المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

الفصل الثامن

في

التناسخ

اعلم : أن التناسخ ، أثبته بعضهم. وأنكره الباقون.

أما مثبتو التناسخ : فقد اختلفوا من وجوه.

الأول : إن كل من قال بالتناسخ قال بجواز انتقال النفوس البشرية إلى أبدان البهائم والسباع وبالضد. وهل يجوز انتقالها إلى أجسام النبات والمعادن أم لا؟ اختلفوا فيه.

والثاني : إن أهل التناسخ. فريقان : منهم من يقول بقدم العالم. ومنهم من يقول بحدوثه.

أما القائلون بقدم العالم فقالوا : إن هذه النفوس كانت قبل كل بدن ، في بدن آخر ، لا إلى أول.

وأما القائلون بحدوث العالم ، فقد أقروا بأن تتعلق النفوس بالأبدان أولا. ثم اختلفوا. فقال «محمد بن زكريا الرازي» : النفوس كانت مباينة عن الهيولى وغافلة عنه ، ثم اتفق لها التفات إلى الهيولى ، وعشق إليه ، فتعلقت به. فإذا فسد البدن ، وكان ذلك العشق باقيا ، فهي تعود إلى بدن آخر ، ولا تزال تنتقل من بدن إلى بدن آخر ، إلى الوقت الذي يزول ذلك العشق ، وتحصل النفرة. فحينئذ تفارق ذلك البدن ، ولا تعود إلى بدن آخر. وقد

٢٠١

استقصينا في شرح مذهبه ، في كتاب «الحدوث والقدم وقال آخرون : إن هذه النفوس كانت كلفت بالطاعات ، ومنعت عن المعاصي. فمن أطاع نقل روحه إلى بدن أشرف [من بدنه (١)] وأعلى مما كان ، ليكون ذلك ثوابا له على تلك الطاعات ، ومن عصى نقل روحه إلى بدن شقي ، ليكون ذلك عقابا له على ما كان عليه [من المعاصي (٢)] واحتج الشيخ الرئيس «أبو علي بن سينا» على فساد القول بالتناسخ بدليلين (٣) :

الحجة الأولى : قال : إنه ثبت : أن النفوس البشرية حادثة ، وثبت أن علتها قديمة ، والموجود القديم لا يكون علة للشيء المحدث ، إلا إذا كان تأثيره فيه ، موقوفا على شرط حادث وذلك الشرط الحادث وهو حدوث البدن. فعلى هذا إذا حدث بدن ، وجب أن يفيض عن واجب الصور نفس ، فلو تعلق بذلك البدن نفس على سبيل التناسخ وتعلقت به هذه النفوس الحادثة أيضا ، لزم أن يتعلق بذلك البدن الواحد نفسان ، وهذا محال. لأن كل أحد يجد نفسه نفسا واحدة لا نفسين.

والاعتراض عليه من وجوه :

الأول : لا نسلم أن النفس حادثة. وذلك لأن الدليل الذي ذكرتم في إثبات حدوث النفس ، كان موقوفا على إبطال التناسخ ، ثم إنكم بنيتم دليلكم في إبطال التناسخ على حدوث النفس. فيقع الدور ، وهو باطل.

والاعتراض الثاني : سلمنا : أن النفس حادثة ، فلم قلتم : إن المؤثر في وجود النفس علة موجبة؟ ولم لا يجوز أن يكون المؤثر فيها فاعلا مختارا ، فيخلق تلك النفوس والأرواح في أي وقت شاء وأراد؟ وعلى هذا التقدير [فلا يمكنكم أن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

(٣) واحتج الرئيس على إبطاله بدليلين (أ).

٢٠٢

تقولوا : إن حدوث البدن يقتضي حدوث النفس وعند هذا (١)] ينتقل هذا الكلام من هذه المسألة إلى مسألة [أخرى. وهي مسألة (٢)] الموجب والقادر.

والاعتراض الثالث : هب أن النفس حادثة ، وأن المؤثر في وجودها علة قديمة موجبة بالذات ، وأن فيضان هذه النفس عن تلك العلة القديمة مشروط بشرط حادث. فلم قلتم : إن ذلك الشرط الحادث ليس إلا المزاج الحادث؟ وما الدليل على هذا التعيين؟

بل هاهنا احتمالات أخرى سوى ذلك.

فأحدها : أن يقال : إنه حصل نفس أو عقل ، وله تعقلات منتقلة من معقول إلى معقول. ومن إدراك إلى إدراك. والشرط في فيضان هذه النفس الحادثة عن تلك العلة القديمة: حدوث تعقل خاص [وإدراك خاص (٣)] في ذلك العقل أو النفس. وعلى هذا التقدير تكون النفس حادثة ، لا لحدوث الأمزجة.

وثانيها : أن يقال : الشرط لحدوث تلك النفوس عن تلك العلة القديمة ، وصول الشمس أو سائر الكواكب إلى دقائق أو درجات معينة من الفلك.

وثالثها : [أن يقال (٤)] الشرط لحدوث تلك النفوس طالع المسقط ، أو شيء آخر يشبه ذلك.

وبالجملة : فعليكم (٥) إقامة الدليل على أنه لا سبب لفيضان النفس المعينة عن تلك العلة القديمة ، إلا حدوث هذه الأمزجة.

والاعتراض الرابع :سلمنا أن ذلك السبب الحادث هو المزاج الحادث.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) فعليهم (ل).

٢٠٣

إلا أنا نقول : الأمزجة مختلفة. ولم يثبت بالدليل كون النفوس متساوية في الماهية. وإذا كانت الأمزجة مختلفة ، وكانت النفوس مختلفة ، لم يلزم من كون هذا المزاج الحادث ، قابلا للنفس التناسخية : كونه قابلا للنفس الحادثة الأخرى. وحينئذ يبطل هذا الدليل.

والاعتراض الخامس : سلمنا : أن النفوس الناطقة متساوية في أصل الماهية ، إلا أن على هذا التقدير لا يحصل التعدد فيها ، إلا لأجل اختصاص كل واحد منها بأمر ، لأجله حصل الامتياز والتعدد. فهذه النفس المعينة : عبارة عن المجموع الحاصل من جهة المشاركة ، ومن جهة المخالفة. وكذلك القول في النفس الثانية. وعلى هذا التقدير فكل واحدة من النفوس المعينة تكون مخالفة للنفس الأخرى ، فلم يلزم من كون المزاج المعين ، قابلا لإحداهما ، كونه قابلا للثانية. فسقط هذا الدليل.

والاعتراض السادس : سلمنا تساوي النفسين المعينتين بحسب الذوات. فلم لا يجوز أن تختص النفس التناسخية بأمور ، لأجلها تصير هي أولى بذلك البدن؟ وبيانه من وجوه :

الأول : إن النفس التناسخية ، لما كانت مدبرة للأبدان السابقة ، وبقيت مواظبة على ذلك التدبير ، مدة (١) متطاولة ، حصلت لها ملكة راسخة في تدبير الأبدان.

وأما هذه النفس الحادثة ، فلم تحصل لها هذه الحالة ، فتكون النفس التناسخية كالرجل القوي الماهر في الصنعة والنفس الحادثة [لم تحصل لها هذه الحالة. فتكون النفس الحادثة (٢)] كالطفل الضعيف الجاهل بالصنعة ولا شك أن الأول أولى وأقوى.

الثاني : إن النفس الحادثة لا تحدث إلا بعد حصول المزاج وحدوثه على سبيل التمام والكمال. فيكون حدوث هذه النفس متأخرا عن حدوث هذا

__________________

(١) سنين (ل).

(٢) سقط (طا ، ل).

٢٠٤

المزاج. وأما النفس التناسخية. فإنها متقدمة في الوجود على حدوث ذلك المزاج ، فلا يمتنع أن يقال : إن النفس لما أحست بأن ذلك [المزاج (١)] في طريق التكوين ، فقبل تمامه وكماله تعلقت به ، واشتغلت بتدبيره ، فلا جرم كان تعلق هذه النفس التناسخية بتدبير ذلك البدن أولى. لأن الدفع أسهل من الرفع.

الثالث : لا يمتنع أن يقال : حصلت نفوس كثيرة مشاكلة لهذه النفس التناسخية في الصفات والأحوال ، وتكون تلك النفوس لهذه النفس التناسخية كالأعوان والأنصار على التعلق بذلك البدن المعين ، فكان تعلقها بذلك البدن أولى من تعلق النفس الحادثة به. فهذه احتمالات لا يمكن دفعها. فلا جرم ضعفت هذه الدلالة.

والاعتراض السابع : هب أنه تعلق بذلك البدن (٢) نفسان. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ قوله : «الدليل على امتناعه : أن كل إنسان فإنه يجد نفسه نفسا واحدة لا نفسين» قلنا : هذا الكلام في غاية الضعف. لأن الذي يحصل له الشعور بذاته وبأحواله هو النفس لا البدن. فإذا اجتمع في البدن الواحد نفسان فكل واحدة من تينك النفسين تحس نفسها نفسا واحدة. ومثاله إذا اجتمع في بيت واحد رجلان. فإن اجتماعهما فيه لا يمنع من أن يحس كل واحد منهما بنفسه ، وبأنه شيء واحد. فكذا هاهنا.

والاعتراض الثامن : أن نقول : هذا الإشكال الذي ألزمتموه على القائلين بالتناسخ، هو بعينه وارد عليكم أيضا. وتقريره : أن النفوس الناطقة. إما أن تكون مختلفة في الماهية ، أو متساوية فيها. فإن كان الأول فقد سقط هذا الدليل. لأنه لا يلزم من كون المزاج الحادث قابلا للنفس التناسخية ، كونه قابلا للنفس الحادثة ، وإن كان الثاني وهو أن النفوس متماثلة، وكل مزاج يقبل نفسا واحدة ، وجب أن يكون قابلا لجميع النفوس.

__________________

(١) من (م).

(٢) المزاج (ل).

٢٠٥

فإذا حدث مزاجان دفعة [واحدة (١)] وجب أن يحدث نفسان متعلقتان بهما. ثم نسبة كل واحد من ذينك المزاجين إلى تينك النفسين على السوية ، فلم يكن تعلق إحدى النفسين ، بأحد المزاجين ، أولى من العكس. فيلزم تعلق كل واحدة [من النفسين (٢)] بكل واحد من البدنين ، وذلك يوجب القول بحصول النفسين في البدن الواحد ، وبحصول النفس الواحدة في البدنين (٣) فثبت : أن ما ألزموه من المحال فضعفه ، لازم عليهم.

فإن قالوا : هذا بناء على أنه يمكن حدوث مزاجين متساويين دفعة واحدة ، وهو ممنوع. قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إن هذا الإلزام لا يتوقف على بيان أن المزاجين الحادثين في الوقت الواحد مثلان أو مختلفان. وذلك لأن هذا الدليل مفرع على أن النفوس الناطقة متماثلة ، وحكم الشيء حكم مثله. فكل مزاج يقبل نفسا ، وجب أن يكون قابلا لسائر النفوس. وحينئذ يعود الإلزام ، سواء قلنا : إن تلك الأمزجة متماثلة أو مختلفة.

الثاني : إن المزاج المخصوص. إنما حدث بناء على شرطين :

أحدهما : حصول أجزاء مخصوصة من العناصر الأربعة ، مقدرة بمقادير معينة.

والثاني : امتزاج تلك الأشياء واختلاطها على وجه خاص مدة معينة ، وإذا عرفت هذا فنقول : حصول أجزاء أخرى من العناصر الأربعة متقدرة بالمقادير المعينة ومختلطة على ذلك الوجه المعين : ممكن. والموقوف على الممكن ممكن. فوجب القطع بأنه يمكن حدوث مزاجين متساويين في وقت واحد. وهو المطلوب.

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) من (ل).

(٣) البدن (ط).

٢٠٦

الحجة الثانية لمنكري التناسخ : قالوا : النفوس المفارقة لأبدانها. إما أن يصح عليها : أن تبقى مجردة مدة ، من غير أن تكن متعلقة بأبدان أخرى ، وإما أن لا يصح ذلك. والأول باطل. لأنها تكون فيما بين الوقتين : معطلة ولا معطل في الطبيعة (١).

والثاني يوجب أن يكون عدد الهالكين ، مساويا لعدد الكائنين ، حتى يقال : إنه عند ما فسد بدن ، وفارقته نفسه. ففي تلك الحالة يكون قد استعد بدن آخر لتتعلق به تلك النفس. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، فإن في الطوفانات العامة التي عندها ينقطع النسل ، نعلم أن عدد الهالكين أكثر من عدد الكائنين.

والاعتراض على هذا الكلام من وجهين :

الأول : إن قولكم : لا معطل في الطبيعة : كلام لم يذكروا في تقريره شبهة. فضلا عن حجة.

ثم إنه منقوض على أصولكم بأشياء.

أولها : إن «ثامسطوس» (١) زعم : أن النفوس الباقية بعد مفارقة الأبدان هي النفوس الفاضلة الكاملة ، وأما نفوس الأطفال والجهال فإنها تفسد ، وإلا لبقيت معطلة ، ولا معطل في الطبيعة. ثم إنكم ما التفتم إلى هذا الكلام ، وما أقمتم له وزنا. وحكمتم ببقاء نفوس الأجنة والأطفال والمعتوهين ، أبد الآباد ودهر الداهرين : معطلة ، خالية عن الفعل والانفعال. ومعلوم : أن ذلك التعطيل : أكمل لأن هذه النفوس التناسخية ، قد حصل لها شيء كثير من العلوم والأخلاق ، فهي منتفعة بتلك الصفات. ثم إنها عن قريب تتعلق بأبدان أخرى ، وتتخلص عن تلك المعطلة وأما نفوس الأطفال فليس معها شيء من العقائد والأخلاق ، فتبقى عطلتها أبدا سرمدا. ثم إنكم جوزتم هذا ، ومنعتم من ذلك. وهذا في غاية البعد.

٢٠٧

وثانيها : إن بقاء الشيء أبد الآباد في العذاب الشديد ، أبعد في العقول من بقاء الشيء في العطلة مدة قليلة. ثم إنكم حكمتم بحصول الأول ، ومنعتم من الثاني وهو أيضا بعيد.

وثالثها : إنكم [إذا (١)] أردتم بهذه العطلة ، كونها خالية عن الآلام واللذات ، فليس الأمر كذلك ، لأن هذه النفوس التناسخية معها شيء كثير من العلوم والأخلاق ، وإن أردتم به كونها غير قادرة على تحصيل الزيادة ، فهذه العطلة لازمة على جميع التقديرات. لأن كل نفس وإن بلغت الغاية في المعارف والأخلاق ، [الفاضلة (٢)] فعند الموت تبقى عاجزة عن تحصيل الزيادة.

والاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : عدد الهالكين يكون (٣) على قدر عدد الكائنين؟ وأما الطوفانات العامة. فالجواب عنها : إن عدد الحيوانات المتولدة في قعور البحور ، وشقوق الصخور ، وأعداد البق والبعوض غير معلومة. ومن الذي يمكنه إحصاء هذا العدد؟

وبالجملة : فذكر مثل هذا الدليل غير لائق بفضل الشيخ [الرئيس البتة (٤)].

الحجة الثالثة لمنكري التناسخ. وعليه تعويل الجمهور من المتكلمين :

قالوا : (٥) لو كانت نفوسنا مدبرة لأبدان أخرى قبل هذا البدن ، لعرفنا الآن تلك الحالة [وحيث (٦)] لم نعرفها. وجب القطع بأنها ما كانت موجودة. أما نقيض التالي : فظاهر. وإنما الشأن في إثبات الشرطية. فنقول : الدليل عليه هو أن تكرر الأفعال. سبب لحدوث الملكات الراسخة ، وهذا مشاهد

__________________

(١) من (ل ، طل).

(٢) يزيد (م).

(٣) سقط

(٤) سقط (ط).

(٥) أن نقول (ل ، طا).

(٦) ولم نعرفها [الأصل].

٢٠٨

معلوم بعد الاستقراء. فإن من قرأ الدرس الواحد مائة مرة ، بقي ذلك الدرس على حفظه. وكلما كان التكرار عليه أكثر ، كان ذلك الحفظ أتم. هذا إذا حصل ذلك التكرار يوما ويومين. فأما إذا ابتدأ بذلك التكرار من أول عمره إلى آخره ، ولم يغفل لحظة ولا لمحة ، وكان مشتغل الهم متعلق الخاطر في كل هذه المدة ، وجب القطع بأنه نسيان مثل هذه الحالة.

إذا ثبت هذا فنقول : لو أنا قبل هذا البدن ، كنا في بدن آخر ، وكنا في ذلك الوقت متصرفين في ذلك البدن ، وفي الدنيا ، وكنا مشاهدين لأهلها عارفين بأحوالها لوجب أن يكون علمنا الآن بأنا كنا على هذه الحالة علما راسخا في نفوسنا ، متأكدا في عقولنا ، رسوخا وتأكدا ، لا يقبل الزوال [والتأكد (١)] وإن لم يحصل هذا الرسوخ والتأكد ، فلا أقل من نوع من أنواع التذكر لتلك [الأحوال (٢)] أو بعضها. وحيث لم يوجد شيء من ذلك البتة ، كان القول بالتناسخ باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : [إن بقاء (٣)] العلم بأحوال كل بدن ، مشروط ببقاء النفس في تدبير ذلك البدن ، وعند زوال الشرط يزول المشروط؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : الإنسان في هذه الحياة ، يكون شديد الاهتمام [بإصلاح مصالح هذه الحياة شديد الاهتمام (٤)] بدفع مفاسدها فلشدة اهتمامه بهذه المهمات ، نسي أحوال تلك الأبدان [السالفة (٥)] ومثاله : أن الإنسان إذا وقع في حرق ، أو غرق قد يصير لأجل شدة اهتمامه بتخليص نفسه عن تلك الآفات ، إلى حيث ينسى أباه وأمه وولده وبلده ووطنه. فكذا هاهنا.

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : إن الذي يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» إما أن يكون هو هذا البدن. وإما أن يكون شيئا آخر. إلا أنه

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) سقط (طا).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (طا) ، (ل).

٢٠٩

يكون محتاجا في وجوده إلى وجود هذا البدن. وإما أن يكون شيئا [آخر (١)] مغايرا لهذا البدن ، ويكون (٢) غنيا في وجوده عن هذا البدن. فإن كان الحق هو الأول أو الثاني ، فالقول بالتناسخ باطل قطعا. وإن كان الحق هو الثالث فنقول : لا شك أن ماهية النفس قابلة للعلوم وإلا لما كانت عالمة بتلك الأحوال في تلك الأزمنة ، ولما صارت عالمة بأحوال هذا البدن في هذا الزمان ، وتلك القابلية من لوازم ماهيتها. وقد بينا : أن المواظبة على هذه الأحوال توجب رسوخ تلك المعارف في جوهر النفس. وغاية ما في الباب : أنه مات ذلك البدن ، إلا أن موت البدن عبارة عن خراب محل العمل ، وخراب محل العمل لا يوجب النسيان ، ولا يوجب زوال العلم بالأشياء التي كانت معلومة.

وإذا ثبت هذا ، وجب القطع ببقاء تلك العلوم.

وأما قوله : «إن شدة الاهتمام بمصالح الوقت ، أوجب نسيان الأحوال [النفسانية (٣)] السابقة» فنقول : هذا بعيد جدا. لأنا في أكثر الأحوال نجد أنفسنا فارغين ساكنين بحيث يمكننا أن نستنبط في تلك الفراغة أنواعا كثيرة من العلوم الدقيقة ، والمطالب العالية الغامضة. ثم إنا نجرب أنفسنا في تلك الأحوال ، فلا يخطر ببالنا أنا كنا موجودين في أبدان أخرى ، لا بالقليل ولا بالكثير. وذلك يدل على فساد القول بالتناسخ. [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ل)

(٢) لهذا البدن ، وإما أن يكون غنيا (م).

(٣) سقط (ط) ، (ل).

(٤) سقط (م).

٢١٠

الفصل التاسع

في

بيان أن النفس باقية بعد موت البدن

اعلم : أنك لا ترى في الدنيا مسألة أهم للعاقل من هذه المسألة ، فوجب على كل من عنده شيء من العقل ، أن يكون عظيم الاهتمام بمعرفتها. فنقول أهل العلم (١) لهم في النفس مذهبان :

أحدهما : إنها عبارة عن جسم مخصوص ، موصوف بمزاج مخصوص.

والثاني : إنها جوهر قائم بذاته ، مغاير لهذا البدن ، ولجميع أجزائه. سواء قلنا : إنه جسم مخالف للأجسام العنصرية البسيطة أو المركبة ، أو قلنا : إنه جوهر ليس بجسم ولا بجسماني.

أما القائلون بالقول الأول. فهم فريقان :

[أحدهما : أهل البحث والنظر.

وثانيهما : أهل التقليد والأثر. أما (٢)] أهل البحث والنظر فالجمهور منهم اتفقوا على أن النفس بهذا التفسير يمتنع بقاؤها بعد موت البدن ، بناء على أن القول بالبعث والقيامة غير ممكن. وذلك لأنه بعد الموت قد فني هذا المزاج ، وبطل هذا التركيب. والمعلوم يمتنع عوده بعينه.

__________________

(١) العالم (ل).

(٢) سقط (ل).

٢١١

وأما أهل التقليد والأثر. فهم قد اعتقدوا أنه لا حقيقة للإنسان إلا هذا الهيكل. وسمعوا من الأنبياء والعلماء : إثبات القول بالبعث والقيامة ، فاعتقدوا كلا القولين ولم تصل خواطرهم إلى أن الجمع بين هذين القولين ، هل هو ممكن أم لا؟ ثم إن جماعة من المتكلمين لما أرادوا أن يجمعوا بين هذين القولين ، ذكروا فيه طريقين :

الأول : قال بعضهم : إن إعادة المعدوم بعينه جائز.

والثاني : قال آخرون : إنه محال. إلا أنه إذا مات الإنسان ، فإنه لا تفنى تلك الأجزاء أو تلك الذوات ، وإنما يفنى المزاج والصفات. فإذا أعيد التركيب والمزاج إلى تلك الأجزاء ، كان الإنسان العائد ، عين الإنسان الذي كان موجودا في الدنيا.

وهذا في غاية البعد ، لأنا نقول : الإنسان المعين إما أن يكون عبارة عن تلك الأجزاء كيف كانت ، أو عينها بشرط كونها موصوفة بصفات مخصوصة. والأول باطل. لأن تلك الأجزاء حال ما كانت خالية عن العلم والحياة والقدرة والمزاج والتأليف ، كانت موجودة ، مع أن هذا الإنسان [ما كان موجودا. فإذا مات هذا الإنسان وزالت هذه الصفات. فإن تلك الأجزاء تكون باقية مع أن ذلك الإنسان قد لا يكون باقيا. وهذا يدل على أن هذا الإنسان (١)] ليس عبارة عن تلك الأجزاء [كيف كانت ، بل إن كان ولا بد ، فالإنسان المعين عبارة عن تلك الأجزاء (٢)] المخصوصة بشرط قيام صفات مخصوصة بها فإذا عدمت تلك الصفات ، فقد عدم أحد الأجزاء المقمومة لماهية ذلك الإنسان المعين ، وحينئذ يحصل الجزم بأن ذلك الإنسان قد عدم وفني. ثم عند هذا نقول : إن كانت إعادة المعدوم ممكنة ، فلا حاجة إلى القول ببقاء تلك الذوات ، وإن كانت غير ممكنة لم يكن القول ببقاء تلك الذوات كافيا في القول بصحة عود ذلك الإنسان بعينه.

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (ط).

٢١٢

فهذا تفصيل قول من يقول : الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بالمزاج المخصوص.

وأما الذين يقولون : الإنسان عبارة عن جوهر مجرد مغاير لهذا البدن. فالكل أطبقوا على أن النفس باقية بعد موت البدن [ولما بينا بالدليل : أن النفس جوهر مجرد ، كان قولنا : النفس باقية بعد موت البدن (١)] مفرعا على هذا الأصل [والله أعلم (٢).

واعلم : أن هذه المسألة لما كانت أهم المهمات ، لا جرم عزمنا على أن نذكر فيها كل ما يمكن ذكره. سواء كان من الوجوه البرهانية ، أو من الوجوه الإقناعية :

فالحجة الأولى على بقاء النفس بعد موت البدن : أن نقول : قد ثبت أن النفس الناطقة : جوهر ليس بجسم ولا في جسم البتة. ويمتنع أن يحصل بينه وبين الأجسام قرب أو بعد أو مناسبة. وليس بينها وبين هذا البدن ، إلا أن هذا البدن محل تصرف ذلك الجوهر في منزل عمله ودار مملكته. كما أن الرجل المعين يكون ساكنا في دار ومتصرفا فيها ، فإذا خرجت تلك الدار وخرجت عن الصلاح والسداد ، لم يلزم موت ذلك المتصرف وبطلانه. وهذا يجري مجرى العلوم الضرورية. والشك والشبهة إنما يتولد بسبب أن الوهم يسبق إلى أن ذلك الشيء حال في هذا البدن ، وساري فيه. فيسبق حينئذ إلى الوهم أنه يجب موتها بموت البدن.

وأما إن قدرنا جوهرا مجردا ليس بينه وبين هذا البدن مناسبة ، لا بالقرب ولا بالبعد ، ولا بوجه من وجوه المناسبة. إلا من وجه واحد ، وهو أن ذلك البدن كان دار مملكة ذلك الجوهر ومحل تصرفه ، ثم إنه خربت هذه الدار. فالعلم الضروري حاصل بأن هذا القدر لا يقتضي عدم ذلك الجوهر ، ولا يغير حالا من أحواله (٣) فهذا لبيان أنه لا يلزم من موت البدن موته.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) أجزائه (طا).

٢١٣

الحجة الثانية : لما كان المدبر لهذا الجسد ، والمتولي لإصلاح حاله هو النفس ، ومن المعلوم أن النفس إنما تتولى ذلك بسبب كونها حية عالمة قادرة ، فحينئذ يتوقف صلاح هذا الجسد على كون النفس موصوفة [بالحياة والعلم والقدرة. فلو كانت النفس موصوفة (١)] بهذه الصفات [وهذه الصفات (٢)] موقوفة على صلاح حال البدن ، لزم توقف كل واحد منهما على الآخر (٣) وذلك دور. والدور باطل.

ومثاله : إنه لما كان حدوث العالم ، وصلاح حاله موقوفا على كون الإله (٤) حيا عالما قادرا ، امتنع أن يكون حصول هذه الصفات للإله ، موقوفا على صلاح هذا (٥) العالم ، وإلا لزم الدور. فكذا هاهنا. فإن النفس لا تعلق لها بالبدن ، إلا تعلقا شبيها بتعلق الإله بالعالم. وذلك من أظهر الدلائل على أن النفس لا تموت [بموت البدن ، ولا يفسد شيء من صفاتها بفساد البدن (٦)].

الحجة الثالثة : إنه (٧) لو ماتت النفس بموت البدن ، لضعفت بضعف البدن ، وهي [لما كانت (٨)] لا تضعف بضعفه ، وجب أن لا تموت بموت البدن. أما بيان الشرطية : فبالاستقرار الظاهر. فإنه متى وقع الخلل في الأصل ، لزم منه وقوع الخلل في الفرع. ثم نقول : إن الدليل عليه (٩) : إن كل شيء يفسد بفساد غيره ، فإنه يكون محتاجا في ذاته إلى ذلك الغير (١٠) إذ كل

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) زيادة.

(٣) الأجزاء (ل).

(٤) الله (طا ، ل).

(٥) حال (م).

(٦) سقط (طا).

(٧) لو كانت النفس تموت (م).

(٨) من (ط).

(٩) على (م).

(١٠) عبارة (ل) هكذا : ثم نقول : الدليل عليه : أن كل ما فسد بفساد غيره ، فإنه يكون محتاجا في ذاته إلى ذلك الغير ، وكل شيء احتاج إلى شيء آخر ، فضعف المحتاج إليه ، يوجب ضعف المحتاج. إذ لو بقي بحال المحتاج حال نقصان المحتاج إليه ، لكانت ... إلخ.

٢١٤

محتاج إلى شيء آخر ، يضعف حال الاحتياج إليه [فضعف المحتاج إليه] يوجب ضعف المحتاج ، إذ لو بقي كمال المحتاج ، حال نقصان المحتاج إليه ، لكانت صفة المحتاج غنية عن المحتاج إليه. والصفة أضعف من الموصوف ، وإذا حصل الاستغناء في الصفة مع ضعفها ، فبأن يحصل الاستغناء في الذات مع قوتها كان أولى. فثبت : أن كل شيء يفسد بفساد غيره ، وجب أن يظهر فيه النقصان ، بسبب نقصان غيره. فلو كانت تفسد بفساد البدن ، لوجب أن يظهر النقصان في [النفس عند ظهور النقصان في (١)] البدن.

وإنما قلنا : إنه ليس الأمر كذلك ، لوجوه :

الأول : إن المواظبة على الأفكار الغامضة ، والاستغراق فيها يوجب نقصانا شديدا في البدن ، ولم يلزم منه حصول النقصان في النفس البتة ، بل يوجب الكمال العظيم في النفس.

الثاني : إن المواظبة على الرياضة ، وتجويع النفس (٢) والانقطاع عن المحسوسات والجسمانيات ، يوجب النقصان الشديد في البدن ، وذلك لا يوجب نقصان النفس ، بل يوجب حصول الكمال الشديد للنفس.

الثالث : إن النوم يوجب نقصان حال البدن ، فإنه يزول عنه حس السمع والبصر ، والقدرة على المشي والأخذ ، ولا يوجب نقصان حال النفس ، بل يوجب كمال حال النفس. فإنها في هذا الوقت قدرت على الاتصال بعالم الغيب.

الرابع : إن جسد الإنسان من أول الكهولة يأخذ في الانتقاص والذبول ، وعقله [من هذا الوقت (٣)] لا يأخذ في الانتقاص والذبول ، بل كمال عقله ، يبتدئ في التزايد (٤) من هذا الوقت. ولهذا السبب قيل : إن بعثة أكثر الأنبياء

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) والتجويع (م).

(٣) من (ل).

(٤) متزايد (م).

٢١٥

إنما وقعت في هذا الوقت. وكان ملوك العجم لا يختارون الرجال للمحادثات (١) المهمة ، إلا الذين يكونون بين الأربعين وبين الخمسين قالوا : لأنه في هذا الوقت يتكامل العقل ولم يحصل في البدن نقصان ظاهر. فثبت : أن النفس لو ماتت بموت البدن ، لوجب أن يظهر النقصان فيها ، بسبب نقصان البدن. لكن لم يظهر النقصان فيها بسبب نقصانه (٢) بل قد بينا في هذه المواضع الأربعة : أنه يحصل الكمال فيها ، بسبب نقصان البدن. فوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الرابعة : على أن النفس لا تموت بموت البدن : أن الأعراض القائمة بالأجسام ، أضعف وجودا من تلك الأجسام. والأجسام أضعف وجودا من الموجود المجرد القائم بالنفس ، فيلزم أن تكون الأعراض أضعف بكثير من الموجود المجرد. وإذا كان كذلك ، وجب القطع بأن موت البدن لا يوجب موت النفس. فتفتقر هاهنا إلى بيان (٣) مقدمات :

المقدمة الأولى : إن الأعراض القائمة بالأجسام ، أضعف في الوجود من تلك الأجسام. وهذا يقرب من أن يكون بديهيا ، لأن الأعراض محتاجة إلى تلك الأجسام ، [ويمتنع دخولها في الوجود ، إلا في تلك الأجسام (٤)] وأما تلك الأجسام (٥)] فإنها قائمة بأنفسها وغنية عن تلك الأعراض. وهذا يوجب القطع بأن الأعراض أضعف وجودا من الأجسام.

وأما المقدمة الثانية في بيان أن الأجسام أضعف وجودا من الجوهر المجرد : فبيانها من وجوه :

الأول : إن المتحيزات محتاجة إلى الأمكنة والأحياز والجهات ، والجوهر المجرد غني عنها.

__________________

(١) للمحاربات (طا ، ل).

(٢) نقصان البدن (ل).

(٣) إثبات (م).

(٤) سقط (ل).

(٥) سقط (م).

٢١٦

والثاني : إن كل جسم فهو مركب من [جزءين ، فصاعدا (١)] وكل مركب فإنه يحتاج إلى كل واحد من أجزائه ، والجوهر المجرد لا يجب أن يكون منقسما إلى جزءين. فكان هذا النوع من الحاجة زائلا عن الجوهر المجرد.

الثالث : إن النفس تفعل في البدن. أما البدن فإنه لا يفعل البتة في النفس أثرا. والفعل يناسب القوة ، والانفعال يناسب الضعف.

الرابع : إن الأجسام متماثلة في ذواتها ، وفي تمام ماهياتها. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لها أثر في الغير. فإن أثّر جسم (٢) في جسم فذلك التأثير إنما كان لأجل الأعراض القائمة به. وقد عرفت : أن أضعف المراتب هو الأعراض ، فلما كان تأثير الجسم في غيره بواسطة الأعراض ، وجب أن يكون تأثير الجسم في غيره تأثيرا ضعيفا. وأما تأثيرات النفوس ، فهي تأثيرات قوية ، قاهرة فوجب أن تكون النفس أقوى من الجسم.

الخامس : إن البدن بعد مفارقة النفس ، بقي ما فيه من الجسم وما فيه من العرض. ثم إنه يصير بعد الموت فاسدا باطلا عفنا. وأما حال تعلق النفس بالبدن ، فإنه بقيت تلك الأجزاء مصونة عن العفونة والفساد ، موصوفة بالنقاء والنظافة والطهارة. فثبت بما ذكرناه : أن النفس أقوى حالا من الجسم ، وأن الجسم أقوى حالا من العرض. وهذا يدل على أنه لا مناسبة لقوة النفس إلى قوة العرض الحال في الجسم بوجه من الوجوه.

المقدمة الثالثة وهي في بيان أن هذا الاعتبار يدل على أن النفس لا تموت بموت البدن: والدليل عليه : إن موت البدن ليس عبارة عن فناء تلك الأجسام ، فإنها باقية بتمامها ، وإنما موت البدن عبارة عن زوال الأعراض التي كانت قائمة به [حال اعتدال المزاج قبل موتها (٣)] وفنائها. والمزاج المعتدل عبارة عن كيفية

__________________

(١) من الهيولى والصورة (م).

(٢) الجسم (م).

(٣) سقط (ط).

٢١٧

متوسطة بين الأضداد ، فهو عرض مخصوص. فإذا ماتت ، فلا معنى لذلك الموت إلا زوال هذه الكيفية. فثبت : أنه لا معنى للموت إلا زوال بعض أنواع الأعراض عن الأجسام المخصوصة (١). وقد دللنا على أن الأعراض أضعف أقسام الممكنات [وعلى أن النفوس المجردة أقوى أقسام الممكنات (٢) والعلم الضروري حاصل بأن زوال الشيء الذي يكون وجوده (٣)] في غاية القوة. وهذا يفيد الجزم بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الخامسة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : نقول : إن النفس لا تمرض بمرض البدن ، فوجب أن لا تموت بموت البدن. إنما قلنا : إنها لا تمرض بمرض البدن ، وذلك لأن الشواهد الطبية دالة على أنه لا معنى للبحران إلا حصول المقاومة بين الطبيعة وبين العلة ، فهذه الطبيعة التي تقاوم العلة ، إما أن تكون هي مزاج البدن ، أو كيفية [من الكيفيات (٤)] القائمة بالبدن ، وإما أن تكون هي النفس.

والأول باطل لوجهين :

أحدهما : إن جسم البدن موصوف بالكيفيات المرضية المنافية للصحة. فلو كان هو بعينه موصوفا بالكيفيات الصحية الملائمة للصحة ، لزم كون الجسم الواحد [في الوقت الواحد (٥)] موصوفا بصفتين متضادتين. وهو محال.

وثانيهما : إن البدن حصل في حقه أسباب ثلاثة ، كل واحد منها يوجب الضعف. فأحدها : الحرارة الغريزية العرضية ، الموجبة لتحلل الرطوبات الكثيرة. وثانيها : إن الحرارة الغريزية أيضا موجبة لتحلل الرطوبات على قياس ما كان حال الصحة. وثالثها : إن في وقت البحران تنقطع الطبيعة عن

__________________

(١) أجسام (ل).

(٢) سقط (م ، ط).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (ط) ، (ل).

٢١٨

الاغتذاء ، وقد يبقى المريض منقطعا عن الاغتذاء أياما كثيرة ، وهو سبب عظيم لحصول الضعف. فثبت : أن البدن في غاية الضعف ، والطبيعة في غاية القوة على الدفع ، فلو كانت هذه الطبيعة هي البدن ، أو جزء من أجزاء البدن ، لزم كون الشيء الواحد موصوفا بغاية الضعف ، وبغاية القوة. وهو محال. فثبت : أن الشيء الذي يقاوم العلة هو النفس.

فنقول : النفس في تلك الحالة ، إما أن تكون مريضة ضعيفة وإما أن تكون خالية من المرض والضعف. والأول باطل. لأن النفس في هذه الحالة ، لو كانت مريضة ضعيفة ، لما قدرت على مقاومة العلة الغالبة ، والمادة القاهرة المبطلة. لأن المغلوب لا يمكنه مقاومة الغالب [والمقهور لا يمكنه مقاومة القاهر (١)] فثبت بهذا البيان الظاهر : أن النفس في تلك الحالة قوية قاهرة ، سليمة عن الضعف والمرض. وظاهر أن البدن في غاية الضعف والمرض.

وذلك يدل على أن النفس لا تمرض بمرض البدن ولا تضعف بضعفه البتة. وإذا ثبت هذا ، وجب أن لا تموت بموته. وذلك لأن النفس لما لم تمرض بمرض البدن ، ولم تضعف بضعفه ، ظهر أن النفس غنية في ذاتها وفي كمال قدرتها وقوتها عن هذا هذا البدن. فإذا مات البدن ، فقد مات شيء كانت النفس غنية في ذاتها وفي قدرتها وفي علمها عنه. ومتى كان كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون موت البدن ، موجبا لموت النفس.

وهذا كلام قوي مناسب. وهو بعينه يدل على أن النفس غير البدن ، وغير جميع أجزائه وأبعاضه.

الحجة السادسة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : إنا قد دللنا على أن جوهر النفس من جنس جوهر الملائكة ، ودللنا على أن المؤثر في وجوده ، لا بد وأن يكون جوهرا عقليا مجردا [ودللنا على أن المقتضى لحدوث العلوم والمعارف في ذاته جوهر عقلي مجرد (٢)] فالنفس في ذاتها جوهر مجرد [وهو معلول

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (طا ، ل).

٢١٩

جوهر مجرد (١)] وصفاته معلولات الجوهر المجرد. وأما تعلقها بهذا البدن ، فليس إلا على سبيل التدبير والتصرف. وهذا التدبير والتصرف من باب النسب والإضافات ، وهي أضعف أنواع الموجودات. ومع ذلك فهي من العوارض العارضة لذات النفس.

إذا عرفت هذا فنقول :

[الحاصل عند موت البدن زوال هذه الإضافة وأما العلل العالية المؤثرة في ذات النفس وفي جميع صفاتها الحقيقية باقية. وبقاؤها يقتضي بقاء جوهر النفس ، وبقاء جميع صفاتها العالية. فلو قلنا : بأنها تعدم عند زوال هذه الإضافة لكنا قد رجحنا مقتضى الأمر العرضي ، البالغ في الضعف إلى أقصى الغايات على مقتضى الأمر الذاتي الأصلي ، البالغ في الكمال والقوة إلى أقصى الغايات. ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل ، فوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن. ثم هاهنا دقيقة أخرى. وهي : إنا قد ذكرنا في أول هذا الكتاب الذي سميناه بكتاب «الأرواح العالية والسافلة» أن الموجودات لها ثلاثة مراتب. فأشرفها عالم الإله ، وأخسّها عالم الجسم ـ وهو عالم الهيولى ـ وأوسطها عالم الأرواح. فإنها تقبل إشراق عالم الإله. وبواسطة ذلك الإشراق تقوى على التأثير في عالم [الهيولي (٢)].

إذا عرفت هذا فنقول (٣)] : تعلق النفس بالبدن على سبيل التدبير والتصرف. عبارة عن تعلق النفس بالجانب الأخس الأدون العاري عن التأثير والفعل. وكون النفس مستنيرة بأنوار معارف عالم الإله ، عبارة عن تعلقها بالجانب الأفضل الأكمل ، الذي هو ينبوع القوة والبقاء والدوام. فلو قلنا : إن عند زوال العلاقة الخسيسة ـ أعني تدبير البدن ـ تبطل ذاتها ومعرفتها. لكنا قد حكمنا بأن الجانب الأخس الأضعف ، هو الجانب الأشرف الأقوى. وذلك محال

__________________

(١) من كلمة الحاصل إلى إذا عرفت هذا فنقول : ساقط من (م ، ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) إلى هنا من (طا ، ل). من أول كلمة الحاصل.

٢٢٠