اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

ثمّ النور الثاني بالنظر إلى ما فوقه ـ أي بالنظر إلى وجوبه واستغنائه بما فوقه ومشاهدة عظمته بالنسبة إليه ـ يقتضي جوهرا قدسيا آخر هو النور الثالث ؛ وبالنظر إلى فقره وإمكانه ومشاهدة نقصه (١) يقتضي جرما سماويا هو الفلك الثوابت وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل العاشر والفلك التاسع ؛ أعني فلك القمر وعالم العناصر.

وهذه السلسلة الطولية للعقول وهي العقول العالية التي لا علاقة لها بالربوبية بالأصنام الموجودة في عالم المثال ولا بالأجسام الواقعة في عالم العناصر.

وهذا على ما في الهياكل النورية (٢) وأمّا الظاهر من حكمة الإشراق (٣) ـ وهو الأوفق بقواعدهم ـ أنّ النور الأقرب إذا صدر من نور الأنوار ، فمن مشاهدته له يحصل نور قاهر آخر ؛ ومن هذا النور الثاني أيضا يحصل بمشاهدته لما فوقه نور آخر وهكذا إلى أن تتكثّر الأنوار القاهرة طولا ؛ ولا يحصل من شيء منها جسم مثالي أو فلكي أو عنصري لشدّة نوريتها وقوّتها (٤) ، بل الأجسام إنّما تصدر عن العقول العرضية التي تصدر عن هذه العقول الطولية بالجهات التي هي غير آحاد المشاهدات كما يأتي.

وبالجملة : مع إثباتهم هذه العقول الطولية مشاهدة نور أثبتوا / B ١٧٤ / سلاسل عرضية كثيرة للعقول باعتبار جهات اخرى في العقول الواقعة في السلسلة الطولية ملحوظة مع الجهتين المذكورتين أو منفردة عنهما وهي الانعكاسات الإشراقية والمشاهدية والقهر والغلبة والمحبّة والذلّة إفرادا وتركيبا ووحدة وجمعا ، منضمّة بجهتى الغنى والفقر أو إحداهما أو غير منضمّة إليهما بملاحظة الهيئات والنسب الواقعة بين تلك الجهات ؛ وأسندوا إلى تلك العقول العرضية ونسبها المنضمّة

__________________

(١). س : نقص.

(٢). انظر : هياكل النور ، صص ٨٤ ـ ٨٢.

(٣). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٤٤ ـ ١٣٨.

(٤). س : قوتيها.

٤٢١

العقلية الصادرة عن العقول الطولية باعتبار الجهات المذكورة ونسبها المعنوية ساير الموجودات المثالية والجسمية وهيئاتها ونسبها وتخصيصاتها من الكواكب الثابتة والسيّارة والأصنام المثالية والأجسام العنصرية وتخصيصاتها في الوضع والقدر والحيّز وغير ذلك.

وبيان ذلك : أنّه قد تقدّم في المقدّمات أنّ لكلّ نور عال إشراقا (١) على النور السافل وقهرا (٢) وغلبة بالنسبة إليه ولكلّ نور سافل مشاهدة لكلّ نور عال ومحبّة وذلّة بالنسبة إليه ؛ وعلى هذا فكلّ واحد من الأنوار الطولية يشاهد نور الأنوار ويقع عليه شعاعه وإشراقه ، لما عرفت من أنّ الأنوار القاهرة ينعكس النور الشعاعي من بعضها على بعض ؛ فكلّ عال يشرق على ما تحته في أيّ مرتبة وبعد كان حتّى أنّ النور الأقرب يشرق على كلّ ما تحته إلى النور الأبعد ؛ فكلّ سافل يقبل الشعاع من نور الأنوار بتوسّط ما فوقه ؛ فالنور الأقرب يقبل النور السانح ـ أي الشعاع الفائض منه ـ مرّة بلا واسطة والنور الثاني يقبله منه مرّتين : مرّة بلا واسطة واخرى بواسطة النور الأقرب ؛ والنور الثالث يقبله منه أربع مرّات : مرّتين من انعكاس مرّتى صاحبه ـ أعني القاهر الثاني ؛ فإنّ الفائض عليه من الأشعّة كان شعاعين ؛ فينعكس كلّ منهما إلى القاهر الثالث ـ ومرّة من نور الأنوار بلا واسطة ومرّة من النور الأقرب أيضا بلا واسطة ؛ فهذه أربع مرّات ؛ والنور الرابع يقبله منه ـ أي من نور الأنوار ـ ثماني مرّات : أربع مرّات من انعكاس / A ١٧٥ / مرّات صاحبه وهو النور الثالث ومرّتين من انعكاس مرّتي الثاني ومرّة من النور الأقرب ومرّة من نور الأنوار بغير واسطة ؛ وهكذا تتضاعف الأنوار السانحة في النزول إلى حدّ تعجز القوى البشرية عن الإحاطة ؛ فإنّ النور الخامس يقبل من الشعاع الفائض ستّ عشر مرّة : ثمانى مرّات ينعكس عليه من الرابع وأربع مرّات من الثالث و

__________________

(١). س : اشراق.

(٢). س : قهر.

٤٢٢

مرّتين من الثاني ومرّة من النور الأقرب ومرّة من نور الأنوار بلا واسطة ؛ وهكذا يقبل السادس اثنين وثلاثين مرّة والسابع أربع وستّين مرّة إلى أن يحصل ما لا يحصى كثرة ؛ لأنّ الأنوار المجرّدة العالية لا يحجب بين السافل وبين نور الأنوار ، لعدم الحجاب ؛ لأنّه من شاحية الأنوار وشواغل البرازخ ؛ فالشعاع الفائض من نور الأنوار الذي هو شمس عالم الأنوار واقع على جميعها لكنّ الواقع على كلّ عال لأكثرية استعداده أشدّ وأقوى من الواقع على السافل لقلّة استعداده ؛ ولذا ينعكس هذا الشعاع الواصل من نور الأنوار إلى العالي بواسطة أو بغير واسطة منه إلى السافل أيضا ؛ فيجتمع في كلّ سافل مع النور السانح الفائض إليه من نور الأنوار بغير واسطة جميع الأنوار السانحة الفائضة منه إلى العوالي بواسطة أو بدونها.

واعتبر ذلك من تقابل أجسام مضيئة أحدها في غاية الضياء والنورية وأشدّ الكلّ ضياء وثانيها (١) أضعف ضوءا منه والثالث أضعف ضوءا من الثاني وهكذا إلى ما لا أضعف منه ؛ كأن يفرض حصول المقابلة بين الشمس والزهرة والمشتري والشعرى والعيّوق وغيرها من الكواكب على نحو يكون ترتيب الوقوع فيها على ترتيب الأشدّية ضوءا (٢) بأن يكون أضوأ منها أقرب إلى الشمس ثمّ الأضوأ فالأضوأ إلى آخرها ؛ فإنّه لا ريب في أنّ شعاع الشمس يقع على جميعها بلا واسطة إلّا أنّ الواقع على الأقرب إليها أشدّ من الواقع على الأبعد منها ؛ ولذا ما يقع من شعاعها على الأقرب ينعكس منه إلى الأبعد ؛ فهذا العكس يصل إليه أيضا مضافا إلى ما وصل إليه من الشمس بلا / B ١٧٥ / واسطة.

ثمّ لا ريب في أنّه لكلّ عقل نور ذاتي مع قطع النظر عمّا ينعكس إليه من الأنوار السانحة الفائضة من نور الأنوار بواسطة أو بدونها ؛ لأنّه نور في نفسه ـ أي

__________________

(١). س : ثابتها.

(٢). س : اشد به ضوءها.

٤٢٣

أوجده الله تعالى نورا ـ فيجتمع فيه النور الذاتي والأنوار العارضة ؛ فكما تنعكس منه الأنوار العارضة إلى ما تحته فكذلك ينعكس منه نوره الذاتي إليه تعالى بواسطة وبدونها ؛ فمع ملاحظة هذا النور يقال في بيان كمّية الأشعّة أنّ النور الأوّل يقبل الشعاع من نور الأنوار مرّة بلا واسطة ؛ والثاني يقبله منه ثلاث مرّات : مرّة منه بلا واسطة ومرّتين بواسطة نورى الأوّل السانح والذاتي ؛ والثالث يقبله منه سبع مرّات : مرّة منه بلا واسطة ومرّتين بواسطة نورى الأوّل وأربع مرّات بواسطة أنوار الثاني : الثلاثة السانحة والواحد الذاتي وهكذا.

فالأنوار كلّها بالنسبة إلى الواجب ذاتية إلّا أنّ ما يصل إلى كلّ عقل أزلا هو نوره الذاتي بلا واسطة وما يصل إليه بتوسّط غيره من العقول هو نور نوره الذاتي أو نور نور نوره الذاتي وهكذا.

وأمّا بالنسبة إلى العقول فهي عارضة فائضة (١) إليه بواسطة أو بدونها ؛ فكلّ نور سانح منه تعالى واقع واصل إلى واحد من العقول واقع منه على ما تحته يصدق عليه أنّه نور من الواجب وقع بوساطة هذا العقل على ما تحته ويصدق عليه أيضا أنّه نور عارض لهذا العقل أشرق منه على ما تحته.

فكما يصحّ نسبة إشراق هذه الأنوار السانحة إلى الواجب تعالى ـ كما ذكرناه ـ تصحّ نسبته إلى العقول ؛ فيقال في بيان تكثّر الانعكاسات : إنّ النور الأوّل يشرق عليه مرّة من نور الأوّل بنوره الذاتي بلا واسطة والثاني يشرق عليه ثلاث مرّات : مرّة من الواجب بلا واسطة ومرّتين من النور الأوّل الأقرب بنوره السانح والذاتي ؛ والثالث يشرق عليه سبع مرّات : مرّة من الواجب ومرّتين من الأوّل بنورية السانح والذاتي وأربع مرّات من الثاني ؛ وثمانية مرّات من الثالث وهكذا.

ولا تظنّن / A ١٧٦ / أنّ ما يصل إلى كلّ سافل من الأنوار السانحة يكون الفائضة

__________________

(١). س : الفائضة.

٤٢٤

من الأقرب إليه لقربه أشدّ من الفائضة من الأبعد منه ؛ فإنّ ذلك باطل ؛ إذ نور كلّ سافل مقهور في جنب نور العالي ؛ إذ النور الأشدّ لا يمكّن الأضعف من التأثّر والإنارة ؛ فالأنوار العرضية والذاتية الفائضة من العوالي إلى كلّ سافل يكون الفائضة منها من كلّ أبعد منه أشدّ من الفائضة من كلّ أقرب إليه ، بل يكون الفائضة من الأقرب مقهورا في الفائضة من الأبعد وجميع الأنوار الفائضة الذوات النورية الإمكانية إلى سافل ـ سواء كانت من أشعّة الأنوار السانحة الفائضة إليها من نور الأنوار أو من أشعّة أنوارها الذاتية ـ مقهورة مستهلكة مضمحلّة في جنب الفائضة إليه من نور الأنوار بلا واسطة كما يظهر من المثال المفروض في الشمس والكواكب.

وبذلك يظهر أنّ هذا الحكم أولى في إفاضة أصل وجود كلّ موجود ؛ فتأثّرات الوسائط في إيجاد كلّ ممكن مجرّد أو مادّي باطل مضمحلّ في جنب تأثّر الواجب الحقّ فيه بلا واسطة.

ويعلم من ذلك أنّ كلّ معلول ـ سواء كان مجرّدا أو مادّيا ، بسيطا أو مركّبا ، طوليا أو عرضيا ـ ما يصل إليه من الواجب بلا واسطة من التأثّر في أصل وجوده ومن الفيض السانح الطاري أشدّ بمراتب ممّا يصل منهما من الوسائط بأسرها إليه مع أنّ الوسائط بذواتها ووجوداتها وما يترشّح إليها ومنها كلّها منه تعالى ؛ فما يصل منها إلى ما تحتها من التأثيرات والفيوضات الظاهرة والباطنة لا يكون إلّا منه ولا أثر لها عند التحقيق ؛ فإنّ الجواهر العقلية القدسية وإن كانت متعالية (١) إلّا أنّها وسائط وجود الأوّل وهو الفاعل لها ولآثارها حقيقة. فما أثبته الحكماء من ترتيب الوجود لا ينفي تأثير الأوّل في غير الصادر الأوّل كما فهمه بعض الأوهام العامّية ، بل إنّما الغرض منه بيان جهات يصلح منشأ لصدور الكثرة عن ذاته

__________________

(١). س : تعاله.

٤٢٥

الأحدية لا في التأثّر عنه ؛ والعجب في من يرى فعل فاعل / B ١٧٦ / بلا واسطة منه ولا يرى منه فعل فعله ويرى تأثّره في الأوّل أكثر وأشدّ من تأثيره في الثاني مع استوائهما في الانتساب إلى واحد.

وبالجملة : لا كلام في استناد الكلّ إليه حقيقة وإنّما الكلام هنا في أنّ هذه التأثّرات والإفاضات والإشراقات التي منه تعالى حقيقة ويثبت في بادئ النظر إليها مستهلكة في جنب الفائض منه تعالى بلا واسطة بالنسبة إلى كلّ معلول ، كما هو ذوق الإشراق ومعتقد أكثر أئمّة الكشف وكبراء الصوفية من أنّ الفيض الإلهي يصل إلى معلولاته بالوسائط وبدونها وأنّ التأثير الذي هو بالواسطة مغلوب مقهور تحت التأثير الذي هو بالواسطة ؛ إذ الحقّ الواجب بذاته لشدّة قوّته ونوريته لا يمكّن الوسائط من ظهور آثارها.

وبذلك يظهر أنّ الوسائط من العقول والنفوس المتوسّطة في وصول أثر الأوّل إلى كلّ معلول كلّما يكون أقرب إليه في سلسلة الوساطة والآلية يكون العدمية من حيث الظهور ووصول أثره إليه وإيصاله له به وكلّما كان أبعد منه من حيث التوسّط والآلية يكون أقرب إليه من جهة الظهور والاتّصال ووصول الأثر ؛ لأنّ الأبعد أنور وأقوى وأكمل في حقيقة النورية والقوّة.

ألا ترى أنّ بياضا وسوادا لو كانا في سطح واحد يتراءى البياض أقرب إلينا من السواد ؛ لأنّه يناسب الظهور ولذلك يتراءى من تعاكس الأضواء البياض ومن انتفائها السواد.

فالأقرب من الكلّ إلى الكلّ من حيث الظهور واتّصال الأثر والارتباط هو نور الأنوار ؛ لأنّه النور التامّ الذي لا يمازجه ظلمة النقص أصلا ؛ فالفيوضات الظاهرة والباطنة التي يصل منه إلينا بوساطة العقول والنفوس الكاملة وغيرها مضمحلّة تحت الفيوضات الواصلة منه إلينا بلا واسطة ؛ وكذا ارتباطنا بالوسائط و

٤٢٦

اتّصالنا بالأنوار الفائضة منها وظهورها لنا مستهلكة في ارتباطنا به وظهوره لنا واتّصالنا بنوره إلّا أنّ درك ذلك يتوقّف على شدّة تجرّدنا. فالواجب سبحانه في العلوّ الأعلى بذاته المتعالية عن مراتب النقص والدنوّ الأدنى لشدّة نوره ؛ فسبحان من هو على البعد الأبعد من جهة علوّ رتبته وعلى القرب / A ١٧٧ / الأقرب من جهة نوره الغير المتناهي شدّة.

وبعد ما عرفت [من] أنّ المراد من الأنوار السانحة والأشعّة العقلية هي الإشراقات المعنوية والابتهاجات العقلية والأضواء الروحية ؛ فإن خلصت نفسك من عوائق الطبيعة وسلاسلها وحصل لها ضرب من التجرّد ومع ذلك عرفت حقيقة العلّية والمعلولية ومقهورية المعلول واستهلاكه في جنب العلّة ورجوع سلسلة المعلولات بأسرها إلى العلّة الأولى وكونها بذواتها وأوصافها وآثارها رشحة من رشحات جودها وفيضها وكونها ـ أي العلّة الأولى ـ صرف الوجود الحقّ الغير المتناهي وجودا ونورية وقدرة وعلوّا واضمحلال كلّ وجود ونور وقوّة وقدرة تحت وجوده ونوريته وعلوّ قدرته لا ينبغي أن يشكّ في ما فصّلناه من إشراق كلّ عال على سافل بالواسطة وبدونها ، واضمحلال جميع الإشراقات الراجعة إليه في الحقيقة تحت إشراقه بلا واسطة وكونه أقرب من الكلّ إلى الكلّ ، بل من الشيء إلى نفسه من حيث الظهور والإحاطة والاتّصال العقلاني والاتّحاد المعنوي والقرب الحقيقي.

وقس على إشراق كلّ عال على سافل في كونه بواسطة وبدونها واستهلاك ما بالواسطة تحت ما بدونها مشاهدة كلّ سافل للعالي ؛ فإنّه أيضا يكون بواسطة وبدونها ؛ فإنّ كلّ مجرّد له مشاهدة نور الأنوار وموجد الكلّ بلا واسطة ومشاهدته في الوسائط التي بينهما من الأنوار ، بل في كلّ نور مجرّد ، بل في كلّ شيء ؛ إذ المعلول بما هو معلول مرآة العلّة ؛ فالعارف يرى علّة الكلّ في الكلّ ؛ فمن عرف

٤٢٧

حقيقة العلّية والمعلولية لا يرى من المعلول في نظره (١) الدقيق إلّا العلّة وربّما يجعل مشاهدة ما فوقه من الذوات القدسية مشاهدة لنفسه ويجعل ما تصوّره إجمالا من مشاهدته التي هو فوق مشاهدته مشاهدة لنفسه فتصير (٢) مشاهدته أقوى وأشدّ ؛ وعلى أيّ تقدير مشاهدته له تعالى بلا واسطة أقوى ممّا هو بالواسطة إلّا أنّ المشاهدة بلا واسطة يتوقّف على شدّة التجرّد وقوّته ولا يتيسّر بدونه ، كما قيل :

چشم آلوده ما از رخ جانان دور است

بر رخ او نظر از آينه پاك انداز

ثمّ مراتب المشاهدة بالطريقين تختلف شدّة وضعفا / B ١٧٧ / وصفاء وكدورة (٣) باختلاف التجرّد شدّة وضعفا ؛ وكلّما قوى المشاهدة من السافل اشتدّ الإشراق من العالي.

وبالجملة : قد ظهر ممّا قرّرناه أنّه تحصل في كلّ سافل من إشراق كلّ عال عليه بالواسطة وبدونها ومن مشاهدة ذلك السافل له انعكاسات إشراقية شعاعية وانعكاسات شهودية مشاهدية ؛ فإذا لوحظت هذه الانعكاسات الشعاعية والمشاهدية كلّا وبعضا وآحادا وجمعا وإفرادا وتركيبا تحصل في كلّ عقل له جهات كثيرة ؛ لأنّه باعتبار كلّ نور من هذه الأنوار المتضاعفة بالانعكاسات الإشراقية والمشاهدية يصير نورا مغايرا لنفسه باعتبار نور آخر ؛ لأنّ الإشراقات العقلية الواقعة على الأنوار المجرّدة الحيّة تقتضي صيرورة المشرق عليه كالمشرق ؛ واعتبر ذلك من إشراق العقل على النفس وصيرورتها مثله في التجرّد ومشاهدة المجرّدات ؛ واحدس منه أنّ النور العالي إذا أشرق على السافل يصير السافل مثله في ما ذكرناه.

وبالجملة : يصير نورا آخر غير ما كان أوّلا باعتبار قرب رتبته من العقل الذي

__________________

(١). س : نظرة.

(٢). س : تصير.

(٣). س : كدرة.

٤٢٨

أشرق عليه بخلاف ما إذا كانت الإشراقات على ما لا حياة له ؛ فإنّها لا تقتضي إلّا اشتداد النورية في المحلّ ولا تقتضي صيرورة المحلّ نورا مجرّدا أو مماثلا للأصل أشرق عليه ؛ فكلّ واحد من هذه الانعكاسات الشعاعية والمشاهدية إفرادا وتركيبا ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا وهكذا إلى ما لا نهاية له يكون في كلّ عقل جهة مصحّحة لصدور عقل في سلسلة عرضية عنه ولوقوع هذه الانعكاسات على ترتيب وانتظام عقلي وإنّيات نورية تتحقّق بين العقول العرضية أيضا هيئات نورية عقلية ؛ فيصدر عنها الموجودات المثالية وغيرها من الكواكب والموجودات الحسّية على هيئات حسّية حسنة تقتضيها الهيئات النورية الواقعة بين العقول العرضية.

ثمّ إذا لوحظت فهذه الجهات التي هي الانعكاسات الإشراقية والمشاهدية مع جهتى المحبّة والقهر وجهتى الغنى والفقر / A ١٧٨ / ومع ذوات القواهر الجوهرية آحادا وجمعا وإفرادا وتركيبا تتضاعف الجهات أضعافا كثيرة.

ثمّ لا ريب في أنّه تتحقّق بين تلك الجهات مشاركات ومناسبات عجيبة وهيئات نورية ؛ إذ حصول الأنوار العقلية العرضية يتوقّف على جهات عقلية ومشاركات ومناسبات بينها ؛ فبين كلّ واحد من الأشعّة الإشراقية والمشاهدية والذوات الجوهرية الاستغناء والفقر والمحبّة والقهر ، وبين مثله وغيره مناسبة ومشاركة ، وكذا بين واحد ومتعدّد ، وبين متعدّد ومتعدّد ومماثل أو مخالف ؛ فإذا لوحظت هذه المناسبات مع الجهات المذكورة تحصل أعداد تزيد على غير المتناهي ؛ وكلّ واحد يصلح لأن يحصل منه شيء فيحصل من كلّ جهة من الاستغناء والفقر والمحبّة والقهر والإشراق والمشاهدة والمناسبة شيء ومن كلّ ذات جوهرية شيء وكذا من كلّ اثنين وثلاثة وأربعة متّفقة فصاعدا إلى غير النهاية ؛ فيحصل منها ما لا نهاية له من العقول والأنوار العرضية بمناسباتها و

٤٢٩

هيئاتها ونظمها النورية العجيبة.

وعلى هذا فالمحصّل على ذوق الإشراق على ما هو المستفاد من كتاب حكمة الإشراق ـ الذي هو المخصوص بأنّ ما هو مقتضى ذوق الإشراق ـ أنّ النور الأوّل إذا صدر عن نور الأنوار فمن أعظم جهاته وأشرفها الذي هو مشاهدته لنور الأنوار وما يصل إليه من الإشراق الكامل يحصل منه نور قاهر آخر ، ومن مشاهدته أيضا لما فوقه ، بل لنور الأنوار يحصل منه قاهر ثالث وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا يمكن أن يصدر عنه قاهر آخر ؛ إذ الأنوار المنعكسة بعضها من بعض ينتهي إلى ما لا ينعكس منه نور لضعف نوريته ؛ فهذه هي السلسلة الطولية من العقول وهي الاصول والقواهر الأعلون ؛ ولا ينحصر في عشرة ، بل متكثّرة ذاهبة إلى الحدّ المذكور وربّما كانت أكثر من مائة ومأتين وألف وألفين ؛ وهذه السلسلة صادرة بعضها عن بعض بمجرّد آحاد المشاهدات والأشعّة الكاملة وأنّ الموجد الحقيقي للكلّ هو الله سبحانه لما مرّ غير مرّة ؛ ولا علاقة لشيء منها بشيء من الأجسام / B ١٧٨ / المثالية والفلكية والعنصرية بالإيجاد والربوبية والتدبير والتصرّف ، لعلوّ مرتبتها وشدّة نوريتها ؛ فهي العقول المستغرقون في مشاهدة جلال الحقّ وجماله والجواهر القدسية المهيمنون بملاحظة أنوار كبريائه وعظمته.

ثمّ صدرت عنها لسائر الجهات المذكورة ومناسباتها العجيبة وهيأتها النورية عقول كثيرة عرضية بهيئات وانتظام وترتيب شريفة عجيبة نورية على ما هو مقتضى هيئات الجهات المذكورة ؛ والعقول العرضية الصادرة عن الجهات التي هي أشرف يكون أشرف من الصادرة عن الجهات التي هي أخسّ ؛ ولمّا كانت جهات المشاهدات مطلقا ـ أي ولو كانت مشاهدات الوسائط (١) انضمّت إلى غيرها من جهات الفقر والغنى والقهر والمحبّة ـ أشرف من جهات الأشعّة مطلقا تكون

__________________

(١). س : + او.

٤٣٠

العقول الصادرة من جهات المشاهدات علل العوالم المثالية وأرباب أصنامها وطلسماتها لكون الموجودات المثالية أشرف من موجودات عالم الحسّ ، لكثافتها وظلمتها ؛ فتكون علل الأولى أيضا أشرف من علل الثانية بشرط أن تكون تلك المشاهدات مشاهدات نور الأنوار لا منفردة ، بل منضمّة إلى غيرها من الجهات المذكورة أو مشاهدات الوسائط منفردة أو منضمّة ، لما عرفت من أنّ آحاد جهات مشاهدة نور الأنوار علل صدور السلسلة الطولية من العقول وتكون العقول الصادرة من جهة الأشعّة العالية الشديدة مع جهتى الفقر والاستغناء وجهتى القهر والمحبّة كلّا أو بعضا علل الأجسام الفلكية وأرباب الأصنام السماوية بكراتها الكلّية والجزئية والصادرة من جهات الأشعّة النازلة الضعيفة بملاحظة الجهات الأربعة أيضا بعضها أو كلّا علل عالم العناصر وأرباب أصنامها وطلسماتها ؛ إذ الأشعّة العالية أشرف من النازلة ؛ فتكون العقول الصادرة عن القواهر الطولية بتوسّطها أرباب الأصنام الفلكية التي هي أشرف من الأصنام العنصرية والصادرة عنها بتوسّط الأشعّة النازلة أرباب الأصنام العنصرية التي هي أخسّ من الأصنام الفلكية ؛ ويمكن أن يقال : النفوس الفلكية أشرف من الموجودات / A ١٧٩ / المثالية والعقول الصادرة عن القواهر بوساطة المشاهدات علل نفوس الأفلاك وأجسامها والصادرة عنها بجهات الأشعّة العالية علل عالم المثال والصادرة عنها بجهات الأشعّة النازلة علل عالم العناصر.

وقد ذكرنا أنّ الظاهر من بعض كلماتهم أنّ الأفلاك تصدر عن العقول الطولية ولكنّ الأوفق بقواعدهم من أشرفية العقول على النفوس مطلقا ومن قاعدة الإمكان الأشرف أن يكون الصادر من العقول الطولية طبقات العقول العرضية ويكون الصادرة عنها من جهة المشاهدات التي هي أشرف الجهات مع بعض جهات اخرى ـ أعني الاستغناء والفقر والمحبّة والقهر ـ أشرف طبقاتها ويكون عللا

٤٣١

لأشرف ما تحتها من عالم المثال وعالم الأفلاك وعالم العناصر والصادرة عنها بجهات الأشعّة العالية (١) الشديدة التي هي أقرب إلى جهات المشاهدات في الشرافة مع بعض جهات اخرى سيّما القهر والمحبّة أقرب إلى الطبقة الأولى في الشرافة ؛ فيكون عللا لما هو أقرب إلى العالم الأوّل في الشرافة ؛ والصادرة عنها بجهات الأشعّة النازلة التي هي أخسّ الجهات أدون طبقاتها ؛ فهي علل عالم العناصر.

وعلى هذا فطبقات العقول أربعة :

[١.] طبقة العقول الطولية التي هي الأعلون القواهر

[٢.] وطبقة أرباب الموجودات المثالية

[٣.] وطبقة أرباب الموجودات الفلكية

[٤.] وطبقة أرباب الموجودات العنصرية

وطبقات المجرّدات خمسة : هذه الأربعة وطبقات النفوس المجرّدة الفلكية والعنصرية.

والطبقة الأولى لا علاقة لها بالبرازخ أصلا ـ أي لا بالربوبية ولا بالتدبير والانطباع ـ والثلاثة الثالثة ـ أعني العقول العرضية ـ لها علاقة الربوبية دون التدبير والانطباع ؛ والأخيرة ـ أعني النفوس الناطقة ـ لها علاقة التدبير دون الربوبية والانطباع.

ثمّ لا ريب في أنّه يجب أن تكون لكلّ نوع من أنواع العوالم المثالية والفلكية والعنصرية علّة من العقول المغايرة لعلّة نوع آخر ؛ فلا يمكن أن تكون بإزاء نوعين علّة واحدة منها سواء كان نوعا متكثّر الأفراد أو منحصرا في واحد ، كما في الفلكيات.

__________________

(١). س : العللية.

٤٣٢

ولا ريب في أنّه / B ١٧٩ / يوجد في عالم المثال كلّ ما يوجد في عالم الحسّ من الأفلاك والكواكب والعناصر ومركّباتها والنفوس والقوى المتعلّقة بها ؛ فلا يكون عدد العقول التي هي علل الأنواع المثالية ـ أعني الأنوار المشاهدية ـ أقلّ التي هي علل أنواع العالمين الآخرين ـ أعني الأنوار الإشراقية ـ فكما أنّه لا بدّ في الأنوار الإشراقية من نور هو أعظمها نورية وعشقا وهو علّة الفلك الأعلى الحسّي كذلك لا بدّ وأن يكون في الأنوار المشاهدية نورا هو أعظمها وهو علّة الفلك الأعلى المثالي ؛ وكما أنّ الفلك الأعلى المحيط بكلّ من العالمين أكمل الأجسام وقاهرها فكذا تكون علّيته في الأنوار المشاهدية والإشراقية أشرفها وأكملها.

وعلى هذا يبلغ أعداد العقول إلى ما لا يحصى كثرة ؛ وإذا كانت الكواكب في كلّ من العالمين مختلفة بالنوع ولو قيل بوجود عقول عرضية لا تصير علّة لشيء من الأنواع المثالية والحسّية كما يأتي ؛ فيكون أعدادها غير متناهية.

ثمّ إنّهم أسندوا كلّ ما في العوالم الثلاثة من التخصّصات والسعدية والنحسية والاختلاف في الألوان والطعوم والروائح وما بينها من التوافق والمؤالفة والتباغض وغير ذلك إلى الهيئات والنسب والنظم والترتيب الواقعة في العقول لأجل ما تقتضيه المناسبات والمشاركات الواقعة في الجهات المقتضية لها ؛ فبحسب ما تقع أرباب الأصنام والطلسمات تحت أقسام المحبّة والقهر والاعتدال تختلف تلك الأصنام المعلولة لها من الكواكب وغيرها من الأجسام في ذلك كسعدية المشتري والزهرة ونحسية زحل والمرّيخ واعتدال عطارد وغير ذلك من أحوال الكواكب وساير الأجسام.

وبالجملة : جميع ما في العوالم الثلاثة من الذوات وأوصافها ولوازمها وعوارضها وهيئاتها وتخصيصاتها أظلال لتلك العقول النورية ونسبها وهيئاتها النورية العقلية.

٤٣٣

ثمّ استدلّ على ثبوت هذه الكثرة في العقول بوجوه :

منها : أنّه أدلّ على علوّ القدرة الإلهية.

ومنها : قاعدة / A ١٨٠ / الإمكان الأشرف ؛ فإنّها تقتضي وجود هذه الأرباب والأنواع النورية المجرّدة العقلية ؛ لأنّها أشرف من الأنواع المثالية والجسمانية لتجرّدها عن الموادّ والتقدّر والتكلّم بالكلّية ؛ وقد وجد الأخسّ ـ أعني عالم المثال وعالم الأفلاك والعناصر ـ فيجب أن يوجد الأشرف ـ أعني الأنواع المجرّدة النورية ـ قبلها.

وبالجملة : ما في العالم الجسماني من الذوات وعجائب الترتيبات والنظم البديع والترتيب المحكم وكذلك [ما] في عالم النفوس من العجائب الروحانية لا ريب في أنّهما في العالم النوري العقلي أشرف وأبدع ممّا في هذين العالمين ؛ فيجب نظيرها في ذلك العالم نظرا إلى القاعدة المذكورة. (١)

ومنها : أنّ الأنواع الموجودة في عالمنا هذا ليست عن مجرّد الاتّفاق ؛ لأنّ الاتّفاق لا يكون دائما ولا أكثريا ؛ وهذه الأنواع الموجودة عندنا دائمة محفوظة لا تتغيّر أبدا ؛ فإنّه لا يكون غير الإنسان عن الإنسان وغير البرّ عن البرّ وهكذا ؛ فالأنواع المحفوظة عندنا ليست عن مجرّد الاتّفاق ؛ لأنّ الامور الدائمة الثابتة على نهج واحد لا تنتهي إلى الاتّفاقات المحضة ؛ فلا بدّ لها من علل ولا يتصوّر لها علل غير تلك العقول العرضية القائمة بذاتها في عالم النور ؛ وهي الأنواع النورية التي هي علل هذه الأنواع المثالية والجسمانية وأربابها والمدبّرة لها وتغشى بها وتحفظها وتفيض عليها الهيئات المناسبة كالألوان الكثيرة العجيبة التي في رياش الطاوس ؛ فإنّ علّتها ربّ نوعه لا اختلاف أمزجة الرشية على ما يقوله المشّاءون ؛ إذ لا برهان لهم على ذلك ولا قدرة لهم على تعيين أسباب تلك الألوان وكذا

__________________

(١). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٥٥ ـ ١٥٤.

٤٣٤

جميع الهيئات الواقعة في الأجسام والأفعال المختلفة فيها من التغذية والتنمية والتوليد وغير ذلك ؛ فإنّه لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأفعال المختلفة في النباتات عن قوى بسيطة عديمة الشعور وفينا عن أنفسنا وإلّا لكان لنا شعور بها ؛ فالحكم بمثل هذه الأحكام من غير مراعاة قانون محفوظ مضبوط غير / B ١٨٠ / صحيح ؛ فلا بدّ أن يكون لكلّ نوع من الأصنام المثالية والأجسام الفلكية والعنصرية ـ من بسائطها ومركّباتها ـ ربّ في عالم النور هو عقل مدبّر لذلك النوع وحافظ له ولأشخاصه ومتساوي النسبة إلى جميعها في دوام فيضه عليها واعتنائه بها ، مفيض عليه الهيئات المناسبة وهو الغاذي والمتمنّي والمولد في الأجسام النامية ؛ فكأنّه هو الأصل والحقيقة وهي الفروع.

وبالجملة : جميع ما في هذه العوالم الثلاثة من الذوات والأوصاف والهيئات أظلّة لذوات تلك الأرباب النورية وإشراقاتها ونسبها المعنوية النورية حتّى أنّ رائحة المسك ظلّ لهيئة نورية في ربّ نوعه ؛ وتلك الهيئات النورية العارضة للأرباب النورية والنسب المختلفة المعنوية اللازمة لها إنّما يفاض عليها من مباديها التي هي القواهر الأعلون للجهات المذكورة ؛ فتظهر صورها في أصنامها الجسمانية.

وإذ ثبت أنّ علل الأصنام المثالية والجسمانية لا بدّ أن تكون أنوارا مجرّدة [فيكون] بين الجسمانيات تكافؤ من حيث إنّه ليس بعضها علّة بعض وليس فيها ما هو أشرف من الآخر من كلّ وجه ، بل كلّ أشرف من الآخر بوجه (١) أخسّ منه بوجه ومساو له بوجه ؛ فيجب أن يكون بين عللها ـ وهي الأنوار العقلية أيضا ـ تكافؤ يوازي تكافؤ معلولاتها ؛ إذ غير المتكافئة لا يكون عللا للمتكافئة وبالعكس ؛ فيلزم أن يكون طائفة من الأنوار العقلية بحيث لا يكون بعضها علّة لبعض ، بل يكون معلولة لغيرها ولا أشرف منه من كلّ وجه ، بل كان كلّ أشرف من

__________________

(١). س : توجه.

٤٣٥

آخر بوجه أخسّ منه بوجه آخر.

ولا يتصوّر أن توجد أنوار قاهرة متكافئة بالمعني المذكور عن نور الأنوار دفعة بلا ترتيب ، لما مرّ من أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛ فلا بدّ أن تصدر عنه أوّلا أنوار عقلية متوسّطة طولية لا تكافؤ بينها ، بل يكون كلّ عال علّة لما دونه وأشرف منه ولا تكون لها علّية للأصنام المتكافئة ، لاستحالة حصول المتكافئة من غير المتكافئة ، بل تصدر عنها أنوار عقلية عرضية متكافئة متكثّرة لأجل تكثّر مناسبات / A ١٨١ / أشعّة هذه القواهر الطولية وتكون هذه ـ أي العرضية المتكافئة ـ علل الأجسام المتكافئة.

ولكون بعضها أشرف من بعض بوجه وأخسّ منه بوجه آخر نظرا إلى اقتضاء كمال الأشعّة الفائضة من الأعلين ونقصها يقع مثل ذلك ـ أي الأشرفية من وجه والأخسّية من وجه ـ في معلولاتها ـ أعني الأجسام والطلسمات ـ ولذلك يكون نوع متسلّطا على نوع من وجه لا من جميع الوجوه ؛ فإنّ الإنسان متسلّط على الأسد من وجه والأسد متسلّط عليه من وجه آخر ؛ وكذا حكم جميع الأنواع الجسمية.

ولو كانت الترتيبات الجسمية في الأفلاك صادرة عن العقول المترتّبة الطولية لكان المرّيخ أشرف من الشمس والزهرة مطلقا ، لكون فلكه فوق فلكها وكذا من جميع ما تحته ، لما ذكر ؛ وليس كذلك ؛ فإنّ الفلكيات بعضها أعظم كوكبا وبعضها أعظم فلكا وبعضها أشرف من بعض وأخسّ منه بوجه ؛ فيجب أن يكون بين عللها وأربابها أيضا تكافؤ من هذه الوجوه ؛ إذ آثار المعلول مستفادة من آثار العلّة ؛ والفضائل الدائمة الثابتة لا تبتني على الاتّفاقات ، بل على مراتب العلل المستمرّة الوجود الدائمة الثابتة ؛ فلا بدّ أن يكون الأجسام العلوية والسفلية وتدبيراتها من النفوس الناطقة المجرّدة وما ينطبع فيها من النفوس والقوى الجزئية وأوصافها ولوازمها من غلبة بعضها على بعض وذلّة بعضها لبعض من التوالف والتحابب و

٤٣٦

التناكر والتباغض والترتيب والانتظام والاتّصال والالتيام والقرب والبعد وما لها من الهيئات والأوضاع والتخصيصات كلّها مستندة إلى الأنوار العرضية ، لأجل ما فيها من الهيئات النورية والانتظامات العجيبة والاختلافات بزيادة النورية والقوّة والغلبة ونقصانها التي سرت إليها من العقول القاهرة الطولية لأجل جهاتها المتكثّرة من القهر والمحبّة والاستغناء والوجوب بنور الأنوار والإمكان والفقر بالنظر إلى ذواتها والأشعّة الإشراقية المشاهدية / B ١٨١ / وما بينها من المناسبات والمشاركات وهيئاتها النورية المعنوية.

وعلى هذا ، فالنفوس الناطقة الفلكية والإنسانية تكون صادرة من تلك العقول العرضية من الجهة الأشرف ـ أعني وجوبها واستغنائها بعللها ـ والأجسام صادرة عن الجهة الأخسّ ـ أعني إمكانها وفقرها ـ ويكون الترتيب الواقع في الثوابت ظلّا لترتيب عقلي.

وبالجملة : يكون جميع ما في العوالم الثلاثة أظلّة لعوالم العقول العرضية.

ولا يجوز إسناد التخصّصات ووجوه التكافؤ المذكورة إلى تصوّرات نفوس الأفلاك ؛ لأنّها أيضا لا بدّ أن تكون مستندة إلى علل تكون فوقها ؛ ولا معنى لاستناد ما في الأفلاك وكواكبها من السعدية والنحسية والاختلاف في القدر والضوء إلى تصوّرات نفوسها ؛ وهو ظاهر.

ثمّ المشّاءون لمّا أسندوا ما في عالم الأفلاك وعالم العناصر من التخصّصات والاختلافات في المقادير والأوضاع وساير وجوه التكافؤ إلى ما أثبتوه من العناية ـ أعني تعقّل الواجب نظام الوجود على ما هو عليه ـ فإنّهم قالوا : إنّ هذا التعقّل علّة لوجود الموجودات على ما هي عليه بحسب الذوات والأوصاف والهيئات والتخصّصات وغيرها ؛ فردّ عليهم صاحب الإشراق بإبطال العناية نظرا إلى ما تقرّر عندهم من كون علم الواجب عنده حضوريا إشراقيا جزئيا لا حصوليا

٤٣٧

فعليا كلّيا ؛ فإنّ العناية هو العلم الحصولي الكلّي بالنظام الأعلى قبل وجوده.

وأنت تعلم أنّ إسناد التخصّصات ووجوه التكافؤ والهيئات والاختلافات الواقعة في الأجسام الفلكية والعنصرية لا يتوقّف على إبطال العناية ونفيها ؛ لأنّها لا ينافي الإسناد المذكور ؛ فإنّ العناية هو العلم الفعلي الكلّي بنظام الخير على ترتيب السببي والمسبّبي ؛ فلا يتعلّق بشيء من أجزاء النظام سواء كان ذاتا أو صفة أو هيئة أو شيئا من التخصّصات إلّا ويتعلّق لغلبة المناسبة له وبسببه الخاصّ ؛ فلا يمكن أن يسند وجود شيء من الأجسام أو عوارضها / A ١٨٢ / بلا واسطة إلى العناية ويقال : إنّ صدوره منه من دون توسّط علّة اخرى ؛ ولذا لا يمكن أن يسند شيء من الموجودات إلى علّة لا تناسبه أو قام الدليل على عدم جواز ذلك كإسناد صدور مجرّد عن جسم أو جسماني ويقال : إنّ ذلك من مقتضيات العناية.

وعلى هذا فالهيئات والتخصّصات والاختلافات ووجوه التكافؤ الواقعة في الأجسام الفلكية والعنصرية لا بدّ أن تسند مع القول بالعناية أيضا إلى علل خارجية تناسبها وتصلح لعلّيتها لها ثمّ يسند وجود الكلّ على الترتيب العلّي والمعلولي إلى العناية دون علل مناسبة لها ؛ أعني العقول. (١)

فظهر أنّ العناية لا تنافي إثبات العقول العرضية لأجل وجود بعض معلولات لا يمكن أن يسند صدورها إلى علل خارجية اخرى في ترتيب الصدور غير تلك العقول العرضية ، لعدم المناسبة. فصاحب الإشراق ما كان له حاجة في إثبات العقول العرضية إلى إبطال العناية وكان له أن يجيب بعدم المنافاة إلّا أنّها لمّا كانت عنده في نفسها باطلة أجاب بإبطالها. فمن أثبتهما معا فله أن يجيب بعدم المنافاة.

ومنها : تصريح النبوّة الأولى بوجود عقول نورية مدبّرة وتلويح نبوّة نبيّنا إليه ؛ فإنّ المعروف أنّ هرمس الجهمي المسمّى بوالد الحكماء هو إدريس النبيّ و

__________________

(١). س : + لا معنى له.

٤٣٨

قد أسند الكلّ إليه القول به ونقل عنه أنّه قال : إنّ ذاتا روحانية ألقت إلى المعارف فقلت : من أنت؟ قال : أنا طباعك التامّ.

وقد نقل عن المسيح عليه‌السلام أنّه قال : «إنّي ذاهب إلى أبي وأبيكم روح القدس» وكان الأوائل يسمّون ربّ النوع بروح القدس ويطلقون الأب عليه ، بل على كلّ مبدأ من المبادئ.

وقد جرى شيخ الإشراق على هذا الاصطلاح حيث قال في الهياكل النورية : «ومن جملة الأنوار القاهرة أبونا وربّ طلسم نوعنا ومفيض نفوسنا ومكمّلها روح القدس المسمّى عند الحكماء بالعقل الفعّال» (١) وكان مراده بالحكماء هم الإشراقيّون ؛ إذ روح / B ١٨٢ / القدس والعقل الفعّال عند المشّائين عبارة عن العقل العاشر الذي هو علّة لوجود هيولى العناصر بذاته وتصوّرها بواسطة الاستعداد الحاصلة من الحركات السماوية ؛ وقد تواتر عن نبيّنا عليه‌السلام بل عن ساير الأنبياء كثرة الملائكة وعدم تناهي جنود الله تعالى وفيه تلويح إلى المطلوب وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أتاني ملك الجبال وملك البحار وملك السحاب» (٢) وأمثال هذا الخبر أكثر من أن يحصى.

ومنها : اتّفاق أولى المجاهدات من المتألّهين وأساطين الحكمة عليه ، كحكماء الفرس والفهلوة بأسرهم ومعظم حكماء اليونان ، كسقراط وأفلاطون (٣) وفيثاغورث وأنباذقلس وآغاذاثيمون وغيرهم وقد ادّعوا اطّلاعهم على

__________________

(١). مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج ٣ ، صص ٩٧ ـ ٩٦ وهياكل النور ، ص ٨٤.

(٢). لم أعثر على مأخذ هذه الرواية ولكن يوجد «ملك الجبال» في : الاحتجاج ، ج ١ ، ص ٣١٥ ؛ بحار الأنوار ، ج ١٠ ، ص ٣٠ ؛ حلية الأبرار ، ج ١ ، ص ٣٤٢ ، ٣٤٧ ؛ الخرائج والجرائح ، ج ٢ ، ص ٩٠٥ ؛ العمدة ، ص ٣٣٥ والمناقب (لابن شهرآشوب) ، ج ١ ، ص ١٨٥ و «ملك البحار» في : بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٤٣ وكامل الزيارات ، ص ١٤٣ و «ملك السحاب» في : بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ١١٥ ؛ الخرائج والجرائح ، ج ١ ، ص ٨٩ والصراط المستقيم (عليّ بن يونس العاملي) ، ص ٥٤.

(٣). س : افلاطن.

٤٣٩

وجودها بالمشاهدة الحقّة المتكرّرة المترتّبة على انسلاخهم عن الهياكل الظلمانية وبإيصالهم بها عند خلع الأبدان الناسوتية ؛ (١) وحكى أفلاطون عن نفسه أنّه خلع الظلمات ـ أي التعلّقات البدنية ـ وشاهدها ؛ وأيضا نقل عنه أنّه قال : «إنّي رأيت عند التجرّد أفلاكا نورية.» (٢)

وقد كان حكماء الفرس يسمّون كثيرا من أرباب الأنواع بأسام : فسمّوا ربّ صنم الماء «خرداد (٣)» وربّ الأشجار «مرداد» وربّ النار «ارديبهشت» وبالجملة يسمّون ربّ كلّ نوع باسم (٤) يخضعون له حتّى أنّهم تقدّسون ربّ نوع النبتة المسمّاة بهوم التي كانت يدخل في أوضاع نواميسهم ويسمّونه «هوم ايزد» وقال صاحب الإشراق : «بعض الفهلوة ـ وكأنّه زرادشت الحكيم ـ كان يسمّى المخلوق الأوّل «بهمن» والثاني «ارديبهشت» والثالث «شهريور» والرابع «اسفندارمذ» والخامس «خرداد» والسادس «مرداد» ؛ وقد خلق بعضهم من بعض كما يوجد السراج من السراج من غير أن ينقص من الأوّل شيء ؛ وزعم زرادشت أنّه رآهم واتّصل بهم وأخذ منهم العلوم الحقيقية.» (٥) وكان اصطلاحه تخالف اصطلاح الأكثر ؛ وعلى أيّ تقدير لا شبهة في وفاقهم على وجود أرباب الأنواع النورية.

[في نقد الأدلّة القائمة على ثبوت العقول العرضية]

اعلم أنّ هذه الأدلّة وإن أمكن المناقشة في / A ١٨٣ / بعضها إلّا أنّ مجموعها يفيد المطلوب ـ أي ينتهض بإثبات عقول عرضية ـ لكنّ ما ذكروه من كيفية صدور العقول الطولية والعرضية وعدد طبقاتها وتعيين جهات كلّ من الطولية والعرضية

__________________

(١). مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٥٦ ـ ١٥٥.

(٢). أثولوجيا ، صص ٢٣ ـ ٢٢.

(٣). س : جرداد.

(٤). س : باسمه.

(٥). انظر : شرح حكمة الإشراق : صص ٣٢٢ ـ ٣٢١ ومجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، ص ١٢٨.

٤٤٠