مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

وليعلم من فهم منهم ، أو من غيرهم ، أن (١) فيما ذكر الله لهم من المأكل ومثله ، آية عجيبة ظاهرة لمن يفهمها بعقله ، تدل على أنه لم ينزلها إلا علام الغيوب ، الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر القلوب ، لا سيما في النصارى (٢) من أهل الكتاب ، وما هم عليه من الحرص والكد والاكتساب ، فإنا لم نر أمة من أهل الكتاب أرغب في المأكل والمشرب ، واكتناز الفضة والذهب ، منهم خاصة دون غيرهم ، معلوم ذلك من غنيهم وفقيرهم ، ولذلك ما يقول الله سبحانه فيهم ، وفي بيان ما قلنا به من ذلك عليهم : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤) [التوبة : ٣٤]. فرهبانهم إلا القليل وشمامستهم ، (٣) تعولهم أبدا أقوياؤهم وضعفتهم. وليس من الرهبان ولا الشمامسة من تكلّف في مطعمه ولا مشربه ولا كسوته ولا مصلحته كلفة ، ومن كفاهم ذلك من عوامهم وضعفتهم فقد يرى ذلك قربة له عند من يعبدون وزلفة.

فأول ما يقال ـ إن شاء الله ـ لمن أراد الانصاف لنفسه منهم ، وعند من تجري المجادلة فيما ادعوا من الكتب بين أحد من أهل التوحيد وبينهم (٤) ، يا هؤلاء : أنصفونا فيما ادعيتم من شهادات الكتب من أنفسكم ، فلا تدعوا فيها ولا تأولوا فيها تأويلا ملتبسا يزيدكم لبسا على لبسكم ، فإن شئتم تأولتم الكتب وتأولنا ، على ما قد قلتم وقلنا ، ولنا من التأويل. مثل مالكم ، وقولنا فيه يخالف أقوالكم. فإن كان ذلك أحب إليكم ، فافهموا فيه ما يدخل عليكم ، فلسنا ندخل عليكم فيه ، إلا ما نجمع نحن وأنتم عليه.

أجمعنا نحن وأنتم جميعا كلنا ، قولكم مما قلنا به من ذلك قولنا ، على أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها ، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها :

__________________

(١) في (ج) و (د) : ومن غيرهم. وسقط من (أ) و (د) و (د) : أن.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : لا سيما خاصة من النصارى.

(٣) الشمامة : جمع شماس ، من رءوس النصارى الذي يحلق وسط رأسه ويلزم البيعة.

(٤) في (أ) و (د) : بينه.

٤٢١

فأولها : زعمنا وزعمتم شهادة الله ، والثانية : فشهادة ملائكة الله.

والثالثة : فقول المسيح وشهادته.

والرابعة : فما شهدت به أمه ووالدته.

والخامسة : فشهادة الحواريين وما كانوا يقولون. فهذه خمس شهادات ليس منها ما تنكرون ، وكلها فنحن وأنتم بها راضون ، فيما ندعي في المسيح وتدّعون.

فقد وجدنا ووجدتم في الأناجيل الأربعة شهادات مختلفة ، كلها فيما عندنا وعندكم فقد (١) أحطتم بها وأحطنا معرفة ، فيما في الأناجيل الذي يدعا عندكم إنجيلا مثل ما لا تنكرون من قوله ، في أول ما وضع من إنجيله : (هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود) (٢) ، فهذه شهادته وهو من الحواريين على أن أبا المسيح داود ، وأن المسيح ابنه وهو منه مولود ، ولهذه الشهادة في الأناجيل الأربعة نظائر كثيرة ، وفي ذلك حجة عليكم لا تدفع ظاهرة منيرة.

ومنها شهادة المسيح صلى الله عليه لحواريه أنهم بنو الأب جميعا ، (٣) وأن الله أبوهم كلهم معا ، وهذا يدل على أن تأويل الأبوة والبنوة ، غير ما قلتم به فيها من الدعوة.

ومنها : شهادة المسيح أن الحواريين إخوانه (٤) فإن شئتم فقولوا في نسب أو غير نسب ، فلهم بذلك ماله بعد شهادته صلى الله عليه زعمتم أنه ابن الأب.

ومنها : شهادة أمه صلى الله عليها ، على أنه ابن يوسف جدها وأبيها (٥).

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ج) : وقد أحطتم وأحطنا.

(٢) إنجيل متّى / الإصحاح الأول.

(٣) نص الإنجيل هكذا : ولا تدعوا أبا على الأرض لأن أباكم الذي في السماوات. إنجيل متى ٣٣ / ٩.

(٤) نص الإنجيل هكذا : فأجاب وقال لهم : أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. إنجيل لوقا ٨ / ٢١.

(٥) نص الإنجيل هكذا : ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب ، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة ، وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئا حكمة ، وكانت نعمة الله عليه ، وكان أبواه يذهبان ـ

٤٢٢

ومنها قول فيلبس لسائل سأله ، (١) إذ قال له عند مسألته عنه ، هو ذلك الذي ذكره موسى في التوراة ، ونسبه صلى الله عليه فيها وسمّاه ، فقال : يسوع بن يوسف (٢) ، يعرف هذا منكم كل عارف.

ومنها أيضا : شهادة يحيى التي تدل على أن معنى البنوة والولادة ، إنما هو معنى المحبة والولاية والعبادة ، إذ يقول : أما أولئك الذين قبلوا قوله ، وسلموا فيما سمعوا منه له ، فلم يولدوا من اللحم والدم ، ولا من مزاج المرة والبلغم ، ولكنهم ـ زعم ـ من الله ولدوا ، وأعطوا من كرامة الله ما رضوا وحمدوا. (٣) فتأويل هذا ومثله إن كان صدق فيه ، فإنما هو على ما يصح أن يكون عليه ، لا على ما يستحيل في الألباب والعقول ، ويفسد ويتناقض من القول في التأويل ، من أن يكون الرب عبدا ، والوالد مع ولادته ولدا ، وذلك أجهل الجهل ، وفي ذلك المكابرة للعقل.

أما سمعوا قول الملائكة لمريم ، صلى الله عليهم وعليها وسلم ، عند ما صاروا به من البشارة بولادتها ، للمسيح ابنها : (تلدين ابنا) (٤) ولم يقولوا : تلدين ابن الله ، وقالوا : (يدعا

__________________

ـ كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح ، ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد ، وبعد ما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي اليسوع في أورشليم ويوسف وأمه لم يعلما ، وإذ ظناه بين الرفقة ، ذهبا مسيرة يوم وكان يطلبانه بين الأقرباء والمعارف ، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه ، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم ، وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته ، فلما أبصراه اندهشا وقالت له أمه يا بني لما ذا فعلت بنا هكذا؟ هو ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين ، فقال لهما : لما ذا كنتما تتطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي. لوقا. ٢ / ٥٠٣٩.

(١) في جميع المخطوطات : فليفس. وسقط من (ج) و (د) : سأله.

(٢) نص الإنجيل هكذا : وجد نثنائيل وقال له : وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ، يسوع بن يوسف الذي من الناصرة. يوحنا. ١ / ٤٦٤٥.

(٣) نص الإنجيل هكذا : (إلى خاصته جاء ، وخاصته لم تقبله ، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ، أي المؤمنون باسمه الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ، ولا من مشيئة رجل بل من الله). إنجيل يوحنا (١٢ ـ ١٣) الإصحاح الأول. ويوحنا هو يحيى.

(٤) إنجيل متى (١ ـ ٢٢) بلفظ : وتلد ابنا.

٤٢٣

يسوع ويكون عليا عظيما بالله ، ويرث كرسي أبيه داود) (١) فلو كان كما يقولون لقالت الملائكة : تلدين ابن الله ويكون منك مولودا ، فكان أعظم في القدر والخطر ، من أن يقال: ابن البشر.

وكذلك قال الملك ليوسف زعمتم بعلها ، عند ما أراد لمّا ظهر من حملها ، من تطليقه لها وتخليته لسبيلها : (يا يوسف بن داود لا تخل سبيل امرأتك فإن الذي بها من روح الله ، وهو يدعا يسوع ، وبه يحيي الله شعبه من خطاياهم بإذن الله) (٢).

ومما زعموا فاعرفوه أنه دلهم ، وشهد على ما ادعوا لهم ، واعتقدوا من ضلال أقاويلهم ، قول الله زعموا في إنجيلهم ، في المسيح بن مريم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هذا ابني الحبيب الصفي) (٣). وقول سمعان (٤) الصفا له : (أنت ابن الله الحق) (٥).

وما ذكروا من هذا إن صح ومثله ، مما يدعون على الله وعلى رسله ، فقد يوجد له تأويل ، لما قالوا مبطل مزيل ، لا ينكرونه ولا يدفعونه ، ولا يكذبون من خالفهم فيه ولا ينازعونه.

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة ، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك ، فقال سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك : لا تخافي لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما. وابن العلي يدعا ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. لوقا ١ / ٣٣٢٦.

(٢) نص الإنجيل هكذا (ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور ، إذ ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا : يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك ، لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنا وندعوا اسمه يسوع ، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل. (إنجيل متّى ١ / ٢١ ـ ٢٢).

(٣) نص الإنجيل هكذا : (هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به). إنجيل متى ٣ / ١٧. وإنجيل لوقا ٣ / ٣٢.

(٤) في (د) : شمعان.

(٥) نص الإنجيل هكذا قول سمعان : فأجابه سمعان : بطرس يا رب إلى من تذهب ، كلام الحياة الأبدية عندك ، ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح بن الله الحي. إنجيل يوحنا ٦ / ٧٠٦٨. وإنجيل متى ١٦١٦.

٤٢٤

فمن ذلك ما هم عليه وغيرهم مجمعون ، لا يختلفون فيه كلهم ولا يتنازعون ، من أن ملائكة الله ، ومن مضى من رسل الله ، لم يسبّح المسيح قط ولم يعبده ، (١) ولم يزعم أحد منهم أن الله ولده.

ومن تأويل ما ذكروا من الولد والابن ، في زمن المسيح وكل زمن ، أن الناس لم يزالوا يدعون ابنا وولدا من تبنوا وأحبوا وحظي عندهم ، وإن لم يكن على طريق التناسل ولدهم ، ثم لم يزل ذلك لديهم معروفا ، قديما وحديثا ، ولا سيما في القدماء ، من أهل العلم والحكماء ، فكان الحكيم منهم يقول : يا بني لمن علّمه ، ويدعو المتعلم باسم الأبوة معلّمه ، فيقول : قد قلت وقلنا يا أبانا ، وربما قال أحدهم : يا أبت أما ترانا.

قال بعضهم :

آباء أرواحنا الذين هم هم

أخرجونا من منزل التلف

من علّم العلم كان خير أب

ذاك أبو الروح لا أبو النطف (٢)

وذلك والحمد لله في الأمم كلها فأوجد موجود ، يقوله الرحيم منهم لمن ليس بابن له مولود (٣).

ومن ذلك ما كان يقول المسيح صلى الله عليه ، كثيرا لا تنكره النصارى لحوارييه : (إذ هبوا بنا إلى أبينا ، وقولوا : يا أبانا أنزل من سمائك طعامك علينا) (٤). ومن ذلك قوله لهم ، صلى الله عليه وعليهم : (قولوا : يا أبانا تقدس اسمك ، لتنزل في

__________________

(١) في (ب) و (ج) : لم يسبحوا المسيح. قط ولم يعبدوه.

(٢) لم أقف على البيتين فيما لدي من مصادر الأدب.

(٣) نص الإنجيل هكذا : وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ، أي المؤمنون باسمه. يوحنا. ١ / ١٣١٢. ومما يؤكد معنى الأبوة بالمعنى الذي قاله الإمام قول يسوع عليه‌السلام. قال يسوع : ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم. وإلهي وإلهكم. يوحنا. ٢٠ / ١٧.

(٤) نص الإنجيل هكذا : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم. إنجيل لوقا ١١ / ٣٢. وإنجيل متى ٦ / ١٢٩.

٤٢٥

الأرض ملكوتك وحكمك) (١).

فهل يتوهم أحد أنه أب من الآباء يلد وينسل ويتغير ويتغذى؟! أو يصل إليه صلب أو نصب أو أذى؟! لا بحمد الله وكلا! وتبارك ربنا عن ذلك وتعالى! ولكنه أرحم بنا وألطف ، وأعطف علينا وأرأف ، من الآباء كلهم والأمهات ، ومن أنفسنا فيما يهمنا من المهمات.

وقد ذكر عن بعض الحكماء ، ممن مضى من أوائل القدماء ، أنه كان إذا أخذ في التسبيح لله والذكر ، قال : الله الذي هو في ذاته محب للبشر. وإنما يراد بالمحبة لهم ، الرأفة والرحمة بهم.

وكذلك قال الرحمن الكريم : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣]. فمن أرأف بهم وأرحم؟! وأعطف عليهم وأكرم؟! ممن خلقهم مبتدئا فسوّاهم؟! وأعطاهم من نعمه ما أعطاهم؟! ثم دلّهم تعالى على الهدى ، (٢) وبيّن لهم الغيّ والردى. لا من بحمد الله وفضله! فنستمتع (٣) الله بالنعم في ذلك كله.

ومما يحتج به على من كفر منهم بربه جهلا ومجانة ، (٤) قول المسيح بن مريم لهم فيما زعموا من إنجيلهم أبانه (٥) : (أنا ابنه وهو أبي) (٦) وقوله : (جئتكم من عند أبي ، وما سمعت عنده فهو ما أكلمكم به ، وأنتم لو كنتم منه لقبلتم ما جئتكم به من أمره ، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه ، ولذلك قبلتم قوله فلم تخالفوه ، وإنما أنتم بنو الخطيئة والشيطان أبوها ، وأنتم صاغرون لطاعتكم له فبنوها. فقالوا : نحن بنو إبراهيم ، ورموه

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : فقولوا أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. إنجيل لوقا ١١ / ٣٢. وإنجيل متى ٦ / ١٢٩.

(٢) في (أ) : دلهم بعد ذلك على. وفي (د) : دلهم على.

(٣) أي : نسأله أن يمتعنا بالنعم.

(٤) المجانة : المجون.

(٥) سقط من (ج) : أبانه.

(٦) نص الإنجيل هكذا : فالذي قدسه الأب وأرسله إلى العالم ، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله. يوحنا ١٠ / ٣٦.

٤٢٦

بالبهتان العظيم. فقال : لستم بولد إبراهيم ولا بنيه ، لو كنتم ولده لعملتم بما يرضيه ، ولكنكم بنو الشيطان والخطيئة.

أخبروني هل منكم من يرتجي الله لمعصيته؟ فعلام تريدون قتلي؟! ولم لا تقبلون قولي؟! لو عملتم بطاعة الله ، إذن لكنتم أبناء الله (١).

فجعل كما ترون الله أبا لمن أطاعه وأرضاه ، وجعل الشيطان أبا لمن أطاعه واتبع هواه ، فكفى بهذا حجة دامغة ، وشهادة قاطعة بالغة ، على من تأول من النصارى الأبوة والبنوة على ما تأولوها عليه ، وما قلنا به من هذا كله فهم كلهم مقرون به في إنجيلهم لا يختلفون فيه(٢).

فإن لم تكن الأبوة والبنوة إلا على ما قالوا ، لزمهم أن يتأولوا كل ما في إنجيلهم من الأبوة والبنوة بما تأولوا ، فقد يقرون كلهم من ذلك في إنجيلهم ، بما سنذكره مع ما ذكرنا إن شاء الله من أقاويلهم.

زعموا أن فيها ، وفيما يضيفونه إليها : ((أن المسيح خرج من القرى وتنحى ، وصام في البرية أربعين صباحا ، لم يأكل فيها طعاما ، ولم يشرب فيها شرابا ، فجاءه

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : فأجابهم يسوع قائلا : (الحق الحق أقول لكم إن كل من يقترف الخطيئة هو عبد للخطيئة ، والعبد لا يمكث في البيت إلى الأبد ، وأما الابن فيمكث إلى الأبد ، فإن حرركم الابن تصيروا بالحقيقة أحرارا ، أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم ، ولكنكم تبتغون قتلى ، لأن كلامي لا مقر له فيكم ، أنا أتكلم بما رأيت لدى أبي ، وأنتم تعملون بما سمعتم من أبيكم ، فأجابوا وقالوا له : (أبونا هو إبراهيم). فقال لهم يسوع : (لو كنتم أبناء إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم ، ولكنكم الآن تبتغون قتلى ، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله ، وهذا ما لم يفعله إبراهيم ، إنكم تعملون أعمال أبيكم). فقالوا له : (إننا لم نولد من زنى ، وإنما لنا أب هو الله وحده) ، قال لهم يسوع : (لو كان الله أباكم لأحببتموني ، لأني من الله خرجت وأتيت ، فأنا لم آت من نفسي وحدي ، وإنما هو الذي أرسلني ، لما ذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تستطيعون أن تستمعوا إلى ما أقول ، إنكم أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تبتغون أن تتمموا ذاك الذي كان منذ البدء قتالا للناس ، ولم يثبت على الحق قط ، لأنه ليس فيه من الحق شيء ، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما عنده ، لأنه كذاب وأبو الكذب ، وأما أنا فلأني أقول لكم الحق لا تؤمنون بي ، من منكم يستطيع أن يثبت عليّ خطيئة؟ فإن كنت أقول لكم الحق ، فلما ذا لا تصدقوني؟. يوحنا. ٨ / ٤٧٣٤.

(٢) سقط من (أ) و (د) : فيه.

٤٢٧

إبليس في صومه ومنتحاه ، فعرض عليه جميع زهرة الدنيا وأراها إياه ، فلما رأى المسيح ذلك كله ، سأله إبليس أن يسجد له سجدة واحدة ، على أن يعطيه من ذلك كل ما أراه ، فلعنه المسيح وأخزاه ، وقال : لا يصلح السجود لغير الله ، اخس (١) إليك يا عدوّ الله ، قال إبليس ـ زعموا له ، عند ما جرى من القول بينه وبينه ـ فاليوم لك أربعون يوما ، لم تشرب شرابا ولم تطعم طعاما ، فادع الله إن كنت له حبيبا ، أن يجعل لك هذه الحجارة فضة وذهبا ، فقال له : ألم تعلم يا لعين أن كلام الله يكفي من اكتفى به من أحب كل طعام وشراب»(٢).

ومن كلام الله الذي ذكر صلى الله عليه ما نزّل لا شريك له من كل كتاب ، وزعموا في أناجيلهم أن الله أوحى إلى يوسف بعل مريم ، بعد ولادتها للمسيح بما الله به أعلم ، «أن انطلق بالصبي وأمه إلى مصر فأقم بها أنت ومريم وابنها حتى أبين لك موت هيردوس ـ وهو ملك من ملوك الروم كان ملكا على بني إسرائيل ـ فإنه يريد قتل عيسى ودماره ، فرحل يوسف بمريم وابنها ليلا ، وأتم الله زعموا بما كان من ذلك من أمره ببعض ما أوحى إليه من (٣) كتب رسله إذ يقول سبحانه : من مصر دعوت صفيّي (٤).

__________________

(١) في (ج) : حاشا.

(٢) في إنجيل متى : (ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس ، فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا فتقدم إليه المجرب وقال له : إن كنت ابن الله فقل أن يصير هذه الحجارة خبزا فأجابه وقال : مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ، ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له : إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل ، لأنه مكتوب أن يوصي ملائكته بك ، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك ، قال له يسوع : مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ، ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له : أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي ، حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك نسجد وإياه وحده نعبد) إنجيل متى (٤ / ١ ـ ١١). وإنجيل لوقا ٤ / ٩١.

(٣) في (أ) : في بعض ما أوحى. وفي (ج) : أوحى إليه في بعض.

(٤) في (أ) : في مصر. وفي إنجيل متى (وبعد ما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا : قم ـ

٤٢٨

وقالوا في إنجيلهم : (فلما مات هيردوس أوحى الله إلى يوسف أن قد مات فانطلق بعيسى وأمه إلى أرض إسرائيل) (١) وزعموا أن هذا كله موجود عندهم فيما في أيديهم من الإنجيل ، وأنه لما قدم بهما يوسف سمع أن كيلادوس ملك من اليهود بعد أبيه ، ما كان يملك أبوه ، ففزع لعيسى وأشفق عليه ، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : (أن امض إلى جبل الجليل فكن فيه ، فخرج حتى نزل منه في مدينة يقال لها : ناصرة). تصديقا لما أوحى الله به قديما في بعض كتبه.

وفيما ذكر من عيسى وأمره في أنه : «يكون ويدعا ناصريا» ، (٢) وبذلك يرى ويدعا كل من تنصّر نصرانيا.

فلما كبر عيسى وظهر (٣) في أيام يحيى ، وكان يحيي صلى الله عليهما ممن أجابه وصار إليه ، فأمره بالتطهر (٤) والاغتسال في نهر الأردن ، وكان ذلك تطهرة من الخطايا لمن تاب وآمن ، فقال فيما زعموا من إنجيلهم : (أنا أطهركم كما ترون بالماء والذي يأتيكم على أثري ، هو (٥) أكرم على الله مني ، وهو الذي يجعل الله به (٦) المذراة ، فلا يودع خزائنه إلا الحبوب المطيبة المنقاة ، وما بقي بعد ذلك من الغرابلة والتبن ، وما

__________________

ـ وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك ، لأن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه ، فقام وأخذ الصبي ليلا وانصرف إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيردوس ، لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني) في (متى ٢ / ١٣ ـ ١٤).

(١) نص الإنجيل هكذا : (فلما مات هيردوس إذا ملاك الرب قد ظهر وحلم ليوسف في مصر قائلا : قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل). إنجيل متى ٢ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) في (أ) و (د) : ناصرا. وفي إنجيل متى (ولكن لما سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيردوس أبيه ، خاف أن يذهب إلى هناك ، وإذ أوحى إليه في حلم : انصرف إلى نواحي الجليل ، وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة ، لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيدعى ناصريا). إنجيل متى ٢ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (د) : وظهر.

(٤) في (أ) و (د) : بالتطهرة. وفي (د) : بالتطهير.

(٥) في (ج) : فهو.

(٦) في (ج) : يجعل الله بيده المذراة.

٤٢٩

ليس بذي قيمة ولا ثمن ، يحرق بالنار التي لا تخمد ، حيث يبقى التحريق ويخلد) (١).

فلما سمع عيسى بأخبار يحيى صلى الله عليهما وعلى جميع النبيين ، وما يصنع من تطهيره للمؤمنين ، (أقبل إلى يحيى من جبل الخليل (٢) ليصبغه بالماء ويطهره ، فكره يحيىعليه‌السلام مجيئه لذلك ـ زعموا (٣) ـ وأمره ، وقال له يحيى عليه‌السلام : بي إليك فاقة ، وتجيء إلي أنت تطلب الطهارة ، فقال عيسى ، صلى الله عليه وعلى أخيه يحيى : دعنا الآن من هذا فإنه هكذا ينبغي لنا أن نستتم خلال البر كلها ، أو كل ما قدرنا عليه منها ، فتركه يحيى حينئذ فاغتسل ، وعمل في (٤) ذلك ما أراد أن يعمل). (٥)

(ثم سمع بقتل اليهود ليحيى فانطلق إلى أرض الجليل (٦) فسكن في كفر ناحوم يتفيأ من حد زبولون) (٧). (وثم أوحى الله ـ زعموا ـ فيه (٨) إلى شعيب (٩) صلى الله عليه ، في مصير عيسى من زبولون إلى ما صار إليه ، وكان في مصيره إليها ومقامه بها سيارا يسيح في أرض الجليل ، يبشر (١٠) ويعلّم ما يجب لله كلّ جيل وقبيل ، ويبرئ كل مرض

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : (أنا أعمدكم بماء التوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس وناره الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ). إنجيل متى ٣ / ١١ ـ ١٢ وإنجيل لوقا الإصحاح الثالث ١٨١٦.

(٢) في (ج) : الجليل.

(٣) سقط من (ج) و (د) : زعموا.

(٤) في (ج) : فاغتسل وعمل من ذلك.

(٥) نص الإنجيل هكذا : حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه ، ولكن يوحنا منعه قائلا : أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي ، فأجاب يسوع وقال له : اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ، حينئذ سمح له ، فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء. إنجيل متى الإصحاح الثالث ١٧١٣.

(٦) في (أ) و (ب) و (د) : إلى أرض الخليل.

(٧) نص الإنجيل هكذا : ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل وترك الناصرة ، وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم ، زبولون ونفتاليم. إنجيل متى الإصحاح الرابع ١٤١٢.

(٨) سقط من (ج) : فيه.

(٩) في (ج) : إلى شعيب النبي.

(١٠) في (أ) و (د) : في أرض الخليل. وفي (د) : ينشر.

٤٣٠

ووجع في (١) بني إسرائيل ، حتى سمع بفعاله ، وتبشيره ومقاله ، في كل ناحية وأرض ، وأتي بكل ذي وجع ومرض ، من البرصى والمجانين ، والكمه والمقعدين ، فأبرأهم بإذن الله من أمراضهم المختلفة الهائلة ، وانطلقت على إثره جموع كثيرة من كل قبيلة ، من أرض الجليل،(٢) ومن المدائن العشر وأهل بيت المقدس ومن عبر الأردن (٣).

[وصايا المسيح عليه‌السلام]

(فلما رأى عيسى صلى الله عليه تلك الجموع وما اجتمع منها إليه ، صعد على جبل مرتفع فارتفع عليه ، ليسمع قوله كل من اجتمع فلما علا قعد عليه (٤) أدنى منه حوارييه ، ثم قال : طوبى بالروح عند الله غدا للمساكين ذوي التقوى ، كيف يكون ثوابهم في ملكوت الله ودار الإقامة والمثوى ، طوبى للمحزونين على خطاياهم في الدنيا ، كيف يغفر الله لهم خطاياهم غدا ، طوبى للمتواضعين لله كيف يرثون أرض الله ، طوبى للجياع العطاش في الله بالبر ، كيف يشبعون ويروون في يوم البعث والحشر ، طوبى للرحماء في الله ، كيف يفوزون برحمة الله ، طوبى للنقية قلوبهم ، إذا نظروا إلى ربهم ، كيف يصنع غدا بهم ، وكيف ينتفعون عنده بكسبهم ، طوبى لعمال السلام لله ، كيف يدعون أصفياء الله ، طوبى للذين يطردون لأعمال البر ، كيف يملكون في ملك السماء إلى آخر الدهر.

ثم قال صلى الله عليه ، لمن أجابه ولحوارييه : طوبى لكم إذا أنتم عيّرتم وطرّدتم فيّ

__________________

(١) في (ب) و (د) : من.

(٢) في (أ) و (ج) : أرض الخليل.

(٣) نص الإنجيل هكذا : وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب ، فذاع خبره في جميع سورية ، فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة ، والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم ، فتبعته جموع كثيرة من الجليل ، والعشر المدن وأورشليم واليهودية ، ومن عبر الأردن. إنجيل متى الإصحاح الرابع / ٢٥٢٣.

(٤) في (أ) و (ب) و (د) : فلما صعد عليه. وفي (ج) : عليه ثم أدنى.

٤٣١

وعليّ ، وقيل لكم قول السوء والكذب من أجلي ، عندها فليعظم فرحكم لما عظّم الله في السماء من نوركم ، وذخر عند الله في الآخرة لكم (١) من أجوركم ، فإن تظلموا فقبلكم ما (٢) ظلمت الرسل والأنبياء ، أو يكذب عليكم فمن قبل ما قيل على الله الكذب والافتراء ، أنتم ملح الأرض فإذا أنتن الملح فبم يملّح ، فحينئذ لا يصلح إلا أن يرمى به ويطرح ، فيكون شيئا ملقى ، وتراب أرض يوطأ ، أنتم نور العالم (٣) الذي لا يخفى على من يبصر ويرى ، وهل تستطيع مدينة ظاهرة على جبل أن تخفى أو تتوارى ، وهل يسرّج السراج فيحمل (٤) تحت الأغطية ، لا ولكن يحمل فوق المنارة العالية ، لكي ينير فيضيء ، ويظهر فلا يختفي ، وكذلك أنتم تنيرون للناس بنوركم المضيء ، لينظروا عيانا إلى عملكم الرضي ، لتحمدوا الله ربكم الذي زكاكم ، وأعطاكم من توفيقه ما أعطاكم ، ألا ولا يظنن أحد أني جئت لدفع التوراة والإنجيل والأنبياء ، ولا لنقض شيء جاء عن الله من جميع الأشياء ، ولكني جئت لتمام ذلك كله ، ولتصديق جميع ما أمر الله فيه ورسله ، (٥) بل أقول لكم قولا حقا ، وأنبئكم نبأ فافهموه صدقا ، أنه لا تغيّر من آيات الله كلها آية ولا تنتقض ، إلى أن تتغير وتفنى السماوات والأرض ، ومن نقض من آيات الله آية ، أو غيّر من أصغر وصاياه وصية ، فعلّمها أحدا من الناس مبدّلة مغيّرة ، صغيرة كانت الآية والوصية أو كبيرة ، دعي في ملكوت الله خسيسا ناقصا ، ومن علّمها كما أنزلت كان في الآخرة تاما خالصا.

وحقا أقول لكم : لئن لم تكونوا من الأبرار ، ويكن بركم أفضل من بر الكتبة والأحبار ، لا تدخلون غدا في ملكوت الله الغفار. ألا وقد سمعتم (٦) في التوراة ألّا تقتلوا النفس المحرمة ، (٧) ومن قتلها فقد استوجب في الدنيا العقوبة المؤلمة ، وأنا فإني أقول

__________________

(١) سقط من (أ) : لكم.

(٢) ما ، زائدة معروفة في لغة الإمام.

(٣) في (أ) و (ب) و (د) : العلم.

(٤) سقط من (أ) و (ب) و (د) : فيحمل.

(٥) سقط من (أ) و (ب) و (د) : ورسله.

(٦) في (ج) : سمعتم أن قيل في.

(٧) في (ج) : النفس المجرمة.

٤٣٢

لكم : إن من قال لأخيه ، كلمة قبيحة تؤذيه ، فقد استوجب العقوبة ، إلا أن يحدث لله منها توبة ، ومن قال لأخيه ليعيره : إنك لأرغل لم تختتن ، فقد استوجب في الآخرة نار جهنم ، بل من قرب منكم قربانه على المذبح وأدناه وقربه (١) ليذبحه ، ثم ذكر أن أخاه واجد عليه فليدع قربانه وليذهب إلى أخيه فيصالحه.

ألا وقد قيل في التوراة : لا تكذبوا إذا حلفتم ، ولكن اصدقوا إذا حلفتم بالله وأقسمتم ، وأنا فإني أقول لكم : لا تحلفوا بشيء من الأشياء ، ولا تقسموا طائعين بقسم ولا إيلاء ، (٢) لا تحلفوا بالسماء التي هي (٣) مكان كرسي الله ، وفيها يكون ملائكة الله ، ولا بالأرض التي هي منزل رحمة الله وآياته ، (٤) ولا بحياة شيء ، ولا برأس آدمي ، ولكن ليكن كلامكم نعم (٥) وكلا ، فيما تقولون وبلى ، وما كان سوى ذلك فهو من السوء ، [والقول الباطل] والهزوء ، ومن سأل أحدكم شيا ، فليعطه وإن كان نفيسا عليا (٦).

ألا وقد سمعتم أن قيل : أحبوا أولياءكم ، وأبغضوا من الناس أعداءكم ، وأنا أقول لكم أحبوا في الله أعداءكم ، وبرّكوا منهم على من لعنكم وآذاكم ، وأحسنوا منهم إلى مبغضيكم ، وصلوا منهم من يؤذيكم ، لكي تكونوا من أصفياء الله ، ولتفوزوا بالكرامة والرضا من الله ، الذي يطلع شمسه على المتقين والفجرة ، وينزل أمطاره على الظالمين والبررة ، فإن كنتم إنما تحبون من يحبكم ، فأي أجر حينئذ لكم ، أو ليس المكسة والعشارون ، كذلك فيما بينهم يفعلون.

ألا ولا تراءوا الناس بالصدقة والزكاة ، ولا بما تصلونه لله من الصلاة ، فتحبطوا أعمالكم في ذلك لله بالرياء ، وتتوفوا أجرها في عاجل هذه الدنيا ، ولكن لتكن

__________________

(١) سقط من (ج) : وقربه.

(٢) في (ج) : بقسم ولا إبلاء.

(٣) سقط من (ج) : هي.

(٤) لعل هنا سقطا.

(٥) في (ج) و (د) : زيادة : نعم ولا.

(٦) في (ج) : غليا.

٤٣٣

صدقتكم لله فيما بينكم وبين الله خفية وسرا ، فإن الله ربكم الذي يرى سركم هو يجعلها لكم علانية جهرا ، وإذا كنتم في صلاة لله أو خشوع ، فلا تقوموا بذلك في السكك والجموع ، كالمرائين للناس بما هم فيه لذلك من حالهم ، فحقا أقول لكم لقد توفّى أولئك جزاء أعمالهم.

وإذا صليتم فلا ترفعوا أصواتكم ودعاءكم طلبا للرياء ، فإن الله يعلم قبل أن تسألوه ما تحتاجون إليه من الأشياء ، ولكن إن صليتم فلله وحده فصلوا ، وإذا حكمتم في أرضه بحكم فاعدلوا ، وقولوا ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وحكمتك ، وعظم ملكك وجبروتك ، أظهر حكمك في أرضك كما أظهرته في سمائك ، وارزقنا طعام فاقة يومنا ، واغفر لنا سالف جرمنا ، كما نغفر لمن ظلمنا ، واعف عنا برحمتك وإن أجرمنا ، ولا تبتلنا ربنا بالبلاء ، وخلّصنا من مكاره الأسواء ، فإن لك الملك والقدرة ، ومنك الحكم والمغفرة ، أبد الآبدين ، ودهر الداهرين.

واعلموا أنكم إن غفرتم للناس ما بينهم وبينكم ، فإن الله سبحانه يغفر لكم ، وإذا صمتم فلا تغيروا وجوهكم ، ليعلم الناس صومكم ، ولكن إذا صمتم فاغسلوا وجوهكم وادهنوا رءوسكم ، لكيما (١) لا يعلم الناس صومكم ، فإن الله الذي صمتم له سرا ، هو يجزيكم بصومكم علانية جهرا.

ألا ولا تخزنوا خزائنكم ، ولا تجعلوا في الأرض ذخائركم ، فإن ما في الأرض يفسده السوس وتأكله الأرضة ، وتعرض له الآفات وتناله السرقة ، ولكن اخزنوا خزائنكم ، واجعلوا ذخائركم في السماوات العلى ، حيث لا يفسد منها شيء ولا يبلى ، بسرقة ولا آفة معترضة ، ولا يناله أكل سوس ولا أرضة ، فحقا أقول لكم : أن حيث تكون خزائنكم وذخائركم ، فهنالك (٢) تكون قلوبكم وضمائركم.

واعلموا أن سراج الجسد العين فإن كانت العين نيرة مضيئة كان الجسد نيرا مضيا ، وإن كانت العين عمية مظلمة كان الجسد مظلما عميا ، وإذا كان النور الذي

__________________

(١) في (أ) : لكي لا.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : هنالك.

٤٣٤

فيكم مظلما لا يبصر ولا يعلم ، فكم (١) ترون ظلمة حواسكم وقلوبكم أعمى وأظلم.

واعلموا أن الله لم يجعل لأحد في جوفه من قلبين ، وأنه لا يستطيع أحد منكم أن يعبد ربين ، لأنه لا بد له من أن يكرم أحدهما ويجله ، فيقصر بالآخر عن الكرامة ويغفله ، أو يهين أحدهما ويحقره ، فيجل الآخر ويكبره.

وكذلك لا تستطيعون أن تعبدوا الله وتعزروه ، وتسعوا للمال فتجمعوه وتكثروه ، ومن أجل ذلك فإني أقول لكم : لا تهتموا بما تأكلون ، ولا بما تشربون ، ولا ما تلبسون ، أليس ما خلق الله لكم من الجوارح والأجسام؟! أكرم وأجل وأكبر من الشراب والطعام! أو ليس ما خلق الله لكم من الأنفس؟! آثر عند الله من الثياب والملبس!

انظروا إلى طير الأرض والسماء ، وما خلق الله من دواب الماء ، التي لا يزرعن زرعا ولا يحصدنه ، ولا يدخرنه في الأهواء ولا يحشدنه ، والله ربكم الذي في السماء ، يرزقهن في كل يوم ما يصلحهن من الغذاء.

وانظروا إلى عشب البرية الذي لم ينسج ولم يغزل ، ولم يعن منه بشيء ولم يعتمل ، كيف يلبسه الله في حينه كل لون زينة تبهجه! أو حسنا أو نورا ، (٢) فأنا أقول لكم إن سليمان بن داود في كل ما كان فيه من ملكه وسلطانه ، ما كان يقدر على أن يلبس لونا واحدا مما ألبسه الله العشب من ألوانه ، فإن كان العشب في حين تنويره ذا بهجة ونور ، فعما قليل وبعد يسير ما يجعل وقودا للتنور.

ثم الله تبارك وتعالى اسمه يلبسه من البهجة والنور ما لم يلتمسه فيكم ، فكم ينبغي لكم يا ناقضي الأمانة ألا تهتموا فتشتغلوا ولا تكثروا من القول لأنفسكم ولا لغيركم؟! فتقولوا ما نأكل وما نشرب؟! وما نلبس وأين نذهب؟! كأنكم بما قلت من هذا لا توقنون ، فكل هذه الشعوب التي ترون ، تبتغي ذلك ولا تبتغوا منه ما يبتغون ، فإن ربكم الذي في السماء يعلم ما ينبغي لكم من قبل أن تسألوه إياه ، ولكن ابتغوا

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : فيكم. وفي (ج) : فبكم ، ولم يظهر لها معنى ويبدو أن الصواب ما أثبت ، سيما ونص الإنجيل هكذا (فإن كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون) والله أعلم.

(٢) لعل هنا سقطا.

٤٣٥

طاعة الله ورضاه.

فأما ما ذكرت من هذا كله فهو يعطيكموه ويعطيه ، من لا يرضى عليه ، فلا تشتغلوا بغد وما بعده من شغله ، فحسب غد أن يقوم بشغل أهله ، وكفى يومكم في غده ، بما في غد من كده.

ألا ولا تعسفوا أحدا بظلم فإنكم كما تدينون تدانون ، والمكيال الذي تكيلون به تكتالون ، فما بال أحدكم يرى القذى في عين أخيه؟! ولا يرى السارية الشامخة في عينيه! أم كيف يقول لأخيه : اتركني أنزع من عينك قذاها! والسارية الشامخة التي في عينيه لا يراها!

أيا مخادعا ملقا ، ومخاتلا لغيره مسترقا ، أخرج السارية أولا من عينيك ، ثم التمس بعد إخراجها من عين غيرك.

ألا واسمعوا مني ، وافهموا ما أقول عني : لا ترموا بقدس الصواب ، بين نوابح الكلاب ، ولا تقذفوا بلؤلؤكم المنير ، بين عانات (١) الخنازير ، فلعلهن أن يدنسنه ، وينتن ما ألقيتم بينهن منه ، ألا واسألوا تعطوا ، وابتغوا تجدوا ، واقرعوا يفتح لكم فكل سائل يعطى ، ومبتغ يجد ما ابتغى ، وكل من استفتح يفتح له ، وأي امرؤ منكم يسأله حبيبه أو ابنه برّا أو خيرا؟ فيعطيه مكان ما سأله من ذلك حجرا! أو يسأله سمكة؟ فيعطيه حية مهلكة! فإن كنتم وأنتم أنتم في النقص والتقصير ، ومنكم كل ظالم وشرير ، تعطون العطايا الصالحة أبناءكم ، وتجيبون عند الدعاء والمسألة أحباءكم ، فكم ترون لله في ذلك؟! وإذ الأمر كذلك ، من الزيادة عليكم فيه ، للذي تسألونه وترغبون إليه.

وانظروا كما تحبون أن يفعله الناس بكم فافعلوه إليهم ، وكما تريدون العدل من الناس عليكم فكذلك فاعدلوا عليهم ، وإن تلك سنة الرسل والأنبياء ، وميزان عدل الله في الأشياء ، ألا وادخلوا لله وفي الله باب الضيق والمخاوف ، فإن باب الأمن والسعة بمعصية الله سبب الهلكة والمتالف ، ولكثير ممن يدخله ويؤثره ، ممن يبصر ذلك ومن لا يبصره ، وما أضيق المدخل والباب! وأغفل السبيل والأسباب! التي تبلّغ العباد الحياة ،

__________________

(١) العانة : الأتان ، والقطيع من حمر الوحش.

٤٣٦

وتوجب للناس النجاة ، وأقل من يجدها! ويسهل له وردها!

ألا واحتفظوا من كذبة أولياء الشيطان ، الذين يراءون الناس بلباس الحملان ، وهم مع ذلك ذئاب ضارية ، وقلوبهم مستكبرة عاصية ، فلا تغتروا بظاهر حالهم ، ولكن اعرفوهم من قبل أعمالهم ، فهل يخرج من الشوك عنب؟! أو من الحنظل رطب؟! لا لن يكون أبدا ذلك! ولن يوجد كذلك! ولكنه يخرج من كل شجرة طيبة ثمرة طيبة ، ويخرج من كل شجرة خبيثة ثمرة خبيثة ، وإنما تعرف الشجرة الخبيثة من قبل خبث ثمرها ، فإذا كانت كذلك خبيثة أوقدت النار بها ، وكذلك العمل إذا كان شيئا غيا ، فلا يكون صاحبه إلا مسيئا غويا.

وليس كل من يقول : ربي ربي بإقراري والدعاء! يدخل يوم القيامة في كرامة ملكوت السماء ، إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا ، بما حكم الله عليه به من التقوى ، ولكثير في ذلك اليوم من يقول ربنا باسمك هدينا وسعينا ، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا ، وباسمك أمورا كثيرة من العجائب صنعنا ، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم : تأخروا عني يا عمال الزور.

وقال صلى الله عليه : اعلموا أنه من سمع كلامي ، فعمل بما سمع وقبله عني ، فمثله كمثل رجل ذي لب وحكمة ، بنى بيته (١) على أساس من حجر محكمة ، فلما جاءت الأمطار ، وخرّت فأعظمت الأنهار ، (٢) وتهيجت الرياح الكبار ، جعل ذلك ينطح من كل جدر ، (٣) فلم يسقط البيت ولم يخرّ.

ومثل من سمع (٤) كلامي بغير تسليم ولا تقبّل ، كمثل رجل ذي حماقة وجهل مضلل ، بنى بيته (٥) على جرف منهار ، أو رمل كثير هيال ، فلما جاءت الأمطار ودرّت ، وتحركت الأنهار فجرت ، وعصفت الرياح فأعصرت ، خر بيته منقعرا ، وسقط سقوطا

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : بنية.

(٢) سقط من (أ) : فأعظمت الأنهار.

(٣) في جميع المخطوطات : جدار. وما أثبت اجتهاد.

(٤) في (ج) و (د) : يسمع.

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) : بنية.

٤٣٧

مفزعا مذعرا.

قالوا فلما فرغ من كلامه هذا كله ، عجب من حضره من حكمته فيه وقوله ، ثم لا سيما الكتبة والأحبار ، فإنهم كانوا أعجبهم به (١).

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه ، ففتح فاه وعلمهم قائلا : طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات ، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون ، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض ، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون ، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ، طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ، طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون ، طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات ، طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين ، افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات ، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم ، أنتم ملح الأرض ، ولكن إن فسد الملح فبما ذا يملح ، لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجا ويداس من الناس.

أنتم نور العالم ، لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل ، ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت ، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس ، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ، لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعا أصغر في ملكوت السماوات ، وأما من عمل وعلّم فهذا يدعا عظيما في ملكوت السماوات.

فإني أقول لكم إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم ، فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك ، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك ، وحينئذ تعال وقدم قربانك.

كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ، ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن ، الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير ، سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك ، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة ، لا ـ

٤٣٨

__________________

ـ بالسماء لأنها كرسي الله ، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ، بل ليكن كلامكم نعم نعم ، لا لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير.

سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا ، ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين ، ومن سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبعض عدوك ، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات ، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ، ويمطر على الأبرار والظالمين ، لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم ، أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك؟! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون ، أليس العشارون أيضا يفعلون هكذا؟! فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي هو في السماوات كامل.

احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم ، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات ، فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراءون في المجامع ، وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس ، الحق أقول لكم : إنهم استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك ، لكي تكون صدقتك في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية ، ومتى صليت فلا تكن كالمرائين ، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس ، الحق أقول لكم : إنهم قد استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صليت فادخل في مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية ، وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم ، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم ، فلا تتشبهوا بهم ، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه ، فصلوا أنتم هكذا : أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك في الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير ، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد ، آمين.

فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم ، ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين ، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين ، الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك ، لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء ـ

٤٣٩

__________________

ـ يجازيك علانية.

لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ ، وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون ، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ، سراج الجسد هو العين ، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا ، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما ، فإن كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون؟!

لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر ، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر ، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ، ولا لأجسادكم بما تلبسون ، أليست الحياة أفضل من الطعام ، والجسد أفضل من اللباس ، انظروا إلى طيور السماء ، إنها لا تزرع ولا تحصد ، ولا تجمع إلى مخازن ، وأبوكم السماوي يقوتها ، ألستم أنتم بالحري أفضل منها ، ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة ، ولما ذا تهتمون باللباس ، تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ، لا تتعب ولا تغزل ، ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها ، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا ، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم يا قليلي الايمان ، فلا تهتموا قائلين ما ذا نأكل؟ أو ما ذا نشرب؟ أو ما ذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم ، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها ، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تزاد لكم ، فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه ، يكفي اليوم شره.

لا تدينوا لكي لا تدانوا ، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون ، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ، ولما ذا تنظر القذى الذي في عين أخيك ، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟! أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك ، وها الخشبة في عينك ، يا مرآئي أخرج أولا الخشبة من عينك ، وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك.

لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم ، اسألوا تعطوا ، اطلبوا تمجدوا ، اقرعوا يفتح لكم ، لأن كل من يسأل يأخذ ، ومن يطلب يجد ، ومن يقرع يفتح له ، أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزا يعطيه حجرا ، وإن سأله سمكة يعطيه حية ، فإن كنتم وأنتم أشرارا تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة ، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه ، فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم ، افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم ، لأن هذا الناموس والأنبياء.

ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك ، وكثيرون هم الذين يدخلون منه ، ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ، وقليلون هم الذين ـ

٤٤٠