الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

عاش بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه ، وحاجتهم إلى ما عنده ، لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم ، وكثر سماع أهل الآفاق منه مرة بصفين وأعواما بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري عليّ البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث ، وفتاوى من فتاوى ، علم كل ذي حظ من العلم أن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه ، وبرهان ذلك أن من عمّر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرا قليلا قل النقل عنهم ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم ، إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس ، وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاما غير شهر ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء ، فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثا في هذه المدة الطويلة ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثا أو حديثين.

وفتاوى عمر موازنة لفتاوى علي في أبواب الفقه. فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثا إلى حديث ، وفتاوى إلى فتاوى ، علم كل ذي حسن علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ، ثم وجدنا الأمر كل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند وأربع وسبعين مسندا ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس ، لكل واحد منهما أزيد من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمان مائة مسند ونيف ، ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوى أكثر من فتاوى علي أو نحوها ، فبطل هذه الوقاح الجهال. فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحياء لاح كذبه وجهله ، فإنا غير متهمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته ، لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج ، وقد نزهنا الله عزوجل عن هذا الضلال في التعصب ، ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة ، وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الإفك في التعصب ، فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيه هم المتهمون فيه إما له وإما عليه ، وبعد هذا كله فليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن استعمله منهم على ما استعمله وعليه من أمور الدين.

٦١

فإن قالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استعمل عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن؟ قلنا لهم : نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لأقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن ، وقد استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل عليه‌السلام إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر كان يفتيان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليه‌السلام يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما. وقد استعمل عليه‌السلام أيضا على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير ، منهم أبو بكر ، وعمر ، ثم قد انفرد أبو بكر بالجمهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا.

وقال هذا القائل : إن عليا كان أقرأ الصحابة.

قال أبو محمد : وهذه القحة المجردة والبهتان لوجوه أولها : أنه رد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه عليه‌السلام قال : «يؤم القوم أقرؤهم ، فإن استووا فأفقههم ، فإن استووا فأقدمهم هجرة» ثم وجدناه عليه‌السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فيها وعلي بالحضرة يراه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدوة وعشية فما رأى لها عليه‌السلام أحدا أحق من أبي بكر بها ، فصح أنه كان أقرؤهم وأفقههم وأقدمهم هجرة ، وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب أقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلا.

هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سواد القرآن كلّه ظاهرا إلا أنه قد وجب يقينا بتقديم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر على الصلاة وعليّ حاضر أن أبا بكر أقرأ من علي ، وما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقدم إلى الإمامة الأقل علما بالقراءة على الأقرإ أو الأقل فقها على الأفقه فبطل أيضا شغبهم في هذا الباب ـ والحمد لله رب العالمين.

وقال هذا الجاهل : كان عليّ أتقاهم لله.

قال أبو محمد : كذب هذا الأفاك ، ولقد كان علي رضي الله عنه تقيا إلا أن الفضائل يتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبا بكر. والبرهان على ذلك أنه لم يسؤ قط أبو بكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلمة ولا خالف إرادته عليه‌السلام في شيء قط ، ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفا عن شيء أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مرة واحدة عذره فيها رسول

٦٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجاز له فعله ، وهي إذ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قباء فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف ، وتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بالناس ، فلما سلم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما منعك أن تثبت حين أمرتك؟» فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنكر عليه‌السلام ذلك عليه. وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد وجب أنه أخشاهم لله عزوجل ، قال الله عزوجل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر : ٢٨] والتقى هو الخشية لله عزوجل.

وقال قائلون : علي كان أزهدهم.

قال أبو محمد : كذب هذا الجاهل ، وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو غروب النفس عن حب الصوت ، وعن المال ، وعن اللذات ، وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى ، فأما غروب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم ، فأنفقها كلها في ذات الله تعالى ، وعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عزوجل ، ولم يعتق عبيدا جلدا يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عزوجل ، حتى هاجر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق لبنيه منها درهما ، ثم أنفقها كلها في سبيل الله عزوجل حتى لم يبق له شيء إلا عباءة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها ، إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عزوجل أزهد ممن أنفق وأمسك ، ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال ، وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عزوجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره ، إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عزوجل لهم ، إلا أنّ من أثر على نفسه أفضل ، ولو لا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه

٦٣

إلا من كان مثله ، فهذا هو الزهد في المال واللذات ، ولقد تلا أبا بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات ، وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد ، سوى الخدم والعبيد ، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى ، وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ، ومن جملة عقاره التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمرا سوى زرعها فأين هذا من هذا؟؟؟

وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار ، فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ، ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحبة قديمة وهجرة سابقة ، وفضل ظاهر ، فما استعمل أبو بكر رضي الله عنه منهم أحدا على شيء من الجهات ، وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة أعمالها ، وعمان وحضر موت والبحرين واليمامة والطائف ومكة وخيبر ، وسائر أعمال الحجاز ، ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلا ، ولكن خشي المحاباة وتوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ، ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد وكثرتها ، وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان ، إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ، ثم أسرع عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من أفخاذ الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم بن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ، ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ، ولا استعمل عمر ابنه عبد الله على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي به الناس وكان لذلك أهلا ، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ، ووجدنا عليا رضي الله عنه إذ ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة ، وعبيد الله بن العباس على اليمن ، وخثعم ومعبدا بني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب على خراسان ، ومحمد بن أبي بكر ، وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر ، ورضي ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة ، ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة ، فكيف إمارة البصرة؟ لكنا نقول إن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه ، وفي تأمير مثل طلحة بن عبيد الله

٦٤

وسعيد بن زيد ، فلا شك في أنه أتم زهدا أو أعزب عن جميع معاني الدنيا يقينا ممن أخذ منها مما أبيح له أخذه ، فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده.

وقال هذا القائل : وكان عليّ أكثرهم صدقة.

قال أبو محمد : وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عزوجل فأشهر من أن يخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين؟ ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره ، فصح أن أبا بكر أعظم صدقه وأكثر مشاركة وغنى في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه.

وقالوا : علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وحدثنا.

قال أبو محمد : أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن عليا مات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة ، فصح أنه كان حين هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكانت مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه‌السلام ولعلي عشرة أعوام ، فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ، ولا أن عليه إثما إن أبى ، فإن أخذ الأمر على قول من قال إن عليا مات وله ثمان وخمسون سنة ، فإنه كان إذ بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن خمسة أعوام ، وكان إسلام أبي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة ، وهو الإسلام المأمور به من عند الله عزوجل ، وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بلا شك أسبق من سابقة علي ، وأما عمر فإن كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن عناء كان أكثر من عناء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ على حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي. وأما كونه لم يعبد قط وحدثنا فنحن وكل مولود في الإسلام لم نعبد قط وحدثنا ، وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر ، وحمزة وجعفر ، رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك؟ معاذ الله من هذا ، فإنه لا يقوله مسلم ، فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلا على أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان ذلك يوجب له فضلا زائدا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل ، لأنها كانت إذ هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنت ثماني سنين وأشهر ، ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين ، وعلي ولد

٦٥

وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنين ، وعبد الله بن عمر أيضا أسلم أبوه وله أربع سنين لم يعبد قط وحدثنا ، فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة.

وقال بعضهم : علي كان أسوسهم.

قال أبو محمد : وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر ، فقد درى البعيد والقريب والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من ساس الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذعن الجميع للتقية وقبول ما دعت إليه العرب حاشا أبا بكر ، فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجا كما خرجوا منه أفواجا وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين؟ ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره؟ ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرّة ملكهما حتى أخضع حدود فارس والروم ، وصرع جلودهم (١) ، ونكس راياتهم وأظهر الإسلام في أقطار الأرض وذلّ الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم ، واستغنى فقيرهم ، وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرءوا القرآن ، وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ..؟ ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين ، وضرب المسلمين بعضهم وجوده بعض بالسيوف ، وشك بعضهم قلوب بعض بالرماح ، وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف ، وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب ، أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيرا مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم ، فلم يجتمع المسلمون إلى اليوم فأين سياسة من سياسة؟

قال أبو محمد : فإذ قد بطل كلّ ما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلا على دعاوى ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها ، وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى ، والسبق المبرز ، والحظ الأسنى ، في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية ، والصدقة ، والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة ، فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : ولم نحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف ، فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقينا ،

__________________

(١) أي أقوياءهم ، جمع : جلد.

٦٦

فكيف والنص على خلافته صحيح ..؟ وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضا بما ذكرنا ، وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعا ، ثم أجمعت الأمة كلها أيضا بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها ، وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه.

قال أبو محمد : ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عزوجل : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [سورة التوبة : ٤٠]. فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر ، فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنه خصه باسم الصحبة له ، وبأنه ثانيه في الغار ، وأعظم من ذلك كله أن الله معهما ، وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.

قال أبو محمد : فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال : قد قال الله عزوجل : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) [سورة الكهف : ٣٤].

قال : وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عزوجل لما نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : وهذه مجاهرة بالباطل. أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وبأنهما مختلفان ، فإنما سماه صاحبه في المحاورة والمجالسة فقط ، كما قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [سورة الأعراف : ٨٥].

فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب ، فليس هكذا قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بل جعله صاحبه في الدين والهجرة ، وفي الإخراج وفي الغار ، وفي نصرة الله تعالى لهما وإخافة الكفار لهما ، وفي كونه تعالى معهما ، فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن ، وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان غاية الرضا لله ، لأنه كان إشفاقا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم ، وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيبا ، لأن الله عزوجل قال لموسى عليه‌السلام :

٦٧

(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [سورة القصص : ٣٥].

ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لموسى : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [سورة طه : ٦٦] فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكليمه قد كان أخبره الله عزوجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه ، وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ، ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عزوجل إليه لا تخف ، فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر. وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان رضا لما نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزم أشد منه لموسى عليه‌السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا ، بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم ، وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضا لله تعالى قبل أن ينهى عنه ، ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن ، وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله عزوجل قال : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) [سورة لقمان : ٢٣].

وقال تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [سورة النحل : ١٢٧].

وقال تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة يونس : ٦٥].

وقال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [سورة فاطر : ٨].

وقال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [سورة الكهف : ٦].

ووجدناه عزوجل قد قال : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [سورة الأنعام : ٣٣].

وقاله أيضا في الأنعام. فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنه الذي يقولون ، ونهاه عزوجل عن ذلك نصا ، فيلزمهم في حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أرادوا في حزن أبي بكر سواء سواء. ونعم إن حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عزوجل وما حزن عليه‌السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن ، كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عزوجل قبل أن ينهاه عزوجل عن الحزن ، وما حزن أبو بكر قط بعد أنهاه عليه‌السلام عن الحزن ، فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يومئذ ..؟!! لكن نهاه عليه‌السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٢٤].

٦٨

فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم ، وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد : واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب خلف أبي بكر ورضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر ، وأخذ براءة من أبي بكر ، وتولى عليّ تبليغها إلى أهل الموسم وقراءتها عليهم.

قال أبو محمد : وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميرا على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم ، لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته ، وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك ، وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي ، وعلى سواه ، وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : إلا أن ترجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه ، فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم ، إلى كل عالم وجاهل ، فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرنا بأنه أوحاه الله تعالى إليهم فمن تعرض إلى هذا فقد أقر بعين عدوه.

قال أبو محمد : وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رادّ لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام ، مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : ولسنا من كذبهم في تأويلهم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [سورة الإنسان : ٨] وأن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك.

قال أبو محمد : فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراهين المذكورة ، وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أبي بكر : «دعوا لي صاحبي فإنّ النّاس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت» (١).

__________________

(١) رواه البخاري في تفسير سورة الأعراف باب ٣ (حديث رقم ٤٦٤٠) من طريق أبي الدرداء

٦٩

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ولكنّه أخي وصاحبي». (١)

وهذا الذي لا يصح غيره ، وأما إخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ، ومنها أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر. وهذا هو الذي لا يصح غيره.

ومنها غضبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة. ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أمنّ الناس عليّ في ماله أبا بكر» (٢) وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سئل من أحب الناس إليك يا رسول الله قال : «عائشة». قيل : فمن الرجال؟ قال : «أبوها». قيل : ثم من يا رسول الله؟ قال : «عمر».

قال أبو محمد : فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص.

قال أبو محمد : واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما؟

قال أبو محمد : والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي ، والله أعلم ، لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان أقرأ وكان علي أكثر فتيا ورواية ، ولعلي أيضا حظّ قوي في القراءة ، ولعثمان أيضا حظ قوي في الفتيا والرواية ، ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ، ثم انفرد عثمان بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان ، وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم

__________________

رضي الله عنه ، أوله : «كانت بين أبي بكر وعمر محاورة ...» وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت».

(١) رواه من طرق متعددة : البخاري في الصلاة باب ٨٠ ، وفضائل الصحابة باب ٣ و ٥ ، والفرائض باب ٩. ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث ٢٨ ، وفضائل الصحابة حديث ٢ ـ ٧. والترمذي في المناقب باب ١٤ ـ ١٦. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. والدارمي في الفرائض باب ١١. وأحمد في المسند (١ / ٢٧٠ ، ٣٥٩ ، ٣ / ٤٧٨ ، ٤ / ٤ ، ٥ / ٢١٢).

(٢) رواه البخاري في مناقب الأنصار باب ٤٥. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢. والترمذي في المناقب باب ١٥.

٧٠

يحضر بدرا فألحقه الله عزوجل فيهم بأجره التام وسهمه ، فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم ، ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي ، وسيرة في الإسلام هادية ، ولم يتسبب بسفك دم مسلم ، وجاءت فيه آثار صحاح ، وأن الملائكة تستحي منه (١) وأنه ومن اتبعه على الحق. والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (٢). وقوله عليه‌السلام : «لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» (٣) وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل. وعهده عليه‌السلام : «أنّ عليّا لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق» (٤) وقد صحّ مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر (٥) وأما «من كنت مولاه فعلي مولاه» (٦) فلا يصح من طريق الثقات أصلا. وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.

قال أبو محمد : ونقول نفضّل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعا إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون ، وعليّ وجعفر ، وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن

__________________

(١) رواه من طرق : مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٦ ، وأحمد في المسند (١ / ٧١ ، ٦ / ٦٢ ، ١٥٥ ، ٢٨٨). ولفظه عند مسلم : «... ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة؟».

(٢) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب ٩. والترمذي في المناقب باب ٢٠. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (١ / ١٧٠ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٣ / ٣٢).

(٣) رواه البخاري في الجهاد باب ١٠٢ و ١٢١ و ١٤٣ ، وفضائل الصحابة باب ٩ ، والترمذي في المناقب باب ٢٠.

(٤) رواه الترمذي في المناقب باب ٢٠. والنسائي في الإيمان باب ٩ و ٢٠. وأحمد في المسند (٦ / ٢٩٢).

(٥) رواه بلفظ : «من أبغض الأنصار أبغضه الله» البخاري في مناقب الأنصار باب ٤. ومسلم في الإيمان حديث ١٢٩. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٤ / ٩٦ ، ١٠٠ ، ٢٢١). وبلفظ : «لا يبغض الأنصار رجل .. الخ» مسلم في الإيمان حديث ١٢٩ و ١٣٠. والترمذي في المناقب باب ٦٥. وأحمد في المسند (١ / ٣٠٩ ، ٢ / ٤١٩ ، ٥٠١ ، ٥٢٧ ، ٣ / ٤٥ ، ٧٢ ، ٩٣ ، ٤٢٩).

(٦) جزء من حديث حجة الوداع. رواه من طرق الترمذي في المناقب باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند (١ / ٨٤ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٥٢ ، ٣٣١ ، ٤ / ٢٦٨ ، ٢٧٠ ، ٢٧٢ ، ٥ / ٣٤٧ ، ٤١٩).

٧١

مسعود ، وسعد وزيد بن حارثة ، وأبي عبيدة وبلال ، وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر ، وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم. ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ، ثم أهل بدر ، ثم أهل المشاهد كلها مشهدا مشهدا. فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى يبلغ الأمر إلى أهل الحديبية ، فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا كلهم على الإيمان والهدى والبر ، كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة ، لقول الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [سورة الواقعة : ٩ ، ١٠]. ولقوله عزوجل : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) [سورة الفتح : ١٨].

قال أبو محمد : فمن أخبرنا أن الله عزوجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم ، وأنزل السكينة عليهم ، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ، ولا الشك فيهم البتة ، ولقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر» (١) ولإخباره عليه‌السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا. ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عزوجل : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [سورة الحديد : ١٠].

وقال تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) [سورة الروم : ٦].

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠١ ـ ١٠٣] فصح بالضرورة أن كل من أنفق من قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم ، والله

__________________

(١) رواه مسلم في صفات المنافقين حديث ١٢ ، والترمذي في المناقب باب ٥٨ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٢٢. وتمام الحديث عند مسلم : عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يصعد الثنيّة ثنيّة المرار ، فإنه يحط عنه ما حطّ عن بني إسرائيل» قال : فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ، ثم تتامّ الناس. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فأتيناه فقلنا له : تعالى يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : والله لأن أجد ضالتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم» قال : وكان رجل ينشد ضالّة له.

٧٢

تعالى لا يفضل إلا مؤمنا فاضلا ، وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف نحن. قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) [سورة التوبة : ١٠١].

قال أبو محمد : فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه لكن نقول : كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقينا ، لأنه قد وعدهم الله تعالى الحسنى كلهم ، وأخبر أنه لا يخلف وعده ، وأن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ، ولا يحزنه الفزع الأكبر ، وهو فيما اشتهى خالد. وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : لقد خاب وخسر من رد قول ربه عزوجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر ، وعمر وعثمان ، وعليا وطلحة ، والزبير ، وعمارا ، والمغيرة بن شعبة ، رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة ، والخوارج ، والروافض ، قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البراءة منهم ، خلافا لله عزوجل وعنادا له. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على عينهم واحدا واحدا إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ، ورفض الدنيا لغير عرض استعجله ، إلا أننا لا ندري على ما ذا مات ، وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم ، وتوقيرهم ، والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم ، لكن نتولاهم جملة قطعا ، ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ، ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار ، لكن نرجو لهم ونخاف عليهم ، إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عزوجل إلا بنص من عنده. لكن نقول كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ..» (١) ومعنى هذا الحديث إنما هو أن كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه‌السلام أكثر فضلا بالجملة من القرن الذي بعده ، لا يجوز غير هذا البتة. وبرهان ذلك أنه قد كان في عصر التابعين من هو أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلجة القيني ، والحجاج بن يوسف الثقفي

__________________

(١) رواه البخاري في الشهادات باب ٩ ، وفضائل الصحابة باب ١. والترمذي في الفتن باب ٤٥ ، والشهادات باب ٤ ، والمناقب باب ٥٦. وابن ماجة في الأحكام باب ٢٧. وأحمد في المسند (١ / ٢٧٨).

٧٣

وقتلة عثمان ، وقتلة الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم. فمن خالف قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول : إن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده ، كسفيان الثوري ، والفضيل بن عياض ، ومسعر بن كدام ، وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عينية ووكيع وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وداود به علي رضي الله عنهم ، وهذا ما لا يقوله أحد. وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل من أفضل رجل من التابعين عند الله عزوجل ، إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلا ، والحديث المأثور في أويس القرني لا يصح لأن مداره على أسيد بن جابر وليس بالقوي ، وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم بهم عن أويس القرني فلم يعرفه في قومه ، وأما الصحابة رضي الله عنهم فخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضلا بالقرابة فقط ، واحتج بقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [سورة آل عمران : ٣٣].

وبقوله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [سورة الشورى : ٢٣] وبقوله تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة : ١٢٩].

قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة فيه ، أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمني أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا ، لأن آزر والد إبراهيم عليه‌السلام كان كافرا عدوا لله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار ، فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران ، وأن إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف من آل إبراهيم مصطفون على العالمين ، فأي حجة هاهنا لبني هاشم؟

فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد.

فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق ، وهذا دعاء لكل مؤمن ، وقد قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة : ١٠٣].

٧٤

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى» (١) فهذا هو الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف ، وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصلي : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنو هاشم وغيرهم في إطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق ، وقال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة : ١٥٥] فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر واستوى في هذا كله بنو هاشم وقريش والعرب والعجم من كان جميعهم بهذه الصفة ، وأيضا فيلزم من احتج بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران : ٣٣] أن يقول : إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم ، وأشرف وأولى بالتقديم ، لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص.

قال أبو محمد : فصح يقينا أن الله عزوجل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم‌السلام فقط وبيّن هذا بيانا جليا قول الله عزوجل حاكيا عن إبراهيم عليه‌السلام أنه (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة : ١٢٤] فسوى الله تعالى بين الظالمين من ذرية إبراهيم عليه‌السلام وبين الظالمين من ذرية غيره. وقال عزوجل : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [سورة آل عمران : ٦٨] النبي عليه‌السلام فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه‌السلام ومن اتبع إبراهيم كائنا من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل.

وأما قول الله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [سورة الشورى : ٢٣] فهذا حق على ظاهره ، وإنما أراد عليه‌السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه‌السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ، ولا شك في أنه عليه‌السلام أراد من المسلمين مودة بلال ، وعمار وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى أبي حذيفة وأما قوله عزوجل عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة : ١٢٩] فقد قال عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا

__________________

(١) رواه البخاري في الدعوات باب ٣٢. وأبو داود في الزكاة باب ٧. والنسائي في الزكاة باب ١٣. وابن ماجة في الزكاة باب ٨. وأحمد بن حنبل في المسند (٤ / ٣٥٣ ، ٣٥٥ ، ٣٨١ ، ٣٨٣).

٧٥

بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [سورة إبراهيم : ٤] فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولا منهم ممن هم قومه. فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» (١) فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه الصلاة والسلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش ، وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل ، كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي ، وأن يكون بنو لاوي من بني إسحاق عليه‌السلام ، وكل نبي من عشيرته التي هو منها ، ولا يجوز غير هذا البتة ، ونسأل من أراد هذا الحديث على غير هذا المعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من بني إسماعيل النار أم لا؟ فإن أنكروا هذا كفروا ، وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن ، وقد قال عليه‌السلام : «أبي وأبوك في النار» (٢) و «إنّ أبا طالب في النار».

وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار ، وسائر كفار قريش في النار ، كذلك قال الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) [سورة المسد : ١ ـ ٣].

فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس.

قال أبو محمد : ويكذب هذا الظن الفاسد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا» (٣).

وأبين من هذا كله قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات : ١٣].

وقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [سورة الممتحنة : ٣].

__________________

(١) رواه مسلم في الفضائل (حديث ١) والترمذي في المناقب باب ١ ، وأحمد في المسند (٤ / ١٠٧) ..

(٢) رواه أبو داود في السنّة باب ١٧ ، وأحمد في المسند (٤ / ١٤).

(٣) رواه البخاري في الوصايا باب ١١ ، وتفسير سورة ٢٦ باب ٢. والنسائي في الوصايا باب ٦. والدارمي في الرقاق باب ٢٣. وأحمد في المسند (١ / ٢٠٦).

٧٦

وقوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [سورة لقمان : ٣٣].

وقال تعالى ، وذكر عادا وثمودا وقوم نوح وقوم لوط ، ثم قال : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [سورة القمر : ٤٣].

فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه أو أمه ، وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد ـ عليه وعلى رسل الله الصلاة والسلام ـ ما فيه الكفاية.

وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، فصح ضرورة أن بلالا ، وصهيبا ، والمقداد وعمارا وسالما ، وسلمان ، أفضل من العباس ، وبنيه عبد الله ، والفضل ، وقثم ، ومعبد ، وعبيد الله ، وعقيل بن أبي طالب ، والحسن والحسين ، رضي الله عن جميعهم ، بشهادة الله تعالى. فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات ، وليست الدنيا دار فضل ولا جزاء ، فلا فرق بين هاشمي وقرشي ، وعربي وعجمي ، وحبشي وابن زنجية لغير الكرم والفوز لمن اتقى الله عزوجل.

حدثنا محمد بن سعيد بن بيان ، أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن حسان بن قايد العبسي قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيا أو نبطيا».

٧٧

الكلام في حرب علي ومن حاربه

من الصحابة رضي الله عنهم

قال أبو محمد : اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق ، فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة ، وجمهور المعتزلة ، وبعض أهل السنة : إنّ عليا كان المصيب في حربه ، وكل من خالفه على خطأ.

وقال واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وأبو الهذيل ، وطوائف من المعتزلة إنّ عليا مصيب في قتاله معاوية ، وأهل النهر (١) ، ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل ، وقالوا : إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي. وقالت الخوارج : علي المصيب في قتاله أهل الجمل ، وأهل صفين ، وهو مخطئ في قتاله أهل النهر.

وذهب سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي ، وأهل الجمل ، وأهل صفين ، وبه يقول جمهور أهل السنة ، وأبو بكر بن كيسان.

وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين ، وطوائف ممن بعدهم ، إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل ، وأصحاب صفين ، وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين ، وقد أشار إلى هذا أيضا أبو بكر بن كيسان.

قال أبو محمد : أما الخوارج ، فقد أوضحنا خطأهم وخطأ أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم عليّ الحكمين ، فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم ، والحمد لله رب العالمين.

وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ، ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه. وذكروا أيضا أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى. فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه ، والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين.

__________________

(١) هم الخوارج من أهل النهروان.

٧٨

قال أبو محمد : احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال : إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض ، قال عزوجل : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [سورة الإسراء : ٣٣].

وقال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

قالوا : ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم ، وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم ، وقالوا : وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامة من فعل ذلك ووجوب حربه.

قالوا : وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا ، من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه ، فقد ينفذ مثلها سرا ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها.

قالوا : وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، لأنهم إنما أنكروا عليه استئثارا بشيء يسير من فضلات الأموال ، لم تجب لأحد بعينه فمنعها ، وتولية أقاربه ، فلما شكوا إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه ، وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ، ونفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحكم لم يكن حدا واجبا ، ولا شريعة على التأبيد ، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي ، والتوبة مبسوطة ، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وصارت الأرض كلها له مباحة ، وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ، ونفى أبا ذر إلى الربذة. وهذا كله لا يبيح الدم.

قالوا : وإيواء عليّ المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أعظم ، والمنع من إنفاذ الحق عليهم أشدّ من كل ما ذكرنا بلا شك.

قالوا : وامتناع معاوية من بيعة علي ، كامتناع علي من بيعة أبي بكر ، فما حاربه أبو بكر ، ولا أكرهه ، وأبو بكر أقدر على عليّ من عليّ على معاوية ، ومعاوية في تأخره عن بيعة علي أعذر وأفسح مقالا من علي في تأخره عن بيعة أبي بكر ، لأن عليا لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره ، بعد أن بايعه الأنصار ، والزبير ، وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها ، إما عليه وإما لا له ولا عليه ، ولا تابعه منهم إلا الأقلّ سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك ..؟

وأيضا فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كانت بيعة أبي

٧٩

بكر ، ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ، ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ، ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف فيه ، ولا عن شورى ، فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رأى البصيرة ، وراجع الحق عليه في ذلك.

قالوا : فإن قلتم خفي على عليّ نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر ، قلنا لكم : لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر إلى الصلاة ، وأمره عليا بأن يصلي وراءه في جماعة المسلمين ، فتأخره عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا لأبي بكر ، وسعي منه في فسخ نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تقديمه إلى الصلاة ، وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذنب ثم تاب منه ، وأيضا فإن عليا قد تاب واعترف بالخطإ ، لأنه إذ بايع أبا بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها ان بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين : إما أن يكون مصيبا في تأخره فقد أخطأ إذ بايع ، أو يكون مصيبا في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها. قالوا : والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطإ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته. قالوا : فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر ، وإن كان فعلهم صوابا فقد برئوا من الخطأ جملة. قالوا : والبون بين طلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعلي ، خفي جدا ، فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل تفوق عليهم ، ولا على واحد منهم ، وأما البون بين علي وأبي بكر أبين وأظهر ، فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل. قالوا : وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خبّاب بن الأرت فإن القضيتين استويا في التحريم ، فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عزوجل وعلى المسلمين أعظم جرما وأوسع خرقا ، وأشنع إثما ، وأهول فيقا (١) من المصيبة في قتل عبد الله بن خبّاب ، قالوا : وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على عليّ أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.

قال أبو محمد : هذا كل ما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ، ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده.

قال أبو محمد : نبدأ بعون الله عزوجل بإنكار الخوارج التحكيم.

__________________

(١) أهول فيقا : أي تفوقها.

٨٠