اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

بالنظر إلى أنواعها لكن لها في مرتبة ذاتها نحو وجود ونوع تحصّل يمتاز به عن غيرها ، وهذا الوجود وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى وجود الأنواع والأشخاص المندرجة تحتها لكنّها بحسب هذا الوجود يصلح لمعروضية حصّة من الفصل يحصل لها باعتباره وجود أقوى وأتمّ ، ويتحصّل تحصّلا نوعيا ؛ وكذلك طبيعة النوع لها في حدّ ذاتها نحو وجود يتميّز به عن غيرها ؛ وهذا الوجود وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى الوجود الشخصي لكنّ الماهيّة بحسبه يصلح لمعروضية المشخّص حتّى يتحصّل تحصّلا شخصيا ويحصل لها وجود أتمّ من الوجود النوعي. فليست الطبيعة الجنسية أو النوعية ممّا لا يكون لها وجود أصلا ويصير موجودا بعروض الفصل أو المشخّص ، بل عروضهما لهما من قبيل عروض المعقولات الثانية للطبائع الكلّية إلّا أنّ عروضها للطبائع الكلّية من حيث وجوداتها الذهنية فقط ومن حيث ملاحظة شيء آخر من العموم وغيره معها وعروض الفصل والمشخّص للجنس والنوع من حيث كلا الوجودين ومن حيث هي هي بدون ملاحظة شيء آخر من العموم والخصوص وغيرهما معها.

فإن قيل : القول بثبوت نحو تحصّل خارجي لماهيّة الجنس والنوع في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن الفصل والمشخّص ممّا لا محصّل له ، لما عرفت من أن ماهيّتهما بدونهما معدومة صرفة وإنّما تحصّلهما بتبعية تحصّلهما. ففي الخارج يتّحد الجنس والفصل والنوع والمشخّص في الوجود ، وفي الذهن ينتزع الجنس والنوع من الفصل والمشخّص. فيحكم العقل بعروض الأوّلين للآخرين دون العكس.

وبذلك يظهر أنّه لا عروض للآخرين للأوّلين بوجه. فلا يمكن الحكم بكون عروضهما لهما كعروض المعقولات الثانية للطبائع الكلّية بأن يكون العروض في الذهن فقط ؛ إذ المراد به أن يحكم العقل بكون ما هو العارض صفة للمعروض ومحمولا عليه نظرا إلى أنّ ثبوت نحو تحقّق خارجي للمعروض بدون العارض بأن

٤١

لا يتصوّر للعارض تحقّق سوى التحقّق الذهني. فإنّ النوعية التي عروضها للإنسان عروض ذهني فقط لا تحقّق لها في الخارج أصلا وإنّما تحقّقها في الذهن فقط ؛ وأمّا الإنسان فله تحقّق في الخارج وإن كان تبعيا ؛ وذلك لا يتصوّر بالنسبة إلى الجنس والفصل أو النوع والمشخّص ، لما علمت من أنّ تحقّق الجنس والنوع في الخارج بتبعية الفصل والمشخّص ، فكيف يحكم العقل بعروض الأخيرين للأوّلين ، بل يحكم بالعكس؟!

قلنا : لا ريب في أنّ الماهيّة الحيوانية أو الإنسانية من حيث هي مع قطع النظر عن صيرورتها جنسا أو نوعا معدومة صرفة لكنّ صيرورتها / A ١٣ / جنسا أو نوعا لا يتحقّق إلّا بموجوديتها بوجود ضعيف ؛ بمعنى أن يتّحد به كما هو شأن كلّ ماهيّة مع الوجود. فالجنس أو النوع ماهيّة مع وجود ضعيف مع قطع النظر عن وجود الفصل والمشخّص إلّا أنّها بضعف وجودها لا يمكن تحصّلها التامّ بنفسها ما لم ينضمّ إليه المشخّص حتّى يحصل لها وجود أقوى ويتحصّل لأجله في الخارج تحصّلا تامّا. فالجنس والنوع في الوجود الأقوى والتحصّل الأتمّ يتوقّفان على الوجود الشخصي ؛ ومن حيث الوجود الضعيف وتحصّل ما لا يتوقّفان عليه ؛ فبهذا الوجود الضعيف معروضان للفصل والمشخّص ؛ لأنّ حصولهما فرع الجنس والنوع ؛ فتوقّف الجنس والنوع على الفصل والمشخّص من حيث التمامية والكمال والعكس من حيث الإفاضة والصدور ؛ وعلى هذا فماهيّة الحيوان والإنسان مع قطع النظر عن كلّ وجود منتزعة من الوجود الخاصّ المتشخّص ومتّحدة معه إلّا أنّها من حيث اعتبارها جنسا أو نوعا يعتبر فيها وجود ضعيف يختصّ بها ويتّحد معه ؛ وحينئذ لا يحكم بالانتزاع ، فتأمّل.

وبما ذكر يظهر أنّ ما ذكر في التعاليم من «أنّ الناطق مثلا فصل مقسّم للجنس ومحصّل له نوعا» كلام ظاهري لا يمكن حمله على حقيقته ؛ إذ له مفهوم هو «شيء

٤٢

ما ثبت له النطق» ومصداق هو «الإنسان» وشيء منهما لا يصلح لأن يكون فصلا مقوّما للنوع محصّلا للجنس.

أمّا الأوّل : فلأنّ المراد ب «شيء ما» إمّا مفهوم الشيء فهو أمر عرضي شامل لكلّ شيء. فلو كان مع وصف النطق فصلا دخل العرض العامّ في مفهوم الفصل الداخل في النوع ؛ فيكون العرضي ذاتيا ؛ هذا خلف ؛ أو ما يصدق عليه ، فهو عين الإنسان ؛ فيكون الفصل هو الإنسان الثابت له النطق ؛ فيكون الفصل مركّبا من النوع وغيره ؛ مع أنّ النوع لا يدخل في الفصل ، بل الأمر بالعكس ؛ وأيضا يلزم التكرار في الحمل في قولنا : «الإنسان ناطق» إذ معناه حينئذ أنّ الإنسان إنسان ناطق.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان فصلا لزم كون الفصل عين النوع لا جزئه ؛ وأيضا يلزم عدم فائدة في الحمل المذكور.

والتحقيق : أنّ لهذه الفصول المذكورة في التعاليم مبادئ هي الفصول الحقيقة والأولى أمارات للثانية وما هي إلّا وجودات أضعف من الوجودات الخاصّة الشخصية المتشخّصة بذواتها متّحدة معها نحو اتّحاد يعرفه العارفون أو جهات واقعية لها تنتزع عنها هذه الفصول المذكورة في الألسنة.

والتوضيح : أنّ مراتب الوجودات متفاوتة بالقوّة والضعف والخصوص والعموم. فالماهيّة / B ١٣ / الحيوانية وإن كانت مبهمة غير محصّلة بالنسبة إلى أنواعها لكن لها وجود ما ليس بعرض خارجي أو انتزاعي ، بل أمر أصيل عيني متميّز بذاته عمّا عداه من الوجودات ؛ وتلك النسبة الحيوانية عارضة وأمارة ؛ ولكون هذا النحو من الوجود منهما غير ممكن الحصول بنفسه في الخارج فله فصل حقيقي هو وجود أخير أخصّ وأتمّ يعبّر عنه بالناطق ويوصف به ، ومن اتّحادهما يحصل وجود أخير يعبّر عنه بالإنسان ؛ وهذا الوجود وإن كان أتمّ وأكثر تحصّلا من الأوّل إلّا أنّه أيضا لإبهامه وضعفه غير ممكن الحصول بنفسه في الخارج. فله

٤٣

أيضا فصل حقيقي هو وجود أمر متشخّص بذاته قام بنفسه من دون حاجة إلى وجود أمر متّحد مع الوجود النوعي نحو اتّحاد أتمّ وأقوى من الجميع يعبّر عنه بالمشخّص والوجود الخاصّ الشخصي ؛ وتحقّق ساير الوجودات النوعية والفصلية والجنسية به ؛ ولولاه لم يمكن تحقّقها ؛ فهي متحقّقة إلّا أنّ تحقّقها بتحقّقه ؛ والأعراض التي تسمّى بالعوارض المشخّصة هي أمارات هذا الوجود ولوازمه.

وبالجملة : المتحقّق بنفسه هذا الوجود الخاصّ المتشخّص بذاته ؛ وما عداه من الماهيّات والفصول الحقيقية إمّا وجودات ضعيفة مندمجة فيه متّحدة معه في التحقّق والوجود أو جهات واقعية له متّحدة معه فيهما. فالأجناس والأنواع والفصول الحقيقة هي تلك الوجودات الضعيفة المندمجة في الوجود الشخصي المتحقّق بذاته المتحقّقة بتحقّقه أو الجهات الواقعية ، كما أنّ ما يسمّى بالعوارض المشخّصة ليست مشخّصة في الحقيقة ، بل أمارات الوجود الشخصي المتشخّص بذاته المشخّص للماهيّة النوعية والمحصّل لها ؛ لأنّ تلك العوارض وإن كانت كلّية لم تفد تشخّصا وإن كانت جزئية فتشخّصها إنّما يكون بالموضوع لكونها أعراضا متقوّمة في الوجود والتشخّص بالموضوع والمعروض إن تشخّص الموضوع بها فيلزم الدور ؛ وما قيل : «إنّ هذا دور معية» لا محصّل له.

وممّا ذكر يظهر أنّ الموجود من كلّ ماهيّة نوعية كالإنسان مثلا ليس إلّا الفرد وهو ليس إلّا وجود خاصّ يندرج فيه وجود أضعف أو جهة واقعية تنتزع عنه النسبة الإنسانية المتخيّلة إلى الجسمية والنموّ والحسّ والتعقّل. فحقيقة الشخص الإنساني وجود خاصّ متشخّص بذاته مندرج فيه وجود آخر أضعف أو يتضمّن جهة واقعية تنتزع عنه الامور المذكورة.

ثمّ هذا الوجود الأضعف أو الجهة منحلّ إلى وجودين أو جهتين ينتزع عنهما الجنس والفصل.

٤٤

[في دفع الشبه الواردة على أصالة الوجود]

قد أورد على أصالة / A ١٤ / الوجود وكونه حقيقة عينية شبه ضعيفة فلنشر إلى دفعها :

[الأولى :] أنّ الوجود لو كان حاصلا في الأعيان لكان موجودا ؛ إذ الحصول هو الوجود وكلّ موجود له وجود ولوجوده أيضا وجود وهكذا إلى غير النهاية.

وجوابه : أنّه موجود بذاته ومتحقّق بنفسه من دون افتقاره إلى وجود آخر ، بل هو الموجود بالذات وموجودية غيره به ولو لا تحقّقه بذاته لم يتحقّق به غيره ؛ إذ غير المتحقّق لا يكون محقّقا لغيره ؛ ولو لم يطلق الموجود إلّا على ما ثبت له الوجود وزاد على ذاته لم يطلق على الواجب لكونه صرف الوجود. مع أنّ إطلاقه عليه مجمع عليه وعدم إطلاقه إلّا عليه لغة لو ثبت غير قادح ؛ إذ الحقائق لا يقتنص من العرف واللغة ؛ وقد قام البرهان على أنّ ما يوجد به الغير أولى بأن يكون موجودا ، كما أنّ البياض أولى بأن يكون أبيض والضوء أولى بأن يكون مضيئا ؛ ولذلك لا يختصّ الموجود في عرف الحكماء بما زاد عليه الوجود ، بل يعمّه كالماهيّة الموجودة وما هو عين الوجود كالواجب. وقد صرّحوا بأنّ الوجود موجود بذاته. قال الشيخ : «إذا سئل : هل الوجود موجود أو ليس بموجود؟ فالجواب انّه موجود. فإنّ الوجود هو الموجودية.»

واحتجّوا على ذلك بأنّ التقدّم بين الزمانيات بالزمان وبين أضرابه بالذات ؛ وصرّح صاحب الإشراق بأنّ المفارقات إنّيات صرفة ووجودات محضة ؛ والعجب أنّه مع هذا التصريح قال باعتبارية الوجود.

ويؤيّد المطلوب قول الشريف : «إنّ مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا وإلّا لكان العرض العامّ داخلا في الفصل ؛ ولو اعتبر في المشتقّ ما صدق عليه الشيء انقلب مادّة الإمكان الخاصّ ضرورية ؛ لأنّ الشيء الذي له الضحك

٤٥

هو الإنسان وثبوت الشيء الشيء لنفسه ضروري. فذكر الشيء في تفسير المشتقّات بيان لما يرجع إليه الضمير الذي يذكر فيه.»

وحاصله كما تقدّم : أنّه لا يراد بالناطق شيء ثبت له النطق سواء اريد بالشيء مفهومه أو مصداقه ، للزوم أحد المحذورين. فالمراد به أمر بسيط وما هو إلّا أمر متحقّق في الخارج بتبعية الوجود الشخصي ؛ أعني جهة منه أو وجودا ضعيفا متّحدا معه في التحقّق ، كما مرّ. فظهر أنّ المراد بالمشتقّ ومصداقه وما يطابقه أمر بسيط لا يعتبر فيه تركيب من الموصوف والصفة ولا يعتبر فيها الشيء لا عامّا ولا خاصّا ؛ وذكر الشيء في تفسيره بيان لمرجع الضمير الّذي لا بدّ أن يذكر في تفسيره من حيث إنّه مشتقّ لا من حيث حقيقته البسيطة. فإنّه من حيث الاشتقاق يستتر فيه ضمير لا يتمّ تفسيره بدون ذكره وذكره يتوقّف على ذكر مرجع له.

فإن قيل : لو كان الوجود أمرا عينيا موجودا بنفسه لزم أن يكون كلّ وجود واجبا ؛ إذ لا نريد بالواجب إلّا ما يكون تحقّقه / B ٤١ / بنفسه.

قلنا : الواجب ما يكون تحقّقه بذاته بلا احتياج إلى فاعل ، وساير الوجودات يحتاج إليه إلّا أنّه بعد صدورها يقوم بنفسها بلا احتياج إلى وجود آخر.

[الثانية :] أنّ الوجود لو تحقّق في الخارج وكان موجوديته بمعنى تحقّقه بنفسه من دون حاجة إلى وجود آخر لم يكن حمل الوجود على الوجود وعلى الماهيّة بمعنى واحد. إذ حمله عليه حينئذ بمعنى تحقّقه بنفسه وعليها بمعنى ثبوت الوجود لها مع أنّ إطلاق الموجود على كلّ موجود بمعنى واحد لثبوت الاشتراك معنى ؛ وكونه في الحملين بمعنى المتحقّق بنفسه بيّن الفساد ؛ لعدم تحقّق الماهيّة بنفسها ؛ وبمعنى ما له الوجود يوجب أن يكون للوجود وجودا وهو باطل ؛ لاستلزامه التسلسل عند عود الكلام إلى وجود الوجود. فاللازم عدم صحّة حمله على الوجود وهو يوجب عدم كونه موجودا.

٤٦

وجوابه : أنّ الموجود المحمول في الحملين بمعنى واحد هو المتحقّق الثابت وإنّما اختلف الموضوعان بكون التحقّق لأحدهما بنفسه وللآخر بغيره الذي هو الوجود. فالاختلاف إنّما يرجع إلى خصوصيات الموضوع لا إلى المحمول.

والحاصل : أنّ الاختلاف بين موجودية الماهيّة وموجودية الوجود لا يوجب الاختلاف في إطلاق مفهوم الموجود المشترك بين الجميع. لأنّه إمّا معنى بسيط يعبّر عنه في الفارسية ب «هست» ومرادفاته أو عبارة عمّا ثبت له الوجود بالمعنى الأعمّ ؛ أي سواء كان من باب ثبوت الشيء لنفسه ـ أعني عدم انفكاكه عن نفسه ـ أو [من] باب ثبوت الغير له ، كمفهوم الأبيض والمضاف وغيرهما من المشتقّات. فإنّ مفهوم الأبيض ما له البياض سواء كان عينه أو غيره ، واشتمال الأبيض على أمر زائد على البياض إنّما لزم من خصوصية بعض الأفراد لا من نفس المفهوم ؛ فكذلك اشتمال الموجود على أمر زائد على الوجود كالماهيّة إنّما ينشأ من خصوصيات الأفراد الممكنة لا من نفس المفهوم المشترك ؛ ويؤيّد ذلك قول الشيخ : «واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود ، كالواحد قد يعقل نفس الواحد ، وقد يغفل من ذلك أنّ ماهيّة ما إنسان أو جوهر آخر [من الجواهر ؛ وذلك الإنسان هو الذي] هو واجب الوجود [كما أنّه قد يعقل] من الواحد أنّه ماء أو هواء أو إنسان وهو واحد.» (١) ففرق أوّل بين ماهيّة يعرض لها الواحد والموجود وبين الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود ؛ وقوله : «إذ سئل هل الوجود موجود؟ فالجواب انّه موجود بمعنى أنّ الوجود حقيقته أنّه موجود. فإنّ الوجود هو الموجودية» وقد تقدّم أنّ مصداق المشتقّ وما يطابقه أمر بسيط ليس فيه تركيب بين الصفة والموصوف ؛ ولا يعتبر الشيء في الصفة مفهوما ومصداقا.

[الثالثة :] أنّ الوجود لو كان / A ١٥ / حقيقة عينية توقّف ثبوته للماهيّة على

__________________

(١). الشفاء (الإلهيات) المقالة الثامنة ، الفصل الرابع ، ص ٣٤٤.

٤٧

وجودها للقاعدة الفرعية. فيتقدّم الوجود على الوجود ؛ وهذا ممّا أورد على اتّصاف الماهيّة بالوجود سواء تحقّق في الخارج أم لا ؛ ولا يختصّ بالأوّل.

وجوابه على أصالته واعتباريتها : أنّ تحقّق الوجود في ما له ماهيّة لا يقتضي قابليتها له واتّصافها به ؛ بل الوجود متحقّق بنفسه بعد صدوره من جاعله والماهيّة منتزعة عنه متحقّقة بتحقّقه. فالنسبة بينهما اتّحادية لا ارتباطية. نعم تتّصف الماهيّة بالوجود العامّ في ظرف التحليل ؛ لأنّه من عوارضها التحليلية ؛ وأمّا على العكس فيمكن الجواب بأنّ الوجود عند القائل به ثبوت الماهيّة لا ثبوت شيء لها ولا اثنينية بينهما حتّى يثبت لها ويقوم بها ، بل هي متّحدة مع الوجود الخارجي في الخارج ومع الذهني في الذهن وإن أمكن تعقّلها بلا اعتباره والحكم بأنّ المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ؛ ويأتي لذلك مزيد توضيح.

[الرابعة :] أنّ الوجود لو قام في الأعيان فقيامه إمّا بالماهيّة الموجودة فيلزم وجودها قبل وجودها أو المعدومية فيلزم اجتماع النقيضين أو المجرّدة من الوجود والعدم فيلزم ارتفاعهما ؛ وهذا كسابقه لا تخصّص له بموجودية الوجود ، بل ممّا أورد على زيادته وإن كان اعتباريا.

وجوابه ـ كما تقدّم ـ أنّ الوجود لو كان في الأعيان وليس بجوهر فيكون كيفا لصدق حدّ الكيف عليه ؛ فيلزم مع تأخّره عن الموضوع المستلزم للدور أو التسلسل كون الكيف أعمّ الأشياء مطلقا لأعمّيته من الوجود.

وجوابه : أنّ الجوهر والكيف وغيرهما من المقولات ماهيّات كلّية يكون جنسا ونوعا وذاتية وعرضية. فالجوهر ماهيّة كلّية حقّها في الوجود الخارجي أن لا يكون في الموضوع ، وقس عليه ساير المقولات ؛ والحقائق الوجودية هويّات عينية وذوات شخصية متعيّنة بأنفسها غير مندرجة تحت كلّى ذاتي أو عرضي. فلا يكون جوهرا أو كيفا أو عرضا آخر من الأعراض.

والحاصل : أنّ المقولات أجناس عالية متحصّلة وما تحتها من المفهومات

٤٨

الكلّية إمّا أنواع أو أعراض عامّة أو خاصّة. فأفرادها الخارجية لها أجناس وأنواع وأعراض متحقّقة مشتركة بينها ، والوجودات ـ كما يأتي ـ ليست شيئا من هذه الكلّيات الذاتية والعرضية ولا مندرجة تحت شيء منها ؛ فتكون حقائق عينية وهويّات شخصية متميّزة بأنفسها ، غير مندرجة تحت كلّي متحصّل تنتزع عنها الماهيّات والوجود العامّ.

والفرق بينهما : أنّ الماهيّات متّحدة معها متحقّقة بتحقّقها في الخارج ، والعامّ ليس له تحقّق في الخارج بوجه وما عدّ من الأعراض.

هذا هو المفهوم العامّ العقلي المنتزع من / B ١٥ / الوجودات الخاصّة وثبوته لها ثبوت المنتزع لمنشإ الانتزاع دون ثبوت المتحصّل الذاتي أو العرضي لأفراده ؛ والمراد بكونه عرضا أنّه الخارج المحمول على الماهيّات.

وما ذكر إنّما هو على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ؛ وعلى العكس فالجواب أنّه مخالف للأعراض ؛ لأنّ وجودها في نفسها وجودها لموضوعها ؛ فلها وجود (١) وله وجود آخر ؛ وأمّا الوجود فهو بعينه وجود الموضوع لا وجود العرض فيه والعرض مفتقر في تحقّقه إلى موضوعه دون العكس ، والأمر في الوجود وموضوعه بالعكس ، هذا.

وبعضهم أجاب بأنّ وجود الجوهر جوهر بجوهرية ذلك الجوهر لا بجوهرية اخرى ووجود العرض عرض بعرضية ذلك العرض لا بعرضية اخرى.

وحاصله : أنّ كلّ ماهيّة من الجوهر والعرض لمّا كانت متّحدة مع الوجود في الخارج ؛ فيكون وجود الجوهر المتّحد معه جوهرا بجوهريته وإن لم يكن في نفسه مع قطع النظر عن الاتّحاد جوهرا.

[الخامسة :] أنّ الوجود لو كان موجودا :

__________________

(١). س : + له.

٤٩

[١.] فإن تقدّم على الماهيّة لزم حصوله دونها ، فتقدّم الصفة على الموصوف وتتحقّق بدونه.

[٢.] وإن تأخّر عنها لزم كون الماهيّة موجودة قبله ، فيلزم التسلسل.

[٣.] وإن كانا معا كانت موجودة معه لا به ، فلها وجود آخر فيلزم التسلسل.

وبطلان التوالي بأسرها موجب بطلان المتقدّم.

واجيب بأنّ اتّصاف الماهيّة بالوجود أمر عقلي ليس كاتّصاف الشيء بالعوارض الخارجية حتّى يكون لهما ثبوتان ويجرى فيهما الشقوق المذكورة ، بل هما في الخارج متّحدان بمعنى أنّ كونهما فيه معا عبارة عن كون الوجود موجودا بذاته ، والماهيّة متّحدة معه موجودة به لا بغيره ؛ فالفاعل إنّما يفيد وجود الشيء نفسه ، وهو في نفسه مصداق لحمل الماهيّة عليه ، فلا تقدّم ولا تأخّر لأحدهما بالنسبة إلى الآخر ، بل ولا معيّة أيضا ؛ إذ حصول شيء منها للشيء بالقياس إلى نفسه غير معقول.

والمراد بما قيل : «إنّ الوجود متقدّمة على الماهيّة» أنّه الأصل في التحقّق والصدور ومصداق صدق المعاني الكلّية المسمّاة بالماهيّة والذاتيات عليه بذاته ، كما أنّه مصداق العرضيات بواسطة وجود آخر يعرضه ؛ وليس تقدّمه على الماهيّة كتقدّم العلّة على المعلول أو القابل على المقبول ، بل كتقدّم ما بالذات على ما بالعرض وما بالحقيقة على ما بالمجاز.

والتحقيق ـ كما مرّ ـ : أنّ الوجودات الخاصّة / A١٦ / الإمكانية حيثيات واقعية راجعة إلى نقصها وقصورها عن مرتبة الوجود الحقّ ؛ وهي متّحدة مع الوجودات في التحقّق ومتحقّقة بتحقّقها ومتأخّرة عنها تأخّر اللازم عن الملزوم ؛ وهي الماهيّات الخارجية التي تنتزع عنها الماهيّات المعقولة.

٥٠

وبعضهم على أنّ الماهيّات وجودات ضعيفة مندمجة في الوجود الشخصي (١) المتحقّق بنفسه ومتّحدة معه بضرب من الاتّحاد ، ولضعفها وبعدها عن صرف الوجود ممكن تعقّلها ؛ فينتزع العقل منها الماهيّات المعقولة.

ثمّ الوجودات الخاصّة الإمكانية كلّما كانت في سلسلة الصدور أقرب إلى صرف الوجود الحقّ الموجد للكلّ كانت حيثية الماهيّة والتركيب فيه أضعف وجهة الموجود فيه أشدّ ؛ وكلّما كانت أبعد منه كان الأمر فيه بالعكس. أوّل المعلولات لضعف مهيته كأنّه وجود لا ماهيّة له ، وآخرها لضعف وجوده كأنّه ماهيّة لا وجود له.

[السادسة :] أنّا قد نتصوّر (٢) الوجود ونشكّ في أنّه موجود ـ أي له الوجود ـ أم لا ، والمعقول غير المشكوك (٣) ؛ فيكون له وجود زائد ؛ وكذا الكلام في وجود الوجود ، فيتسلسل ؛ فلا بدّ أن يكون الوجود اعتباريا محضا ولا يكون حقيقة عينية حتّى يرده السؤال بأنّا نعقله ونشكّ في كونه موجودا.

وجوابه : أنّ حقيقة الوجود لا يحصل في الأذهان حتّى يتصوّر ؛ إذ (٤) وجود كلّ موجود هو عينه الخارجي والخارجي لا ينقلب ذهنيا ؛ وما يتصوّر منه هو المفهوم الاعتباري المنتزع عنه ؛ والعلم بحقيقته إنّما هو بالحضور الإشراقي والشهود العيني الذي لا يبقى معه الشكّ في هويّته.

ثمّ لو فرض إمكان تصوّره وحصول حقيقته في الذهن فلا يشكّ في كونه موجودا من دون ثبوت وجود زائد له ؛ لأنّه الموجود بنفس ذاته والمتحقّق بمحض هويّته ؛ فهو وجود وموجود ؛ فمعنى كونه موجودا أنّه ثابت بنفسه ومعنى ثبوت الوجود له أنّه ثابت لنفسه.

والأولى بهذا السؤال أن يورد على القول بزيادة الوجود على الماهيّة فيقال : إنّا

__________________

(١). س : الشخص.

(٢). س : يتصوّر.

(٣). س : الشكوك.

(٤). س : ان.

٥١

نعقل الماهيّة ونشكّ في وجودها أو نعقل عينه ، والمعقول غير المشكوك فيه والمعقول عنه ؛ فالوجود زائد على الماهيّة.

وجوابه : أنّ زيادته عليها إنّما هو بحسب التحليل دون الخارج ، لاتّحاده معها فيه من دون عروضه لها. / B١٦ /

[السابعة :] أنّ الوجود لو كان موجودا للماهيّة ، فله نسبة إليها وللنسبة أيضا وجود ، فلوجود النسبة نسبة إليها ، وهكذا الكلام في وجود نسبة النسبة فيتسلسل.

والجواب : أنّ حقيقة الوجود ليست وصفا زائدا على الماهيّة ثابتا لها في الخارج ، بل هو عينها فيه وغيرها في الذهن بمعنى أنّ المتحقّق بالذات هو الموجود ، والماهيّة متحقّقة بتبعيته ومتّحدة معه في الخارج ؛ فلا نسبة بينهما إلّا بحسب اعتبار العقل [و] عند اعتباره يكون للنسبة وجود هو عينها بالذات وغيرها بالاعتبار وله نسبة اعتبارية إليها وهكذا يتسلسل نسبة الوجود ووجود النسبة بحسب الاعتبار إلى أن ينقطع بانقطاعه.

وإنّما ضيّعنا الوقت وخرجنا بذكر هذه الشبهات عن وضع الكتاب ليعلم المحصّل أنّ ما اورد على هذا (١) الأصل ممّا لا وقع له أصلا.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الوجود في كلّ شيء أمر حقيقي غير الانتزاعي ؛ أي الموجودية سواء كانت موجودية الوجود أو الماهيّة ؛ فإنّ نسبة الانتزاعي إلى الحقيقي كنسبة الإنسانية إلى الإنسان والأبيضية إلى البياض ، ونسبته إلى الماهيّة كنسبة الإنسانية إلى الضاحك ؛ ومبدأ الأثر وأثر المبدأ هو الحقيقي دون الانتزاعي المعدوم في الخارج والماهيّة التي لو لا الوجود بقيت على عدمها الأصلي وما شمّت رائحة الثبوت ؛ وقد يأتي أنّ المجعول بالذات ـ أي أثر الجاعل [و] ما يترتّب عليه بالذات ـ هو نحو الوجود بالجعل البسيط دون الماهيّة ، كما أنّ الجاعل

__________________

(١). س : هذه.

٥٢

بالذات مترتّبة منه دونها بالموجود في الخارج هو الوجودات الخاصّة دون الماهيّات. كيف والمحكوم بتقدّمه على كلّ اتّصاف وبمنعه عن طريان العدم لا يجوز أن يكون أمرا عدميا ومنتزعا عقليا. فما هو إلّا حقيقة متحقّقة في الواقع مسمّاة بالوجود الحقيقي ؛ وهو عين الحقيقة والتحقّق إلّا أنّه شيء متحقّق.

فما قيل : «إنّ الحكم بتقدّم الوجود على فعلية الماهيّة غير صحيح ؛ إذ ليس للوجود معنى حقيقي إلّا الانتزاعي» مردود بما قرّرناه من كون الوجود الحقيقي غير الانتزاعي وأنّه المتحقّق في الخارج ، والمحكوم بتقدّمه على فعلية الماهيّات وتقرّرها ، ولولاه لم يكن لها فعلية وتقرّر.

[في كيفية اتّحاد الماهيّة والوجود واتّصافها به]

لمّا تقدّم مرارا أنّ الماهيّة متّحدة مع الوجود بضرب من الاتّحاد وأنّها منتزعة منه فاعلم أنّ جهة الاتّحاد في كلّ متّحدين هو الوجود ـ سواء كان اتّحادا بالذات كاتّحاد الإنسان بالوجود أو الحيوان ، أو بالعرض / A ١٧ / كاتّحاده بالأبيض ـ ولولاه لم يعقل الاتّحاد بين شيئين ؛ إذ بدونه (١) لا تحقّق لشيء حتّى يتصوّر اتّحاده مع آخر في الخارج.

فجهة الاتّحاد بين الأوّلين هو نفس الموجود المنسوب إلى الإنسان بالذات ؛ وبين الأوسطين هو الوجود المنسوب إليهما بالذات ؛ وبين الأخيرين هو الوجود المنسوب إلى الإنسان بالذات وإلى الأبيض بالعرض. فالاتّحاد بين شيئين فرع اتّحادهما في ما به التحقّق ؛ أعني الوجود ما به التحقّق نفس أحدهما ، كما في اتّحاد (٢) الماهيّة بالوجود ؛ أو لا ، كما في اتّحاد الحيوان بالإنسان ؛ وعلى أيّ تقدير لا يمكن استقلال كلّ منهما بالتحصّل والتحقّق وإلّا بطل الاتّحاد وكان لكلّ منهما

__________________

(١). س : اربذونه.

(٢). س : اتحاذ.

٥٣

وجود على حدة ؛ فلا محالة أحدهما انتزاعي والآخر حقيقي إذا كان أحدهما نفس ما به التحقّق ـ أعني الوجود ـ أو كلاهما انتزاعي إذا كان ما به تحقّقهما غيرهما ، كما في اتّحاد ماهيّة ـ كالحيوان ـ بالاخرى ـ كالإنسان ـ فإنّ ما به تحقّقهما ـ أعني جهة اتّحادهما ـ هو الوجود ؛ وعلى هذا تتّحد الثلاثة في التحقّق بذاته والمتحقّق بذاته واحد منهما [و] هو الوجود والماهيّات منتزعة (١) منه. فثبت أنّ معنى اتّحاد الماهيّة بالوجود كونه متحقّقا في الخارج بنفسه وانتزاعها عنه من جهة نقصانه اللازم لإمكانه.

على ما اخترناه من أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة لا يرد إشكال في كيفية اتّصافها به نظرا (٢) إلى قاعدة (٣) الفرعية ؛ إذ حينئذ ليست الماهيّة أصلا يتّصف بالوجود حتّى يرد أنّ مقتضى تلك القاعدة أن يكون لها قبل الاتّصاف ثبوت يصحّحه ومع قطع النظر عن الوجود لا ثبوت لها ، بل الأصل حينئذ هو الوجود وهو متحقّق بذاته ثابت بنفسه من دون افتقار في ثبوته إلى وجود آخر. فهو أمر أصيل عيني متحقّق ظاهر بنفسه ومحقّق مظهر لغيره ؛ وأحقّ الأشياء بالتحقّق والثبوت وأوليها بالتجلّي والظهور ؛ إذ تحقّق ذاته بذاته وظهور نفسه بنفسه ، بل هو عين التحقّق والظهور الحقيقيّين ومنشأ انتزاع مفهوميهما الانتزاعيّين وبه تحقّق كلّ متحقّق في الخارج والأعيان ، وظهور كلّ ظاهر في المدارك والأذهان ، وهو مذوت (٤) الذوات ، ومحقّق الحقائق ، وحاكي الماهيّات ، ومظهر الظواهر ، وبه يصل كلّ ذى قدر قدره وينال كلّ ذي حقّ حقّه ؛ وحقيقته أنّه في الأعيان فلا / B ١٧ / يدخل في المدارك والأذهان ، ولو أمكن العلم به فهو بنوع من المشاهدة والعيان لا بإحاطة عبارة وبيان. فهو حقّي الماهيّة والذات ، جلّي الإنّيّة والصفات.

__________________

(١). س : منتزعتان.

(٢). س : نظر.

(٣). س : القاعدة.

(٤). س : مذوب.

٥٤

وبالجملة : هو الأصل المتحقّق والماهيّة منتزعة منه ومتّحدة معه بضرب من الاتّحاد ؛ وقد عرفت أنّ التحقّق والتحصّل في كلّ متّحدين إنّما هو لأحدهما والآخر يكون اعتباريا وأنّ المتحقّق منهما هو الوجود ؛ ولو وجد متّحدان كلّ منهما غيره لا بدّ أن يكون الوجود ثالثا لهما في الاتّحاد ليكون ما به تحقّقهما ويكون هو المتحقّق من الثلاثة والآخران اعتباريان.

فالوجودات الإمكانية لضعفها وقصورها وتناهيها يشتمل على جهات عدمية واقعية وحيثيات سلبية نفس أمرية (١) هي منشأ حكاية الماهيّات المختلفة وانتزاعها ؛ وعلى هذا لا مجال لثبوت الماهيّة وعروضها للوجود.

ثمّ لاتّحادهما في الوجود يكون الوجود نفس الماهيّة عينا ؛ فلا يتصوّر عروضها له واتّصافه بها ؛ فلا مجال للتفريع في ثبوتها له أيضا.

وإطلاق الاتّصاف على الاتّحاد الذي بينهما من باب التجوّز ؛ إذ الارتباط بينهما اتّحادي وليس كالارتباط بين العارض والمعروض ، والصفة والموصوف ، بل من قبيل اتّصاف الجنس بفصله في النوع البسيط ، كالنقطة عند تحليل العقل إيّاه إليهما من حيث هما جنس وفصل لا من حيث هما مادّة وصورة عقليتان.

والتوضيح : أنّ كلّ نوع بسيط ـ كالنقطة ـ في الخارج شيء واحد بسيط موجود بوجود واحد ، لكن لاشتمالها على جهتين واقعيتين هما جهة ماهيّته وجهة وجوده يحلّلها العقل إلى جنس وفصل مأخوذين منهما ويحمل الفصل على الجنس من حيث الجنسية والفصلية ؛ أي من حيث أخذهما لا بشرط لا من حيث كونهما مادّة وصورة عقليتين ؛ أي من حيث أخذهما بشرط لا ؛ إذ من هذه الحيثية لا حمل ولا اتّصاف.

وبالجملة : النقطة في الخارج ليست إلّا شيء واحد له جهتان لأجلهما يحلّلها

__________________

(١). س : نفس امريّته.

٥٥

العقل إلى جنس وفصل ؛ وليست مركّبة فيه من مادّة وصورة خارجيّتين متحصّلتين موجودين بوجودين متغايرين يؤخذ منهما الجنس والفصل.

وهكذا الحال في كلّ موجود ممكن ؛ أي الوجود الخاصّ الإمكاني ؛ فإنّه ليس في الخارج إلّا شيئا واحدا ولكن لاشتماله / A ١٨ / على جهتين واقعيّتين هما جهة الوجود المتحقّق وجهة القصور المستند إلى إمكانه يحلّله العقل إلى ماهيّة ووجود ؛ والارتباط بينهما كالارتباط بين الجنس والفصل المأخوذين من النوع البسيط كالنقطة بالتحليل لا المأخوذين من النوع المركّب كالإنسان ؛ لأنّه مركّب من مادّة وصورة خارجيّتين متحصّلتين.

فإن قيل : قد حقّقت سابقا أنّ المتحقّق من كلّ موجود ممكن هو مبدأ الفصل الأخير ـ أعني وجوده الخاصّ ـ وغيره ـ من الأنواع والأجناس والفصول الحقيقية التي هي مبادئ الأنواع والأجناس والفصول التعليمية المنطقية ـ جهات واقعية له ، متحقّقة بتحقّقه ، ومتّحدة معه في الوجود ، وينحصر وجود الكلّ فيه (١) أو وجودات ضعيفة كذلك ، لعدم استقلالها بالتحقّق ؛ وعلى هذا فلا فرق بين الجنس والفصل في النوع البسيط ، وبينهما في المركّب في اعتباريتهما واتّحادهما في الوجود. فالتخصيص في التشبيه (٢) لا وجه له.

قلنا : لمّا كانت الماهيّة في كلّ موجود ممكن اعتبارية منتزعة من وجوده الخاصّ المتحقّق ، متّحدة معه في الوجود ، لزم أن يكون المشبّه به جنسا وفصلا لا يكون لهما مبدئان يختصّ كل منهما بوجود على حدة وإن كان ضعيفا ، كما في الأنواع المركّبة من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود ضعيف ، ويحصل من اجتماعهما وجود كامل ، بل يكونان متّحدين في الوجود ويكون الجنس منتزعا من الفصل متحقّقا بتحقّقه ، كما في الجنس والفصل للنوع البسيط

__________________

(١). س : به.

(٢). س : + لا.

٥٦

على ما مرّ.

وأمّا الجنس والفصل للنوع المركّب ـ فكما أشير إليه ـ مأخوذان من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود ضعيف على حدة غير مستقلّ ، ويحصل من اجتماعهما وجود أكمل هو وجود النوع وإن كان وجوده أيضا غير مستقلّ وتوقّف على المشخّص الذي هو الوجود المتحقّق بنفسه وكان الصورة أو المادّة الشخصية مع وجودها الضعيف موجود شخصي من أفراد نوع المادّة أو الصورة ، كما أنّ الشخص من الماء مع وجوده الأقوى موجود شخصي من أفراد نوع الماء.

وظاهر أنّ الماهيّة في نفسها ـ أي مع قطع النظر عن وجودها الخاصّ المتحقّق ـ سواء جعلت جهة عدمية واقعية له أو وجودا ضعيفا مندمجا فيه لا تحقّق لها أصلا وإنّما هي متّحدة معه في الوجود / B ١٨ / ومنتزعة منه ، وليس لها وجود على حدة متميّز عن الوجود الخاصّ المتحقّق ؛ فلا يصحّ تشبيهها بالجنس والفصل للنوع المركّب ، لاختصاص كلّ منهما بوجود على حدة متميّز عن وجود الآخر وإن كان ضعيفا ، بخلاف النوع البسيط ؛ فإنّ تحقّق جنسه بالفصل الذي هو الوجود الخاصّ ـ على ما قرّرنا ـ وليس له وجود على حدة سوى وجود الفصل.

فإن قيل : إذا كان لكلّ من الجنس والفصل والنوع في النوع المركّب وجود ضعيف على حدة لكان للماهيّة أيضا وجود ضعيف ؛ لأنّها ليست إلّا أحد هذه الامور ، وحينئذ يكون الارتباط بين الماهيّة والوجود كالارتباط بين الجنس والفصل مطلقا من دون فرق بين النوع البسيط والمركّب.

قلنا : اعتبار الوجود الضعيف مع الجنس أو الفصل يجعله موجودا متضمّنا للماهيّة ونحو الوجود ، كسائر الموجودات الخاصّة ؛ والماهيّة التي يدّعى كونها منتزعة من الوجود الخاصّ ومتحقّقة بتحقّقه هي المجرّدة من كلّ وجود ـ قويّا

٥٧

كان أو ضعيفا ـ فالضعيف كالقويّ في أنّه المتحقّق الذي تنتزع عنه الماهيّة ؛ إذ مراتب الوجودات الخاصّة الإمكانية مختلفة في الشدّة والضعف : أشدّها وجود العقل الأوّل وأضعفها وجود الهيولى ، وبينهما مراتب لا تحصى.

وعلى هذا فتشبيه الارتباط بين الماهيّة المجرّدة والوجود الخاصّ بالارتباط بين الجنس والفصل اللذين كلّ منهما موجود خاصّ برأسه ، مركّب من الماهيّة ونحو الوجود ، وإن كان ضعيفا غير مناسب ، بل هو كالارتباط بين الجنس والفصل ، ووجوده الضعيف لكونه مثل ساير الوجودات الخاصّة ؛ وإن رجع هذا التشبيه إلى كون المشبّه به فردا من المشبّه ؛ فالأنسب أن يشبّه بالارتباط بين الجنس والفصل في النوع البسيط ؛ إذ الجنس فيه هو مجرّد الجوهر أو العرض الذي لا يتصوّر له بنفسه وجود على حدة ؛ وفصله هو الوجود الخاصّ المتحقّق بنفسه.

وممّا ذكر يظهر الفرق بين النوع البسيط والمركّب ، وجنسيهما وفصليهما ؛ والتوضيح : أنّ كلّ موجود ممكن لتضمّنه جهتين هما جهة وجوده وجهة قصوره المستند إلى إمكانه ينتزع عنه بالجهة الأولى الوجود العامّ وبالثانية الماهيّة ؛ وفي الجميع يتّحد الجهتان في الوجود / A ١٩/ وتكون جهة الماهيّة اعتبارية منتزعة من جهة الوجود.

ثمّ لو كان الممكن نوعا بسيطا مجرّدا كالعقل انحصرت جهة الماهيّة بالجنس العالي ، كالجوهر الذي لا يندرج فيه شيء آخر ، ويكون فصله هو الفصل الأخير ـ أعني الوجود الخاصّ ـ وينحصر وجوده به ، ولا يكون له وجود آخر على حدة ، بل يكون منتزعا من هذا الوجود الخاصّ متّحدا معه في التحقّق ولو كان نوعا مركّبا ولكن كان جسما بسيطا تقيّد الجوهر بقيودات اخر كالقابلية للأبعاد الثلاث وصارت ماهيّة مركّبة منحلّة إلى جنس وفصل مأخوذين من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود ضعيف لما يتّحد مع وجود الآخر وإن

٥٨

لم يستقلّ كلّ منهما بانفراده بالتحقّق ؛ ولو ينزل عن ذلك وصار جسما مركّبا ـ كالإنسان ـ ازدادت القيودات وصارت ماهيّة مركّبة من جنس وفصل مأخوذين من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود أقوى من الوجود السابق. فإنّ مادّة الإنسان هو البدن ، وصورته النفس ، ولكلّ منهما وجود خاصّ متميّز عن وجود الآخر وإن حصل من اجتماعهما وجود أكمل هو وجود الإنسان.

ثمّ الدليل على أنّ وجود كلّ ممكن عين ماهيّته (١) خارجا ومتّحد بها نحوا من الاتّحاد أنّه لمّا ثبت أنّ الوجود الحقيقي الذي هو مبدأ الآثار ومنشأ الأحكام وبه توجد الماهيّة ويطرد عنها العدم أمر عيني لزم أن يكون وجود كلّ ماهيّة عينها ومتّحدا بها وإلّا إمّا أن يكون الوجود جزءا منها أو بالعكس أو زائدا عليها عارضا لها أو بالعكس.

والأوّل : يوجب كون الماهيّة حاصلة الوجود قبل نفسها ؛ لأنّ وجود الجزء قبل وجود الكلّ ، والفرض أنّ وجودها جزء لها ، فيتقدّم وجودها على نفسها ، ووجود الشيء لا ينفكّ عن حصوله ، فيتقدّم حصولها على حصولها.

والثاني : يوجب تقدّمها عليه لتقدّم الجزء على الكلّ مع أنّ الفرض كون تحقّقها به وتقدّمه عليها ، لما تقرّر من أصالته وموجوديتها به.

والثالث : يوجب تقدّم الوجود على نفسه ؛ لأنّ وجود الصفة والعارض بعد وجود الموصوف والمعروض ؛ فعروض الوجود لها يوجب تأخّره عنها مع أنّ المفروض كونه أمرا عينيا محصّلا للماهيّة ومتقدّما عليها ؛ فيلزم تقدّمه على نفسه ، بل تقدّمها أيضا على نفسها ؛ وأيضا / B ١٩ / لتوقّف اتّصاف الماهيّة بالوجود العارض على وجودها قبله يلزم تكرير نحو وجود شيء واحد من جهة واحدة أو التسلسل في المترتّبات المجتمعة من أفراد الوجود ، وهو باطل بالبراهين واستلزامه

__________________

(١). س : ماهية.

٥٩

انحصار غير المتناهي بين حاصرى الوجود والماهيّة مع أنّه يستلزم المطلوب ـ أي كون الوجود عين الماهيّة خارجا ـ بالخلف ؛ إذ قيام جميع هذه الوجودات بحيث لا يشذّ عنها وجود عارض لا يمكن قيامها بالماهيّة الموجودة وإلّا لزم خلاف الفرض ؛ ولا بالغير الموجودة للفرعية ؛ فبقي أن يكون عين الماهيّة في الخارج ؛ فيكون لها وجود غير عارض.

والرابع : يوجب عدم تضمّن الخاصّ الإمكاني لجهة عدمية واقعية تنتزع عنها الماهيّة ؛ إذ مع تضمّنه لها وانتزاع الماهيّة منه لأجلها لا معنى للحكم بكونها (١) زائدة عليه عارضة له ، كعروض السواد للجسم ؛ إذ ليس في الجسم منشأ انتزاع للسواد ؛ وعدم تضمّنه لها يوجب كونه في ذاته صرف الوجود معروضا للماهيّة لعلّة خارجة من دون مدخلية للقوّة والعدم في حقيقته مع أنّ القصور والافتقار وجهات القوّة والعدم من مقوّمات الوجودات الإمكانية ولوازمها. فكلّ وجود ممكن متضمّن جهة عدمية يقتضيها بمحض حقيقته وتنتزع عنه الماهيّة لأجلها ؛ ولولاها لم يكن انتزاعها كما في الواجب.

وبذلك يظهر أنّ كلّ وجود تنتزع عنه الماهيّة لا يخلو عن التركيب ؛ وإذ ثبت عينية وجود كلّ ممكن لماهيّته في العين نقول : لو كان عينها في المعنى والمفهوم أيضا لزم ترادف الوجود للإنسان ـ مثلا ـ وكان حمله عليه كحمله على نفسه غير مفيد ؛ ولم يمكن تصوّر أحدهما مع الغفلة عن الآخر ؛ والتوالي بأسرها باطلة ؛ فالمقدّم مثلها ؛ فيكون غيرها مفهوما بحسب التحليل العقلي مع اتّحادهما هويّة في الخارج.

بقي الكلام في كيفية اتّصاف الماهيّة بالوجود في ظرف التحليل بجريان الإشكال فيه أيضا وعدم اندفاعه بما ذكر ؛ إذ تحليل العقل كلّ موجود إلى ماهيّة و

__________________

(١). س : تكونها.

٦٠