السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥١
ولما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة بدأ بالمسجد بركعتين ، ثم جلس للناس كما في حديث كعب بن مالك (١).
قال ابن مسعود : ولما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة قال : «الحمد لله الذي رزقنا في سفرنا هذا أجرا وحسنة» (٢).
وكان المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخبرون عنه أخبار السوء ، ويقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا. فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه ، فساءهم ذلك ، فأنزل الله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ
__________________
ص ٢٧ والبحار ج ٢٢ ص ٢٨٧ والغدير ج ٢ ص ٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٢٧ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢١٧ والمعجم الكبير ج ٤ ص ٢١٣ والفايق في غريب الحديث ج ٣ ص ٣٥ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ٤٦٢ ـ ٤٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٤١٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ١١١ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٠٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ٤٣ والوافي بالوفيات ج ١٦ ص ٣٦١ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٣١٧ وج ٥ ص ٣٤ وإمتاع الأسماع ج ٣ ص ١٩٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ١٩٥ وج ٤ ص ٥١ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٧٠ وج ٥ ص ٤٦٩.
(١) المجموع للنووي ج ٢ ص ١٧٨ وج ٤ ص ٥٤ و ٣٩٩.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٦٩ و ٤٧٠ عن الطبراني ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ وابن كثير في البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧ و ٢٨ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٩.
تَسُؤْهُمْ)(١)» (٢).
ونقول :
١ ـ قد تحدثنا عن استقبال النبي «صلى الله عليه وآله» بالنشيد المتقدم :
طلع البدر علينا |
|
الخ .. |
وقلنا : إن الصحيح هو : أن ذلك قد حصل في غزوة تبوك ، لا حين الهجرة ..
٢ ـ إن بدء النبي «صلى الله عليه وآله» بالمسجد حين قدومه المدينة يتضمن تعليما كريما ، وأدبا عظيما مع الله تبارك وتعالى ، الذي منّ عليه بهذا النصر المؤزر .. وهو يشير للمسلمين بأن لا شيء يغني الإنسان عن الإتصال بالله تعالى ، ولا يجوز أن يشغل الإنسان أي شاغل عن حفظ هذه الصلة ، وعن القيام بالأعمال العبادية التي تغذي الروح وتنميها ، وتصفي النفس وتزكيها.
إذ لا يغني شيء عن شيء ، كما أن الكمال هو وضع كل شيء في موضعه ، وليس من الحكمة ، ولا من الصواب ترك الأمور على حالة النقص من جهة ، والتصدي لإكمالها من سائر الجهات. بل لا بد من إنجاز الواجب في الحالتين ، وأن لا يسمح بعروض النقص في الموضعين.
__________________
(١) الآية ٥٠ من سورة التوبة.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٠ و ٤٧١ عن أبي حاتم ، وتفسير ابن أبي حاتم الرازي ج ٦ ص ١٨١٠ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٩ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١١٨ و (ط دار الكتب العلمية) ١٠٥ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٧٠ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ١١٥.
الأجر والحسنة :
وقد أعلن «صلى الله عليه وآله» : نتائج سفره إلى تبوك ، وحصرها بأمرين :
أحدهما : الثواب والأجر.
ثانيهما : الحسنة.
والمراد بالحسنة : الغنائم المادية والمعنوية ، مثل إرهاب أعدائهم ، وزيادة عزتهم ، وثبات أمرهم ، ورسوخ قدمهم ، وإقبال الناس على الدخول في دينهم.
ويلاحظ هنا : أنه لم يقل : «نلنا». بل قال : «رزقنا الله» ، لكي لا يتوهم متوهم أن ذلك بجهد وسعي منهم ، وليعلم أن ما نالوه إنما هو نتيجة للتفضل الإلهي ، من دون أن يواجهوا أمرا ذا بال ، أو أن يصيبهم ما يعكر عليهم صفو عيشهم .. بل كل ما فعلوه هو أنهم قاموا بسياحة محفوفة برضا الله تعالى ورسوله. مع شعور بالمزيد من السكينة والرضا ، والطمأنينة ، وبالعزة والكرامة.
وهذا ما حرم منه المتخلفون من المنافقين ، وضعفاء اليقين ، فلا كرامة لهم عند الله ، ولا عزة لهم ، ولا غنائم ، ولا مثوبة .. بل لهم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .. مع مزيد من الحيرة والقلق ، والترقب والأرق .. وما ظلمناهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..
والذي يلفت النظر : أن كلمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد توافقت مع قوله تعالى في ذمهم : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ)(١) وترافقت مع ما أذاعوه وأشاعوه من أن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم
__________________
(١) الآية ٥٠ من سورة التوبة.
وهلكوا .. فبلغهم تكذيب حديثهم ، وعافية رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه. وطبيعي : أن يزيد ذلك من ألمهم ، ويضاعف من ذلتهم ، وهي حسنة أخرى تضاف إلى ما رزقه الله تعالى نبيه ، ومن معه ، لأنها نصر على أهل الشقاق والنفاق ، يزيد من قوة أهل الإيمان ، ويبعث فيهم نفحة سكينة وسلام ، ومحبة ووئام ..
مسجد الضرار :
عن أبي رهم كلثوم بن الحصين ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ويزيد بن رومان : «أن مسجد قباء بني في موضع كان لامرأة يقال لها : «لية» ، كانت تربط حمارا لها فيه ، فابتنى سعد بن أبي خيثمة وبنو عمرو بن عوف مسجدا ، فبعثوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يأتيهم فيصلي فيه.
فأتاهم فصلى فيه ، فحسدتهم أخوالهم بنو عمرو بن عوف.
فقال لهم أبو عامر الفاسق ، قبل خروجه إلى الشام : ابنوا مسجدكم ، واستمدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجيش من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق.
فلما فرغوا من مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليروج لهم ما أرادوه من الفساد ، والكفر والعناد ، فعصم الله تبارك وتعالى رسوله «صلى الله عليه وآله» من الصلاة فيه ، فأتى جماعة منهم لرسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو يتوجه إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنّا بنينا مسجدا لذي العلّة ، والحاجة والليلة المطيرة ، وإنّا نحب أن تأتينا
فتصلي لنا فيه.
قال : «إني على جناح سفر ، وحال شغل ، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا لكم فيه» (١).
فلما رجع رسول الله «صلى الله عليه وآله» من غزوة تبوك ، ونزل بذي أوان ـ مكان بينه وبين المدينة ساعة ـ أنزل الله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٠ وج ١٢ ص ٧٢ عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والواقدي.
وراجع : شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٩ و ١٠٠ والمجازات النبوية للشريف الرضي ص ١٣٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٤ ص ٤٥٨ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠٠ و ١٠١ والكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٢١٣ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١٢٥ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٢ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٦ وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٠٩ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٥٨١ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٣ ص ٨١ والتفسير الكبير للرازي ج ١٦ ص ١٩٥ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ١٠١ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٠٣ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢١٣ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٧ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١٢٥ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١١١ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ١٠٢ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠٥ وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ١٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٤٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٥٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٦٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٣ وغيرها من المصادر ..
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً)(١)» (٢).
عن عروة عن أبيه قال : «كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها «ليّه» كانت تربط حمارا لها فيه ، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدا ، فقال أهل مسجد الضرار : نحن نصلى في مربط حمار «ليّه»؟ لا لعمر الله ، لكنا نبني مسجدا فنصلي فيه.
وكان أبو عامر برىء من الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» ، فلحق بمكة ثم لحق بعد ذلك بالشام ، فتنصر ، فمات بها ، فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً)(٣)» (٤).
قال ابن النجار : هذا المسجد بناه المنافقون ، مضاهيا لمسجد قباء ،
__________________
(١) الآية ١٠٧ من سورة التوبة.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٠ وراجع : تخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠١ والفتح السماوي ج ٢ ص ٧٠١ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٢ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٩٢ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٧ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٣ ص ٨١ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ١٠١ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٠٣ وج ٢ ص ٤٠٣ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢١٣ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٧ و ٢٨٦ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١٢٥ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١١١ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠٥ وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ١٨ ومعجم البلدان ج ١ ص ٢٧٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٤٧.
(٣) الآية ١٠٧ من سورة التوبة.
(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧١ ج ١٢ ص ٧٢ عن ابن أبي شيبة ، وابن هشام ، وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ٥٥ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٧٦.
وكانوا مجتمعين فيه يعيبون النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويستهزئون به (١).
بناة مسجد الضرار :
قال ابن إسحاق : وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد ، من بني عبيد بن زيد ـ ومن داره أخرج هذا المسجد (٢) ـ ومعتّب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعبّاد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمّع بن جارية وزيد بن جارية ، ونفيل (نبتل) بن الحرث من بني ضبيعة ، وبحزج بن عثمان من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن عبد المنذر (٣).
وقال بعضهم : إن رجالا من بني عمرو بن عوف هم الذين بنوه ، وكان أبو عامر المعروف بالراهب ـ وسماه النبي «صلى الله عليه وآله» بالفاسق ـ منهم (٤).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧١.
(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٩ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٦.
(٣) جامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٢ وأسباب نزول الآيات ص ١٧٥ وزاد المسير ج ٣ ص ٣٣٩ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٥٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٠٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٨٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٥٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٦٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢.
(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٨ و ٩٩ وراجع : الدرر لابن عبد البر ص ١٤٧ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢١٣ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٩٩ و ١٠٠ وتفسير الإمام العسكري «عليه
هدم وحرق مسجد الضرار :
وقالوا : لما أنزلت الآية : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً)(١) .. دعا رسول الله «صلى الله عليه وآله» مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي ، وأخاه عاصم بن عدي ـ زاد البغوي : وعامر بن السكن ، ووحشي قاتل حمزة ، زاد الذهبي في التجريد : سويد بن عباس الأنصاري (٢) ـ فقال : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فهدّموه ، وحرّقوه» (٣).
فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف (وهم رهط مالك بن الدخشم) ، فقال مالك لرفيقيه : أنظراني حتى أخرج إليكما ، فدخل إلى أهله
__________________
السلام» ص ٤٨٨ والكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٢١٣ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٩٣ والتفسير الكبير للرازي ج ١٥ ص ٥٤ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ١٠٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٢ ص ٢٠٤.
(١) الآية ١٠٧ من سورة التوبة.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٨ و ٩٩.
(٣) راجع : البحار ج ٢١ ص ٢٥٤ والدرر لابن عبد البر ص ٢٤٢ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠٠ و ١٠١ والتبيان للطوسي ج ٥ ص ٢٩٨ والكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٢١٣ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١٢٦ وفقه القرآن للراوندي ج ١ ص ١٥٩ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٢ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٩٢ وأسباب نزول الآيات ص ١٧٦ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٧ وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٠٩ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٣ ص ٨١ وزاد المسير ج ٣ ص ٣٣٩ والتفسير الكبير للرازي ج ١٦ ص ١٩٥ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٥٣.
وأخذ سعفا من النخيل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون حتى أتوا المسجد بين المغرب والعشاء ، وفيه أهله ، وحرّقوه ، وهدموه حتى وضعوه بالأرض ، وتفرق عنه أهله ، ونزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً)(١).
فلما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد يتخذه دارا ، فقال عاصم : يا رسول الله ، ما كنت لأتخذ مسجدا ـ قد أنزل الله فيه ما أنزل ـ دارا ، ولكن أعطه ثابت بن أقرم ، فإنه لا منزل له ، فأعطاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثابت بن أقرم. فلم يولد في ذلك البيت مولود قط. ولم ينعق فيه حمام قط ، ولم تحضن فيه دجاجة قط (٢).
وعن سعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، قالوا : ذكرنا أنه حفر في مسجد الضرار بقعة ، فأبصروا الدخان يخرج منها (٣).
عاقبة السكنى في مسجد الضرار :
ونقول :
١ ـ إننا نرتاب فيما ذكره هؤلاء من أنه «صلى الله عليه وآله» قد عرض
__________________
(١) الآية ١٠٧ من سورة التوبة.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ وج ١٢ ص ٧٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٧ و ٩٨ وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٣.
(٣) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ عن ابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وابن أبي حاتم ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٣ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٨.
على عاصم بن عدي أن يتخذ مسجد الضرار دارا ، فرفض ، ثم أعطاه لثابت بن أقرم فلم يولد له فيه إلى آخر ما تقدم ..
فقد روي عن أبي عبد الله «عليه السلام» قوله : وأمر أن يتخذ كناسة تلقى فيه الجيف (١).
إضافة إلى ما ورد عن جابر من أنه قال : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان (٢).
ولم يتضح لنا متى كان عرض المسجد على عاصم؟ هل كان قبل هدمه ، أم بعده؟
وعلى فرض حصوله ، فلعل الأرجح أن عرض موضع المسجد على عاصم كان بعد هدمه ، لأن المفروض : أن عرضه عليه قد جاء بعد نزول الآية في شأنه ، وقد هدمه «صلى الله عليه وآله» بعد نزولها مباشرة ..
فيكون قول عاصم : «ما كنت لأتخذ مسجدا قد أنزل الله فيه ما أنزل دارا» (٣) قد جرى فيه على ضرب من التأويل ، أي أنه قصد الموضع الذي كان مسجدا.
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١٢٦ والبحار ج ٢١ ص ٢٥٤ عنه ، وراجع : مستدرك سفينة البحار ج ٤ ص ٤٨٦ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٦٩ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣٩٢ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٢٦٢ وراجع : تفسير مقاتل بن سليمان ج ٢ ص ٧٢ وزاد المسير ج ٣ ص ٣٣٩ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٥٨ وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ١٨.
(٢) البحار ج ٢١ ص ٢٥٤ والتبيان للطوسي ج ٥ ص ٣٠٣ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٤٥ وزاد المسير ج ٣ ص ٣٤١ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٠٥.
(٣) إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢.
٢ ـ إن كان النبي «صلى الله عليه وآله» يعلم بما سيصيب من يسكن في ذلك الموضع من سوء ، وأنه لا يولد له ولد .. فإنه يكون قد غرّر بثابت بن أقرم ، وحاول التغرير بعاصم .. وحاشاه أن يفعل ذلك ، فهو النبي المعصوم ، الذي لا يغرر بالآمنين ، ولا بالغافلين ، بل هو يحفظهم بكل ما أوتي من قوة وحول ..
وإن كان لا يعلم بذلك ، فإن عاصم بن ثابت قد صرح له بتوجّسه من السكنى في موضع نزلت الآيات بشأنه ، وأمر النبي «صلى الله عليه وآله» بتحريقه .. وقد ظهر ما يشير إلى شدة الغضب الإلهي مما جرى فيه ، حتى إنهم حين حفروا بقعة منه ، أبصروا الدخان يخرج منها .. ألم يكن ذلك كافيا للتخلي عن الأمر بالسكنى في ذلك المكان المغضوب عليه؟! .. وإن كان ذلك قد حصل بعد سكناهم فيه ،
فلما ذا لم يتركه ساكنوه؟ أو لماذا لم يراجعوا الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» في أمره ، ليعفيهم من السكنى فيه ، أو ليشير عليهم بالأصلح؟!
٣ ـ ما معنى أن يصيب هؤلاء الناس هذا السوء بسبب سكناهم في موضع اختاره النبي «صلى الله عليه وآله» لهم؟! ألم يكن ذلك من موجبات تشكيكهم ، وتشكيك سائر الناس بصوابية تصرفات الرسول «صلى الله عليه وآله»؟! أو إعطاء الإنطباع عنه بأنه يخطئ فيما يختاره لهم وهو قد يشير عليهم بما فيه شر وسوء ، ومصيبة؟!
عمر ، وإمام مسجد الضرار :
ومن الطريف هنا : أن مجمع بن جارية كان حين بناء مسجد الضرار غلاما
حدثا قد جمع القرآن ، فقدموه إماما لهم ـ وهو لا يعلم بشيء من شأنهم.
وقد ذكر : أن عمر أراد عزله عن الإمامة ، وقال : أليس بإمام مسجد الضرار؟!
فأقسم له مجمع أنه ما علم بشيء من أمرهم ، وما ظن إلا الخير.
فصدقه عمر ، وأقره (١).
ونقول :
لعل المقصود : أنه كان غلاما حدثا بالنسبة لغيره من الذين كانوا مسنين.
وليس المقصود : أنه كان دون البلوغ ، فإن إمامة الصبي للبالغين لا تصح ..
ويشير إلى ذلك : أنه احتاج إلى أن يقسم لعمر : أنه ما علم بشيء من أمرهم ، حيث دل ذلك على أنه كان في سن لو علم بأمرهم لصحت مؤاخذته ، وثبتت مشاركته لهم في النفاق والتآمر .. والغلام الحدث لا يتمشّى ذلك في حقه ..
على أن ثمة سؤالا يراود خاطرنا ، وهو : أنه لماذا لم يتعرض أبو بكر الذي حكم سنتين ونيفا لإمامة هذا الرجل ، ولم يحاول عزله عن هذا المقام كما فعل عمر من بعده؟!
بدريون .. في مسجد الضرار :
وذكروا في جملة المشاركين في مسجد الضرار معتب بن قشير. وقد ذكره ابن إسحاق في من شهد بدرا.
__________________
(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٩ وراجع : الكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٢١٥ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٧ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٥٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٣.
قال العسقلاني : قيل : كان منافقا.
وقيل : إنه تاب (١).
وهذا يشير : إلى أن ما يزعمونه من أن أهل بدر مغفور لهم ، إن صح ، فلا بد أن يكون المقصود بهم أولئك الذين استقاموا على طريق الحق ، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، ولا عرض لهم النفاق ، ولا ارتكبوا الموبقات.
كما أن قوله «صلى الله عليه وآله» لأهل بدر : «اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم» ، إن صح ، فالمراد به : اعملوا ما شتم من قليل الخير وكثيره.
وليس المراد : أنه سوف يغفر لهم ما يرتكبونه من ذنوب وموبقات ، فإنه «صلى الله عليه وآله» لا يمكن أن يغري أحدا بالمعاصي.
سبب التسمية بمسجد الضرار :
وقالوا : إن سبب تسمية مسجدهم بمسجد ضرار ، أنهم كانوا يضارون به مسجد قباء ، وذلك أنه لما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، الذي أسسه النبي «صلى الله عليه وآله» لما قدم المدينة ، وصلى فيه قالت طائفة من المنافقين : نبني
__________________
(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٩ وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ١٢٧ والغدير للشيخ ج ٣ ص ١٦٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٣٢ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١١١ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٧ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٣١١ والمعجم الكبير ج ٣ ص ١٦٦ والإستيعاب ج ٣ ص ١٤٢٩ والدرر لابن عبد البر ص ١١٨ وتفسير البحر المحيط ج ٣ ص ٩٦ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٤٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٤٦٣ وإكمال الكمال لابن ماكولا ج ٧ ص ٢٨٠ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٥٠٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٨.
نحن أيضا مسجدا كما بنوا ، فنقيل فيه ، فلا نحضر خلف محمد.
فقال لهم أبو عامر الفاسق قبل خروجه إلى الشام : ابنوا مسجدكم ، واستمدوا فيه ما استطعتم من سلاح وقوة ، فإني ذاهب إلى قيصر ، فآتي بجند الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فكانوا يرصدون قدومه (١).
ثم طلبوا من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يصلي فيه ليروج أمره على الناس العاديين ، وذلك حين كان «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى تبوك ، ووعدهم بتلبية طلبهم بعد رجوعه من سفره كما تقدم.
ونقول :
اختلفت كلماتهم في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى ، فقيل : هو المسجد النبوي الشريف (٢) ..
__________________
(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٩ عن ابن جرير ، وغيره وراجع : تخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠٢ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٣ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٧٨ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٤٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٠ و ٤٧١.
(٢) صحيح مسلم ج ٤ ص ١٢٦ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ١٦٩ والديباج على مسلم ج ٣ ص ٤٢٩ وتحفة الأحوذي ج ٢ ص ٢٣٤ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠٢ و ١٠٣ وجامع البيان ج ١١ ص ٣٧ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٩٤ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٧ وتفسير البيضاوي ج ٣ ص ١٧٢ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٠٥ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٦٧ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٧٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣١١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧١ وج ١٢ ص ٧٢ و ٣٥٥ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ١٠٠.
وقال ابن حجر : «الجمهور على أنه هو مسجد قباء ، لقوله تعالى في الآية : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي : أنه مسجد قباء ، لأن تأسيسه كان من أول يوم وصل فيه «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة ، وقوله في بقية الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) يؤكد أن المسجد مسجد قباء».
قال الداودي وغيره : إن هذا ليس خلافا ، فإن كلا منهما أسس على التقوى (١) ..
والذي نقوله :
أولا : قد يقال : ليس المقصود بالضرار هو الضرار بمسجد آخر بتقليل رواده لكي يقال : إن المقصود بالآية : أنه قد أضر بمسجد قباء ، أو بمسجد المدينة ، بل المقصود هو أن هذا المسجد قد أنشئ بهدف الإضرار بأهل الإسلام ، وبدعوة أهل الإيمان ..
ثانيا : قد صرح النص المتقدم بما يدل على أن مقصود المنافقين من بناء مسجد الضرار هو : أن لا يحضروا خلف محمد «صلى الله عليه وآله» ، وهذا يرجح : أن مرادهم هو الإستغناء عن الحضور في مسجد النبي «صلى الله عليه وآله» ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» ـ إذا كان حاضرا بالمدينة ـ فهو الذي يصلي في مسجدها غالبا لا في مسجد قباء ..
ثالثا : إنه يظهر من بعضهم : أن المراد بقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧١ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ١٠٠.
التَّقْوى)(١) ، هو مسجد النبي «صلى الله عليه وآله».
والمراد بقوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ)(٢) ، هو مسجد قباء (٣) ، مع أن سياق الآيات يفيد أن الحديث فيهما عن مسجد واحد.
رابعا : إن المنافقين أرادوا ببناء هذا المسجد أن يتستروا على مكائدهم ومؤامراتهم ، بإظهار أنهم أهل دين وعبادة والتزام .. ثم طلبوا من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يصلي لهم فيه ، ليأخذوا شرعية بذلك ، وليظهروا للناس أنهم يقدسون الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ويتبركون به وبصلاته في مسجدهم.
واغتنموا الفرصة باختيار هذا الوقت الحساس ، وهو وقت خروج النبي «صلى الله عليه وآله» إلى تبوك ، حيث الناس منشغلون بأمر السفر ، وبالتفكير بمواجهة العدو ، ودفع خطره .. ربما لكي تمر القضية في زحمة الأحداث ، وتوّزع الإهتمامات ، حيث لم يكن ثمة متسع من الوقت ولا تتوفر الفرصة اللازمة للبحث والتحري عن النوايا والخلفيات والدوافع ..
__________________
(١) الآية ١٠٨ من سورة التوبة.
(٢) الآية ١٠٩ من سورة التوبة.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٢٥٧ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٨٣ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٨٨ و ٣٤٩ وتفسير العز بن عبد السلام ج ٢ ص ٥٢ والتسهيل لعلوم التنزيل ج ٢ ص ٨٥ وتنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص ١٦٦ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٩ وفتوح البلدان ج ١ ص ٢.
ولكن لم يلبّ النبي «صلى الله عليه وآله» طلبهم ، وبقيت الأمور غير ظاهرة حتى جاء الوحي الإلهي ، ليفضحهم ، ويكذب أحدوثتهم ..
هدم المسجد ، لماذا؟!.
ويبقى هنا سؤال : لماذا يهدم النبي «صلى الله عليه وآله» المسجد ، ويتلف بذلك جهدا بذل ، مع أنه قد كان بالإمكان أن يبقيه ليصلي به بالمؤمنين ، بعد أن يطرد أولئك المتآمرين المكّارين ، أو أن يعاقبهم بما يستحقونه ..
ونقول في الجواب :
إنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لم يعاقب المنافقين الذين شاركوا في هذا الكيد القوي ، واكتفى بهدم مسجد الفتنة الذي أقاموه ، من أجل أن لا يبقى رمز النفاق قائما تحنّ له قلوب بعض أهل النفاق ، وقد يتشجعون لبذل مسعى آخر يستلهمون فيه نفس الفكرة ، ويطبقون نفس الأسلوب ، ويسيرون على خطى أسلافهم ..
كما أن من الممكن أن يمارسوا أسلوبا تضليليا بادعائهم أن ما اتّهموا به لم يكن حقيقيا ، وإنما هو مجرد شائعات مكذوبة ، ولربما يتمكنون من استمالة كثير من ضعفاء العقول والإيمان إلى جانبهم ، ثم يمارسون معهم أساليب الخداع ، لسوقهم إلى أجواء النفاق ..
فكان حرق المسجد وهدمه هو السبيل الأمثل لاقتلاع جرثومة الفساد ، وإفهام الناس أن لا هوادة في أمر النفاق ، ولا مهادنة للمنافقين. بل القرار حاسم ، ولا مجال لتزييف الحقائق أو تحريفها بأي وجه. وإن كل حركة باتجاه إثارة أجواء المكر والخيانة ، والتآمر معرّضة للإفتضاح ، المؤدي بهم إلى الخزي
والمهانة في أبشع مظاهرها وصورها ..
وذلك هو الأسلوب الأمثل لردع هؤلاء الساقطين عن غيهم. وإحباط مكرهم ، وبوار سيعهم.
ويلاحظ هنا : أن عليا «عليه السلام» كان يهدم دور الذين يهربون إلى معاوية لكي تكون عبرة لمن اعتبر ، ودرسا لمن حقق النظر.
جيش الروم أمل أهل النفاق :
وقد أوضح النص المتقدم : أن هناك مساع كانت تبذل ، وكان المنافقون ينتظرون نتائجها ، وهي تهدف إلى إقناع الروم بشن حملة على الإسلام وأهله ، ومهاجمة المدينة والحجاز كله ، لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين ..
ولعل هذا يفسر لنا بعض السبب في مبادرة النبي «صلى الله عليه وآله» إلى غزو الروم ، كعملية وقائية تهدف إلى وأد الخطر في مهده .. أو على الأقل منع الخطر من الزحف إلى مشارف المدينة.
وقد أظهر كلام أبي عامر الفاسق : أن المنافقين في مسجد الضرار كانوا يتجهون إلى جمع السلاح ، والإستعداد ، والسعي للتشبث بأسباب القوة ، لاستخدامها في الوصول إلى مآربهم ، فراجع : قوله : «واستمدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجيش من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه».
وقد تركت هذه الكلمات أثرها في المنافقين ، حيث بقوا يرصدون ما يقدم به أبو عامر الفاسق.
الملاعنة في المسجد :
قالوا : وفي سنة تسع في شهر ذي القعدة لاعن «صلى الله عليه وآله» بين عويمر بن أبيض العجلاني ، وبين امرأته ، في مسجده ، بعد صلاة العصر. وكان عويمر قدم من تبوك فوجدها حبلى ، وقد كان قذفها بشريك بن سمحاء (١) ..
ويقال : لما نزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢). قرأها النبي «صلى الله عليه وآله» على المنبر يوم الجمعة ، فقام عاصم بن عدي الأنصاري ، فقال : جعلني الله فداك ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا ، فأخبر بما رأى جلد ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أبدا ، فكيف لنا بالشهداء ، ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرّ؟!.
فجاء عويمر إلى عاصم ، وأخبره أنه رأى شريك بن السمحاء على بطن امرأته ، فرجع عاصم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجمعة الثانية ، فأخبره ، فجمع النبي «صلى الله عليه وآله» بينهما فسألها ، فأنكرت ذلك.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٧٣ وراجع : البحار ج ١٠١ ص ١٧٤ وتفسير القمي ج ٢ ص ٩٨ وراجع : البرهان ج ٣ ص ١٢٥ عن الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، وتهذيب الأحكام ، والإستبصار ج ٣ ص ٣٧٠ والدر المنثور ج ٥ ص ٢١ ـ ٢٤ وراجع : الوسائل ج ١٥ ص ٥٨٦ و ٥٨٩ ورسالة المحكم والمتشابه ص ٩٠ وراجع : الإستيعاب ج ٣ ص ١٢٢٦ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٧.
(٢) الآية ٤ من سورة النور.
وأصر عويمر على أنه لم يقربها منذ أربعة أشهر ، وهي حامل من غيره ، فأنزل الله آية الملاعنة ، فلاعن بينهما ، ففرق رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينهما ، وقال : «لو لا هذه الأيمان لكان في أمرها رأي».
ثم قال : «تربصوا بها إلى حين الولادة ، فإن جاءت بأصيهب أثيج ، يضرب إلى السواد ، فهو لشريك بن السمحاء ، وإن جاءت بأورق ، جعدا ، جماليا ، خدلّج الساقين ، فهو لغير الذي رميت به».
قال ابن عباس : فجاءت بأشبه خلق بشريك (١).
ونقول :
إن لنا هنا بعض التوضيحات ، والبيانات ، وهي كما يلي :
إيضاح مفردات :
الأصيهب : تصغير الأصهب. وهو الأحمر.
الأثيج : تصغير الأثج. وهو واسع الظهر.
الجمالي : عظيم الخلقة ، تشبيها بالجمل عظما وبدانة.
الخدلج : العظيم. والخدلجة : المرأة الممتلئة الذراعين والساقين.
__________________
(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٣٣ و ١٣٤ وتفسير القمي ج ٢ ص ٨٩ والبحار ج ١٠١ ص ١٧٤ و ١٧٥ عنه وج ٢٢ ص ٤٥ و ٤٦ و ٦٨ ـ ٧٠ وج ٢١ ص ٣٦٧ و ٣٦٨ ومجمع البيان ج ٧ ص ١٢٧ و ١٢٨ والبرهان (تفسير) ج ٣ ص ١٢٦ والدر المنثور ج ٥ ص ٢٢ ـ ٢٤ عن البخاري ، والترمذي ، وابن ماجة ومصادر كثيرة أخرى فراجع.