الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك ، وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصى والزجاج ، وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن ، والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة ، فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات ، وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات ، فهي حساسة لا محسوسة ، وإنما تعرف بآثارها ، وبراهين عقلية ، وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حسّاس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس ، وهي العالمة التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والرذائل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض المعروفة بالعقل ، والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام ، وهي مؤثرة مؤثّر فيها ، تألم وتلتذ وتفرح وتحزن ، وتغضب وترضى ، وتعلم وتجهل ، وتحب وتكره ، وتذكر وتنسى ، وتنتقل وتحل ، فبطل قول هؤلاء إن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها ، وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة.

وقالوا : كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض ، والعمق والسطح ، والشكل والكم والكيف ، فإن كانت النفس جسما فلا بد من أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها ، فأي الوجهين كان فهي إذن محاط بها ، وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ، ولا نرى الحواس تدركها فليست جسما.

قال أبو محمد : هذا كله صحيح وقضايا صادقة ، حاشا قضية واحدة ، ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها ، فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل ، وسائر ذلك صحيح ، وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضا إفسادنا لها آنفا مع تعرّيها عن دليل يصححها. ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ، ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ، ذات مكان وزمان ، لأن هذه خواص الجسم ولا بد ، والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا «فهي إذا مدركة بالحواس» وهذا عين الباطل لأنّ حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس ، لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ، ولا على السطح ولا على الشكل ، ولا على المساحة ، ولا على الكيفية ، ولا على الخط إنما تقع حاسة البصر على اللون فقط ، فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حينئذ حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلّا فلا ، وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ ، وعلمت ذلك المصوت بتوسط الصوت وإلا فلا.

٢٦١

وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة ، فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسّة الشم ، وعلمت حامل الرائحة حينئذ بتوسط الرائحة وإلا فلا ، وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسّة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا ، وإن كان في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليها حاسة اللّمس حينئذ وعلمت الملموس حينئذ بتوسط المجسة وإلا فلا.

وقالوا : إن من خاصة الجسم أن يقبل التجزؤ ، وإذا جزئ خرج منه الجزء الصغير والكبير ، ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير ، فلا يخلو حينئذ من أحد أمرين : إما أن يكون كل جزء منها نفسا فيلزم من ذلك ألا تكون النفس نفسا واحدة ، بل تكون حينئذ أنفسا كثيرة مركبة من أنفس ، وإما أن لا يكون كل جزء منها نفسا فيلزم أن لا يكون كلها نفسا.

قال أبو محمد : أما قولهم إن خاصة الجسم احتمال التجزؤ فهو صدق ، والنفس محتملة للتجزؤ لأنها جسم من الأجسام. وأما قولهم إن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم ، وأما في غير ذلك فلا ، وأما قولهم : إنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفسا وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزؤ بالقوة ، وإن كان التجزؤ بانقسامها غير موجود بالفعل. وهكذا القول في الفلك والكواكب ، كل ذلك محتمل للتجزؤ بالقوة ، وليس التجزؤ موجودا في شيء منها بالفعل. وأما قولهم إنها مركبة من أنفس فشغب فاسد ، لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسمّيات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره ، وإلا فقد وقع الإشكال وبطل التفاهم ، وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق. ووجدنا العالم ينقسم قسمين : أحدهما : مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركبا والثاني : مؤلف من طبيعة واحدة ، فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطا ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ، ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كلّه كالإنسان الجزئيّ فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنسانا كالعين والأنف واليد وسائر أعضائه التي لا يسمى عضو منها على انفراده إنسانا ، فإذا تألفت سمّي المتألف منها إنسانا. ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كلّه كالأرض والماء وكالهواء والنار وكالفلك ، فكل جزء من النار نار ، وكل جزء من الماء ماء ، وكل جزء من الهواء هواء وكل جزء من الفلك فلك ، وكل جزء من النفس نفس ، وليس ذلك موجبا أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء

٢٦٢

مؤلفا من أهوية ، ولا أن يكون الفلك مؤلفا من أفلاك ، ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس ، وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفسا وكل بعض من الفلك يسمى فلكا ، فما كان يكون في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق.

وقالوا أيضا : طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة ، فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها حركات فاسدة ، فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى؟

قال أبو محمد : وهذا كلام في غاية الفساد والهجنة ، ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم إن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها وإن كان لا يدري رذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم ، فأما قوله إن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة ، فقول ظاهر الكذب والمجاهرة ، لأن الأفلاك والكواكب أجسام وطبعها الحركة الدائمة المتصلة أبدا ، إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة.

وإن للعناصر دون الفلك أجساما وطبعها الحركة إلى مقرها ، والسكون في مقرها ، وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حينا وحينا ، هذا كله لا يجهله أحد به ذوق.

وأما قولهم : إن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى ....؟ فإنما كان بعض حركات النفس رديا لمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات ، وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات ، فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين.

وقالوا أيضا : إن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الانقسام أبدا بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبدا ، فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها. قالوا : والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسما لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها ، فيلزم من ذلك أن تحتاج النفس إلى نفس أخرى ، والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له ، وما لا نهاية له باطل.

قال أبو محمد : هذا أفسد من كل قول سلف من تشغباتهم لأنّ مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة. أما قولهم : إن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغيير على الإطلاق كذب ، لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة ، وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام

٢٦٣

المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضا ثم تبقى غير منحلة ولا مستحيلة.

وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فتتغير وتستحيل من علم إلى جهل ، ومن جهل إلى علم ، ومن حرص إلى قناعة ، ومن بخل إلى جود ، ومن رحمة إلى قسوة ، ومن لذة إلى ألم ، هذا كله موجود محسوس. وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفسا فلا ، وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب ، والفلك لا يصير غير فلك. وأما قوله إن الأجسام محتاجة إلى ما يشدّها ويربطها ويمسكها فصحيح ، وأما قوله : إن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني ، بل هو تمويه مدلس ليجوز باطله على أهل الغفلة ، وهكذا قول الدهرية ، وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق ، والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبتدئ للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض ، والمتمم لكل ذلك هو الله الخالق البارئ المصور عزوجل.

فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه ، وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك دون الله تعالى ، وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين.

وقالوا أيضا : كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس ، فإن كانت النفس جسما فهي متنفسة أي ذات نفس وإما لا متنفسة أي لا ذات نفس ، فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا وإن كانت متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى ، وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل.

قال أبو محمد : هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة. أما قولهم إن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح ، وأما قولهم إن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا فشغب فاسد بارد لا يلزم ، لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت إليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة ، مدبرة لذلك الجسم الذي

٢٦٤

استضافت إليه ، ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس إنما هو أنه لم تستضعف إليه نفس فالنفس هي الحية المحركة المدبرة ، وهي غير محتاجة إلى جسم مدبّر لها ولا محرّك لها ، فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفسا ، ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال إن الجسم يحتاج إلى جسم ، كما قالوا إنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسما كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفسا ، وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين.

وقالوا : لو كانت النفس جسما لكان الجسم نفسا.

قال أبو محمد : وهذا من الجهل المفرط المظلم ، ولو كان لقائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لم يأت بهذه الغثاثة ، لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاسا مطردا إلا موجبة جزئية لا كلية ، وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسما وجب أن يكون الجسم إنسانا ، ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون الجسم كلبا ، وهذا غاية الحمق والقحة ، لكن صواب القول في هذا أن نقول : لما كانت النفس جسما كان بعض الأجسام نفسا ، ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون بعض الأجسام كلبا ، وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطرادا صحيحا أبدا ، وبالله تعالى التوفيق.

وقالوا أيضا : إن كانت النفس جسما فهي بعض الأجسام ، وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها ، فيجب أن تكون أشرف منها.

قال أبو محمد : من عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق لسانه ، وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ، ولو كان ذلك لكانت الهضبة والباسة والحمار والبغل وكدش العذرة أشرف من الإنسان المنبأ والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت العزلة أشرف من ناظر العين والألية أشرف من القلب والكبد والدماغ ، والصخرة أشرف من اللؤلؤة ، وأفّ لكل علم أدّى إلى مثل هذا.

ونعم فإن كثيرا من الأجسام أعظم مساحة من النفس ، وليس ذلك موجبا أنها أشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز عن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان.

وقالوا : إن كانت النفس جسما آخر مع الجسم فالجسم نفس وشيء آخر ، وإذا كان ذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف.

قال أبو محمد : وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ،

٢٦٥

ولا بعموم اللفظ يجب الشرف ، بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ، ولو كان ما قالوه لوجب أن تكون الأخلاق جملة أشرف من الفضائل خاصة ، لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حكمهم السخيف أشرف ، وهذا ما لا يقوله ذو عقل ، وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس ، لأنه نفس وشيء آخر ، وقد قالوا إن الحيّ يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامي أشرف من الحيّ لأنه حيّ وشيء آخر ، وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس.

وقالوا أيضا : كل جسم يتغذّى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم.

قال أبو محمد : إن كان هؤلاء السخفاء إذا اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى ، بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر ، لأن سكر الخمر سريع الإفاقة ، وسكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة. أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وأن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى ، وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط؟ فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسما فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كلّ ذلك جسما ، وكفى بهذا جنونا وخطأ ونحمد الله على السلامة.

وقالوا : لو كانت النفس جسما لكانت لها حركة ، لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسما.

قال أبو محمد : هذه ، دعوى كاذبة ، وقد تناقضوا أيضا فيها لأنهم قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم إن الأجسام غير متحركة ، والنفس متحركة ، وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقلهم ، وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة فليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ، ويلزمهم إذا أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضا لا يرونها ولا يشمونها ، ولا يلمسونها ولا يذوقونها ، وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار ، فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقينا وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك. فإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم ، فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح ، لا تلك الوساوس ولا هذا. ونحمد الله على نعمه عزوجل.

٢٦٦

وقالوا : لو كانت النفس جسما لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة.

قال أبو محمد : فبعد هذا ما ذا؟ ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك ، إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة ، وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل.

وقالوا أيضا : إن كانت النفس جسما فكيف يعرف الجسم؟ أبمماسة أم بغير مماسة؟ قال أبو محمد : الأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئا وإنما العلم والحس للنفس فقط ، فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خالقها أيضا بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عزوجل ، وسؤالهم بارد.

وقالوا أيضا : إن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها ، وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف ، وليست الأنفس كذلك ، لأننا نرى أنفس المكتهلين أكثر ضياء وأنفذ فعلا ، ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث ، فلو كانت النفس جسما لنقص فعلها بنقصان البدن ، فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسما.

قال أبو محمد : هذه مقدمة فاسدة الترتيب ، أما قولهم : إن الجسم أجود ما يكون إذا انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم ، وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبوليّتة فقط ، كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات.

وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط ، وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت ، كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان ، وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ، ولا نماء لها ، وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها ، وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك ، والنفس كذلك متنقلة من عالم الابتداء إلى عالم الابتلاء إلى البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء ، فتخلد فيه أبدا بلا نهاية ، وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفى نظرا وحسا وأصح علما كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين

٢٦٧

قال أبو محمد : هذا كله ما موهوا به من كل نطيحة ومتردية ، قد تقصيناه لهم وبينا أنه كله فساد وحماقات ، ونقضناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فإذ قد بطل كل ما شغب به من يقول إن النفس ليست جسما ، وسقط هذا القول لتعرّيه عن الأدلة جملة ، فنحن إن شاء الله عزوجل نوضح بعون الله عزوجل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد. وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عزوجل شعبين يمكن أن يعترض بهما : إن قال قائل : أتنمو النفس ...؟ فإن قلتم لا ، قلنا لكم نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر ، وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ، ونجدها تسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت.

قال أبو محمد : النفس لا تتغذّى ولا تنمّى ، أما عدم غذائها فالبرهان القائم بأنها ليست مركبة من الطبائع الأربع ، وأنها بخلاف الجسد ، هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بدّ له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته ، مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحرّ ، وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ، ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتا كالجسد غير حساسة ، فإذ قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية. وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عزوجل الذي هو مدبرها ، إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدرى كيف هو وغير ذلك مما يوجده الله تعالى ويعلمه.

ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمّى : أن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور ، وأنها باقية بعد انحلاله ، وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماء أصلا ، وأمّا ما ظنوه من نشأتها من صغر إلى كبر فخطأ ، وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد.

وإن سأل سائل أتموت النفس؟ قلنا : نعم ، لأنّ الله تعالى نصّ على ذلك فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران : ١٨٥].

وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط ، برهان ذلك قول الله تعالى : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) [سورة الأنعام : ٩٣]. وقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة البقرة : ٢٨].

٢٦٨

فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه ، وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط ، وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من أنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة ، كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ، ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان ، وعلمها أتم ما كان ، وحياتها التي هي الحس والحركة الإراديّة باقية بحسبها أكمل ما كانت قط ، قال عزوجل : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت : ٦٤].

وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، عن الميمنة من آدم عليه‌السلام ومشملته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة. وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ، ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : فلنذكر الآن إن شاء الله تعالى البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام. فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص ، فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون إنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن يكون نفس المحب هي نفس المبغض هي نفس المحبوب ، وأن يكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ، ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ، ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به. فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضنا ، فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه.

وبرهان آخر وهو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلا ولا حظ ، فلو كان النفس جوهرا واحدا لا يتجزأ نفوسا لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستويا لا تفاضل فيه ، لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة ، فكان يجب أن ، يكون كل ما علمه زيد يعلمه عمرو ، لأن نفسهما واحدة عندهم غير منقسمة ولا متجزئة ، فكان يلزم ولا بدّ أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كلّ عالم في الدنيا ، لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة ، وهذا ما لا انفكاك منه البتة. فقد صحّ بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره ، وأن أنفس النّاس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان ، وأن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية ، التي يقع تحتها أنفس جميع الحيوان.

وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ،

٢٦٩

لا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فإن النفس لا تخلو من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك ، فإن كانت خارج الفلك هذا باطل إذ قام البرهان على تناهي جرم العالم ، وإذا تناهى جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو كان وراءهما شيء لم تكن نهاية ، فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية العالم شيء لا خلاء ولا ملاء ، وإن كانت في الفلك فهي ضرورة ، إما ذات مكان وإمّا محمولة في ذي مكان ، لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلا ، ومن ادّعى أن للعالم شيئا ثالثا فقد ادّعى المحال والباطل ، وما لا دليل له عليه ، وهذا لا يعجز عنه أحد ، وما كان هكذا فهو باطل بيقين.

وقد قام الدليل على أن النفس ليست عرضا لأنها عالمة حساسة ، والعرض ليس عالما ولا حساسا ، فصح أنها حاملة لصفاتها لا محمولة فإذ هي حاملة متمكنة فهي جسم لا شك فيه ، إذ ليس إلا جسم حامل أو عرض محمول ، وقد بطل أن تكون عرضا محمولا فهي جسم تحت حسّ حامل وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا : فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس ، أو لا واقعة تحت جنس. فإن كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات ، وليس في العالم شيء خارج عنها ، ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له ، وهم لا يقولون بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر ، فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر الجامع للنفس وغيرها أله طبيعة أم لا؟ فإن قالوا : لا ، وجب أن كلّ ما تحت الجوهر لا طبيعة له ، وهذا باطل وهم لا يقولون بهذا ، فإن قالوا : لا ندري ما الطبيعة. قلنا لهم : أله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا؟ فلا بد من نعم وهذا هو معنى الطبيعة ، وإن قالوا بل له طبيعة ، وجب ضرورة أن يعطى كل ما تحته طبيعة ، لأن الأعلى يعطي كلّ ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحا ، والنّفس تحت الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك ، وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد حصرته طبيعته ، وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدودة ، وكل ذي نهاية فهو إما حامل وإما محمول ، والنفس بلا شك حاملة لأعراضها من الأضداد كالعلم ، والجهل ، والذكاء والبلادة والنجدة ، والجبن ، والعدل ، والجود والقسوة ، والرحمة ، وغير ذلك ، وكل حامل ذو مكان ، وكل ذي مكان فهو جسم ، فالنفس جسم ضرورة. وأيضا : فكل ما كان واقعا تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس ، وكلّ نوع فهو مركب من جنسه الأعلى العام له من أنواعه ، ومركب أيضا مع ذلك من فصله الخاص له ، المميّز له من سائر

٢٧٠

الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد ، فإنه موضوع وهو جنسه القابل لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع ومحمول فهو مركب ، والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة بنفسها فهي جسم ولا بد.

قال أبو محمد : وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محية عنها ، وبالله تعالى التوفيق.

وهذا قول جماعة من الأوائل ، ولم يقل أرسطاطاليس إن النفس ليست جسما على ما ظنه أهل الجهل ، وإنما نفى أن تكون جسما كدرا وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه. ثم لو صح أنه قالها لكانت وهلة ودعوى بلا برهان عليها ، وخطأ لا يجب اتباعه عليه ، وهو يقول في مواضع من كتبه : اختلف أفلاطون والحق وكلاهما إلينا حبيب غير أن الحق أحب إلينا ، وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بدّ أن يختلف أرسطاطاليس والحق ، وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قاله ...؟

قال أبو محمد : وإنما قال إن النفس جوهر لا جسم من ذهب ، إلا أنها هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصابئين ومن كنى بها عن الله تعالى.

قال أبو محمد : وكلا القولين سخيف وباطل ، لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين ، فإحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس.

قال أبو محمد : وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقوله يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة ، فأما القرآن فإن الله عزوجل قال : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) [سورة يونس : ٣٠] وقال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [سورة غافر : ١٧] وقال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [سورة الطور : ٢١].

فصح أن النفس الفعّالة الكاسبة المجزيّة المخاطبة.

وقال تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [سورة يوسف : ٥٣]. وقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر : ٤٦] وقال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [سورة البقرة : ١٥٤] وقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة آل عمران : ١٦٩].

٢٧١

فصح أن النفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فتعذب ، ومنها ما يرزق وينعم فرحا ويكون مسرورا قبل يوم القيامة ، ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها ، وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء.

فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ، ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس فليست عرضا ، وصح أنها تشغل الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائلين به. فصح ضرورة أنها جسم.

وأما من السنن فقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه رأى نسم بني آدم عند سماء الدّنيا عن يمين آدم ويساره» (٢). فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها. وقوله عليه‌السلام إن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى سماء الدنيا ، وفعل بها كذا ، ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها؟؟؟؟. فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن ، وهذه صفة الأجسام ضرورة.

وأما من الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى ضيق وتعذيب ، وهذه صفة الأجسام ، ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخرى فهو كافر مشرك حلال الدّم والمال ، لخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ، ومعنى قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء : ٨٥] إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا ، وليس الروح كذلك ، وإنما قال تعالى آمرا له بالكون «كن» فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد. وقد تقع الروح أيضا على غير هذا ، فجبريل عليه‌السلام الرّوح الأمين ، والقرآن روح من عند الله تعالى ، وبالله تعالى التوفيق.

فقد بدل قولهم في النفس وصح أنها جسم ، ولم يبقى إلا الكلام في الجزء الذي ادّعوا أنّه لا يتجزأ.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص ٢٥٧ ، حاشية (٣).

(٢) تقدم تخريجه ص ٢٥٧ ، حاشية (٢).

٢٧٢

الكلام في الجزء الذي ادّعوا أنه لا يتجزأ

قال أبو محمد : ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار ، ولا يمكن البتة أن يكون لها تجزؤ ، وأن تلك الأجسام جواهر لا أجسام. وذهب النظّام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه ما من جزء وإن دق ، إلا وهو يحتمل التجزؤ أبدا بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزء لا يتجزأ وأن كل جزء يقسم الجسم إليه فهو جسم أيضا وإن دق أبدا.

قال أبو محمد : وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب ، وكلها راجع بحول الله تعالى وقوته عليهم ، ونحن إن شاء الله عزوجل نذكرها كلها ، ونتقصى لهم كل ما موّهوا به ونرى بعون الله عزوجل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ، ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبدا ، وأنه ليس في العالم جزء لا يتجزأ أصلا ، كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فأول مشاغبهم أن قالوا : أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشى فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية؟ فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال ، وإن قلتم ذا نهاية فهذا قولنا.

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين : إما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا ذو حياء ، وإما أنهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى ، وفي أحد هذين القسمين وجدنا كلّ من ناظرناه منهم في هذه المسألة ، وهكذا عرض لنا سواء سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه ، فإنهم أيضا أحد رجلين : إما جاهل بقولنا فهو بقولنا ما لا نقوله ، ويتكلم في غير ما اختلفنا فيه ، وإمّا مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجرأة على الكذب ، وعجزا عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء ، وأننا ننكر قضايا العقول ، وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه لهما ما اشتبها فيه ، وهذا كله كذب علينا بل نحن نقرّ بذلك كله ونقول به ، وإنما ننكر أن

٢٧٣

نحكم في الدّين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما ، فهذا هو الباطل البحت والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه.

ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه : إننا لم ندفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ، ونقطع على أن كل جسم فله مساحة أبدا محدودة ولله الحمد. وإنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وإن دقّ ، وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة.

ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته ، وإنما تكلف عملا أو مشيا في مساحة معدودة بالميل أو بالذراع أو بالشبر أو الإصبع أو ما أشبه ذلك ، وكل هذه له نهاية ظاهرة ، وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيرا.

ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزؤ ، وهذا هو إثبات النهاية لكل جسم انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة ، وأنتم تقولون إن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ ، وليست أجساما ، وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيئا غيرها أصلا ، وأن تلك الأجزاء ليست لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة أن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو غيرها ، وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له فالجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان ، وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل.

والاعتراض الثاني : أن قالوا : لا بدّ أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء يتقطع ذلك الجرم فيه. قالوا : وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ.

قال أبو محمد : وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة ، بل نقول إن لكل جرم نهاية وسطحا ينقطع تماديه عنده ، وأن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو تناه محدود ، ولكنه محتمل للتجزؤ أيضا ، وكل ما جزئ فذلك الجزء هو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها ، لا ما ظنّوا من أن حدّ الجرم جزء منه هو ، وحدّه الملاصق للجرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا ، لكن الجزء هو الملاصق للجرم بسطحه ، فإذا تجزأ كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو

٢٧٤

الملاصق له حينئذ بسطحه ، لا الذي ميز عن ملاصقته. وهكذا أبدا والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق.

والاعتراض الثالث أن قالوا : هل ألّف أجزاء الجسم إلا الله؟ فلا بد من نعم. قالوا : فهل يقدر الله تعالى على تفريق أجزائه حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل تلك الأجزاء التجزؤ أم لا يقدر على ذلك؟ قالوا : فإن قلتم لا يقدر عجّزتم ربكم ، وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ.

قال أبو محمد : هذا من أقوى شبههم التي شغبوا بها وهو حجة لنا عليهم ، والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : إن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عزوجل ، ولا كان له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عزوجل ، لكن الله تعالى خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له «كن» فكان أو بأن قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه «كن» فكان ذلك الجرم ، ثم إن الله تعالى خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام التي خلقها مفرقة ثم جمعها ، وخلق تفريق كلّ جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعا ثم فرّقها ، فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة ، وهذا باطل لأنه دعوى لا برهان عليها. ولا فرق بين من قال إن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزءا واحدا وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل ، بل القرآن جاء بما قلناه نصا قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل : ٤٠].

ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض ، فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جرم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له «كن» فكان ، ولم يقل عزوجل قط ألف كل جرم من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عزوجل حقّا ، فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به. ثم نقول لهم : إن الله تعالى قادر على أن يخلق جسما لا ينقسم ، ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه ، كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضا قائما بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية العالم ولا يخلقه ، لأنهما مما رتبة الله عزوجل محالا في العقول ، والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئا منها إلا أنه تعالى لا يفعل كلّ ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق.

٢٧٥

ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم : هل يقدر الله عزوجل على أن يقسم كل جزء ويقسم كل قسم من أقسام الجسم أبدا بلا نهاية أم لا؟ فإن قالوا : لا يقدر على ذلك عجّزوا ربهم حقا وكفروا ، وهو قولهم دون تأويل ولا إلزام ، ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة. وإن قالوا إنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة.

ونحن لم نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء ، وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن : إن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك ، وقالوا هم بل غير قادر على ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقى حينئذ عاجزا ، تعالى الله عن هذا الكفر ، ولعمري إن أبا الهذيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنينا شديدا وقد صرّح بأن لما يقدر الله عليه كلّا وآخرا لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادرا بعد على تحريك ساكن ، ولا تسكين متحرك ، ولا على فعل شيء أصلا ، ثم تدارك كفره فقال : ولا يخرج ذلك الآخر أبدا إلى حد الفعل.

قال أبو محمد : فيقال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم؟ فلا بد من طول الزمن من البلوغ إلى ذلك الآخر.

قال أبو محمد : نعوذ بالله من الضلال.

والاعتراض الرابع : هو أن قالوا أيما أكبر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين؟ قالوا : فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزؤ ، وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ ، وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكبر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكبر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان ، لأنه لا يحدث في الخردلة جزء إلا ويحدث في الخردلتين جزءان ، وفي الجبل أجزاء. وادّعوا علينا أننا نقول إن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعددها ولا آخر لها ، وأن من قطع بالمشي مكانا ما أو قطع بالجملتين شيئا فإنما قطع ما لا نهاية لعدده ، وقالوا إن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في أعداد الأشخاص وأوقات الزمان ، وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية ، وإنكاركم على الدّهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها ، قالوا : ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان.

٢٧٦

قال أبو محمد : هو الذي قلنا إنهم إما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقوّلونا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة ، وإما أنهم عرفوا قولنا فحرّفوه قلة حياء واستحلالا للكذب ، وجرأة على عاجل الفضيحة لهم في كذبهم ، وعجزا منهم عن كسر الحق ونصر الباطل ، فاعلموا أن كل ما نسبوه إلينا من قولنا إن من قطع مكانا أو شيئا بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط ، بل ما قطع إلا ذا نهاية بمساحته وبزمانه ، وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية.

وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل ، والفرق بين ما قلناه من أن كل جزء فهو يتجزأ أبدا بلا نهاية ، وبين ما احتججنا به على الدّهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في أعداد الأشخاص والأزمان ، وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها ، بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد ، وذلك أن الدهريّة أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ، ووجود أزمان قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع.

وهكذا قلنا في كل جزء يخرج إلى حدّ الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ، ولم نقل إن أجزاءه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها ، بل هذا باطل محال. ثم إن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان ، وفي قسمة الجزء أبدا بلا نهاية ، لكن كل ما يخرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص أو الأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبدا. وأمّا ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزّؤ فليس شيئا ، ولا هو عددا ، ولا معدودا ، ولا يقع عليه عدد ، ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزء بعد ، وكل ذلك عدم ، وإنما يكون الجزء إذا جزئ بقطع أو برسم مميز قبل أن يجزأ ، وبهذا يتبين غثاثة سؤالهم في أيمان أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلتين؟ لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة أو الخردلتان إذا لم تجزءان فلا أجزاء لها أصلا بعد ، بل الخردلة جزء واحد ، والجبل جزء واحد ، والخردلتان كلّ واحدة منهما جزء ، فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء ، وقسّم الجبل جزءين وقسمت الخردلتان جزءين ، فالخردلة الواحدة بيقين أكثر أجزاء من أجزاء الجبل والخردلتين ، لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط ، فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواء ، ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء كانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة. وهكذا في كل شيء ، فصح أنه لا يقع التجزؤ في شيء إلا إذا قسّم لا قبل ذلك. فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في

٢٧٧

الخردلة الواحدة؟ فهذا ما لا شك فيه أن التجزؤ أمكن لنا في الجبل وفي الخردلتين منه في الخردلة الواحدة ، لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيرا حتى إنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ بتجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا.

وأما قدرة الله عزوجل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية ، وكل ذلك عليه تعالى هيّن سواء ، ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر على قسمة الخردلة أبدا بلا نهاية ، وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.

ونزيد بيانا فنقول : إن الشيء قبل أن يجزأ يكون جزءا فإذا جزئ بمنصفين أو جزءين فهو جزءان فقط ، فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فهو ثلاثة أجزاء فقط وهكذا أبدا.

وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزئ بعد فهو وساوس وظن كاذب ، لكنه يحتمل للانقسام والتجزؤ ، وكل ما قسم وجزئ فكل جزء ظهر منا فهو معدود متناه وكذلك كل جسم ، فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبدا بلا نهاية ، إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبدا ، وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد ، فإن كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية ، والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبدا بلا نهاية.

والزّيادة في العدد ممكنة أبدا بلا نهاية ، إلا أن كلّ ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد. ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق :

أتفضل عندكم قدرة الله عزوجل على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة؟ وهل يأتي حال يكون الله تعالى فيها قادرا على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا؟ فإن قالوا : بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة ، وأقروا بأنه تأتي حال يكون الله تعالى فيها قادرا على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا ، وعجّزوا ربهم ، وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية ، وهذا كفر مجرد ، وإن أبوا من هذا وقالوا إن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ، ورجعوا إلى

٢٧٨

قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين.

والاعتراض الخامس : هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كلّ أم ليس لها كل؟ وهل يعلم الله تعالى عدد أجزائها أم لا يعلمه؟ فإن قلتم : لا كلّ لها ، نفيتم النهاية عن المخلوقات الموجودات وهذا كفر.

وإن قلتم : إن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم. وإن قلتم إن لها كلّا الله تعالى يعلم عدد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ.

قال أبو محمد : وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على الغفلة ، وهو أنهم أقحموا لفظة «كلّ» حيث لا يوجد «كلّ» وسألوا هل يعلم الله عدد ما لا عدد له ...؟ وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحية الأطلس (١) أم لا؟ وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا؟ وهل لحركات أهل الجنة والنار كلّ أم لا؟ فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق. وجوابنا في ذلك كلّه أنّ الله عزوجل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه ، لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقا. وأمّا من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشى لله من هذه الصفة ، فما لا كلّ له ، ولا عدد له ، فإنما يعلمه الله عزوجل لا عدد له ولا كلّ. وما علم الله عزوجل قط عددا ولا كلّا إلا لما له عدد وكل ، لا لما لا عدد له ولا كل ، وكذلك لم يعلم الله عزوجل قط عدد شعر لحية الأطلس ، ولا علم قط ولد العقيم ، فكيف أن يعرف لهم كلّا؟ وكذلك لم يعلم الله عزوجل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن تجزأ لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة ، وإنما علمهما غير متجزءين ، وعلمهما محتملين للتجزؤ فإذا جزءا علمهما حينئذ متجزءين ، وعلم حينئذ عدد أجزائهما ، ولم يزل تعالى يعلم أنه سيجزئ كلّ ما لا يتجزأ ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ، ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حدّ الفعل ، ولم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ، ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد ، وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزؤ أجزاء أصلا. وإذ ذلك كذلك فلا كلّ هاهنا ولا بعض ، فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين.

ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : أخبرونا عن

__________________

(١) الأطلس : ما في لونه طلسة ، أي غبرة إلى السواد. ويقال للذئب الأمعط في لونه طلسة : أطلس (المعجم الوسيط : ص ٥٦١).

٢٧٩

الشخص الفرد من خردلة ، أو وبرة ، أو شعرة أو غير ذلك إذا جزأنا كل ذلك جزءين أو أكثر متى حدثت لها الأجزاء؟ أحين جزئت أم قبل أن تجزأ؟ فإن قالوا قبل أن تجزأ تناقضوا أسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف. وإن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك ، سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة؟ أحين حدث فيها التجزؤ أم قبل أن يحدث فيها التجزؤ؟ فإن قالوا بل حين حدث فيها التجزؤ صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة. وإن قالوا بل علم أنها متجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزؤ فيها جهّلوا ربهم تعالى إذ أخبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو عليه ، ويعلم أجزاء لما لا أجزاء له ، وهذا ضلال وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئا إلا وقد أوردناه وبيّنا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه ، وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين.

ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه يتجزأ ومحتمل للتجزئة ، وكل جزء من جسم فهو أيضا جسم محتمل للتجزؤ ، وهكذا أبدا وبالله تعالى نتأيد.

قال أبو محمد : يقال لهم وبالله تعالى نستعين : أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم إنه لا يتجزأ أهو في العالم أو ليس في العالم؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإن قالوا : ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوه إلا أنهم يلزمهم قول فاحش ، وهو أنهم يقولون إن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئا غير تلك الأجزاء ، فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى. وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم : لا يخلو إن كان في كرة العالم من أن يكون إما قائما بنفسه حاملا وإما أن يكون محمولا غير قائم بنفسه ، لا بد ضرورة من أحد الأمرين ، إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولا غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض ، وإن كان حاملا قائما بنفسه فله ولا بد مكان في العالم ، وما كان حاملا قائما بنفسه ذا مكان فهو جسم. ثم يقال لهم : أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم إنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم : هل الملاقي منه للمشرق هو الملاقي للمغرب أم غيره؟ وهل المحاذي منه للسماء هو المحاذي منه للأرض أم هو غيره؟ فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقي منه للمغرب ، والمحاذي منه للسماء هو المحاذي منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منه هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه

٢٨٠