويتحدثوا كما يشتهون؟

ولاشك ان مخاوف عمر لم تتبدد في موته أبداً سوى ان سوطه الذي كان يخشاه «أبو هريرة» وأمثاله في زمن عمر قد زال مع موت الخليفة ، وأخذ يتحدث كيفما يهوى ويشاء في عهد عثمان ، مما يدلّ على تساهل الخليفة الثالث ، فهل كان الخليفة الثاني خاطئاً في تشديده وتضييقه على الصحابة ، أم الخطأ كان من جانب الخليفة عثمان؟

وأخيراً فإن قصد الخليفة عمر كما يبدو ، منع تدوين الحديث النبوي والتحدّث به ، لا الاقلال منه فقط ، وهو ما نستشفه من قوله الحاسم : «لا كتاب مع كتاب الله» ، وقوله : «ان من كتب حديثاً فليمحه» ، أو قوله : بأنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل فلا تصدّوهم بالاحاديث عن رسول الله لتشغلوهم (٢). فالخليفة الثاني انما يقصد هنا ، منع الحديث النبوي ككل من سريانه في المجتمع الاسلامي ، وأن لا يحق لأحد أن يدوّن حديثاً الى جانب القرآن الكريم.

ونحن نعجب ممن يدّعي بأن عمر كان شديداً على مَنْ أكثر الرواية ، أو أ ن يأتي بخبر في الحكم لا شاهد عليه ، ولذلك كان يأمرهم بأن يقلّوا الرواية ، ويريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ، ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق

__________________

(١) العواصم من القواصم ـ ابو بكر بن العربي : ٧٥ و٧٦.

(٢) المستدرك على الصحيحين ـ الحاكم النيسابوري ١ : ١٠٢ ؛ جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ٢ : ١٢٠.

١٨٨

والفاجر والاعرابي (١).

فأولاً : ان الذين كانوا يُحدّثون عن رسول الله ، أكثرهم من أكابر الصحابة الذين لم يشهد عليهم أحد بالكذب أو شهادة الزور ، مثل عبد الله ابن مسعود وأبو ذر الغفاري وحذيفة بن اليمان ، وأبو مسعود الانصاري وأبو الدرداء وغيرهم ، فلماذا لم يستدعهم الخليفة الثاني ليدوّنوا الحديث النبوي في صحف محدّدة ، ولَما ينقضي على موت الرسول سوى سنين معدودة ، سنتين ونيف أو ثلاث سنوات ، وبالتالي ، يزول الخوف من الكذب على الرسول ، أو الخشية من اختلاط القرآن بالحديث النبوي؟

وثانياً : ما الفرق بين الإكثار أو الإقلال من الحديث النبوي ، مادام الصحابة قد حفظوا السُنّة النبوية؟ فبعض الصحابة قد أثروا من الحديث لكونهم أقرب الى رسول الله وأثر التصاقاً به ، بينما هناك صحابة أقلّوا الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لقلّة الملازمة له ، ماداموا كلهم صحابة ولا يكذّبون على الرسول لكونهم بأجمعهم عدولاً ، وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصى بأصحابه خيراً ، وان على المسلمين أن يأخذوا سُنّته منهم ، لأنهم ثقة عدولٌ لا يحق لأحد أن يشكّك فيهم أو في سلوكهم وأعمالهم وأقوالهم؟ كما هو متوافر في الكثير من الأحاديث المنقولة عن رسول الله ، والمختصة بالصحابة الكرام.

عمر والخوف من المصير

من الامور التي يتوقف عندها المرء ويستغرب منها كثيراً ، خشية الخليفة الثاني عمر من الموت ، وما ينتظره في الحياة الآخرة ، وندمه على حياته وتمنّيه بأنه لو كان كبشاً لأهله

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث : ٤١.

١٨٩

ليُذبح ويُؤكل ، ولم يكن بشراً (١) ، وانه أقسم وقت موته بأن لو كان له ما طلعت عليه الشمس لافتدى من هول المطّلع (٢).

ومما يثير الاستغراب ، خشية عمر من الموت وانه يتمنى لم يكن بشراً ، وهو الذي كان محدَّثاً ، وكثيراً ما تنزل الآيات القرآنية موافقة لآرائه واقتراحاته وأقواله ، وانه بالمنزلة الكبرى ، والمكانة العظمى التي يحلم بها كل مسلم ، وهو الخليفة الراشد الذي تتحدّث به الركبان .. فلماذا هذا الخوف والرعب من المصير؟ مع وجود الكثير الكثير من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن فضائل عمر ومناقبه ومكانته عند الله ورسوله؟ فلماذا إذاً يتمنى لو لم يكن بشراً .. أو يخشى من سوء العاقبة؟

الخليفة الثاني ولقب الفاروق

ما حقيقة اللقب الذي يحمله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، والمعروف بالفاروق؟ والذي يستند أهل السُنّة والجماعة فيه الى حديث منسوب الى رسول الله ، يُفيد بأن تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعرم بالفاروق جاء تلبية لتأكيد جبرئيل بأن عمر بن الخطاب فرّق بين الحق والباطل (٣).

وبعد التحرّي في كتب التأريخ لمعرفة صدقية هذا الادعاء ، توصلنا إلى ان تلقيب الخليفة الثاني بالفاروق لم يتم من قبل جبرئيل والرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وانما اهل الكتاب هم الذين أول من لقّبوا عمر بالفاروق ، وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ، ولم

__________________

(١) كنز العمال ١٢ : ٦١٩ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٣٠ : ٣٣١.

(٢) الامامة والسياسة ١ : ٤٠ و٤١ ؛ المصنف ٨ : ١٥٥.

(٣) تفسير الكشاف ـ الزمخشري ١ : ٤٠٦.

١٩٠

يعرف ان رسول الله ذكر من ذلك شيئاً (١).

ولم يبلغ ان ابن عمر قد قال ذلك لأبيه فيما يذكر من مناقب عمر الصالحة.

ويؤكد الطبري ان الذي سمّى الخليفة الثاني بالفاروق هو كعب الأحبار نفسه (٢).

ويذكر آخرون بأن تسمية رسول الله لعمر بالفاروق أثبت كذبها.

هذه هي حقيقة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كما يرويها التأريخ النزيه ، غير الملوّث بأكاذيب وافتراءات الوضّاعين ومؤرخي السلاطين.

__________________

(١) تأريخ المدينة ـ ابن شبة المصري ٢ : ٦٦٢.

(٢) تأريخ الطبري ـ سيرة عمر ـ حوادث سنة ٢٣ هـ ؛ مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر : ٣٤١.

١٩١

الخليفة الثالث والحقيقة ال مرّة

هل صحيح أن الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان ، كان خليفة عادلاً ، ليّناً ، مُحبّاً لأقاربه ، واصلاً لهم ، مطبّقاً لسُنّة الله ورسوله ، فأثار هذا النهج الرحيم ، حقد الغوغاء الجاحدين من الرعية في العراق ومصر ، فأقدموا على حصار الخليفة في المدينة وقتله غيلة ، فإستشرت الفتنة وأدّت الى نشوب الحروب بين المسلمين.

وهل كان الخليفة عثمان ، مواضباً على الهدي النبوي ، لا يحيد عنه أبداً ، وكان يُدعى ذا النورين الذي تستحي منه الملائكة ، وعاش محبّاً لذوي رحمه ، مقرّباً إياهم ، مُنعماً عليهم مما أثار استياء الناقمين الذين لم يرُق لهم هذا التصرّف النابع من أخلاقية أسرية رفيعة ، فثاروا عليه ، وتقاطروا وهو يقرأ القرآن ، فقُتل وسُمّي الخليفة المظلوم.

هذا مختصر الإنطباع السطحي عن سيرة الخليفة عثمان بن عفان ، قبل التعمّق بالبحث والتوغل في الاسباب التي أدّت الى مقتله ، وهو الصحابي الكبير والخليفة الراشد المعروف بالعطف والرعاية لذوي الارحام. ومن حقنا التساؤل ونحن نقلّب صفحات التأريخ : هل قُتل الرجل نتيجة مؤامرة دُبّرت بليل أم هناك تداعيات وإرهاصات أفضت الى مقتله؟

ولم يَطُلْ البحث بنا حتى عثرنا على الاسباب والعوامل التي مهّدت للثورة على الخليفة الثالث ، وانتهت بالإجهاز عليه ، وهو مُحاصر في بيت الخلافة في عاصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٩٢

كما اننا عند التحرّي الدقيق في ثنايا المصادر التأريخية المعتبرة ، اكتشفنا كم كنا واهمين في انطباعاتنا عن الخليفة عثمان ، فقد توصّلنا الى حقائق مذهلة في هذا المجال.

ولم يكن اعتمادنا إلا على مصادر الجمهور الصحيحة والموثّقة والمعتمدة لدى سائر الكتّاب والباحثين والمفكّرين حيث تصبح بمجموعها ، مسلّمات لا يمكن الطعن فيها.

حقائق مذهلة

اشترط الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ـ وهو في لحظاته الأخيرة ـ على عثمان لو بويع للخلافة من قبل هيئة الشورى التي عيّنها عمر نفسه ، أن لا يسلّط بني أمية على رقاب المسلمين. هذا الشرط وضعه أحد أبرز أفراد الهيئة ، وهو الصحابي عبد الرحمن بن عوف في حسابه وهو يرشّح عثمان بن عفان للخلافة ، حيث ذكّره بالشرط العمري ، فقبل الشرط ، وقال : نعم.

دام عهد الخليفة الثالث ، اثني عشر عاماً ، أمضى نصفها والمسلمون راضون عنه ، إذ لم يشهد عهده في تلك الفترة ، انحرافاً يُذكر عن السُنّة النبوية ، ولم يوجّه إليه المسلمون ، وخاصة كبار الصحابة ، نقداً شديداً لسيرته وممارساته وأعماله ، إنما بدأ الاعتراض على سلوكه في الإدارة والحكم ، خلال النصف الثاني من عهده حيث انتهى به الى القتل على يد الثائرين.

فماذا فعل الخليفة الثالث حتى لقيَ حتفه بهذه الطريقة المأساوية؟ وهل كان الثوار كلّهم من الغوغاء والعُصاة والمنافقين؟ بل وهل كان عثمان بن عفّان بريئاً في سلوكه ومواقفه السياسية والادارية والأخلاقية بحيث يُعتبر قتله ظلماً وتعدّياً ، وانه بحق الخليفة المظلوم؟

ان واقع الاحداث المتعاقبة ، يكشف بكل وضوح ، ان تقريب وإيثار الخليفة لأقاربه

١٩٣

وذوي رحمه من بني أمية ، يُعدّ السبب والعامل الاكبر لكل ما جرى بعد ذلك من وقائع ساخنة أدّت الى مقتل الخليفة الثالث في دار الخلافة بعد حصار دام أربعين يوماً.

ولا يخفى ان الخليفة عثمان ، قد نكث العهد الذي قطعه بعدم تسليط بني أمية على رقاب الناس حسبما اشترط عليه الخليفة عمر بن الخطاب ، وممثله في هيئة الشورى عبد الرحمن بن عوف.

والرموز الأموية التي اختصّها عثمان من ذوي قرباه ، كان قد طُعن بها من قبل القرآن الكريم وكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فالحَكَم عمّ عثمان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة لسخريته به صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجسّسه عليه حينما كان مختلياً باحدى أزواجه ، وحين لم يُقتل نفاه هو وإبنه مروان ، اللذين نعتهما بالوزغ ابن الوزغ ، إلّا ان عثمان قرّبهما وآثرهما وحباهما وأقطعهما أموالاً وممتلكات هائلة من بيت مال المسلمين ، وزوّج مروان من ابنته ، وأصبح وزيره الأعظم الذي بيده الحلّ والعقد ، والحاكم المطلق بلا منازع ، أما أبوه الحكم بن العاص ، فقد غدا النديم العريق للخليفة ، وأفضل سُمَّاره. ولقد اعتبر المسلمون ، وبالأخص الصحابة الكرام. هذه الخطوة من لدن عثمان بن عفان ، استخفافاً منه بالبشير النذير صلى‌الله‌عليه‌وآله وخيانة له بكل المقاييس.

اما أخوه لأمه الوليد بن عقبة ، فقد ولّاه الكوفة ، بالرغم من نزول القرآن بفسقه وكذبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووهب البصرة لابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز. أما مصر فقد كانت من حصّة أخيه في الرضاعة ، عبد الله بن سرح الذي نزل القرآن بلعنه (١).

ووزّع عثمان الأموال على ذوي قرباه بلا حساب ، وأصبح بيت المال نهباً لبني أمية دون سواهم من المسلمين وأهل المدينة الذين عانوا من شظف العيش والعوز فيها

__________________

(١) تفسير الآلوسي ١ : ٣٠٣.

١٩٤

انغمس بنو أمية في بحبوحة من العيش الرغيد ، لم يحلموا بها طيلة حياتهم السابقة.

أما ولاة عثمان من ذوي قرباه وأرحامه ، فقد منحهم صلاحيات مطلقة يعبثون بالرعايا حسب أهوائهم وأمزجتهم الشخصية ، الى درجة ان عامله بالكوفة سعيد بن العاص لم يتورّع من التصريح بأن السواد بستان له ولأقاربه من بني أمية دون سواهم مما أثار استياء الجماهير الغاضبة في العراق (١).

هذه السياسة المُحابية لأقاربه ، أدّت الى بث السخط في نفوس المهاجرين والانصار ، وبالذات صحابة الرسول الكرام الذين وجدوا فيها ، انحرافاً خطيراً ، ليس فقط عن السُنّة النبوية ، وإنما حتى عن سياسة الخليفة الاول والثاني اللذين لم يعرف عنهما محاباة لذوي رحمهما ، أو استغلال لبيت مال المسلمين ، وحتى عمّالهما وولاتهما لم يكونوا مُصطَفين على أساس عشائري.

وبالتالي ، ضجّت المدينة المنورة ، فضلاً عن الامصار الأخرى ، مستنكرة سيرة الخليفة الثالث وبطانته الأموية ، وعلى رأس المحتجين بالطبع ، عائشة وطلحة والزبير ، وسائر المهاجرين والانصار ، ولا ننسى أمهات المؤمنين ، إذ أخذ الكل يوجّه انتقادات لاذعة للخليفة ، ويتّهمه باقتراف الخطايا ، وخاصة عندما عاقب صحابة كباراً وأجلّاء بالضرب المبرح ، من أمثال عمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي ذر الغفاري الذي نفه عثمان الى صحراء الربذة ، حيث مات هناك ، طريداً شريداً وحيداً ، وهو الصحابي الجليل الذي قال فيه رسول الله بأنه لم تطل خضراء ولا غبراء أصدق لهجة منه.

لم يكن الخليفة الثالث يحتمل أدنى انتقاد أو لوم. وحين واجهته أمّ المؤمنين عائشة ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٥ : ٣٢ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٢١ : ١١٤ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٤٣١.

١٩٥

متّهة إياه بأنه أبلى سُنّة الرسول ، ودعت الناس الى قتله ، لأنه كفر حسب قولها ، نعتها بأقذع النعوت.

وبقيت عائشة تدعو عليه ، وتحرّض الناس على الاقتصاص منه إلى أن غادرت المدينة الى مكة المكرمة ، ولم تستجب لالتماسات صهره ووزيره (مروان بن الحكم) الذي امرها برد المحاصرين لعثمان وانها وحدها القادرة على درء القتل عنه.

وفي طريقها الى مكة ، أخذت عائشة تتابع اخباره من القادمين لتتأكد منهم خبر مقتله الذي كانت تتمناه لحظة بلحظة ، وتتوقع بأنه واقع لا محالة. وأشدّ المحرّضين على قتل الخليفة عثمان ، كان الصحابي طلحة بن عبيد الله الذي قاد عملية الحصار الذي دام أربعين يوماً ، ومنه عنه الطعام والماء بمعية حواري رسول الله الزبير بن العوام.

أما الثوار الذين تقاطروا من البصرة والكوفة ومصر ، حيث كان زعماؤهم من الصحابة المعروفين ، فلم يكونوا في البداية ، ينادون بحصار الخليفة ومن ثم قتله ، وانما كانت نواياهم مجتمعه على رضوخ عثمان لمطاليبهم التي حُدّدت باستبدال ولاته الظلمة من ذوي قرباه ، بولاة صلحاء من غير بطانته الفاسدة. واتّحدت هذه المطالب مع أهداف أهل المدينة من المهاجرين والانصار الذين أجمعوا على تغيير هذه البطانة ، وخاصة مروان بن الحكم ، والتوبة الى الله من سياسته التمييزية والخشنة تجاه فضلا الصحابة وأهل المدينة عموماً ، والعودة لاتّباع القرآن والسُنّة النبوية ، ووسّط هؤلاء الصحابي عليّ ابن ابي طالب في هذه القضية ليضمن تنفيذ هذه الشروط ، واستجاب عثمان للشروط في أول وهلة ، وأقرّ بذنوبه وأخطائه ، وانه سيلبي شروط الثوار ومطالب أهل المدينة ، لكنه تراجع مراراً ، ونكث بوعوده بتحريض من صهره مروان بن الحكم الذي كان يفرض إرادته على الخليفة وهو المتحكّم به أصلاً ، وحين أجمع الكل على ضرورة

١٩٦

خلع عثمان بن عفّان بعد اليأس من إصلاحه ، وإختيار أحد الصحابة المعروفين بالصلاح والكفاءة ، أبى عثمان وقال بأنه لا يخلع قميصاً قمّصه الله تعالى به ، وادّعى بأن الرسول قد نصحه بعدم الرضوخ للمنافقين الذين يبغون تنحيته عن الحكم ، ويقيناً ان ادعاء الخليفة الثالث كان مجرّداً من المصداقية والمنطق السليم ، لأن تبوّأه للحكم إنما جاء بفعل اختيار هيئة الشورى التي حدّد معالمها الخليفة الثاني ، ثم انّه أخلّ بأهم شرط وضعه عمر بن الخطاب وممثله عبد الرحمن بن عوف وهو : وجوب عدم تسليط بني أمية على رقاب المسلمين ، وكذلك اتّباع سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسُنّة الخليفتين الأول والثاني ، وهو من هذه الناحية ، لم ينفّذ هذه ال شروط ، وبالتالي فقد كان المسلمون في حلّ من بيعتهم له.

ثم ان الذين دعوا الخليفة الى خلع نفسه ، كانوا قد استنفدوا كل الحلول الأخرى المطروحة ، خاصة بعد أن أقرّ عثمان بأخطائه وخطاياه ، ثم لم يفِ بوعوده أبداً.

وهؤلاء الذين يدعوهم الخليفة عثمان بالمنافقين حسب زعمه ، جلّهم من المهاجرين والانصار والصحابة الكبار ، وعلى رأسهم طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة. أما تبرير الخليفة لاصطفائه بني أمية والعبث بأموال المسلمين بحجة صلة الرحم وان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصل بني هاشم وأهل بيته من الخمس ، وكذلك قيام الخليفة الاول والثاني بوصل رحمهما من ذوي قرباهما ، فهي حجة واهية لا تقوم على دليل أبداً ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما عيّن الخمس لذوي قرباه بناء على الأمر الالهي وطبق الآية الكريمة : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... (الانفال ٤١) ، وذلك لأن الله حرّم على بني هاشم أخذ الصدقة ، أما الخليفتان أبو بكر وعمر فلم يذكر التأريخ أنهما استأثرا بأحد من

١٩٧

أقاربهما على حساب الآخرين ، بل المعروف عن الخليفة الثاني أنه كان متشدّدا في هذا الشأن ، وكذلك لم يسلّط أحداً من ذوي قرباه على رقاب المسلمين. ولو كان الخليفة عثمان قد حبا ذويه من ماله الخاص لما كان للمسلمين عليه مأخذ ، ولكن المال الموهوب لبني أمية كان مغصوباً من الحق العام ، ثم ان بني أمية لم يكونوا سوى من الطلقاء ، والمؤلفة قلوبهم ، أي من مسلمي الفتح أو الذين أهدر النبي دماءهم ، أو نزل القرآن في ذمهم ولعنهم ، وهؤلاء أولى بالإهمال والنبذ من الاحترام والتقدير ، كما فعل الخليفة الثالث.

ومهما يكن ، فإن الخليفة عثمان بن عفان ، لم يكن قبل أن يقتل قد تاب حقيقة وتراجع عن مواقفه السابقة التي اعترف بأنه كان مخطئاً فيها وانه كان مذنباً ازاء الجماهير ، بل أصرّ على التمادي بسلوكه المخالف للسُنّة النبوية وتبنّيه للعصابة الاموية حتى رمقه الأخير ، كما هو معلوم.

وهكذا إتضحت حقائق كانت خفية على المسلمين البسطاء الذين يصدّقون كل ما يملى على أسماعهم من معلومات مغلوطة ، كما هو الحال ، مع الخليفة عثمان الذي زعموا انه كان ليناً يصل رحمه ،فأثار هذا السلوك ، الغوغاء فقتلوه غدراً بعد أن استتابوه ، وتاب فعلاً ، في حين انه لم يتب من قريب أو بعيد.

مآخذ على الخليفة الثالث

١ ـ مخالفة النصوص النبوية

ذكرت كتب الحديث والتأريخ المعتبرة لدى أهل السُنّة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آمن ما كان بمنى يصلّي ركعتين ، وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلّي بمنى قصراً (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ـ في التقصير ـ باب الصلاة بمنى.

١٩٨

غير ان الخليفة عثمان بن عفان ، صلى بمنى أربع ركعات ، فقيل لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع (أي قال : إنا لله وانا إليه راجعون) ، ثم قال : صليت مع رسول الله بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر ركعتين ، وصليت مع عمر بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبلتان (١).

وقيل لعبد الله بن معسعود : إسترجعت وقلت ما قلت ، ثم صليت أربعاً ، فقال : الخلافة ، ثم قال : وكان عثمان أول من أتمّها أربعاً. ثم أردف قائلاً : الخلاف شرّ ، بعد أن عاب على عثمان فعلته تلك.

وقيل لابي ذر الغفاري وهو بمنى : ان عثمان صلى أربعاً ، فاشد ذلك على أبي ذر وقال قولاً شديداً ، ثم قال : صليت مع الرسول وأبي بكر وعمر ركعتين ، ثم علّق : أمَرَنا رسول الله أن لا يغلبونا على ثلاث ، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، ونعلّم الناس السنن.

وفي هذا النطاق ، قال عبد الله بن عمر : صلّى رسول الله وأبو بكر وعمر بمنى ركعتين ، وعثمان صدراً من خلافته ثم ان عثمان صلى بعده أربعاً. فكان ابن عمر إذا صلى مع الامام صلّى أربعاً ، واذا صلاها وحده ، صلى ركعتين.

وعلى هذا المنوال ، قال عمران بن حصين : حججت مع رسول الله فصلّى ركعتين ، وحججت مع أبي بكر وعمر وعثمان ست سنين من خلافته ، فصلّى ركعتين. ما سفار النبي إلا وقصّر ، وفي مكة وحنين والطائف ، وقصّر أبو بكر وعمر وعثمان صدراً من خلافته.

ومن الذين قالوا هذا الكلام ، أنس بن مالك وكذلك عروة (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٣٥ ؛ صحيح مسلم ٢ : ١٤٧ ؛ سنن الدارمي ٢ : ٥٥ ؛ مسند احمد ١ : ٤١٦.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب الحج ـ باب الصلاة بمنى.

١٩٩

وهنا يتفاوت موقف الصحابة من خطوة عثمان بن عفان بتغيير السُنّة النبوية في صلاة السفر ، من إذعان وخوف من المخالفة بذريعة عدم التصادم مع الحاكم وان خلافه يجلب الشر ، وهو موقف ابن مسعود ، وبين الموقف المقاوم الذي لا يخشى رد فعل الخليفة ، وهو موقف أبي ذر الغفاري ، وموقف ممالئ للخليفة حتى لا يثير حفيظته فيصلّي خلفه أربع ركعات ، ولكنه يصليها في منزله ركعتين ، وهو موقف عبد الله بن عمر ، مع ان ال جميع يقرّ بمخالفة الخليفة الثالث لسُنّة رسول الله ، الى حد أقرار عبد الله بن عمر بأن صلاة السفر ركعتان ، ومن خالف السُنّة النبوية فقد كفر (١).

الجهل بالاحكام الشرعية

هناك العديد من النماذج التي تدلّ على جهل الخليفة عثمان بالكثير من الاحكام الشرعية ، وسنذكر هنا عدداً منها على سبيل المثال لا الحصر.

همَّ عثمان بأكل الصيد في مكة وهو مُحرم بالرغم من أن القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهيا عن ذلك (٢).

وذات يوم ، أمر عثمان برجم امرأة قد ولدت في ستة أشهر ، فلما أقنعه عليّ بأن الحمل يكون ستة أشهر فلا رجم عليها ، بعث عثمان في أثرها فوجدها قد رُجمت فشبّ الغلام بعد ، فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به (٣).

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٢ : ١٥٤ ؛ احكام القرآن ـ الجصاص ٢ : ٣١٨ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٢ : ٩٢ ؛ عمدة القاري ـ العيني ١٣٥ : ٧.

(٢) شرح معاني الآثار ـ الطحاوي ـ كتاب الحج.

(٣) الدر المنثور ـ السيوطي ٦ : ٤٠.

٢٠٠