أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٤

جواد شبّر

أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٤

المؤلف:

جواد شبّر


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٧

وآل رسول الله في دار غربة

واّل زياد في القصور نزول

وآل عليّ في القيود شواحب

إذا أنّ مأسور بكته ثكول

وآل أبي سفيان في عزّ دولة

تسير بهم تحت البنود خيول

مصاب أصيب الدين منه بفادح

تكاد له شمّ الجبال تزول

عليك ابن خير المرسلين تأسفى

وحزني وإن طال الزمان طويل

جللت فجلّ الرزؤ فيك على الورى

كذا كلّ رزء للجليل جليل

فليس بمجد فيك وجدي ولا البكا

مفيد ولا الصبر الجميل جميل

إذا خفّ حزن الثاكلات لسلوةٍ

فحزني على مرّ الدهور ثقيل

وان سأم الباكون فيك بكاءهم

ملالاً فإنّى للبكاء مّطيل

فما خفّ من حزني عليك تأسفى

ولا جفّ من دمعي عليك مسيل

وينكر دمعي فيك من بات قلبه

خلياً وما دمع الخليّ هطول

وما هي إلا فيك نفس نفيسة

يحللها حرّ الأسى فتسيل

تباين فيك القائلون فمعجب

كثيرٌ وذو حزن عليك قليل

فأجرُ بني الدنيا عليك لشأنهم

دنيّ وأجر المخلصين جزيل

فإن فاتني إدراك يومك سيدي

وأخرني عن نصر جيلك جيل

فلي فيك أبكار لوفق جناسها

أصول بها للشامتين نصول

لها رقّة المحزون فيك وخطبها

جسيم على أهل النفاق مهول

يهيم بها سر الوليّ مسرّة

وينصب منها ناصبٌ وجهول

لها في قلوب الملحدين عواسل

ووقع نصول ما لهنّ نصول

بها من « عليّ » في علاك مناقبٌ

يقوم عليها في الكتاب دليل

ينمّ عن الأعراف طيّب عرفها

فتعلقها للعاقلين عقول

١٨١

إذا نطقت آي الكتاب بفضلكم

فماذا عسى فيما أقول أقول؟

لساني على التقصير في شرح وصفكم

قصير وشرح الإعتذار طويل

عليكم سلام الله ما اتّضح الضحى

وما عاقبت شمس الأصيل أفول

القصيدة السادسة

حلّت عليك عقود المزن يا حلل

وصافحتك أكفّ الطل يا طلل

وحاكت الورق في أعلا غصونك إذ

حاكت بك الودق جلباباً له مثل

يزهو على الربع من أنواره لمعٌ

ويشمل الربع من نوّاره حلل

وافترّ في ثغرك المأنوس مبتسماً

ثغر الأقاح وحيّاك الحيا الهطل

ولا انثنت فيك بانات اللوى طرباً

إلا وللورق في أوراقها زَجَل

وقارن السعد يا سعدى وما حجبت

عن الجآ ذر فيك الحجب والكلل

يروق طرفي بروق منك لامعة

تحت السحاب وجنح الليل منسدل

يذكى من الشوق في قلبي لهيب جوىً

كأنما لمعها في ناظري شعل

فإن تضوّع من أعلى رباك لنا

ريّاك والروض مطلول به خضل

فهو الدواء لا دواء مبرّحة

نعلّ منها إذا أودت بنا العلل

أقسمت يا وطني لم يهنني وطري

مذ بان عنّي منك البان والأثل

لي بالربوع فؤاد منك مرتبع

وفي الرواحل جسمٌ عنك مرتحل

لا تحسبنّ الليالي حدّثت خلدي

بحادث فهو عن ذكراك متشغل

لا كنت إن قادني عن قاطنيك هوى

أو مال بي كلل أو حال بي حول

أني ولي فيك بين السرب جارية

مقيدي في هواها الشكل والشكل

غراء ساحرة الألحاظ مانعة

الألفاظ مائسة في مشيها مَيَل

١٨٢

في قدّها هيفٌ في خصرها نحف

في خدها صلف في ردفها ثقل

يرنّح الدل عطفيها إذا خطرت

كما ترنّح سكراً شاربٌ ثَمل

تريك حول بياض حمرةً ذهبت

بنضرتي في الهوى خدّ لها صقل

ما خلت من قبل فتك من لواحظها

أن تقتل الأسد في غاباتها المقل

عهدي بها حين ريعان الشبيبة لم

يرعه شيب وعيشي ناعم خضل

وليل فودي ما لاح الصباح به

والدار جامعة والشمل مشتمل

وربع لهوي مأنوس جوانبه

تروق فيه لي الغزلان والغزل

حتى إذا خالط السليل الصباح و

أضحى الرأس وهو بشهب الشيب مشتعل

وخطّ وخطُ مشيبي في صحيفته

لي أحرفاً ليس معنى شكلها شكل

مالت الى الهجر من بعد الوصال و

عهد الغانيات كفيء الظل منتقل

من معشرٍ عدلوا عن عهد حيدرة

وقابلوه بعدوانٍ وما قبلوا

وبدّلوا قولهم يوم « الغدير » له

غدراً وما عدلوا في الحب بل عدلوا

حتّى إذا فيهم الهادي البشير قضى

وما تهيّا له لحدُ ولا غسل

مالوا إليه سراعاً والوصيّ برزء

المصطفى عنهم لاهٍ ومشتغل

وقلّدوها عتيقاً لا أباً لهم

أنّى تسود أسود الغابة الهمل

وخاطبوه أمير المؤمنين وقد

تيقّنوا أنّه في ذاك منتحل

وأجمعوا الأمر فيما بينهم وغوت

لهم أمانيهم والجهل والأمل

أن يحرقوا منزل الزهراء فاطمة

فيا له حادث مستصعب جلل

بيت به خمسةٌ جبريل سادسهم

من غير ما سبب بالنار يُشتعل

واخرج المرتضى من عقر منزله

بين الأراذل محتفّ بهم وكل

يا للرجال لدين قلّ ناصره

ودولة ملكت أملاكها السفل

أضحى أجير ابن جدعان له خلفا

برتبة الوحي مقرون ومتّصل

١٨٣

فأين أخلاف تيم والخلافة والحكم

الربوبي لولا معشر جهلوا؟

ولا فخار ولا زهد ولا روع

ولا وقار ولا علم ولا عمل

وقال : منها أقيلوني فلست إذاً

بخيركم وهو مسرور بها جذل

وفضّها وهو منها المستقيل على

الثاني ففي أي قول يصدق الرجل؟

ثمّ اقتفتها عديّ من عداوتها

وافتضّ من فضلها العدوان والجدل

أضحى يسير بها عن قصد سيرتها

فلم يسدّ لها من حادث خلل

وأجمع الشور في الشورى فقلّدها

أمية وكذا الأحقاد تنتقل

تداولوها على ظلم وأرّثها

بعضٌ لبعض فبئس الحكم والدول

وصاحب الأمر والمنصوص فيه بإذ

ن الله عن حكمه ناءٍ ومعتزل

أخو الرسول وخير الأوصياء ومن

بزهده في البرايا يضرب المثل

وأقدم القوم في الإسلام سابقةً

والناس باللات والعزى لهم شغل

ورافع الحق بعد الخفض حين قنا

ة الدين واهية في نصبها مَيل

ألأروع الماجد المقدام إذ نكصوا

والليث ليث الشرى والفارس البطل

مَن لم يعش في غواة الجاهلين ذوي

غيّ ولا مقتدى آرائه هَبل

عافوه وهو أعف الناس دونهم

طفلاً وأعلى محلاً وهو مكتهل

وإنه لم يزل حلماً ومكرمةً

يقابل الذنب بالحسنى ويحتمل

حتّى قضى وهو مظلوم وقد ظلم

الحسين من بعده والظلم متصل

من بعد ما وعدوه النصر واختلفت

إليه بالكتب تسعى منهم الرسل

فليته كفّ كفّاً عن رعايتهم

يوماً ولا قرّبته منهم الابل

قوم بهم نافقٌ سوق النفاق ومن

طباعهم يستمد الغدر والدخل

تالله ما وصلوا يوماً قرابته

لكن إليه بما قد ساءه وصلوا

وحرّموا دونه ماء الفرات وللـ

ـكلاب من سعةٍ في وردها علل

وبيتوه وقد ضاق الفسيح به

منهم على موعد من دونه العطل

١٨٤

حتى إذا الحرب فيهم من غد كشفت

عن ساقها وذكى من وقدها شعل

تبادرت فتية من دونه غرر

شمّ العرانين ما مالوا ولا نكلوا

كأنّما يجتنى حلواً لأنفسهم

دون المنون من العسّالة العسل

تسربلوا في متون السابقات دلا

ص السابغات وللخطيّة اعتقلوا

وطلّقوا دونه الدنيا الدنيّة و

ارتاحوا الى جنة الفردوس وارتحلوا

تراءت الحور في اعلا الجنان لهم

كشفاً فهان عليهم فيه ما بذلوا

سالت على البيض منهم أنفس طهرت

نفيسة فعلوا قدراً بما فعلوا

إن يقتلوا طالما في كلّ معركة

قد قاتلوا ولكم من مارق قتلوا؟

لهفي لسبط رسول الله منفرداً

بين الطغاة وقد ضاقت به السبل

يلقى العداة بقلب لا يخامره

رهب ولا راعه جبن ولا فشل

كأنه كلما مرّ الجواد به

سيل تمكّن في أمواجه جبل

ألقى الحسام عليهم راكعاً فهوت

بالترب ساجدةً من وقعه التلل

قدّت نعالاته هاماتهم فبها

أخدى الجواد فأمسى وهو منتعل

وقد رواه حميد نجل مسلم ذو

القول الصدوق وصدق القول ممتثل

إذ قال : لم أر مكثوراً عشيرته

صرعى فمنعفرٌ منهم ومنجدل

يوماً بأربط جاشاً من حسين وقد

حفت به البيض واحتاطت به الاسل

كأنما قسورٌ ألقى على حُمرٍ

عطفاً فخامرها من بأسه ذَهل

أو أجدل مرّ في سرب فغادره

شطراً خموداً وشطرٌ خيفة وجل

حتّى إذا آن ما إن لا مردّ له

وحان عند انقضاء المدّة الأجل

أردوه كالطود عن ظهر الجواد

حميد الذكر ما راعه ذلّ ولا فشل

لهفي وقد راح ينعاه الجواد إلى

خبائه وبه من أسهم قَزل (١)

__________________

١ ـ هو العَرج.

١٨٥

لهفي لزينب تسعى نحوه ولها

قلب تزايد فيه الوجد والوجل

فمذ رأته سليباً للشمال على

معنى شمائله من نسجها سمل

هوت مقبّلة منه المحاسن والـ

ـحسين عنها بكرب الموت مشتغل

تدافع الشمر عنه باليمين وبا

لشمال تستر وجهاً شأنه الخجل

تقول : يا شمر لا تعجل عليه ففي

قتل ابن فاطمة لا يُحمد العجل

أليس ذا ابن عليّ والبتول ومَن

بجدّه ختمت في الأمّة الرسل؟

هذا الامام الذي ينمى إلى شرف

ذريّة لا يُداني مجدها زحل

إيّاك من زلّة تصلى بها أبدا

نار الجحيم وقد يردي الفتى الزلل

أبى الشقيّ لها إلا الخلاف وهل

يجدي عتاب لأهل الكفر إن عُذلوا؟

ومرّ يحتز رأساً طال لرسول

الله مرتشفاً في ثغره قبل

حتى إذا عاينت منه الكريم على

لدن يميل به طوراً ويعتدل

ألقت لفرط الأسى منها البنانَ على

قلب تقلّب فيه الحزن والثكل

تقول : يا واحداً كنّا نؤمّله

دهراً فخاب رجانا فيه والأمل

ويا هلالاً علا في سعده شرفاً

وغاب في الترب عنّا وهو مكتمل

أخي لقد كنت شمساً يستضاء بها

فحلّ في وجهها من دوننا الطفل

وركن مجد تداعى من قواعده

والمجد منهدم البنيان منتقل

وطرف سبق يفوت الطرف سرعته

مذ أدرك المجد أمسى وهو معتقل

ما خلت من قبل ما أمسيت مرتهناً

بينُ اللئام وسدّت دونك السبل

١٨٦

أن يوغل البوم في البازي أن ظفرت

ظفراً ولا أسداً يغتاله حمل

كلا ولا خلت بحراً مات من ظمأ

ومنه ريّ إلى العافين متمتّصل

فليت عينك بعد الحجب تنظرنا

أسرى تجاذبنا الأشرار والسفل

يسيّرونا على الأقتاب عاريةً

وزاجر العيس لا رفق ولا مَهل

فليت لم تر كوفاناً ولا وخدت

بنا إلى ابن زياد الأنيق الذلل

إيهاً على حسرة في كلّ جانحة

ما عشت جايحة تعلولها شعل

أيقتل السبط ظمآناً ومن دمه

تروى الصوارم والخطيّه الذبل

ويسكن الترب لا غسل ولا كفنٌ

لكن له من نجيع النحر مغتسل

وتستباح بأرض الطف نسوته

ودون نسوة حرب تُضرب الكلل

بالله أقسم والهادي البشير وبيت

الله طاف به حافٍ ومنتعل

لولا الأولى نقضوا عهد الوصيّ وما

جاءت به قدماً في ظلمها الأول

لم يُغلِ قوماً على أبناء حيدرة

من الموارد ما تروى به الغلل

يا صاح طف بي إذا جئت الطفوف على

تلك المعالم والآثار يا رجل

وابك البدور التي في الترب آفلة

بعد الكمال تغشّى نورها الظلل

يا آل أحمد يا سفن النجاة ومن

عليهم بعد رب العرش أتكل

وحقكم ما بدا شهر المحرم لي

إلا ولي ناظر بالسهد مكتحل

ولا استهلّ بنا إلا استهل من

الأجفان لي مدمع في الخدّ منهمل

حزناً لكم ومواساة وليس لمملو

ك بدمع على ملاكة بُخل

فإن يكن فاتكم نصري فلي مدح

بمجدكم أبداً ما عشت تتّصل

١٨٧

عرائس حدت الحادون من طرب

بها تُعرس أحياناً وترتحل

فدونكم من ( عليّ ) عبد عبدكم

فريدة طاب منها المدح والغزل

رقّت فراقت معانيها الحسان فلا

يماثل الطول منها السبعة الطول

أعددتها جُنّة من حر نار لظى

أرجو بها جنة أنهارها عسل

صلى الإله عليكم ما شدت طرباً

ورقٌ على ورقٍ والليل منسدل

القصيدة السابعة :

اجآ ذرُ منعت عيونك ترقد

بعراص بابل أم حسان خرّدُ؟

ومعاطف عطفت فؤادك أم غصون

نقى على هضباتها تتأوّد؟

وبروق غادية شجاك وميضها

أم تلك درّ في الثغور تنضّد؟

وعيون غزلان الصريم بسحرها

فتنتك أم بيض عليك تجرّد؟

يا ساهر الليل الطويل بمدّه

عوناً على طول السهاد الفرقد

ومُهاجراً طيب الرقاد وقلبه

أسفاً على جمر الغضا يتوقّد

ألا كففت الطرف إذ سفرت بدور

السعد بالسعدى عليك وتسعد

أسلمت نفسك للهوى متعرّضا

وكذا الهوى فيه الهوان السرمد

وبعثتَ طرفك رائداً ولرُبّما

صَرع الفتى دون الورود المورد

فغدوت في شرك الظباء مقيّداً

وكذا الظباء يصدن من يتصيّد

فلعبن أحياناً بلّبك لاهياً

بجمالهنّ فكاد منك الحسّد

حتّى إذا علقت بهن بعدت مَن

كثبٍ فهل لك بعد نجد منجد؟

رحلوا فما أبقوا لجسمك بعدهم

رمقاً ولا جلداً به تتجلّد

واهاً لنفسك حيثُ جسمك بالحمى

يبلى وقلبك بالركائب منجد

ألفت عيادتك الصبابه والأسى

وجفاك من طول السقام العوّد

وتظنّ أن البعد يعقب سلوة

وكذا السلوّ مع التباعد يبعد

١٨٨

يا نائماً عن ليل صبّ جفنه

أرقٌ إذا غفت العيون الهجّد

ليس المنام لراقدٍ جهل الهوى

عجباً بلى عجبٌ لمن لا يرقد

نام الخليّ من الغرام وطرف من

ألف الصبابة والهيام مسهّد

أترى تقرّ عيون صب قلبه

في أسر مائسة القوام مقيّد؟

شمس على غصن يكاد مهابةً

لجمالها تعنو البدور وتسجد

تفترّ عن شنب كأنّ جمانه

بردُ به عذب الزلال مبرّد

ويصدّني عن لثمه نار غدت

زفرات أنفاسي بها تتصعّد

من لي بقرب غزالة في وجهها

صبحٌ تجلّى عنه ليل أسود؟

أعنو لها ذلاً فتعرض في الهوى

دَلاً وأمنحها الدنو وتبعد

تحمي بناظرها مخافة ناظرٍ

خدّاً لها حسن الصقال مورّد

يا خال وجنتها المخلّد في لظى

ما خلت قبلك في الجحيم يخلّد

إلا الذي جحد الوصيّ وما حكى

في فضله يوم « الغدير » محمّد

إذ قام يصدع خاطباً ويمينه

بيمينه فوق الحدائج تعقد

ويقول والأملاك محدقة به

والله مطّلع بذلك يشهد

من كنت مولاه فهذا حيدرٌ

مولاه من دون الأنام وسيّد

يا ربّ وال وليّه وأكبت معا

ديه وعاند مَن لحيدر يعندُ

والله ما يهواه إلا مؤمن

برّ ولا يقلوه إلا ملحد

كونوا له عوناً ولا تتخاذلوا

عن نصره واسترشدوه تُرشدوا

قالوا : سمعنا ما تقول ما أتى

الروح الأمين به عليك يؤكّد

هذا « عليّ » إمامنا ووليّنا

وبه إلى نهج الهدى مسترشد

حتى إذا قبض النبي ولم يكن

في لحده من بعد غسلٍ يلحد

خانوا مواثيق النبي وخالفوا

ما قاله خير البريّة أحمد

واستبدلوا بالرشد غيّاً بعدما

عرفوا الصواب وفي الضلال تردّدوا

١٨٩

وغدا سليل أبي قحافة سيداً

لهم ولم يك قبل ذلك سيّد

يا للرجال لأمّةٍ مفتونة

سادت على السادات فيها الأعبد

أضحى بها الأقصى البعيد مقرّباً

والأقرب الأدنى يذاد ويُبعد

هلا تقدّمه غداة براءة

إذ ردّ وهو بفرط غيظ مكمد؟

ويقول معتذراً : أقيلوني وفي

إدراكها قد كان قدماً يجهد

أيكون منها المستقيل وقد غدا

في آخر يوصي بها ويؤكّد؟

ثمّ اقتفى :

فقضى بها خشناء يغلظ كلمها

ذلّ الوليّ بها وعز المفسد

واشار بالشورى فقرّب نعثلاً

منها فبئس......................

فغدا لمال الله في قربائه

عمداً يفرّق جمعه ويبدّد

ونفى أباذرّ وقرّب فاسقاً

كان النبي له يصدّ ويطرد

لعبوا بها حيناص وكل منهم

متحيّر في حكمها متردّد

ولو اقتدوا بامامهم ووليّهم

سعدوا به وهو الوليّ الأوكد

لكن شقوا بخلافه أبداً وما

سعدوا به وهو الوصيّ الأسعد

صنو النبيّ ونفسه وأمينه

ووليّه المتعطّف المتودّد

كُتباعلى العرش المجيد ولم يكن

في سالف الأيّام آدم يوجد

نوران قدسيّان ضمّ علاهما

من شيبة الحمد ابن هاشم محتد

مَن لم يقم وجهاً إلى صنم ولا

للّات والعزى قديماً يسجد

والدين والإشراك لولا سيفه

ما قام ذا شرفاً وهذا يقعد

سَل عنه بدراً حين وافى شيبةً

شلواً عليه النائحات تعدّد

وثوى الوليد بسيفه متعفّراً

وعليه ثوب بالدماء مجسّد

وبيوم أحد والرماح شوارع

والبيض تصدر في النحور وتورد

مَن كان قاتل طلحة لما أتى

كالليث يرعد للقتال ويزبد

١٩٠

وأباد أصحاب اللواء وأصبحوا

مثلاً بهم يروى الحديث ويُسند

هذا يجرّ وذاك يرفع رأسه

في رأس منتصب وذاك مقيّد

وبيوم خيبر إذ براية « أحمد »

ولّى عتيق والبريّة تشهد

ومضى بها الثاني فآب يجرّها

ذلاً يوبّخ نفسه ويفنّد

حتى إذا رجعا تميز « أحمد »

حرداً وحقّ له بذلك يحرد

وغدا يحدّث مُسمعاً مَن حوله

والقول منه موفّق ومؤيّد

إني لاعطي رايتي رجلاً وفي

بطل بمختلس النفوس معوّد

رجل يحب الله ثم رسوله

ويحبّه الله العليّ واحمدُ

حتّى إذا جنح الظلام مضى على

عجل وأسفر عن صبيحته غد

قال : إئت يا سلمان لي بأخي فقا

ل الطهر سلمانٌ : علي أرمد

ومضى وعاد به يُقاد ألا لقد

شرف المقود عُلا وعز القيّد

فجلا قذاهُ بتفلة وكساه سا

بغةً بها الزرد الحديد منضّد

فيد تناوله اللواء وكفه

الاخرى تُزرّد درعه وتُبنّد

ومضى بها قدماً وآب مظفّرا

مستبشراً بالنصر وهو مؤيّد

وهوى بحدّ السيف هامة مرحب

فبراه وهو الكافر المتمرّد

ودنا من الحصن الحصين وبابه

مستغلق حذر المنية موصد

فدحاه مقتلعاً له فغدا له

حسّان ثابت (١) في المحافل ينشد

إن امرءاً حمل الرتاج بخيبر

يوم اليهود لقدره لمؤبّد

حمل الرتاج وماج باب قموصها

والمسلمون وأهل خيبر تشهد

وأسأل حنيناً حين بادر جرول

شاكي السلاح لفرصة يترصّد

حتّى إذا ما أمكنته غشاهم

في فيلق يحكيه بحرٌ مزبد

__________________

١ ـ حسان بن ثابت شاعر النبي نظم في هذه المأثرة الكريمة شعراً ترويه كتب السيرة.

١٩١

وثوى قتيلاً أيمن (١) وتبادرت

عصب الضلال لحتف أحمد تقصد

وتفرّقت أنصاره من حوله

جزعاً كأنّهمه النعام الشرّد

ها ذاك منحدر إلى وهدٍ وذا

حذر المنيّة فوق تلع يصعد

هلا سألت غداة ولّى جمعهم

خوف الردى إن كنت مَن يسترشد؟

مَن كان قاتل جرول ومذلّ جيش

هوازن إلا الولي المرشد؟

كلّ له فقد النبي سوى أبي

حسن عليّ حاضر لا يفقد

ومبيته فوق الفراش مجاهداً

بمهاد خير المرسلين يُمهّد

وسواه محزون خلال الغار من

حذر المنيّة نفسه تتصعّد

وتعدّ منقبة لديه وإنها

إحدى الكبائر عند من يتفقّد

ومسيره فوق البساط مخاطباً

أهل الرقيم فضيلةٌ لا تجحد

وعليه ثانية بساحة بابل

رجعت كذا ورد الحديث المسند

ووليّ عهد محمّد أفهل ترى

أحداً إليه سواه أحمد يعهد؟

إذ قال : إنك وارثي وخليفتي

ومغسّل لي دونهم وملحّد

أم هل ترى في العالمين بأسرهم

بشراً سواه يبيت مكّة يولد؟

في ليلة جبريل جاء بها مع

الملأ المقدّس حوله يتعبّد

فلقد سما مجداً « عليّ » كما علا

شرفاً به دون البقاع المسجد

أم هل سواه فتى تصدق راكعاً

لمّا أتاه السائل المسترفد؟

ألمؤثر المتصدق المتفضل

المتمسّك المتنسّك المتزهّد

ألشّاكر المتطوّع المتضرّع

المتخضّع المتخشّع المتهجّد

__________________

١ ـ ايمن بن أم ايمن بن عبيد. من المستشهدين في غزوة حنين.

١٩٢

ألصابر المتوكل المتوسّل

المتذلل المتململ المتعبّد

رجل يتيه به الفخار مفاخراً

ويسود إذ يُعزى إليه السودد

إن يحسدوه على عُلاه فانما

أعلا البريّة رتبةً من يُحسد

وتتّبعت أبناؤهم أبناؤه

كلّ لكلٍّ بالأذى يتقصّد

حسدوه إذ لا رتبة وفضيلة

إلا بما هو دونهم متفرّد

بالله أقسم والنبي وآله

قسماً يفوز به الوليّ ويسعد

لولا الأولى نقضوا عهود محمّد

من بعده وعلى الوصيّ تمرّدوا

لم تستطع مدّاً لآل أُميّةٍ

يوم الطفوف على ابن فاطمة يدُ

بأبي القتيل المستضام ومَن له

نار بقلبي حرّها لا يبرد

بأبي غريب الدار منتهك الخبا

عن عُقر منزله بعيدٌ مفرد

بأبي الذي كادت لفرط مصابه

شمّ الرواسي حسرةً تتبدّد

كتبت إليه على غرور أُميّة

سفهاً وليس لهم كريمٌ يحمد

بصحائف كوجوهم مسودّة

جاءت بها ركبانهم تتردّد

حتّى توجّه واثقاً بعهودهم

وله عيونهم انتظاراً ترصد

أضحى الذين أعدّهم لعدوّهم

إلباً جنودهم عليه تجنّد

وتبادروا يتسارعون لحربه

جيشاً يُقاد له وآخر يُحشد

حتّى تراءى منهم الجمعان في

خرق وضمّهم هنالك فدفد

ألفوه لا وَكلاً ولا مستشعراً

ذلاً ولا في عزمه يتردّد

ماض على عزم يفلّ بحدّه

الماضي حدود البيض حين تجرّد

مستبشراً بالحرب علماً أنّه

يتبوّأ الفردوس إذ يستشهد

في أُسرة من هاشم علويّةٍ

عزّت أرومتها وطاب المولد

وسُراة أنصارٍ ضراغمة لهم

أهوال أيّام الوقايع تشهد

يتسارعون إلى القتال ، يسابق

الكهل المسنّ على القتال الأمرد

١٩٣

فكأنّما تلك القلوب تقلّبت

زيراً عليهنّ الصفيح يضمّد

وتخال في إقدامهم أقدامهم

عُمداً على صمّ الجلامد توقد

جادوا بأنفسهم أمام إمامهم

والجود بالنفس النفيسة أجود

نصحوا غنوا غرسوا جنوا شادوا بنوا

قربوا دنوا سكنوا النعيم فخلّدوا

حتّى إذا انتهبت نفوسهم الضبا

من دون سيّدهم وقلّ المسعد

طافوا به فرداً وطوع يمينه

متذلّق ماضي الغرار مهنّد

عضبٌ بغير جفون هامات العدى

يوم الكريهة حدّه لا يغمد

يسطو به ثبت الجنان ممنّع

ماضي العزيمة دارعٌ ومُزرّد

ندبٌ متى ندبوه كرّ معاوداً

والأسد في طلب الفرايس عوّد

فيروعهم من حدّ غرب حسامه

ضرب يقدّ به الجماجم أهود

يا قلبه يوم الطفوف أزبرة

مطبوعة أم أنت صخر جلمد؟

فكأنه وجواده وسنانه

وحسامه والنقع داجٍ أسود

فلك به قمر وراه مذنّب

وأمامه في جنح ليل فرقد

في ضيق معترك تقاعس دونه

جرداء مائلة وشيظم أجرد

فكأنّما فيه مسيل دمائهم

بحرٌ تهيّجه الرياح فيزبد

فكأنّ جَرد الصافنات سفاين

طوراً تقوم به وطوراً تركد

حتّى شفى بالسيف غلّة صدره

ومن الزلال العذب ليس تبرّد

لهفي له يرد الحتوف ودونه

ماء الفرات محرّم لا يورد

شزراً يلاحظه ودون وروده

نار بأطراف الأسنّة توقد

ولقد غشوه فضارب ومفوّق

سهماً إليه وطاعن متقصّد

حتى هوى كالطود غير مذمّم

بالنفس من أسف بجود ويجهد

لهفي عليه مرمّلاً بدمائه

ترب الترائب بالصعيد يوسّد

تطأ السنابك منه صدراً طالما

للدرس فيه وللعلوم تردّد

١٩٤

ألفت عليه السافيات ملابساً

فكسته وهو من اللباس مجرّد

خضبت عوارضه دماه فخيّلت

شفقاً له فوق الصباح تورّد

لهفي لفتيته خموداً في الثرى

ودماؤهم فوق الصعيد تبدّد

فكأنما سيل الدماء على عوار

ضهم عقيق ثمّ منه زبرجد

لهفي لنسوته برزن حواسراً

وخدودهنّ من الدموع تخدّد

هاتيك حاسرة القناع وهذه

عنها يماط رداً وينزع مرود

ويقلن جهراً للجواد لقد هوى

من فوق صهوتك الجواد الأجود

يا يوم عاشوراء حسبك إنّك

اليوم المشوم بل العبوس الأنكد

فيك الحسين ثوى قتيلا بالعرى

إذ عزّ ناصره وقل المسعد

والتائبون الحامدون العابدون

السائحون الراكعون السجّد

أضحت رؤوسهم أمام نسائهم

قدماً تميل بها الرماح وتأود

والسيد السجاد يحمل صاغراً

ويقاد في الأغلال وهو مقيّد

لا راحماً يشكو اليه مصابه

في دار غربته ولا متودّد

يهدى به وبرأس والده الى

لكعٍ زنيمٍ كافرٍ يتمرّد

لا خير في سفهاء قوم عبدهم

ملك يطاع وحرّهم مستعبد

يا عين إن نفدت دموعك فاسمحي

بدم ولست أخال دمعك ينفد

أسفاً على آل الرسول ومن بهم

ركن الهدى شرفاً يشاد ويعضد

منهم قتيلٌ لا يجار ومن سقي

سمّاً وآخر عن حماه يشرّد

ضاقت بلاد الله وهي فسيحة

بهم وليس لهم بأرض مقعد

متباعدون لهم بكلّ تنوفة

مستشهد وبكلّ أرض مشهد

أبني المشاعر والحطيم ومَن هم

حججٌ بهم تشقى الأنام وتسعد

أقسمت لا ينفك حزني دائماً

بكم ونار حشاشتي لا تخمد

بكم يميناً لا جرى في ناظري

حزناً عليكم غير دمعي مرود

١٩٥

يفنى الزمان وتنقضي أيامه

وعليّ كم بكم الحزين المكمد

فلجسمه حلل السقام ملابس

ولطرفه حر المدامع أثمد

ولو أنّني استمددت من عيني دماً

ويقلّ من عيني دماً يستمدد

لم أقض حقكم علي وكيف أن

تقضي حقوق المالكين الاعبد

يا صفوة الجبّار يا مستودعي

الأسرار يا من ظلًهم لي مقصد

عاهدتكم في الذر معرفة بكم

ووفيت أيماناً بما أتعهّد

ووعدتموني في المعاد شفاعة

وعلى الصراط غداً يصح الموعد

فتفقدوني في الحساب فإنّني

ثقة بكم لوجوهكم أتقصّد

كم مدحة لي فيكم في طيها

حكم تفوز به الركاب وتنجد

وبنات أفكار تفوق صفات

أبكار يقوم لها القريض ويقعد

ليس النضار لها نظيراً بل هي

الدرّ المفصّل لا الخلاص العسجد

هذا ولو أن العباد بأسرهم

تحكي مناقب مجدكم وتعدّد

لم يدركوا إلا اليسير وأنتم

أعلا علاً ممّا حكوه وأزيد

لكن في أم الكتاب كفاية

عمّا تُنظّمه الورى وتُنضّد

صلّى الإله عليكم ما باكرت

ورق على ورق الغصون تُغرّد

١٩٦

ابن الوردي الشافعي

المتوفي ٧٤٩

قال ابن الوردي :

أرأس السبط ينقل والسبايا

يطاف بها وفوق الأرض رأس

وما لي غير هذا السبي ذخرٌ

وما لي غير هذا الرأس رأس (١)

وقال :

فرّق الحب بين عقلي وبيني

فاستهلت دموع عيني كعين

طال في أنسه القصير غرامي

وهو بدر وينجلي في حنين

بي نار من جنّتي وجنتيه

لهف قلبي على جنى الجنّتين

حسن قدره عليّ فيا مَن

في ملامي يزيد موتي حسيني (٢)

وقوله :

__________________

١ ـ تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ٢٣٢.

٢ ـ ديوان ابن الوردي ص ٣٢٩.

١٩٧

دنيا تضام كرامها بلئامها

ودليل ذاك حسينها ويزيدها

يا خاطب الدنيا الدنيّة إنها

طبعت على كدر وأنت تريدها

إشارة إلى بيت أبي الحسن التهامي المتوفي سنة ٤١٦ حيث يقول من قصيدة :

طُبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً من الأقذاء والاكدار

١٩٨

ابن الوردي زين الدين عمر بن مظفر بن عمر البكري الحلبي المعري الشافعي الفقيه النحوي الشاعر الأديب صاحب التأريخ المعروف ، وشرح الفية ابن مالك وأرجوزة في تعبير المنام ، ومن شعره لاميته المعروفة مطلعها :

اعتزل ذكر الأغاني والغزل

وقل الفصل وجانب مَن هزل

وله حكاية لطيفة حاصلها انه : دخل الشام وكان ضيق المعيشة رث الهيئة رديء المنظر ، فحضر الى مجلس القاضي نجم الدين بن صصري من جملة الشهود فاستخفت به الشهود وأجلسوه في طرف المجلس فحضر في ذلك اليوم مبايعة مشترى ملك فقال بعض الشهود أعطوا المعري يكتب هذه المبايعة على سبيل الاستهزاء به فقال ابن الوردي أكتبه لكم نظماً أو نثراً فتزايد إستهزاؤهم به فقالوا له بل أكتب لنا نظماً فأخذ ورقة وقلماً وكتب فيها نظماً لطيفاً أوله :

باسم إله الخلق هذا ما اشترى

محمد بن يونس بن شنفرى

من مالك بن أحمد بن الأزرق

كلاهما قد عرفا من جُلّق

فباعه قطعة أرض واقعة

بكورة الغوطة وهي جامعه

يشجر مختلف الاجناس

والأرض في البيع مع الغِراس

وذرع هذي الأرض بالذراع

عشرون في الطول بلا نزاع

وحدّها من قبلة ملك التقي

وحائز الرومي حد المشرق

ومن شمال ملك أولاد علي

والغرب ملك عامر بي جهبل

وهذه تعرف من قديم

بأنها قطعة بيت الرومي

بيعاً صحيحاً ماضياً شرعياً

ثم شراءاً قاطعاً مرعيا

بثمنٍ مبلغه من فضه

وزانة جيّدة مبيضة

١٩٩

جارية للناس في المعامله

ألفان مها النصف ألف كامله

قبضها البايع منه وافيه

فعادت الذمة منه خاليه

وسلّم الأرض إلى مَن اشترى

فقبض القطعة منه وجرى

بينهما بالبدن التفرّق

طوعاً فما لأحدٍ تعلّق

ثم ضمان الدرك المشهور

فيه على بائعه المذكور

وأشهدا عليهما بذاك في

رابع عشر رمضان الأشرف

من عام سبعمائة وعشرة

من بعد خمسة تليها الهجرة

والحمد لله وصلى ربي

على النبي وآله والصحب

يشهد بالمضمون من هنا عمر

ابن المظفر المعري إذ حضر

فلما فرغ من نظمه ووضع الورقة بين يدي الشهود ، تأملوا النظم مع سرعة الارتجال ، فقبلوا يده واعتذروا له من التقصير في حقه واعترفوا بفضيلته عليهم ، ثم أنه قال لبعض الشهود : سدّ في هذه الورقة بخطك ، فقال له : يا سيدي أنا ما أحسن النظم ، فقال له : ما إسمك؟ فقال له : أحمد بن رسول ، فكتب عنه وهو يقول :

قد حضر العقد الصحيح أحمد

ابن رسول وبذاك يشهد

ومن شعره قوله فيمن أخذ ديوانه :

أغضبتنى وغصبتَ ديواني الذي

أنفقتُ فيه شبيبتي وزماني

لو كنتَ يوماً بالمودة عاملا

ما كنتَ تغضب صاحب الديوان

٢٠٠