السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٣٥
روح المسلمين ، وأدخل عليهم شيئا من المهانة والذل والإنهزام في غزوة مؤتة ..
وها هو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يأمر أصحابه بمقاطعة هؤلاء الذين أرادوا أن يسقطوا الهيكل كله على رأس الجميع ، فخيب الله مسعاهم ، وباؤوا بغضب من الله ، بالفضيحة والخزي والمهانة في الحياة الدنيا.
وقد أظهر هذا الأسلوب لهم ولكل أحد أن الدين والإيمان هو الأقوى ، وأن لا شيء يستطيع أن يقف في وجهه ، وأن يحد من مده ، وأن يفل من حده. وقد لقنهم درسا لن ينسوه ، وعرفهم بحجمهم الحقيقي ، ودل الناس عليهم ، وبين لمن كان له فيهم رغبة وهوى أن ثمن ذلك سيكون باهظا قد لا يقدر على تحمله ، فالارتداع عنهم أصوب ، والحياة مع غيرهم أطيب ، ونمير سواهم أعذب.
النبي صلىاللهعليهوآله يحرق بيت سويلم على المنافقين :
عن عبد الله بن حارثة قال : بلغ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، يثبطون الناس عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غزوة تبوك ، فبعث إليهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم اليهودي.
ففعل طلحة ، واقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٧ عن ابن هشام ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦.
ونقول :
أسئلة هامة وأجوبتها :
وأول سؤال يطرح نفسه هنا هو :
لما ذا أمر النبي «صلىاللهعليهوآله» بإحراق البيت على أولئك المجتمعين؟! ألم يكن يكفي أن يأمره بأن يأتيه بهم ليعاقبهم على رؤوس الأشهاد؟!
وألا يتنافى ذلك مع ما أعلنه «صلىاللهعليهوآله» أكثر من مرة بقوله : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟!
وألا يعتبر إحراق البيت عليهم إتلافا لمال يمكن أن يتحقق الغرض بدون إتلافه؟!
ولما ذا لم يتثبت الأمر من المتهمين أنفسهم ، ولم يفسح المجال لهم للدفاع عن أنفسهم؟!
وللإجابة على هذه الأسئلة نقول :
أولا : البيت ليهودي قد نقض عهده ، فلم يبق له ولا لبيته حرمة ..
ثانيا : إن إبقاء البيت ، والإكتفاء بالإستيلاء عليه سوف يبقي أطماع المنافقين تحوم حوله ، وسيكون ذريعة لإثارة الشعور ، ولو بصورة الوسوسة الخفية للناس ، بأنه قد أخذ ظلما ، أو أن الأمر لم يكن يستوجب مصادرة البيت.
وفي ذلك تشكيك بصوابية فعل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويتضمن خدشا في هيبته ، وفي عدله وقداسته ..
ثالثا : سيأتي أن النبي «صلىاللهعليهوآله» هدم مسجد ضرار ، ولم يكتف بالإعلان عن إدانة النفاق وأهله ، أو نحو ذلك ، كما أن الله سبحانه قد خسف بقارون وبداره ، وأتى على قرية لوط فجعل عاليها سافلها.
ولعل سبب اختيار النبي «صلىاللهعليهوآله» أسلوب الإحراق هنا هو : أن ذلك كان أرهب للعدو ، وأبعد للسمع ، وأثبت في الذاكرة ، وأوقع في النفوس.
ولعله لم يكن «صلىاللهعليهوآله» يريد أن يلحق بالمجتمعين في ذلك البيت أذى جسديا مباشرا ، نظير ما جرى في قصة مأبور ، حيث أمر «صلىاللهعليهوآله» عليا «عليهالسلام» بقتله ، فقال أمير المؤمنين «عليهالسلام» : يا رسول الله إنك تبعثني في الأمر أكون فيها كالسكة المحماة ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟
قال : بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب (١).
فلحقه بالسيف حتى كشف أمره ، وأظهر كذب المفترين.
أي أنه «صلىاللهعليهوآله» إنما كان يريد أن يفسح لهم المجال للفرار
__________________
(١) مسند أحمد ج ١ ص ٨٣ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٩١٢ وكنز العمال ج ٥ ص ٤٥٤ و ٧٧٣ و ٨٠٣ وكشف الخفاء ج ٢ ص ٣ وفيض القدير ج ٤ ص ٢٢٦ وشرح نهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٢ وأمالي المرتضى ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ وأمالي الطوسي ص ٣٣٨ والبحار ج ٢١ ص ٧٠ وج ٢٢ ص ٥٣ و ١٦٧ وج ٣٨ ص ٣٠٢ وج ٤٢ ص ١٨٦ ومكارم الأخلاق ص ٢٥٢ والكافي ج ٨ ص ٣٤٩ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٩٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٤٤١ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٣٢٤ ودلائل الإمامة للطبري ص ٣٨٧.
والتفرق ، دون أن يفضحهم بين الناس ، ويكونون هم الذين يفضحون أنفسهم إن شاؤوا ، أو يتلكؤون في الفرار ، فيفتضح أمرهم. ويكون احتراق البيت هو الأقل مؤونة ، وهو الأقرب إلى تحقيق الهدف ودفع السوء بأقل تكلفة ممكنة.
ولعل مما يشهد على أن هذا هو غرض الرسول الأكرم «صلىاللهعليهوآله» أنه بالرغم من أن أحدا من المنافقين لم يصب بأذى ، وأن أحدهم ، وهو الضحاك بن خليفة قد كسرت فخذه ، فإنه «صلىاللهعليهوآله» لم يطلب إحضار أحد منهم ، ولم نسمع أنه «صلىاللهعليهوآله» سأل أو طالب أو عاتب الضحاك بشيء ، أو على شيء ، فضلا عن ان يكون قد عاقبه.
أهل مسجد الضرار :
وجاء أهل مسجد الضرار إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، ونحب أن تأتينا فتصلي فيه.
فقال لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إنّا في شغل السفر ، وإذا انصرفت سيكون» (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨. وراجع : البحار ج ٢١ ص ٢٥٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٤ ص ٤٥٨ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٠٠ و ١٠١ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٣٢ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٩٢ وأسباب نزول الآيات ص ١٧٥ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٢٦ وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٠٩ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٥٨١ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٣ ص ٨١.
ونقول :
إن من الواضح : أن هذه محاولة من هؤلاء المنافقين لتعمية أمرهم على الناس ، واكتساب مشروعية لنشاطهم بصلاة النبي «صلىاللهعليهوآله» في مسجدهم. مع أن أمرهم لم يكن ليخفى على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإنه كان قد عود الناس أن يكون هو البادئ بوضع الحجر الأساس لمساجدهم ، وهو الذي يختط لهم الدور والأسواق ، وسائر المرافق الحيوية في المدينة كلها .. فما معنى أن يستقل هؤلاء الناس باستحداث مسجد ، دون أن يعلموه به ، ودون أن يطلبوا منه أن يختطه لهم؟!
على أنهم قد صرحوا في كلامهم بأنهم قد قصدوا بمسجدهم أن يصلي فيه من لا يريد الحضور في مسجد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، من ذوي العلل والحاجات حسب زعمهم ، وهذا يزيد الشبهة في مقاصدهم ، ونواياهم الحقيقية.
ولكن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يظهر لهم أي شيء غير عادي ، بل ذكر لهم أن شغل السفر يمنعه من تلبية طلبهم .. وهذا التأجيل يمنحه الفرصة لاستخراج دخائلهم ، ولكي تكشف تقلبات الأحوال باطنهم للناس ، وقد حدث ذلك فعلا كما سنرى.
وهذ معناه : أن ثمة ما يبرر هذا الموقف السلبي النبوي منهم ، إذ لا يمكن أن يواجههم «صلىاللهعليهوآله» بمثل هذا الكلام من دون مبرر ولا سبب ، فإنه نبي معصوم ، بل إن قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، يعطي : أن الله سبحانه هو الذي يريد من نبيه أن يواجههم بهذه الحدة والشدة ، التي تحمل معها المهانة لهم ، والخزي في الدنيا ، ولا بد أن يكون العذاب الأليم هو الذي ينتظرهم في الآخرة.
وقد كان يمكن أن نتحمل أن ثمة خطأ من الرواة ، أو من أبي موسى في حفظه لكلام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ولكنه حين شفع ذلك بقوله : «وافقته وهو غضبان ولا أشعر» ، وبقوله : «مخافة أن يكون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وجد في نفسه» ، قد دلنا على أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد قال ذلك ، وقصد معناه فعلا.
طعن أبي موسى برسول الله صلىاللهعليهوآله :
وقد حاول أبو موسى أن يطعن برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليبرئ نفسه ، ويبرئ أصحابه من إساءتهم للرسول «صلىاللهعليهوآله» التي استوجبت هذا الموقف النبوي الصارم منهم ، الذي ألحق بهم المهانة والخزي ، فاتهم النبي بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد قال ما قال وهو في حالة الغضب ، فلا قيمة لكلامه ، لأن الإنسان قد يصدر عنه في هذه الحال ما لا يرضى بصدوره منه في الحالات العادية ، فلا ضير إذن في أن يندم النبي «صلىاللهعليهوآله» ويلوم نفسه ، وربما يعتذر أو يتوب ، إذا كان قد بلغ حد الخطيئة .. وقد اخترعوا على لسان الرسول «صلىاللهعليهوآله» أحاديث تشير إلى أنه مبتلى بهذا الأمر ، وأنه قد أعلن أنه يطلب من الله تعالى أن يجعل
__________________
(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.
سبه ولعنه وجلده لأي رجل من المسلمين في حال الغضب زكاة ورحمة لذلك الرجل (١).
فأبو موسى إذن يؤثر أن ينسب إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» الخطأ ، وأن ينفي العصمة عنه ، وأن يكذّب الله تبارك وتعالى في قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢).
على أن يلحقه هو وأصحابه أدنى مهانة بسبب أعمالهم الشريرة ، ونفوسهم المريضة!!
إذا كان قد ابتاعهن من سعد :
ولعلك تقول : إذا كان «صلىاللهعليهوآله» قد ابتاع ستة أبعرة من سعد ، فذلك يعني : أنه كان لديه مال يبتاع به ستة أبعرة ، فلما ذا قال قبل ساعة لأبي موسى : ما عندي ما أحملكم عليه؟!
__________________
(١) راجع : مسند أحمد ج ٢ ص ٤٩٣ و ٤٩٦ وصحيح مسلم ج ٨ ص ٢٥ و ٢٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٦١ وشرح مسلم للنووي ج ١٦ ص ١٥٠ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٦٧ وعمدة القاري ج ٢٢ ص ٣١٠ وعون المعبود ج ١٢ ص ٢٧٠ وكنز العمال ج ٣ ص ٦١١ و ٦١٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٨٩ وتذكرة الحفاظ للذهبي ج ٣ ص ١١٦٩ وسير أعلام النبلاء ج ١٨ ص ٣٥٤ وذكر أخبار إصبهان ج ٢ ص ٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٢٥١ والجامع لأحكام القرآن ج ١٠ ص ٢٢٧ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٩١ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٢٨ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ٢ ص ١٩٥.
(٢) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.
والجواب : لعله كان يقصد أنه لا يملك إبلا تحملهم ، أو أنه قد اشترى تلك الإبل بثمن مؤجل ..
كاد المريب أن يقول خذوني :
إن الرواية المتقدمة : قد أوضحت أن أبا موسى كان مهتما بإثبات صدقه أمام أصحابه حتى لقد أقسم أن لا يدعهم حتى ينطلق بعضهم معه ليسمعه ممن حضر ما جرى بينه وبين النبي «صلىاللهعليهوآله» في المرة الأولى حين لم يعطه لهم شيئا.
فإن هذا الإصرار منه يدل على أنه كان يرى نفسه في موضع الإتهام بنظرهم ، وذلك يدل على أن ما يزعمونه له من مكانة وعزة بين الصحابة موضع شك وريب ، حتى من أقرب الناس إليه ، فإنهم لا يثقون به ، وهو يعرف ذلك منهم ، فكيف بمن سواهم؟!
هل منعهم النبي صلىاللهعليهوآله؟! :
إن تعبير أبي موسى بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد منعهم أول مرة يشير إلى أنه «صلىاللهعليهوآله» كان لديه ما طلبوه ، ولكنه منعهم منه ..
وهذا هو مفاد قوله لأبي موسى : «والله لا أحملكم على شيء». فلما ذا منعهم؟! ولما ذا احتاج أبو موسى إلى أن يثبت ذلك لأصحابه ..
النبي صلىاللهعليهوآله يحنث في يمينه :
ولا يبالي أبو موسى أن ينسب إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» الحنث في يمينه ، إذا كان ذلك يثبت فضيلة له ولأصحابه ..
وهذا ما حدث هنا فعلا ، فقد نسب إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» أنه يخطئ في تشخيص ما هو مصلحة ، وأنه إذا حلف اليمين قد يظهر له أن غيرها خيرا منها ، فلا يعمل بمقتضاها ، ويفعل ما يخالفها ، ثم يكفّر عنها ..
فما هذا النبي الذي يخالف اليمين ، ويحتاج إلى التكفير عنها؟!
وما معنى أن يتقلب هذا النبي «صلىاللهعليهوآله» في آرائه؟!
وكيف يمكن الوثوق بصحة ما يصدر عنه ، وهو يعلن للناس أنه قد يخطئ فيما يختاره ، فقد يختار غير الأصلح ، فإذا عرف الأصلح تراجع عما اختاره أولا ، وانتقل إليه؟!
الفصل الخامس :
الثلاثة الذين خلفوا ..
وحديث كعب بن مالك
أبو لبابة وأصحابه :
عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب في قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (١) ، قال ابن عباس : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غزوة تبوك ، منهم : أبو لبابة ، وسمى قتادة منهم : جد بن قيس وجذام بن أوس (٢).
فلما قفل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إذا رجع من المسجد عليهم ، فلما رآهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : «من هؤلاء الموثقون أنفسهم»؟!
__________________
(١) الآية ١٠٢ من سورة التوبة.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٨ و ٤٧٩ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٢ عن أبي الشيخ وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٧٢ ، وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ١٩ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٧٢ وزاد المسير لابن الجوزي ج ٣ ص ٣٣٥ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٩٨ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٢ وإمتاع الأسماع ج ٨ ص ٣٩٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨.
قالوا : هذا أبو لبابة ، وأصحاب له ، تخلّفوا عنك يا رسول الله ، فعاهدوا الله ألّا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم ، فترضى عنهم وتعذرهم ، وقدا اعترفوا بذنوبهم.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين»!!
فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله تبارك وتعالى هو الذي يطلقنا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١) ، وعسى من الله واجب ، (.. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢).
فلما نزلت أرسل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إليهم فأطلقهم وعذرهم.
قال ابن المسيب : فأرسل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى أبي لبابة ليطلقه ، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فجاءه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فأطلقه بيده ، فجاؤوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ما أمرت أن آخذ أموالكم» ، فأنزل الله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ
__________________
(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.
(٢) الآية ٣٧ من سورة البقرة.
عَلَيْهِمْ ..) ، يقول : استغفر لهم (.. إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (١) يقول : رحمة لهم ، فأخذ منهم الصدقة ، واستغفر لهم.
وكان ثلاثة نفر منهم لم يوثقوا أنفسهم بالسواري ، فأرجئوا سنة لا يدرون : يعذبون ، أو يتاب عليهم. فأنزل الله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ..) (٢) إلى آخر الآية. وقوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). إلى قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣). يعني استقاموا فأنزل الله تبارك ـ وتعالى ـ في شأن هذه الغزوة كثيرا من سورة براءة.
وزعموا : أن ارتباط أبي لبابة كان في وقعة بني قريظة ، وقد روينا عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ما دلّ على أن ارتباطه كان بتخلفه في غزوة تبوك (٤).
الثلاثة الذين خلّفوا :
وقد روى الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن أباه كعب بن مالك حدّث بما جرى له فقال : لم أتخلف عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت عن
__________________
(١) الآية ١٠٣ من سورة التوبة.
(٢) الآية ١١٤ من سورة التوبة.
(٣) الآية ١١٨ من سورة التوبة.
(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٩ عن ابن إسحاق ، والبيهقي ، وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠٢ وراجع المصادر المتقدمة.
غزوة بدر ، ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر.
كان من خبري : أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ، ولم يكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد غزوة إلا ورّى بغيرها ، وكان يقول : «الحرب خدعة» ، حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفازا ، وعددا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ـ وفي لفظ : أهبة عدوهم ـ فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كثيرون (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٣ عن ابن إسحاق ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٨ ص ١١٣ (٤٤١٨) و (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٣٠ ومسلم ج ٤ ص ٢١٢٠ ـ ٢١٢٨ (٥٣) ، والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٧٣ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٩٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٣ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٩ وراجع : عمدة القاري ج ١٨ ص ٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٦٤.
وعند مسلم : يزيدون على عشرة آلاف (١).
وروى الحاكم في الإكليل عن معاذ قال : خرجنا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا.
وقال أبو زرعة الرازي : لا يجمعهم كتاب حافظ.
قال الزهري : يريد الديوان.
قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله تعالى (٢).
وغزا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» تلك الغزوة حين طابت الثمار والغلال ، في قيظ شديد ، في حال الخريف ، والناس خارفون في نخيلهم.
وتجهز رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وتجهز المسلمون معه ، فخرج في يوم الخميس. وكان يحب إذا خرج في سفر جهاد أو غيره أن يخرج يوم
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٣ ومسلم ج ٤ ص ٢١٢٠ ـ ٢١٢٨ (٥٣) و (ط دار الفكر) ج ٨ ص ١١٢ وشرح مسلم للنووي ج ١٧ ص ١٠٠.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٣ عن الحاكم في الإكليل ، وفي هامشه عن :
البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٣ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٥٣ وراجع :
صحيح البخاري ج ٥ ص ١٣٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٣٤ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٤٨ ورياض الصالحين للنووي ص ٦٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٠ ص ١٩٧ وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ٤٢ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٣٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤١١ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٦٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٣.
الخميس. فطفقت أغدوا لكي أتجهز معهم ، فارجع ولم أقض شيئا ، فأقول في نفسي : أنا قادر عليه.
وفي رواية : وأنا أقدر شيئا في نفسي على الجهاد ، وخفة الجهاد ، وأنا في ذلك أصبوا إلى الظلال والثمار ، ولم يزل يتمادى بي الحال حتى اشتد بالناس الجد ، فأصبح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» غاديا والمسلمون معه يوم الخميس ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحقهم ، فغدوت ـ بعد أن فصلوا ـ لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا.
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم وأسرعوا ، وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ـ وليتني فعلت!! ـ فلم يقدر لي ذلك.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق ، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء.
وعند عبد الرزاق : وكان جميع من تخلف عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بضعة وثمانين رجلا ـ ولم يذكرني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حتى بلغ تبوك.
فقال وهو جالس في القوم بتبوك : «ما فعل كعب ابن مالك»؟
فقال رجل من بني سلمة ، وفي رواية من قومي ـ قال محمد بن عمر : هو عبد الله بن أنيس السلمي ـ بفتح اللام ـ لا الجهني : يا رسول الله حبسه برداه ، ونظره في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل ـ قال محمد بن عمر : وهو أثبت ، ويقال : أبو قتادة : بئس ما قلت! والله يا رسول الله ، ما علمت عليه إلا خيرا.
فسكت رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» توجه قافلا حضرني همي ، وطفقت أعد عذرا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأهيء الكلام ، وأقول : بما ذا أخرج من سخطه «صلىاللهعليهوآله» غدا ، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد أطل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لم أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه ، وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق.
وأصبح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قادما ، قال ابن سعد : في رمضان ، قال كعب : وكان إذا قدم من سفر لا يقدم إلا في الضحى ، فيبدأ بالمسجد ، فيركع فيه ركعتين ، ثم يدخل على فاطمة ، ثم على أزواجه ، فبدأ بالمسجد فركعهما ، ثم جلس للناس.
فلما فعل ذلك جاءه المخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. فجئته ، فلما سلمت عليه ، تبسم تبسم المغضب ، فقال : «تعال». فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.
وعند ابن عائذ : فاعرض عنه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فقال : يا نبي الله ، لم تعرض عني؟ فو الله ما نافقت ، ولا ارتبت ، ولا بدلت.
قال كعب : فقال لي : «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك»؟
فقلت : بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا
لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكني ـ والله ـ لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله تعالى أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك اليوم حديث صدق تجد عليّ فيه ، إني لأرجو فيه عفو الله عني ، لا والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله تعالى فيك ما يشاء».
فقمت ، فمضيت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني ، فقالوا : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لك.
فو الله ما زالوا يؤنبوني ، حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ، فقلت : ما كنت لأجمع أمرين : أتخلف عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأكذبه.
ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد؟
قالوا : نعم ، رجلان قالا مثل ما قلت ، فقيل لهما مثل ما قيل لك.
فقلت : من هما؟
قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن : أن سبب تخلف الأول أنه كان له حائط حين زها ، فقال في نفسه : قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا؟!
فلما تذكر ذنبه قال : اللهم أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك.
وأن الثاني كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال : لو أقمت هذا العام