محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥
«الصافات صفا» : الأرواح المقدسة الواقفة في مقام الهيبة والجلال على درجات مرتبة ، ومراتب مختلفة.
وقال بعض الفلاسفة : المراد بقوله : «والصافات صفا» أرواح فلك «الشمس» لأن الشمس سلطان عالم الجسمانيات ، وروحها أعظم الأرواح. وأما أرواح سائر الأفلاك ، فإنها عبيده وخدمه. وكأنها واقفة عنده صفا صفا [وقوله : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) هو أرواح فلك المريخ (١)] وقوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هو أرواح فلك «المشتري» وكذا قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (٢) إلى قوله : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً).
وقوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (٣) إلى قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) والكلام المستقصى في تفسير هذه الآيات مذكور في «التفسير الكبير».
وأما الكلام في صفات الملائكة :
فمن وجوه :
الأول : إن الملائكة رسل الله. قال الله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٤).
الثاني : قربهم من الله تعالى ، قال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٥) وليس هذا القرب بالمكان ، فلم يبق إلا أن يكون القرب بالدرجة والرتبة.
الثالث : وصف طاعاتهم. وهو من وجهين :
أحدهما : قوله تعالى : حكاية عن الملائكة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) الذاريات ١ ـ ٤.
(٣) النازعات ١ ـ ٥.
(٤) فاطر ١.
(٥) الأنبياء ١٩.
وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١) وقال تعالى في آيتين أخريين : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (٢).
وثانيهما : إنهم لا يفعلون إلا بأمره. قال تعالى في حكاية عنهم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) (٣) وقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٤).
والرابع : إنه وصف قدرتهم وكيف يشتبه ذلك ، وهم المدبرون لأجرام السموات على عظمتها؟ قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٥) ثم إن العرش أعظم من الكرسي ، بحيث لا نسبة له إليه ، ثم إن الكرسي مع صغره محيط بجميع السموات ، كما قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٦).
والخامس : وصف خوفهم فإنهم مع كثرة عبادتهم وشدة بعدهم عن الزلات يكونون [خائفين (٧)] وجلين. قال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٨) وقال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٩) وقال : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ : وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (١٠).
وأقول : (١١) يحتمل أن يكون المراد من فزعهم الشديد : عرفانهم بكونهم موصوفين بإمكان الوجود والعدم. والإمكان إذا اعتبر من حيث [هو هو (١٢)] كان عدما. والمراد بقوله : (قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَ) : فيض نور وجوده ، وإيجاده عليهم ، فيصيرون عند ذلك واجبي الوجود بغيرهم ، فيحصل الأمن عن الهلاك والعدم (١٣).
__________________
(١) البقرة ٣٠.
(٢) الصافات ١٦٥ ـ ١٦٦.
(٣) مريم ٦٤.
(٤) الأنبياء ٢٧.
(٥) الحاقة ١٧.
(٦) البقرة ٢٥٥ والآية مكررة (م).
(٧) سقط (طا).
(٨) النحل ٥٠.
(٩) الأنبياء ٣٨.
(١٠) سبأ ٢٣.
(١١) وأقول (طا ، ل) قال المصنف يحتمل (م).
(١٢) هو ممكن (م).
(١٣) تغلب على المؤلف النزعة الفلسفية في التفسير.
واعلم : أنه ليس بعد كلام الله تعالى ، وكلام رسوله عليهالسلام كلام أعلى وأجلى في وصف الملائكة ، من كلام الإمام الأجل «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه.
قال في بعض خطبه : «ثم فتق ما بين السموات العلى ، فملأهن أطوارا من ملائكته. منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون. يسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان.
ومنهم أمناء على وحيه إلى رسله. ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده. والسدنة لأبواب جناته. ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ماسكة دونه أبصارهم. وهم متلففون [تحته (١)] بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم : حجب العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير ، ولا يجوزون عليه صفات المخلوقين ، ولا يجدونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر».
[والله أعلم (٢)].
__________________
(١) من (ل).
(٢) من (طا ، ل).
الفصل التاسع
في
الكلام في أن الملائكة أفضل أم البشر؟
اعلم (١) : أن من عرف أن الملك ما هو؟ وكيف صفاته؟ لم يأذن له عقله في أن يخوض في هذا البحث إلا أن أكثر الناس ظنوا : أن الملائكة طيور تطير في السموات. فلهذا السبب وقعوا في هذا البحث.
واحتج القائلون بأن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ أفضل من الملائكة.
بوجوه :
الحجة الأولى : قصة آدم عليهالسلام. واحتجوا بها في إثبات كونه أفضل من الملائكة من وجوه :
الأول : إنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وثبت : أن آدم عليهالسلام ما كان كالقبلة. بدليل : أنه تعالى أخبر عن إبليس ، أنه قال : (أَرَأَيْتَكَ. هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٢) ولو كانت السجدة لله تعالى ، وآدم كالقبلة. لما حصل هذا التكريم.
وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون آدم أفضل منهم. لأن السجود نهاية
__________________
(١) عنوان الفصل في (م) في الكلام. في أن الملائكة ... الخ.
(٢) الإسراء ٦٢.
التواضع. وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون : قبيح في العقول [فإنه يقبح أن يؤمر «أبو حنيفة» بخدمة أقل الناس في الفقه (١)] فدل هذا : على أن آدم عليهالسلام كان أفضل منهم.
والوجه الثاني في هذا الاستدلال : إنه تعالى جعل آدم خليفة لنفسه. والمراد منه : خلافة الولاية. وخليفة السلطان أعظم من سائر أقوامه. فوجب أن يكون آدم أشرف الخلق.
والوجه الثالث : إن آدم ـ عليهالسلام ـ كان أعلم ، فوجب أن يكون أفضل. وإنما قلنا : إنه أعلم من الملائكة. لأنهم قالوا : (سُبْحانَكَ. لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٢) إلى قوله : (يا آدَمُ. أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [فدل على أنه كان عالما بما لم يكونوا عالمين به (٣)] وإنما قلنا : إن الأعلم أفضل. لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤)؟
والوجه الرابع : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ. وَنُوحاً. وَآلَ إِبْراهِيمَ. وَآلَ عِمْرانَ. عَلَى الْعالَمِينَ) (٥) والاستدلال (٦) : أن الملائكة من العالمين ، فوجب كونهم أفضل من الملائكة.
الحجة الثانية : إن عبادات البشر أشق ، فوجب أن يكونوا أفضل [من الملائكة (٧)].
بيان الأول : إن البشر لهم شهوة مانعة من الطاعات ، والملائكة ليس لهم
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) البقرة ٣٢.
(٣) من (طا ، ل).
(٤) الزمر ٩.
(٥) آل عمران ٣٣.
(٦) ولا شك (م).
(٧) من (م).
ذلك. والإتيان بالطاعة ، مع قيام المانع ، أشق من الإتيان [بالطاعة (١)] مع السلامة عن المانع.
وبيان الثاني : إن زيادة المشقة إن لم تصر مقابلة لزيادة الثواب ، صار ذلك السعي ضائعا. وإنه لا يليق بالحكيم الرحيم.
الحجة الثالثة : إنه تعالى خلق للملائكة عقولا بلا شهوة ، وللبهائم والسباع شهوات بلا عقل ، وخلق للآدمي العقل والشهوة معا. فإن مال الآدمي إلى الشهوة ، كان أخس من البهائم. لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) (٢) فوجب أن يقال : إنه إن مال إلى العقل والطاعة ، وجب أن يكون أفضل من الملك ، قياسا لأحد الجانبين على الآخر.
هذا آخر (٣) دلائل القوم في هذه المسألة.
والجواب عن الحجة الأولى : إنا لا نسلم أن ملائكة السموات ، كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليهالسلام. وغاية ما في هذا الباب : أنكم تتمسكون بعموم قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٤) إلا أنا نقول : تخصيص عموم القرآن بنص القرآن جائز بإجماع العقلاء. وقد قال تعالى في آخر سورة الأعراف : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَيُسَبِّحُونَهُ ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٥) وعلماء العربية يعلمون أن قوله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) يفيد الحصر. ومعناه : أنهم لا يسجدون إلا لله.
وأما الوجه الثاني : وهو التمسك بلفظ «الخليفة» فجوابه : إنه كان خليفة الله تعالى في الأرض. فمن أين يدل هذا على أنه أفضل من سلاطين عالم
__________________
(١) بها (ل).
(٢) الأعراف ١٧٩.
(٣) أحسن (طا ، ل).
(٤) البقرة ٣٤.
(٥) الأعراف ٢٠٦.
السموات؟ مع أنه ثبت في العلوم الرياضية : أن الأرض بالنسبة للسماوات كالعدم.
وأما الوجه الثالث : وهو أن آدم ـ عليهالسلام ـ كان أعلم من الملائكة فنقول : مسلم أنه كان أعلم من الملائكة الأرضية. فلم قلتم إنه كان أعلم من الملائكة السماوية؟ وسنقيم البرهان اليقيني (١) على أن ذلك محال.
وأما الوجه الرابع : وهو قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ. وَنُوحاً. وَآلَ إِبْراهِيمَ. وَآلَ عِمْرانَ. عَلَى الْعالَمِينَ) (٢) فنقول : يجب حمل لفظ «العالمين» على أهل الأرض ، توفيقا بين هذه الآية وبين دلائلنا.
وأما قوله : «إن عباداتهم أشق ، فيجب أن يكونوا أفضل» فنقول مثل هذا الكلام: مثل ما إذا قيل : إن الخباز والقصاب : تحصيلهم للقوت واللباس أشق ، فوجب أن يكونوا أفضل من سلاطين المشرق والمغرب. ولما كان هذا الكلام لا يلتفت إليه العاقل. فكذا هاهنا.
وأيضا : فلو فرضنا رجلا شديد الاستعداد لحصول المرض ، بحيث يقع بأدنى سبب في الأمراض الشديدة. ورجلا آخر ، خلق على أكمل أنواع الصحة ، وأفضل أقسام الجمال [فهل نقول : هما فاضلان (٣)] إلا أن الأول أفضل من الثاني ، في الصحة والجمال. لأنه إنما يحفظ صحته بتعب شديد ، وهذا ليس كذلك؟ ولما كان هذا الكلام باطلا ، فكذلك هاهنا.
وأما قوله : «الانسان إذا مال إلى الشهوة ، كان أخس من البهيمة [فكذلك إذا مال : إلى جانب العقل ، كان أفضل من الملك» فنقول : أما قوله : [إذا مال إلى جانب الشهوة ، صار أخس من البهيمة (٤)] فهذا باطل. وعموم الآية على المبالغة في الزجر [والله أعلم (٥)].
__________________
(١) الدلالة النقلية (م).
(٢) آل عمران ٣٣.
(٣) فنقول فضولي [الأصل].
(٤) من (طا ، ل).
(٥) من (طا ، ل).
واعلم : أن دلائل القائلين بأن الملك أفضل من البشر. نوعان : بعضها سمعية ، وبعضها عقلية.
أما السمعية فوجوه :
الأول : قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :
الأول : إنه ليس المراد من هذه العندية : عندية المكان والجهة. فإنه محال. بل عندية القرب والشرف. ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة ، علمنا : أن هذا النوع من الشرف حاصل لهم لا لغيرهم.
والثاني : إنه سبحانه وتعالى احتج لعدم استكبارهم ، على أن غيرهم أولى بأن لا يستكبروا. ولو كان البشر أفضل من الملائكة لما تم هذا الاحتجاج. فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته أنه يجب عليهم خدمته وطاعته ، فإنه يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتي. فكيف هؤلاء المساكين.
وبالجملة : فالمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأكمل على الأدون. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المطلوب ، قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَيُسَبِّحُونَهُ ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢)
فإن قيل : الاعتراض على الوجه الأول : أن نقول : إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين. وهو قوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وأما في الدنيا فقال عليهالسلام ، حاكيا عن الله تعالى : «أنا عند
__________________
(١) الأنبياء ١٩ ـ ٢٠.
(٢) آخر الأعراف. وفي سورة فصلت : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).
(٣) القمر ٥٥.
المنكسرة قلوبهم لأجلي» وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم ، لأن هذا الخبر يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكسرين. والآية التي تمسكتم بها : تدل على أن الملائكة عند الله. ولا شك أن كون الله عند العبد ، أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله.
أما الاعتراض على الوجه الثاني : فهو أن نقول : لا نزاع في أن الملائكة أشد قدرة وقوة من البشر ، ويكفي في صحة هذا الدليل : هذا القدر من التفاوت. فإنه يقال : إن الملائكة ، مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض ، وأمنهم من الضعف والعجز [والهرم والمرض وطول أعمارهم (١)] لا يتركون العبودية لحظة واحدة. فالبشر مع نهاية ضعفهم [مع ما يصيبهم من الأمراض والآفات (٢)] أولى أن لا يتمردوا. فهذا يدل على أن الملائكة أكثر قوة من البشر [وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال. ولا نزاع في حصول التفاوت في هذا المعنى (٣)] أما لم قلتم : إن ذلك يدل على أن الملائكة أفضل من البشر؟.
والجواب عن الأول : أن نقول : إن قوله : «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» مشعر بأن المراد بتلك العندية : الحفظ والحراسة والرحمة. فإن السلطان إذا قال يا مسكين أنا معك. فهم كل أحد منه : أن المراد أن لا يهمله ولا يضيع مهمه. أما إذا قيل لبعض الأكابر أو العظماء : إنه من المقربين عند السلطان. فإنه يفهم منه كمال الدرجة والمنقبة. فعلم أنه لا تعلق لأحد البابين بالآخر.
والجواب عن السؤال الثاني : إن الاستدلال بأفعال الملائكة إنما يتم إذا قلنا : الملائكة موصوفون بالكمال في القوة والقدرة والعلم. لأنهم لو لم يكونوا أعلم من البشر ، لم يكن فعلهم حجة على البشر لأن فعل الجاهل لا يمكن جعله حجة على العالم.
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) من (طا ، ل).
(٣) من (طا ، ل).
فثبت : أن ذلك الاستدلال ، لا يتم إلا إذا كانت الملائكة زائدين على البشر [في قوة الإدراك ، وفي قوة العمل. ولا معنى للفضيلة إلا هذا. فإذا ثبت كونهم زائدين على البشر (١)] فقد ثبت أنهم أفضل من البشر.
الحجة الثانية : طاعات الملائكة أدوم ، فكانت أفضل بيان الأول وهو أنها أدوم : قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢) وعلى هذا التقدير ، فلو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر ، لكانت طاعتهم أدوم. وأما أنه لا نسبة له ، إلى طاعات البشر. فكيف ، ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة.
وبيان أنها لما كانت أفضل : لأن الفضيلة ليست إلا في الاستغراق في عبودية الله ، والمواظبة على ذكره ، والابتهاج بمحبته. فإذا كانت هذه المعاني في حقهم أدوم ، وجب أن تكون فضائلهم أكثر. ويؤكده قوله عليهالسلام : [«أفضل العباد من طال عمره ، وحسن عمله» والملائكة (٣)] أطول العباد عمرا وأحسنهم عملا ، فوجب أن يكونوا أفضل العباد. ولأنه عليهالسلام قال : «الشيخ في قومه ، كالنبي في أمته» وهذا يقتضي أن تكون الملائكة بالنسبة إلى البشر ، كالنبي بالنسبة إلى القوم (٤) وذلك يوجب فضلهم على البشر.
الحجة الثالثة : إنهم أسبق السابقين في خصال الخير ، فوجب أن يكونوا أفضل من غيرهم.
بيان الأول : إنه لا خصلة من خصال الدين ، إلا وهم أئمة متقدمون فيها ، بل هم العامرون لطرق الدين ، لأنهم كانوا موجودين قبل أولاد آدم بل قبل آدم بأعصار عظيمة ، وأدوار متباعدة ، وكانوا من أول العمر مواظبين على الطاعات والمعارف.
__________________
(١) سقط (م) ، (ط).
(٢) الأنبياء ٢٠.
(٣) سقط (طا ، ل).
(٤) الأمة (م).
وبيان أن السبق يوجب مزيد الفضيلة : وجهان :
الأول : قوله (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١).
والثاني : [قوله صلىاللهعليهوسلم : «من سن سنة حسنة. فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فهذا (٢)] يقتضي أن يكون كلما حصل للأنبياء من الثواب والفضيلة ، فمثله حاصل للملائكة مع زيادة الفضائل التي فازوا بها في الأزمنة السالفة.
الحجة الرابعة : إن الملائكة رسل الله تعالى إلى الأنبياء. والرسل أفضل من الأمة. فالملائكة أفضل من الأنبياء. أما الأول ، فلقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٤) وأما إن الرسول أفضل من الأمة ، فلأن الأنبياء والرسل ، إنما وصلوا إلى كل الخيرات بإرشادهم. وإنما فازوا بكل الدرجات بتعليمهم [وتوفيقهم (٥)] وفضل الأنبياء والرسل على الأمة ، ما كان إلا لهذا المعنى. فإذا كان هذا المعنى حاصلا هناك ، وجب كون الملائكة أفضل من الأنبياء.
فإن قالوا : إن السلطان قد يرسل واحدا من العبيد إلى الوزير ، لأجل أن يعلمه بمهم من المهمات. وذلك لا يوجب كون العبد أفضل من ذلك الوزير. فنقول : إنك ستعلم عند الدلائل [العقلية (٦)] أن من تخيل هذا المعنى في حق نزول الملائكة على الأنبياء ، فهو محروم جدا من معرفة الملائكة ومعرفة الأنبياء.
الحجة الخامسة : الملائكة أتقى من البشر ، فوجب أن يكونوا أفضل من البشر.
__________________
(١) الواقعة ١٠ ـ ١١.
(٢) من (طا ، ل).
(٣) النجم ٥.
(٤) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.
(٥) سقط (ل).
(٦) سقط (ل).
بيان الأول : إنهم مبرءون من الزلات ، ومن الميل إليها ، لأن خوفهم دائم. قال تعالى: (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (١) وإشفاقهم دائم. قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢) والخوف والإشفاق ينافيان العزم على المعصية.
وأما الأنبياء عليهمالسلام : فلم يخل واحد منهم عن نوع زلة. قال عليهالسلام : «ما منا إلا من عصى ، أو هم بمعصية ، غير يحيى بن زكريا» فيثبت : أن تقوى الملائكة أكمل فوجب أن يكونوا أفضل. لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣) رتب مزيد الكرامة ، على مزيد التقوى ، فوجب أن يكون مزيد التقوى علّة لمزيد الكرامة ، فأينما حصل مزيد التقوى ، وجب أن يحصل مزيد الكرامة.
الحجة السادسة : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤) فقوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : مذكور في معرض الاحتجاج. يعني : أن الملائكة لما لم يستنكفوا. فبأن لا يستنكف المسيح أولى. وهذا الاستدلال إنما يتم إذا كانت الملائكة أفضل من المسيح. فإن قالوا (٥) : لم لا يجوز أن يكون المراد [من هذا (٦)] أن الملائكة مع قدرهم القاهرة الغالبة ، لما لم يستنكفوا عن عبادة الله تعالى ، فبأن لا يستنكف المسيح عنها ، مع ضعفه كان أولى؟.
فنقول : هذا كما يدل على أن الملائكة أعلى من البشر في القوة والقدرة ، فكذلك يدل على أنهم أعلى من البشر في العلم. وإلا فالاستدلال بفضل الجاهل على العالم لا يصح. فلما صح هذا الاستدلال ، وجب كون الملائكة
__________________
(١) النحل ٥٠.
(٢) الأنبياء ٢٨.
(٣) الحجرات ١٣.
(٤) النساء ١٧٢.
(٥) قيل (م).
(٦) من (م).
أعلى حالا من المسيح ، في كمال القدرة وفي كمال العلم. ولا معنى للفضيلة إلا ذلك.
الحجة السابعة : قوله تعالى حكاية عن إبليس : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ. إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (١) ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء : أن الملك أفضل من البشر ، وإلا لما قدر إبليس أن يغرهما بهذا الكلام.
الحجة الثامنة : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي مَلَكٌ) (٢) فإن قالوا : الكفار طالبوه بالإخبار عن الغيوب ، وبالإتيان بالأعمال الشاقة. وهي المذكورة في قوله تعالى : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) فقال [ليس عندي من علم الغيب شيء (٤)] وليس عندي من القدرة على هذه الأعمال العظيمة التي يقدر عليها الملائكة : شيء. فهذا يدل على أن قدرة الملائكة أكمل من قدرة البشر [إلا أنه (٥)] لا يدل على الزيادة في الفضيلة. فنقول في الجواب : إن الرجل إذا طولب بأشياء فوق حده وطاقته ، فيقول [في الجواب (٦)] إني ما قلت لكم : إني صاحب الخزائن. ما قلت لكم : إني علام الغيوب. ما قلت لكم : إني سلطان. فهذا [لا (٧)] يفيد كونه أقل مرتبة من السلطان على الإطلاق. فإن الرجل العالم إذا قال هذا الكلام ، قيل له : بل أنت أفضل من السلطان ، بسبب علمك وزهدك وتقواك. فدل هذا النفي المطلق ، على أن حاله أنقص من حال الملائكة.
الحجة التاسعة : قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ
__________________
(١) الأعراف ٢٠.
(٢) الأنعام ٥٠.
(٣) الإسراء ٩٠.
(٤) سقط (طا ، ل).
(٥) لكن (ل).
(٦) سقط (طا ، ل).
(٧) زيادة.
كَرِيمٌ) (١) فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه وقوع التشبيه في الصورة [والجمال (٢)]؟ قلنا الأولى حمل هذا التشبيه في السيرة ، لا في الصورة. لأنه قال : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فشبه بالملك الكريم. والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية ، لا بمجرد صورته. فثبت : أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دعاوي الشر من الشهوة والحرص على المشتهى ، وإثبات ضد ذلك ، وهي صفة الملك ، وهي غضّ البصر ، وقمع النفس عن الميل إلى الحرام. فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء ، والمؤمن والكافر ، على اختصاص الملائكة بالدرجات الفائقة (٣) في جميع الخيرات على درجات البشر.
فإن قالوا : إن قول المرأة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (٤) كالصريح في أن مراد النساء بقولهن : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) : تعظيم حال يوسف في الصورة ، لا في السيرة. قلنا : هذا غير لازم. فلعل مراد المرأة : إني عشقت إنسانا مثل هذا الذي رأيتن ، كأنه ملك لا يميل طبعه البتة إلى الشهوات واللذات. ومعلوم : أنه كلما كان امتناع المعشوق أشد ، كان عشق العاشق أشد [والله أعلم (٥)].
الحجة العاشرة : قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٦) وجه الاستدلال : أن المخلوق (٧) إما مكلف وإما غير مكلف. ولا شك أن المكلف أفضل مما لا يكون مكلفا (٨) أما المكلفون فهم أربعة أنواع : الملائكة ، والبشر ، والجن ، والشياطين. ولا نزاع في أن البشر أفضل من الجن والشياطين. فلو كانوا أفضل من الملائكة أيضا. لزم أن يكونوا أفضل من جميع
__________________
(١) يوسف ٣١.
(٢) من (ل).
(٣) العالية (م).
(٤) يوسف ٣٢.
(٥) من (طا ، ل).
(٦) الإسراء ٧٠.
(٧) المخلوقات (ل).
(٨) من غير المكلف (م).
الخلائق (١)) وحينئذ لا يبقى لقوله : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) فائدة بل كان يجب أن يقال : وفضلناهم على جميع المخلوقات.
الحجة الحادية عشرة : الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ما استغفروا لأحد ، إلا وبدءوا بالاستغفار لأنفسهم ، ثم بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين. قال آدم وزوجه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٢) وقال نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) (٣) وقال إبراهيم : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) (٤) وقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٥) [وقال موسى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) (٦) وقال الله لمحمد : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٧)] وأما الملائكة فإنهم لم يستغفروا [لأنفسهم. ولكنهم طلبوا المغفرة (٨)] للمؤمنين من البشر ، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٩) ولو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدءوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس [واجب (١٠)] ومقدم على دفع الضرر عن الغير. قال عليهالسلام : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».
الحجة الثانية عشرة : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) (١١) وهذا عام في حق المكلفين من بني آدم ، فدخل فيه الأنبياء وغيرهم. وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر من وجهين :
الأول : إن الذي يحفظ غيره عن المعصية ، يجب أن يكون بعده عن المعصية أكمل من بعد المحفوظ.
والثاني : إنه تعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات ، وعليهم في
__________________
(١) الملائكة (م).
(٢) الأعراف ٢٣.
(٣) نوح ٢٨.
(٤) إبراهيم ٤١.
(٥) الشعراء ٨٣.
(٦) الأعراف ١٥١.
(٧) محمد ١٩.
(٨) من (طا ، ل).
(٩) غافر ٧.
(١٠) سقط (ل).
(١١) الانفطار ١٠ ـ ١١.
المعاصي. وذلك يوجب أن تكون أقوالهم (١) أولى بالقبول من أقوال البشر.
الحجة الثالثة عشرة : قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَقالَ صَواباً) (٢) وجه الاستدلال به : أنه تعالى لما أراد أن يقرر عند الناس كمال عظمته ونهاية جلاله. قال في المرتبة الأولى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما بَيْنَهُمَا : الرَّحْمنِ. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣) ومعلوم أن السموات والأرض وما بينهما إشارة إلى جملة عالم الأجسام [فبين أن جملة عالم الأجسام (٤)] منقادة خاضعة له ، وأن قدرته ومشيئته نافذة في أعماقها سارية في أجزائها وجزئياتها. ثم إنه لما ذكر ذلك ، قال بعده : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَقالَ صَواباً) (٥) فانتقل من الاستدلال بعالم الأجسام على عظمته ، إلى الاستدلال بعالم الأرواح على عظمته. وهذا يدل على أن عالم الروحانيات أشرف وأعلى وأكمل وأفضل من عالم الجسمانيات. ثم لما ذكر الاستدلال على تقرير هذه العظمة بعالم الروحانيات ، لم يذكر بعد ذلك دليلا آخر ، بل قال : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) (٦) وهو النتيجة فهذا يدل على أن أعظم مخلوقات الله تعالى : عالم الروحانيات ، وأنه لا نسبة لها في الكمال والجلالة إلى عالم الجسمانيات (٧).
الحجة الرابعة عشرة : قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ. بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٨) فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان. بهذه الأشياء الأربعة. فبدأ بنفسه ، وثنى بملائكته ، وثلث
__________________
(١) أفعالهم (م).
(٢) النبأ ٣٨.
(٣) النبأ ٣٧.
(٤) سقط (م) ، (ط).
(٥) النبأ ٣٨.
(٦) النبأ ٣٩.
(٧) الروحانيات (م).
(٨) البقرة ٢٨٥.
بالكتب ، وربع بالرسل. وهذا الترتيب في غاية الصحة والفائدة. لأن منبع النور والكمال والرحمة هو الله تعالى. والوسائط هم الملائكة. والقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل. فلا بد أولا من الأصل ، وثانيا من الواسطة وثالثا من حصول تلك الرحمة ، ورابعا من وصولها إلى القابل ، وهم الأنبياء والرسل. وهذا يدل على أن أفضل الموجودات في الشرف [والرتبة هو الله تعالى ، وبعده في المرتبة درجات الملائكة ، وبعدهم في الشرف (١)] تلك الفوائد والأنوار [التي هي الكتب. وفي آخر الدرجات : الأرواح البشرية التي لما وصلت إليها تلك الفوائد والأنوار (٢)] سعدت بها ، وكملت فضائلها بسببها.
الحجة الخامسة عشر : قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَالْمَلائِكَةُ. وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٣) فقدم (الْمَلائِكَةُ) على أولي العلم : تنبيها على أن علم الأنبياء من زمرة البشر ، إنما حصل من فيض أنوار الملائكة. فهم الأصول ، والبشر كالفروع. ويقرب منه قوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٤) وهذا تنبيه على أن أنوار السعادات ، إنما تظهر من بحار رحمة الله تعالى ، ولكنها لا تصل إلى النفوس البشرية ، إلا بواسطة الملائكة ، فكل فضيلة ومنقبة إلى البشر فبحارها ومعادنها عند الملائكة وقطراتها المختصرة وصلت إلى البشر.
الحجة السادسة عشرة : إنا نتكلم في جبريل ومحمد عليهماالسلام.
فنقول : إن جبريل أفضل من محمد ، لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ. ثَمَّ أَمِينٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٥) وصف الله تعالى جبريلعليهالسلام بستة من صفات الكمال.
إحداها : كونه رسولا من الله إلى غيره. وثانيها : كونه كريما على الله.
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) من (طا ، ل).
(٣) آل عمران ١٨.
(٤) الأحزاب ٥٦.
(٥) التكوير ١٩ ـ ٢٢.
وثالثها : كونه ذا قوة عند الله [على أداء الطاعات ، والبعد عن المحظورات ، بحيث لا يقوى عليها غيره. ورابعها : كونه مكينا عند الله (١)] وخامسها : كونه مطاعا في عالم السموات. وسادسها : كونه أمينا في تبليغ الوحي والرسالة. ثم إنه سبحانه بعد أن وصف جبريل عليهالسلام بهذه الصفات [العالية (٢)] وصف محمدا عليهالسلام بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٣) ولو كان محمد مساويا في صفات الفضل أو مقاربا لجبريل ، لكان وصف محمد بهذه الصفة ، بعد وصف جبريل بتلك الصفات تحقيرا لشأن محمد ، وإبطالا لحقه. وذلك غير جائز.
فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد عند جبريل من المنزلة ، إلا مقدار أنه يقال : إنه ليس بمجنون. وذلك على أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الفضل والدرجة.
الحجة السابعة عشر : قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ : إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ. فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (٤) وهذه الآية تدل على أنهم بلغوا في الرفعة والجلالة ، إلى أنهم لو خالفوا الله في أمر من الأمور ، لما حصلت تلك المخالفات ، إلا بادعاء الإلهية ، لا بشيء آخر من متابعة الشهوات. وذلك يدل على غاية جلالتهم ورفعتهم.
الحجة الثامنة عشر : قول الله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَ) (٥) وهذا الاستدلال بحصول الفزع في قلوبهم يدل على أن حصول هذا الفزع بالبشر أولى. وذلك يدل على الفضيلة.
الحجة التاسعة عشر : قوله عليهالسلام حكاية عن الله تعالى «وإذا
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) من (ل).
(٣) التكوير ٢٢.
(٤) الأنبياء ٢٩.
(٥) سبأ ٢٣.
ذكرني عبدي في ملأ ، ذكرته في ملأ خير من ملأه» وهذا يدل على أن الملائكة أشرف وأعلى.
الحجة العشرون : الملك أعلم من البشر ، والأعلم أفضل.
بيان أنه أعلم : وجهان :
الأول : إن محمدا عليهالسلام إنما تعلم من جبريل عليهالسلام. لقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (١) والمعلم أكثر علما من المتعلم.
الثاني : إن العلوم الدينية قسمان :
علم الأصول ، وعلم الفروع :
أما علم الأصول : فيمتنع التقصير فيه بالنسبة إلى جبريل ومحمد عليهماالسلام لأن ذلك التقصير يوجب الجهل بالله ، وهو في حقهما : محال. وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى ، وحصول ما فيها من العجائب والغرائب ، فهذا العلم لجبريل عليهالسلام ـ أكمل. لأنه شاهد العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ، وأطباق السموات وأجرام الكواكب ، وشاهد طبقات (٢) العناصر وأحوال البحار والجبال والمفاوز ومراتب المعادن والنبات والحيوان. وذلك لأن مسكنه في السموات ، فهو قد شاهدها. ولأنه أيضا : مطاع في عالم السموات ، والملائكة لا موكلون على هذه المواضع يطيعونه ، فيكون عالما بأحوال هذه الأشياء. لا محالة.
فثبت : أن علمه بهذه الأشياء لا نسبة له إلى علم البشر.
وأما علم الفروع : فهذا العلم لا يحصل إلا بالوحي. وبالضرورة : إن هذا العلم لم يحصل لمحمد ، ولا لأحد من الأنبياء ، إلا بطريق الاستفادة من جبريل. وأيضا : فإن محمدا كان عالما بشريعة نفسه. وما كان [عالما بسائر
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) أطباق (م).